دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة - دور اهل البیت (ع) فی بناء الجماعة الصالحة جلد 1

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

دور اهل البیت (ع) فی بناء الجماعة الصالحة - جلد 1

سید محمد باقر الحکیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة

المـقدمة


الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة على سيد الأنبياء محمد وعلى آله الطاهرين.


اطروحة أهل البيت(عليهم السلام) وأهميتها


فإنَّ أطروحة أهل البيت(عليهم السلام) من أهم الاطروحات الإسلامية ذات الأبعاد المتعددة، العقائدية والفكرية والثقافية والتأريخية والاجتماعية.


فهم امتداد للنبوة في خط الامامة، وولاة الأمر الذين أوجب الله طاعتهم وولايتهم ومودتهم.


كما أنهم عدل القرآن الكريم الذي هو الثقل الأكبر، وأهل البيت(عليهم السلام)الثقل الاخر الذي لن يفترق عن القرآن، بل هم علماء القرآن أيضاً يفسرونه ويوضحونه ويبينونه ويكشفون غرائبه ويستخرجون كنوزه.


وفي الوقت نفسه هم حملة السنّة النبوية في تفاصيلها ومصاديقها، ويعرفون ماتؤول إليه الآيات والأحاديث في حاضرها ومستقبلها.


كما أنّهم الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة في الاستقامة، والصبر، وسعة الصدر، وحُسن الخلق، والمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والجهاد في سبيله بالنفس والمال، والاستعداد للتضحية بالغالي والرخيص من أجل الدفاع عن الحق والعدل ونصرة المظلومين: (إنما يُريدُ الله ليذهِبَ عنكم الرجسَ أهلَ البيت ويطهّركم تطهيرا).


ولذلك فقد تحمل أهل البيت(عليهم السلام) أعباء مسؤوليتهم الرسالية لا تأخذهم في سبيل النهوض بها لومة لائم، فسجّلوا في التاريخ والمجتمع الاسلامي حضوراً قيادياً فاعلاً ومؤثراً وقاموا بالانجازات العظيمة طيلة حياتهم في جميع الميادين: الروحية والسياسية والعلمية والاخلاقية، يدافعون عن الاسلام والمسلمين في مواجهة أعدائهم الداخليين والخارجيين من: الحكام المنحرفين، والمنافقين، والسياسيين الانتهازيين، والزنادقة الملحدين، واصحاب البدع والضلالات، وعلماء السوء، واليهود، والنصارى، والمفسدين.


أهل البيت(عليهم السلام) الركن الاهم


إنّ هذه الابعاد والخصائص التي يرتبط بعضها بالاخر تؤكّد أهمية هذا الطرح الاسلامي، وفي الوقت نفسه توضّح ما ورد في روايات أهل البيت(عليهم السلام)من أنهم يمثلون أحد (الاركان الاساسية) التي بني عليها الاسلام بل هم (الركن الاهم) فيها.


وهذا الامتياز وذلك الموقع الخاص لاهل البيت(عليهم السلام) (حقيقة) يكاد أن يجمع عليها جميع المسلمين، وإن اختلفوا بعد هذا في الكثير من التفاصيل، سواء في عمقها أو سعتها أو وضوحها.


ويكشف عن هذه (الحقيقة) أيضاً ـ مضافاً إلى نصوص الايات والروايات الصحيحة المتواترة والكثيرة ـ مشاعر التقدير والاحترام والتسليم والحب والولاء التي يكنها جميع المسلمين ـ عدا النواصب ـ لاهل البيت(عليهم السلام).


مع أنّ مجرى الاحداث التاريخية التي عاشها أهل البيت(عليهم السلام) كانت بالاتجاه المعاكس والمضاد لوضوحها والاعتراف بها، لانّ ما تعرَّض له أهل البيت(عليهم السلام)من قتل وتشريد ومحاصرة مادية ومعنوية وبشكل متواصل طيلة قرون من الزمن على يد الامويين والعباسيين والعثمانيين، كان يفرض القضاء ـأو فرض العزلة على الاقل ـ على مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) في المجتمع الاسلامي.


ولكن نلاحظ ـ مع ذلك كله ـ هذا الواقع المعنوي الواسع الذي يتمتع به أهل البيت(عليهم السلام) في صفوف المسلمين، وليس ذلك إلاّ بسب وجود هذه (الحقيقة الالهية) لاهل البيت(عليهم السلام) في (أصل) النظرية الاسلامية، من خلال القرآن الكريم والسنّة النبوية، وإدراك المسلمين لها من ناحية، والجهود والخدمات العظيمة التي قام بها أهل البيت(عليهم السلام) للاسلام والمسلمين، بحيث فرضت نفسها على الواقع التاريخي على رغم كل العوامل المضادة.


كما أنّ هذا الواقع الايجابي من المسلمين تجاه أهل البيت(عليهم السلام)، هو الذي يفسّر لنا هذا العدد الكبير من الدراسات والكتب والابحاث الخاصة، التي تناولت هذا الموضوع الاسلامي من قبل علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، أو وجود الاعتراف بهذه الحقيقة في مطاوي كتب المعارف الاسلامية في الفقه والتفسير والحديث والتاريخ وغيرها، بحيث لا نكاد نستثني منها أي كتاب.


ولا يمكن تفسير هذه الظاهرة التاريخية ـ بكل ملابساتها ـ بصورة منطقية ومقبولة إلا على اساس العقيدة الامامية الاثني عشرية في أهل البيت(عليهم السلام)، حيث يرون فيهم (الركن الاساس) الذي يقوم عليه بناء الاسلام ـالرسالة الخاتمة ـ الذي تعهَّد الله سبحانه وتعالى بحفظه وبقائه، وأهل البيت(عليهم السلام)يمثلون الامتداد الطبيعي والاستمرار والبقاء لهذه الرسالة في مضمونها ومسؤوليتها وإن لم يتصف هذا الامتداد بالنبوة، كما قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)لعلي(عليه السلام): أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيَّ بعدي.


فأهل البيت(عليهم السلام) امتداد للمضمون، لانهم عدل القرآن ومفسروه، ولانهم حملة السنّة النبوية بكل تفاصيلها، وأهل البيت(عليهم السلام) امتداد للمسؤوليات; لانهم أئمة الهدى وأعلام التقى، والمبلغون عن رسول الله وولاة الامر من بعده.


فكما قدّر لهذه الرسالة الخاتمة أن تبقى وتستمر، فلابد أن يبقى أهل البيت(عليهم السلام) حقيقة قائمة ومؤثرة في المجتمع الاسلامي، وهذا هو الواقع الذي لا يمكن لاي باحث أن ينكره مهما تمادى في المكابرة والهروب من الحقيقة والواقع.


حقيقة دور أهل البيت(عليهم السلام)


ولكن ـ مع كل ذلك ـ يبقى سؤال مهم وهو: ما هي حقيقة الدور الذي قام به أهل البيت فعلاً في الحياة الاسلامية; مع وجود هذا الموقع المتميّز الخاص لهم(عليهم السلام) في النظرية الاسلامية عند المسلمين؟.


ويكون الجواب عادة بذكر دورين رئيسيين:


الاول: (الخلافة) وولاية الامر بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).


الثاني: (المرجعية) الفكرية والدينية في كل الشؤون ذات العلاقة بفهم الرسالة وتفاصيلها.


ولذلك نجد ان غالبية الابحاث والدراسات التي تناولت هذا الموضوع بصورة وأخرى ركّزت على هذين الامرين الرئيسيين.


ولكن حصر دور أهل البيت(عليهم السلام) بهذين الامرين الرئيسيين ـ على أهميتهما العظمى من الناحية النظرية والتصور العام للرسالة الاسلامية ـ يثير (اشكالاً كبيراً) من الناحية العملية الخارجية، وهو أنّ هذا الحصر ـ (خارجياً) و(واقعياً) ـ يعني انّ هذا (الركن الاهم) في الاسلام ـ وهم أهل البيت ـ قد تم تعطيله وتقليصه ـ حتى الان ـ إلى حد كبير في الحياة الاسلامية، حيث أبعد أهل البيت(عليهم السلام) عن دور الخلافة وولاية الامر خارجياً باستثناء السنوات القليلة لخلافة الامام علي وولده الامام الحسن(عليهما السلام)، وكذلك نرى أنّ هذه (المرجعية) الفكرية والدينية لا يأخذ بها المسلمون ـ باستثناء الامامية الاثني عشرية ـ إلاّ اخذاً محدوداً جداً.


ويزيد هذا الاشكال انّ هذه الدراسات التي تناولت هذين الامرين الرئيسيين ـ وهي ابحاث قيمة وجديرة بالاحترام والتقدير ـ اقتصرت في غالبيتها على عنصر إثبات هذه الولاية والمرجعية تقريباً، دون أن تولي أهمية خاصة لبيان الدور المهم الذي كان من الممكن أن تؤديه هذه الامامة وهذه المرجعية في الحياة الاسلامية، وعلاقتهما النظرية بالرسالة الخاتمة وسائر الرسالات الالهية وأهدافها المقدسة، مع أنّ أهل البيت(عليهم السلام) أنفسهم عندما تناولوا هذا الموضوع أكّدوا هذا الدور المهم وهذه العلاقة النظرية تأكيداً واسعاً.


التطوير في الدراسة عن أهل البيت(عليهم السلام)


ولذلك فنحن بحاجة ـ من أجل تفسير هذا الواقع المتميز لاهل البيت(عليهم السلام)من النظرية الاسلامية ولدى المسلمين ـ إلى (تطوير نوعي) في الابحاث والدراسات حول أهل البيت(عليهم السلام) يهتم اهتماماً خاصاً باكتشاف جميع أبعاد دور أهل البيت(عليهم السلام) في الحياة الاسلامية من ناحية، والتركيز على جانب علاقة هذه الابعاد بالنظرية الاسلامية من ناحية أخرى.


وهنا يحسن بنا أن نشير إلى بعض هذه الابعاد في الدراسات المتطورة:


الاول: توضيح جميع الاهداف الاسلامية من وراء إرساء فكرة أهل البيت(عليهم السلام) في الرسالة الاسلامية، بحيث تؤكد من خلالها مبدأ خاتمية الرسالة الاسلامية، ومبدأ تحقيق هذه الرسالة لاهدافها عملياً، ولو تحقيقاً إجمالياً.


الثاني: توضيح جانب الارتباط بين هذا (الركن الاهم) للاسلام والاركان الاخرى، بحيث يظهر التكامل في أركان النظرية الاسلامية، والانسجام في البناء والاهداف والنتائج.


الثالث: ايضاح الارتباط بين المواصفات الخاصة، ونقاط الامتياز العقائدية والفكرية التي يختص بها مذهب أهل البيت(عليهم السلام) دون بقية المذاهب الاسلامية، وبين هذا الفهم للنظرية الاسلامية الذي يقوم على أساس فكرة أهل البيت(عليهم السلام) ودورهم في الحياة الاسلامية.


فمثلاً ما هو الارتباط بين امور (العصمة) و (التقية) و (الشفاعة) و(التأويل) و (البداء) و (الخمس في أرباح المكاسب) و (زواج المتعة) وغيرها من الافكار والتشريعات الاسلامية التي اختص بها مذهب أهل البيت(عليهم السلام)وبين هذا الركن الاساس في النظرية الاسلامية؟


وهل الاختلاف هو مجرَّد اختلاف في رأي عقائدي أو فقهي، ثم تحول إلى صراع سياسي عقائدي، أم لهذه القضايا والافكار ارتباط وثيق بأصل النظرية فانعكس ذلك على المجتمع الاسلامي؟


الرابع: بحث الارتباط العملي ـ على أساس المصالح الاسلامية والاهداف العالية ـ بين المواقف والنشاطات التي قام بها أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في العهود المختلفة للمجتمع الاسلامي.


فإن أهل البيت(عليهم السلام) لما كانوا فكرة وأطروحة إلهية للرسالة الخاتمة، فلا بدّ أن نفترض ـ والامر كذلك ـ أنّهم يتحركون من رؤية واحدة للافكار والاحداث والحقائق الاجتماعية (المصالح والمفاسد الواقعية) التي تترتب عليها المواقف، فهم في هذا الجانب كالانبياء الذين نفترض فيهم أنهم لو اجتمعوا في زمان واحد، لما اختلفوا في رؤاهم ولا في أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم.


ولكن مع ذلك نجد أنّ هناك اختلافاً واضحاً بيناً في شكل وصورة هذه المواقف، وأحياناً في الاقوال والسلوك والمنهاج والاسلوب، كما هو الحال في الانبياء انفسهم أيضاً. إذاً فما هو الرابط الواحد الذي يمكن أن نستنبطه من أقوالهم وأفعالهم ومواقفهم وسلوكهم؟ بحيث ( يكون ) النظرية التي يمكن أن يفسَّر كل ذلك الاختلاف على أساسها، كما نلاحظ ذلك في القرآن الكريم عندما يتحدث عن الانبياء.


ولا شك أنّ ما قام به علماء الاسلام من أتباع مدرسة أهل البيت (سلام الله عليهم)، فضلاً عن النصوص التي صدرت عن أهل البيت(عليهم السلام) لمعالجة كل هذه القضايا، يمكن أن يشكّل أساساً وتراثاً مهماً لمثل هذه الدراسات المتطورة.


ولعلَّ أحد أهم عناصر التجديد و (التطوير) في البحث حول أهل البيت(عليهم السلام)، الذي يصب في هذا الاتجاه، هو ما بدأه أستاذنا المفكر الاسلامي الكبير آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه)، فيما كتبه أو ألقاه من دروس عن أهل البيت(عليهم السلام)، ولكن هذه الابحاث لم يكتب لها ـمع الاسف الشديد ـ الكمال، بعد أن اغتالت يد الاجرام الوحشي والفساد في الارض هذا العالم الرباني العظيم([1]).


وهذه الدراسات تحتاج بطبيعة الحال إلى بحوث تمهيدية واسعة ومهمة، تشكل بمجموعها (موسوعة أهل البيت(عليهم السلام) الكبيرة)، تتناول بحث (التراث الفكري والتأريخي والاخلاقي والعقائدي) الموروث عن أهل البيت(عليهم السلام)، والمبثوث في كتب الحديث والتفسير والاخلاق والدعاء والزيارة.


إنه بالرغم من تكامل وتطور البحث في القواعد والاصول التي يقوم عليها البحث في هذه الموضوعات من ناحية، وكذلك تطور البحث فعلاً في مجالات الفقه والاصول والرجال والتفسير من ناحية أخرى، اصاب البحث فيالموروث عن أهل البيت(عليهم السلام) في المجالات المذكورة أعلاه كثير من الركود والجمود، ولم يتطور بالقدر الذي تطورت به الابحاث الفقهية والاصولية والرجالية.


وبدون ذلك سوف يعتمد البحث النظري على المادة الاولية التي يختلط فيها الغث بالسمين، والمطلق بالمقيد، والعام بالخاص، والمحكم بالمتشابه، والمجمل بالمبين... وهكذا.


أو أن يعتمد البحث على النتائج العلمية (التقليدية) التي توصل اليها العلماء السابقون، وهي نتائج ـ على أهميتها وقيمتها العلمية ـ حدسية، ثم استنباطها في ظروفها وبرؤية (تجزيئية).


أو أن يقوم الباحث بجهد استثنائي ـ لا يتيسّر عادة لشخص واحد ـ يستأنف فيه البحث في التراث من أجل تكوين النظرية.


آفاق البحث في نظرية أهل البيت(عليهم السلام)


ولكن وجدت نفسي ـ مع كل هذه الصعوبات الحقيقية العلمية والموضوعيةـ قبل عدة سنوات أمام محاولة بسيطة للكتابة في هذا الجانب النظري، وذلك عندما قام (المجمع العالمي لاهل البيت(عليهم السلام)) بعقد المؤتمر التأسيسي العالمي له، حيث كتبت مقالاً حاولت فيه طرح بعض الافكار العامة للنظرية، فوجدت إزاءها بعض التشجيع المشكور من بعض المساهمين في المؤتمر.


ورأيت أنّ من المهم هو أن نبدأ أو نستمر في طرح هذا الجانب النظري، ثم يمكن أن يتكامل من خلال الباحثين والعلماء.


وعلى رغم كثرة المشاغل والمحن والاعمال التي ابتليت بها في هذا المقطع الزمني، والتي تختلف بطبيعتها عن الاعمال الثقافية والفكرية اختلافاً بيناً، بل هي عوامل مضادة للعمل العلمي عادة، وكذلك ابتعادي النسبي عن مركز النشاط العلمي وهو الحوزة العلمية وعن أجوائها وخدماتها، حاولت أن اقوم بمراجعة تلك المحاضرة وتحليلها، فانفتحت أمامي مجموعة من الافاق للبحث:


الاول: بيان الاهداف الرئيسة لوجود اطروحة أهل البيت(عليهم السلام) في الرسالة الخاتمة (نظرياً وتطبيقياً)، بحيث تعبر عن حقيقة هذا الركن الاهم من الرسالة الاسلامية.


وهذا ما يمثل الجانب المشترك بين أئمة أهل البيت(عليهم السلام).


الثاني: بيان وتفسير المواقف التي قام بها كل واحد من أئمة اهل البيت(عليهم السلام)، التي يتميز بها في عصره ومرحلته، والارتباط بين هذه المواقف بعضها بالاخر، وعلاقتها بالاهداف الرئيسة; كل ذلك مع تقسيم تاريخ أهل البيت(عليهم السلام) إلى مراحل متميزة، وبيان خصائص تلك المراحل.


الثالث: تناول القضايا الفكرية والعقائدية والشرعية التي تميّز بها مذهب أهل البيت(عليهم السلام) من ناحية ارتباطها بالنظرية الاسلامية في أهل البيت(عليهم السلام)، علماً بأنّ البحث في هذه القضايا من الناحية الكلامية والفقهية هو بحث متكامل.


الرابع: مسيرة أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بعد غيبة الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، والمراحل الرئيسية التي مرَّت بها، ودورهم في تحمل المسؤوليات الكبرى ذات العلاقة بالنظرية.


دور أهل البيت(عليهم السلام) في الحياة الاسلامية


ووجدت أن البحث الاول ـ الذي يمثل البحث الرئيس والاساس ـ يشتمل على عدّة بحوث مهمة نظرية وتطبيقية، بحيث قد يحتاج كل واحد من الاهداف إلى كتاب مستقل، حيث يمكن تلخيص (الاهداف) من أطروحة أهل البيت(عليهم السلام)بالامور الخمسة التالية:


1 ـ الخلافة الالهية، أو ولاية الامر، أو قيادة الحكم الاسلامي.


2 ـ المرجعية الفكرية والدينية للمسلمين.


3 ـ الدفاع عن الاسلام (العقيدة الاسلامية، الكيان السياسي للاسلام).


4 ـ الدفاع عن الامة الاسلامية، والمحافظة على وجودها وخصائصها ووحدتها.


5 ـ بناء الجماعة الصالحة والصفوة المنتخبة التي تتحمل المسؤوليات الخاصة.


ولا شك أنّ هذا العمل بهذه السعة يحتاج إلى وقت واسع وتفرّغ مناسب وعدد من المساعدين الاكفاء.


ولكني وجدت نفسي مندفعاً لان أبدأ هذا العمل الصالح متوكّلا على الله تعالى فيه ومستمداً العون منه، راجياً التوفيق في إخلاص النية والصدق والهداية في العمل (ومن يتوكل على الله فهو حسبه إنّ الله بالغ امره قد جعل الله لكل شيء قدراً).


كما وجدت نفسي أيضاً مسوقاً للكتابة ابتداءً في الهدف الخامس، وهو (الجماعة الصالحة)، ولعلَّ السبب في هذا الاختيار للبداية هو احساسي بالحاجة الفعلية ـ من خلال الممارسة العملية ـ لوجود تصور كامل (نظري وتطبيقي) للجماعة الصالحة; ليكون مثالاً واقعياً ويقدّم للعاملين في ميادين العمل السياسي والاجتماعي يتأسون به ويقتدون بهداه.


كما وجدت هذا البحث يملا فراغاً في المناهج الدراسية لطلاب العلوم الدينية، كما ينفع الخطباء والمبلغين، والاوساط المثقفة المؤمنة في الوطن، أو في المهجر أو في بلاد الغربة، الذين لا تتيسر لهم عادة القدرة على معرفة تفاصيل هذا التصور.


ويشهد عالمنا الاسلامي ـ في هذا العصر ـ تطوراً واسعاً في هذه المجالات (الحوزة، والتبليغ وإقبال المثقفين بالثقافة العامة على الاسلام، والهجرة إلى بلاد الغرب).


حيث يهيئ لهم مثل هذا الكتاب اكثر المعلومات العامة التي يحتاجونها في الاحاديث العامة والمذاكرة حول أهل البيت(عليهم السلام) والجماعة الصالحة.


وقبل كل ذلك كنت أشعر شخصياً أننا بحاجة ماسة إلى أن نقدِّم المثال الواقعي الخارجي للجماعة الصالحة التي ندعو إلى وجودها لتصبح النظرية الاسلامية واقعية وليست افتراضية في خضم دنيا الشهوات، وتضارب المصالح المادية والتناقضات السياسية والضغوط النفسية والخارجية التي يعيشها عصرنا الحاضر.


بعض الصعوبات


وقد بدأت في الكتاب أولاً بتكوين التصور العام له ثم شرعت بالكتابة، حيث واجهت عدة صعوبات أذكر اثنتين منها:


الاولى: الوقت، فقد كنت اقتطعه بصعوبة من زحمة الاعمال المتضادة أحياناً، ولذلك كنت أضطر في بضع الاحيان أن أبدا بكتابة فكرة، ثم أنقطع عنها قبل اكمالها فترة تطول عدة أشهر، أو ما يقارب السنة في بعض المرات، فأرجع إلى ما يشبه نقطة الصفر، لاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن البحث ذو طبيعة تركيبية نظرية. أو كنت اكتفي بذكر الاشارة إلى مصادر النصوص دون كتابتها اقتصاداً في الوقت، مما سبّب اشكالاً في الاعداد للطبع، وعبئاً إضافياً على الاخوة في مجلة رسالة الثقلين الناطقة باسم (المجمع العالمي لاهل البيت(عليهم السلام))، الذين يستحقون كل شكر وتقدير عليه.


الثانية: أن هذا البحث يعتمد بصورة أساسية على المواد الاولية كأخبار أهل البيت(عليهم السلام) والنصوص التاريخية أو الفقهية، أو المعلومات الرجالية، وهي تحتاج إلى البحث عنها ثم استيعابها ثم الفحص عن مستوى الاعتبار لها، ثم المقارنة بينها لاستنباط النظرية، وكان ذلك يحتاج إلى وقت كبير وعناء خاص.


وقد كان الفضل الكبير في تسهيل هذه الصعوبات ـ بعد الله تعالى ـ للموسوعات الحديثية والمعاجم التي كتبها علماؤنا السابقون جزاهم الله خير الجزاء.


خطة الكتاب


وقد تابعت في هذا الكتاب الخطوات والامور التالية:


الاول: تقسيم الكتاب إلى سبعة ابواب، وتقسيم الابواب إلى فصول مستقلة تتضمن عناوين رئيسة، أو أقسام تتضمن فصولاً كما هو في البابين السادس والسابع.


وقد تضمن الباب الاول، فصلي: (الاهداف) و (الخصائص).


وتضمن الباب الثاني (القواعد والاسس) فصول: (الفكرية)، و(الاخلاقية)، و(الثقافية) و(الروحية المعنوية)، و(السياسية الاجتماعيه).


وتضمن الباب الثالث (نظام الجماعة العام) فصول: (المرجعية الدينية)، و(الهوية)، و (علاقات الامة مع المرجع)، و (العلاقات الداخلية والخارجية).


وتضمن الباب الرابع (نظام أمن الجماعة) فصلي: (الخطوط الامنية)، و(السياسات الامنية).


وتضمن الباب الخامس (النظام الاقتصادي) فصول: (التشريعات الاقتصادية العامة)، و (التشريعات الاقتصادية الخاصة)، و (النشاطات الاقتصادية).


وتضمن الباب السادس (نظام العلاقات الاجتماعية) قسمي: (النظرية، أبعادها واسسها)، و (البناء الفوقي للنظرية).


كما تضمن القسم الاول فصلين هما: (أبعاد النظرية)، و (أسس النظرية).


وتضمن القسم الثاني فصلي: (البناء الفوقي وأبعاد النظرية)، و (البناء الفوقي والاسس).


وأما الباب السابع (الشعائر والعبادات) ـ وهو أوسع الابواب ـ فقد تضمن قسمي: (الشعائر)، و (العبادات).


وأما القسم الاول، فقد تضمن: فصول (شعائر أهل البيت)، و (الايام والليالي)، و(المساجد والاماكن المقدسة).


وأما القسم الثاني، فقد تضمن: صنف العبادات المؤقتة، وهي: (اليومية)، و(الاسبوعية)، و(الشهرية)، و(السنوية).


وصنف العبادات غير المؤقتة: وهي (الصلاة غير المؤقتة)، و (الصوم غير المؤقت)، و (الدعاء)، و (الذكر)، و (الجهاد).


وقد تضمنت هذه الابواب والفصول والاقسام في كثير من الاحيان تمهيداً للبحث للتعريف بالموضوع وبيان أهميته، أو خاتمة في استنتاج النظرية أو تلخيص الافكار حسب أهمية الموضوع وسعة دائرة البحث أو الحاجة.


وقد يبدو أنّ هذا الترتيب في الابواب والفصول يتسم بالغرابة، لانه لم يأت وفق الترتيب المعروف في الكتب التي تتناول مثل هذه العناوين، مضافاً إلى وجود عناوين غير معروفة.


ولكن يخفّ هذا الاستغراب إذا التفتنا إلى الامور الاتية، وكذلك عند قراءة الكتاب.


الثاني: أنّ الهدف من وراء هذا الكتاب هو بيان دور أهل البيت(عليهم السلام)عملياً في تكوين الجماعة الصالحة، وتكوين النظرية حولها، ثم بيان معالم وتفاصيل هذه الجماعة الصالحة.


وهذا أمر ينفع الجماعة الصالحة نفسها، كما ينفع سائر المسلمين الذين يريدون أن يعرفوا الحقيقة، ويلتزموا أو يتأسوا بها، وفي الوقت نفسه ينفع كل الباحثين عن الحقيقة من سائر الناس.


الثالث: الاهتمام في الكتاب وبنقاط الاختصاص والامتياز لمذهب اهل البيت(عليهم السلام) بعد توضيح النظرية، دون الاستغراق في النقاط المشتركة أو شرحها وتفصيل مبرراتها وعللها، بل اكتفي بالاشارة إليها، فإنّ تلك النقاط المشتركة ـ على أهميتها البالغة احياناً ـ مما تناولته الابحاث العامة لجميع المسلمين، ويسهل الحصول عليها نسبياً، كما أنها تخرج الكتاب عن هدفه الخاص.


الرابع: الاهتمام باستنباط معالم النظرية بالاستناد إلى المصادر الاساسية (القرآن الكريم، والسنة النبوية، والنصوص المعتبرة التي وردت عن أهل البيت في نقل السنّة النبوية او شرحها او بيانها)، مضافاً إلى النصوص المعتبرة التي وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) في بيان تفاصيل السياسات والمناهج والاساليب والمواقف.


الخامس: أنّ استنباط النظرية لما كان بحاجة إلى اجتهاد صحيح يعتمد على المصادر والقواعد الصحيحة للاجتهاد، ومن أجل أن تكون النسبة إلى أهل البيت(عليهم السلام) وجماعتهم نسبة صحيحة، التزمنا في استنباط اصول النظرية والافكار الرئيسة والمركزية بالنصوص المعتبرة، أو الاراء الاجتهادية المعروفة في أوساط علماء شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، مع ذكر الشواهد والنصوص التي تؤيد هذا الاجتهاد، أو التي يستند إليها أصحابه.


وأما في التفاصيل فقد سعيت إلى الاستناد فيها إلى النصوص المعتبرة أيضاً، أو النصوص المتعددة التي يوجد في النفس الوثوق بها، باستثناء بعض الموارد الجزئية التي لا تؤثر على أصل النظرية، بل توضحها وتشرحها، وبهذا يمكن أن نفسّر ذكر بعض النصوص المتشابهة بمضمونها، أو الاشارة إلى تعددها أو اعتبارها.


وأما تفاصيل المستحبات لا سيما الشعائر والعبادات ـ وإن كنا اعتمدنا فيها أساساً ـ على القاعدة المعروفة التي يسميها الفقهاء بـ (قاعدة التسامح في أدلة السنن)، فإن ذكرها بهذا التفصيل يوضح النظرية وأبعادها من جهة، وفي الوقت نفسه حاولت قدر المستطاع أن اشير إلى صحة الرواية أو اعتبارها عندما أجد ذلك مناسباً لتثبيت الفكرة.


كما أني حاولت أن أستثني الافكار الغريبة التي لا أجد لها مصدراً معتبراً.


وفي الختام أوكّد مرة أخرى أن هذه المحاولة هي بداية، وتقترن عادة بالكثير من الاخطاء والزلاّت والعيوب.


اسأله تعالى أن يتجاوز عنّا ذلك، كما أساله تعالى القبول والتوفيق لاكمال هذا (المشروع)، وأن يكون موضع الرضا والقبول من سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف).


كما أرجو من القراء الاعزاء والباحثين الافاضل الكرام أن يغضوا النظر عن هذه الاخطاء ويتفضلوا عليَّ بإهدائها لي أو بملاحظاتهم القيّمة في تحقيق هذا الهدف.


والله ولي التوفيق والسداد والقبول.


والحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


(ربنا لا تُؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربَّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربَّنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفُ عنّا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين).


14 ذي القعـدة 1417


محمد باقر الحكيم


الباب الأول


الأهداف والخصائص


الفصل الاول:


الاهداف العامة للجماعة الصالحة


الفصل الثاني:


الخصائص العامة للجماعة الصالحة


تمهيد:


لقد عمل أهل البيت(عليهم السلام) في المجتمع الاسلامي على خطين رئيسيين وفي دائرتين متداخلتين هما:


أولاً: العمل في الخط العام للامة وفي الدائرة الواسعة لها، حيث كانوا يتفاعلون مع عموم الامة وأطرافها الواسعة. وفي مجال هذه الدائرة لم يكن يتميز الموالون والمؤمنون بأهل البيت(عليهم السلام) من أبناء الامة عن غيرهم إلاّ بمقدار الاقتراب العقائدي والروحي والعاطفي المتمثل بالولاء العقائدي والسياسي والحب العاطفي والالتزام الاخلاقي تجاههم والطاعة لاوامرهم.


ثانياً: العمل في الخطّ الخاصّ وفي دائرة النّخبة من المسلمين الذين كانوا يتفاعلون مع أهل البيت(عليهم السلام) بمستوىً عال، ويؤمنون بفلسفة دورهم الخاص في النظريّة الاسلامية القائمة على أساس الامامة للمسلمين والخلافة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المنصوص عليها من قبل الله تعالى.


ونلاحظ أنّ الدائرة الثانية التي أصبحت جماعة صالحة لها هويتها وكتلة فاضلة لها معالمها الخاصة، وعرفت في الاوساط الاسلامية بشيعة أهل البيت(عليهم السلام)، لم يتمّ فرزها ونمّوها وتطورها ومن ثم تميّزها عن الجماعات الاخرى ضمن الدائرة الاولى، بمجرّد تفاعل الامّة العام مع حركة أهل البيت، بل تمّ ذلك بجهد وتخطيط من الائمة من أهل البيت(عليهم السلام) لايجاد تلك الجماعة والكتلة.


وبعبارة مختصرة لم يتم وجود هذه الكتلة بصورة عفوية ونتيجة لعمل الائمة في الخط العام للامة، بحيث أفرزَ هذه النخبة المؤمنة فحسب، بل كان ذلك أيضاً بصورة هادفة ومقصودة ونتيجة للتخطيط الذي رسمه ونفذه الائمة لبناء تلك (الجماعة) وإيجادها.


ذلك أن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) كانوا يدركون أنّ أهدافهم العامة ومنها الدفاع عن كيان الاسلام وحفظ وجود الامة الاسلامية لا يمكن أن تتحقق بمجرد العمل على المستوى العام والدائرة الواسعة، لانّ تحقيق هذا الهدف وبأبعاده المختلفة إنّما يمكن أن يستمر إذا توافرت شروط الوعي الدائم، والزخم العاطفي المستمر، والعنصر القيادي في الامّة الذي يقوم بمهمة التوعية وإدامة الزخم.


ولذلك نجد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يتوجّهون ـ بالاضافة إلى نشاطهم العام ـ إلى هذا الخطّ من النشاط في الدائرة الخاصة منذ البداية. فها هو الامام علي(عليه السلام)يقوم بهذه المهمة، فيبني الجماعة الصالحة فيا لمدينة المنوّرة، ويوسّع من قاعدتها بعد ذلك في الكوفة على يد حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي وعمّار بن ياسر، وفي لبنان على يد أبي ذر الغفاري، وفي اليمن خلال المدّة التي قضاها متولّياً لشؤون هذا الاقليم.


الفصل الاول


الاهداف العامة للجماعة الصالحة


يمكن تلخيص الاهداف الاساسيّة من وراء بناء الجماعة الصالحة في نفس الاهداف التي عرفناها لدور الائمة عموماً وهي مبادئ التجربة الاسلامية والمرجعية العامة الفكرية والدينية للمسلمين، والدفاع عن الاسلام والعقيدة الاسلامية، وحفظ الوجود الاسلامي من خلال المحافظة على الحكم الاسلامي والمجتمع الاسلامي والكتلة البشريّة التي تنتمي للاسلام وسوف تتبين الكثير من معالم هذه الاهداف في تفاصيل الحديث عن بناء الجماعة الصالحة، ولكن نشير هنا إلى النقاط التالية:


أ ـ المساهمة في قيادة التجربة


الاسلامية ( تسلّم الحكـم الاسـلامي )


لا شك في أن الهدف الاول والاهمّ من وجود الائمة(عليهم السلام) واُطروحتهم في الرسالة الخاتمة هو قيادة التجربة الاسلامية والوصول بها إلى الدرجة العالية من التكامل، كما عرفنا ذلك في بداية هذا البحث. حيث كان التخطيط الربّاني للرسالة الخاتمة يقضي أن تبلغ التجربة الاسلامية الدرجة التكامليّة المناسبة لها خلال المدّة التي تتولّى فيها الحكم القيادة المتمثّلة بالائمة المعصومين الاثني عشر والتي يمكن تقديرها بثلاثة قرون من الزمن على أقل تقدير، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أقل فرضية للعمر الطبيعي للائمة الاثني عشر.


وهذا التكامل يمكن ان نفترضه على جميع المستويات المعنوي والعلمي والخلقي، ومستوى الحكم والعلاقات والتنظيم، والمستوى المادي في التنمية الاقتصادية، والضمان والتكافل الاجتماعيين، والقوة العسكرية، وانتشار الدعوة الاسلامية وثقافة الاسلام في مختلف أرجاء العالم، وغير ذلك من شؤون الحياة الانسانية، بحيث يكون ذلك مصداقاً عملياً وواقعياً لقوله تعالى: (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)([2]).


وكان إقصاء أهل البيت(عليهم السلام) عن هذا الدور الاساسي ـ بفعل الانحراف، وسوء الاختيار، والاهواء الشخصية والسياسية ـ السبب في هذا التخلّف والاحباط، والاوضاع السيئة التي يعيشها المسلمون، بل تعيشها البشريّة الان وفي العهود السابقة. ويتحمل الانسان المسؤولية في هذا الامر كما يتحمّلها في جميع الادوار والمواجهات وقضايا الاحباط الاخرى عبر التاريخ البشري، منذ خلق الله تعالى آدم وجعله وزوجه في الجنة، إلى المواقف الاخرى تجاه رسالات الانبياء(عليهم السلام) عندما تخلّفت البشرية عن الاستجابة لرسالاتهم ونداءاتهم الربانية (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الّذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيّنات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)([3]).


وقد حاول الائمة(عليهم السلام) أن يعيدوا الحق إلى نصابه، وخططوا لتسلّم التجربة الاسلاميّة بعد إقصائهم عنها عقيب وفاة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). وكان أحد معالم هذا التخطيط بناء الجماعة الصالحة التي يمكن أن يكون لها دور المساهمة في قيادة التجربة الاسلامية.


ويمكن أن نلاحظ ذلك بوضوح من خلال دراسة المرحلة التي عاشها الائمة الثلاثة الاوائل علي والحسن والحسين(عليهم السلام)([4]) حيث كانت محاولة تسلّم هذه القيادة قائمة هدفاً مطروحاً في الامة على مستوى تلك المرحلة وذلك من خلال الخطاب السياسي في الامة.


وقد تمكّن الامام عليّ(عليه السلام) بالفعل من الوصول إلى هذا الموقع القيادي، واستمر هذا الامر مدة قصيرة من حياة الامام الحسن(عليه السلام). ثم كان المسلمون يأملون أن ترجع التجربة إلى سابق عهدها في زمان الامام الحسين(عليه السلام) وطلبوا منه القيام بهذه المهمة إلى أن حدثت المأساة المروّعة في كربلاء.


ولاشك أنّ النخبة الصالحة التي تمكّن الامام علي(عليه السلام) من تربيتها وبناء الوضع الروحي والتنظيمي لها وقاتلت إلى جانبه، وقدمت التضحيات العظيمة في خدمة الاسلام وتثبيت المثل والقيم التي دعا إليها(عليه السلام).


وكذلك ما قام به الامام الحسن(عليه السلام) من المحافظة عليها حيث كان أحد الاهداف المهمة لاتفاقية الهدنة مع معاوية هو المحافظة على هذه الجماعة.


ان هذه النخبة كان لها دور مهم ورائد في زمن الامام الحسين(عليه السلام); إذ تمكّنت أن تكسر الجمود وحالة الاستسلام للحكم الاموي، وتعطي المبرر الموضوعي والاجتماعي لحركة الامام الحسين(عليه السلام) التي رفعت شعار سقوط الحكم الاموي، واستهدفت الاطاحة به وتهيئة الارضيّة لتأخذ ثورة الحسين(عليه السلام) مداها الواسع في أوساط الامة الاسلاميّة، ويكون لها تأثيرها في مسار التاريخ الاسلامي، وقد تحقق الكثير من أهدافها، ومنها اسقاط الحكم الاموي في نهاية المطاف.


ففي مرحلة الائمة الثلاثة الاوائل يمكن أن نقول: إن الهدف الاول والاهم من بناء الجماعة الصالحة هو المساهمة في عملية تسلّم قيادة التجربة الاسلامية، وهو هدف يأتي منسجماً مع الاعمال التي قام بها الائمة(عليهم السلام) على مستوى الحفاظ على الامّة الاسلامية في بُعدها الاول، وهو إقامة الحكم الاسلامي الاصيل سواء على مستوى الوجود الخارجي لهذا الحكم الذي تحقق على يد الائمة مدة قصيرة، أو على المستوى النظري والطموح; إذ أوجد الائمة تياراً في الامة يدعو لاقامة هذا الحكم بحيث كان أحد عوامل الضغط لتصحيح مسار الحكم على مرّ التاريخ الاسلامي.


دور النخبة في عهد الخلفاء الثلاثة:


وقد تبين لنا أنّ هذه النخبة الصالحة كان لها دور عظيم في قيادة التيار الاسلامي الجماهيري الذي كان يدعو لخلافة الامام عليّ(عليه السلام) منذ زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، ويضغط خلال ذلك الزمن باتجاه أن يكون الخليفة بعده هو الامام علي(عليه السلام). ولكنّ ترشيح الخليفة عمر للخليفة بعده على أساس تقليص دور الشورى وجعلها محصورة في ستة أشخاص، وكذلك جعله الخيار بيد عبد الرحمن بن عوف إذا انحصر الامر بين شخصين، إنما كان محاولة لامتصاص هذا التيار الجماهيري بطريقة محسوبة ودقيقة.


ومع ذلك فقد وجدنا أنّ الضغط الجماهيري يفرض على ابن عوف أن يطلب في البداية من عليّ(عليه السلام) أن يتصدى للخلافة. ولكنّه يضع شرطاً لهذه البيعة وهو يعرف مسبقاً أن علياً(عليه السلام) سوف يرفضه، وهو أن يتقيد الامام علي(عليه السلام)بسيرة الشيخين، بالاضافة إلى الكتاب الكريم والسنّة النبوية([5]).


وتتوضح فاعلية هذا التيار الجماهيري بشكل واضح بعد ذلك عندما تحدث (فتنة) قتل الخليفة عثمان، حيث تنهال الجماهير بصورة فريدة على بيعة الامام علي(عليه السلام) بحيث كان هذا الشيء مما اختص به(عليه السلام) وامتاز به من جميع الخلفاء الذين سبقوه أو الذين جاءوا من بعده. حيث كانت بيعة أبي بكر من خلال الاجتماع في سقيفة بني ساعدة، الذي اختلف فيه المسلمون، وغاب عنه بعضهم من ذوي الحل والعقد، وكانت بيعة عمر بنص من ابي بكر، وسكوت من المسلمين، بعد ان لم يقبل ابو بكر اعتراض بعضهم كطلحة وكانت بيعة عثمان من خلال عملية الشورى السداسية التي مرت الاشارة إليها([6]). واما الخلفاء بعده فكانوا يحكمون بالنص وقوة السلاح والقهر، كما هو معروف في التاريخ.


دور النخبة في عهد الامام علي(عليه السلام):


وكذلك كان لهذه النخبة الدور المتميز في الصراع الذي خاضه الامام علي(عليه السلام) مع مناوئيه (عائشة، وطلحة والزبير، والاُمويين وعلى رأسهم معاوية)، حيث كانت الموازنة التي يعتمد عليها الامام علي(عليه السلام) في هذا الصراع هي قضية (المبادئ، والقيم) في مقابل مقومات الموازنة التي اعتمد عليها مناوئوه وهي (المصالح والمنافع الدنيوية المنظورة، والمكاسب الملموسة التي يحس بها الانسان) وفي هذه الموازنة لم يكن من الممكن للامام علي(عليه السلام) ـ بسبب الظروف النفسية والتاريخية القائمة ـ أن يستمر في الصراع أو أن يحقق نجاحاً نسبياً فيه لولا وجود هذه النخبة الصالحة التي كان قد بناها في أوساط الاُمة.


نماذج من الرجال المتميزين:


ولذلك وجدنا هذا الوضع المتميز لاشخاص أمثال: مالك الاشتر وهاشم المرقال ومحمد بن أبي بكر وقيس بن سعد بن عبادة وحجر بن عدي وصعصعة ابن صوحان وأخيه زيد، وأويس القرني، وسليمان بن صرد الخزاعي، وابي الاسود الدؤلي، وعبد الله بن طلحة، وعبد الله بن جعفر، وخباب بن الارت وابنه عبد الله، وعدي بن حاتم الطائي، وعقيل بن ابي طالب، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وقنبر، ومحمد بن أبي حذيفة وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت الانصاري والاصبغ بن نباتة وميثم التمّار وكميل بن زياد والحارث الهمداني ورشيد الهجري وعبد الله بن العباس وغيرهم، فضلاً عن بقايا الصحابة أمثال: عمار بن ياسر وابن التيهان وعثمان بن حنيف واخيه سهل وجابر بن عبد الله وابنه عبد الله بن جابر الانصاري وغيرهم من امثالهم. أولئك الذين كان يحزن الامام علي(عليه السلام) لفقدهم احياناً ويبكي عليهم ويحس بالفراغ الكبير الذي تركوه في التحرك الاسلامي الكامل، أو يخلو بهم ويناجيهم احياناً اخرى.


واستمر هذا الدور بشكل فاعل لهذه النخبة حتى زمن الامام الحسين(عليه السلام)حيث كانت آخر محاولة واضحة ومكشوفة لمساهمة هذه النخبة في استلام قيادة التجربة الاسلامية([7]).


ب ـ المحافظة على المجتمع الاسلامي


وتأتي مهمّة المحافظة على المجتمع الاسلامي هدفاً ثانياً لبناء الكتلة الصالحة في نظر الائمة(عليهم السلام).


لقد كان للجماعة الصالحة دور متميز في المحافظة على المجتمع الاسلامي سواء في أيام حضور الائمة سلام الله عليهم أو بعد الغيبة الكبرى للامام المهديعجل الله فرجه الشريف; وذلك أن بناء الجماعة الصالحة لم يكن لمجرد تكثير الانصار والمهتدين، أو توسعة دائرة الافراد الصالحين والاستعانة بهم في العمل السياسي الذي كان يمارسه هؤلاء الائمة فحسب، وإنما كانت هناك أهداف أخرى أعمق ترتبط بالاهداف العامة للائمة(عليهم السلام) على جميع المستويات والابعاد، بحيث تؤديها هذه الجماعة الصالحة من خلال وجودها وتماسكها أمةً وجماعةً أو أفراداً ومنها المحافظة على وجود المجتمع الاسلامي.


ويمكن أن يتضح ذلك بملاحظة النقاط والظواهر التالية:


1 ـ الدفاع عن المجتمع الاسلامي:


قيام النخبة الصالحة بالمحافظة على قوة المجتمع الاسلامي وتماسكه من خلال الدفاع عنه أمام أعدائه الخارجيين والداخليين; فقد كان لشيعة أهل البيت(عليهم السلام)ومواليهم دور كبير في صد عمليات الغزو الاجنبي التي واجهها العالم الاسلامي في المرحلة المتأخرة من زمن العباسيين في الحروب الصليبية من خلال (الحمدانيين) في بلاد الشام وسوريا أو (الادارسة) في شمال إفريقيا، أو مقاومة الغزو المغولي في الشرق الاسلامي وامتصاص زخمه العدواني ثم تحويله بعد ذلك إلى جانب الاسلام، وكذلك القضاء على حركات التمرّد للكفار والوثنيين في مناطق طبرستان والترك والديلم في مناطق بحر قزوين وكذلك في بلاد ما وراء النهر وغيرها.


وكان الاهم من ذلك هو الدفاع الذي قام به رجالات الشيعة بتوجيه من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في مواجهة حركات الالحاد والزندقة، أو موجات التفسّخ الاخلاقي التي عمّت حواضر العالم الاسلامي في المدينة المنورة ومكة المكرمة والكوفة والبصرة والشام وبغداد وغيرها، حيث يظهر ذلك واضحاً من خلال المطارحات والمناقشات والمدارس التي أسّسها أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، والاخلاق التي كانوا يتّصفون بها، ومقاومتهم لمظاهر الانحلال والفساد والظلم([8]).


2 ـ ايجاد القدوة الصالحة:


تقديم القدوة الصالحة من خلال (الجماعة الصالحة) في المجتمع الاسلامي في عصر كادت أن تطغى فيه المنافع الذاتية على منافع الامة والجماعة والمصالح الخاصة على مصالح الاسلام واهله، وتشترى فيه ضمائر الناس وألسنتهم ويتاجر بالدين والحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لتبرير مختلف التصرّفات والسلوكيات المنحرفة التي يقوم بها الحكام والطغاة والولاة والقادة العسكريون أو الوزراء المنحرفون خصوصاً في زمن الحكم الاموي.


وقد أهتم أهل البيت(عليهم السلام) بهذا الامر اهتماماً بالغاً حتى دعا الامام الصادق(عليه السلام) شيعته إلى أن يكونوا القدوة الصالحة والاسوة في السلوك بين المسلمين، للمحافظة على المجتمع الاسلامي من ناحية، وهداية الناس إلى طريق الحق من ناحية أخرى.


فقد روى الكليني بسند صحيح عن صفوان بن يحيى عن أبي أسامة زيد الشّحام قال: قال لي أبو عبد الله(عليه السلام): اقرأ على من ترى أنّه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّوجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الامانة، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأدّوا الامانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يأمر بأداء الخيط والمخيط. صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم; فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصَدق الحديث وأدّى الامانة وحَسن خلقُه مع النّاس قيل هذا جعفريّ، فيسرّني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر. والله لحدثني أبي(عليه السلام) أنّ الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(عليه السلام) فيكون زينها، آداهم للامانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تُسأل العشيرة عنه فتقول: من مثلُ فلان؟! إنّه آدانا للامانة، وأصدقنا للحديث([9]).


إن الفقرة الاخيرة من الحديث تشهد شهادة واضحة على هذا الدور الذي حققه أتباع أهل البيت(عليهم السلام) فيما يرويه الصادق عن أبيه الامام أبي جعفر الباقر(عليهما السلام)([10]).


3 ـ الوحدة الاسلامية:


دور شيعة أهل البيت(عليهم السلام) في قضية الانسجام والوحدة مع بقية أطراف المجتمع الاسلامي والمسلمين من بقية المذاهب الاسلامية، حيث كانوا يمارسون التقية مع هذه الاطراف تحقيقاً للانسجام، وترسيخاً لروح التعايش بين المسلمين، وتأكيداً للتماسك بين الجماعات الاسلامية.


والتقيّة ـ وإن كانت في أحد أبعادها، قد حققت لشيعة أهل البيت عنصراً من عناصر الحماية لوجودهم والوقاية من عمليات القمع التي كان يمارسها أعداؤهم المتسلطون ضدهم ـ لم تطرح في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) من خلال هذا البعد فقط، بل طُرحت في بعد آخر، وهو تحقيق الوحدة والانسجام في المجتمع الاسلامي; ولذا نجدهم يحرّضون شيعتهم على إيجاد روح التضامن والتكافل والوفاء بالعهود والمواثيق مع بقية أطراف المجتمع، ويحثّونهم على حسن المعاشرة والجوار والحضور في الجنائز والمساجد وعيادة المرضى مع تأكيد عدم إمكان الاستغناء عن الناس والحاجة إليهم.


وقد التزم أتباع أهل البيت(عليهم السلام) هذه التوصيات، ومارسوها من موقع القوة والقدرة، كما التزموا بها في مواضع الضعف والمطاردة. ولذلك لم يعرف عن شيعة أهل البيت(عليهم السلام) أنهم مارسوا عمليات القمع والاستئصال ضد أتباع المذاهب الاسلامية الاخرى، حتى في الحالات التي كانوا يمسكون فيها بأزمّة الامور، وإنما كانوا دائماً يتمسّكون بنهج الدفاع عن النفس عندما يتعرضون للعدوان في أشد الحالات، وقد يتمسّكون بالصبر والسكوت وتحمّل ألوان الاذى والهضم لحقوقهم الطبيعية تأثّراً بهذا النهج.


كما انهم لم ينهجوا منهج العنف والارهاب واساليب الاغتيال واختطاف الرهائن واحتجازها أو القتل عطشاً وجوعاً.


وسيأتي مزيد من التوضيح لمنهج التقية في نظام أمن الجماعة، ولكن لننظر إلى النص التالي الذي يحدّد فيه الامام الصادق(عليه السلام) أحد خلفيّات منهج التقية، فقد روى الكليني في الاصول بسند صحيح عن مرازم عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) أنه قال: عليكم بالصلاة في المساجد وحسن الجوار للناس وإقامة الشهادة وحضور الجنائز. إنه لابد لكم من الناس. إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض([11]).


4 ـ المبدئية والمثل العليا:


ظاهرة الالتزام بالروح المبدئية والمثل العليا وجانب الحق والعناوين الاولية للاحكام الشرعية في الاوساط الشيعيّة وأتباع أهل البيت، حيث أصبح هذا الالتزام ظاهرة يتسم بها شيعة أهل البيت، وانتهى بهم إلى أن يعيشوا دائماً في صف المعارضة للحكم، الامر الذي جعلهم يفقدون الكثير من المكاسب الماديّة وعرّضهم للطغيان. ولكن هذه الروح وهذا النهج كان سبباً مهماً في احتفاظ المجتمع الاسلامي بقيمه ومثله، من خلال حركة الانسان الصالح الذي يتمسك بالحق ويزهد في الدنيا ويطمح إلى تحقيق المثل والاهداف السامية.


وقد كانت هناك فرص كثيرة أمام أتباع أهل البيت(عليهم السلام) أن ينحدروا مع التيار العام الفاسد ليحققوا المكاسب الضيّقة، كما حصل في بداية عهد العباسيين الذين كانوا يشتركون معهم في معارضة الحكم الاموي، وكانت تربطهم بشيعة أهل البيت افضل العلاقات، خصوصاً وأن أئمة أهل البيت لم يتخذوا موقف المقاومة المسلحة للحكم العباسي في البداية.


وكذلك الاغراءات التي تعرضوا لها في مختلف أدوارهم بعد ذلك، وكذلك في بعض أدوار المغول أو الغزو الاجنبي الاوربي للبلاد الاسلامية مثل: العراق ولبنان وبعض دول الخليج، وشبه القارة الهندية وأفغانستان وغيرها، فضلاً عن ايران. حيث تهيأت لهم فرص التعاون مع التطور السياسي الجديد للخلاص من الظلم والحصول على مواقع سياسية واجتماعية جديدة كما صنع غيرهم.


ولكنهم اختاروا المقاومة والالتزام بالمبدئية، وتحملوا الحرمان والاضطهاد من أجل ذلك، مع أنهم اصبحوا أكثرية مطلقة أو نسبية في التقسيمات الجديدة للعالم الاسلامي.


إلاّ أنهم أبوا لانفسهم هذا المصير والسلوك بسبب تلك الروح المبدئية العالية التي كانوا يتصفون بها([12]).


وكان لمواقفهم هذه الاثر الكبير في صمود المجتمع الاسلامي أمام هذه التيارات الغازية، والمحافظة عليه وبقاء روح الرفض والتعالي على الاوضاع الدنيوية.


5 ـ الانسانية والعالمية:


إطفاء نار الروح العنصرية أو الطائفية أو الاقليمية بين المسلمين من خلال روح الاخوة الاسلامية التي كان يعيشها أتباع أهل البيت خصوصاً في أوساط الشعب العربي، حيث كان لها جذور من العهد الجاهلي، وتحركت بسبب الفتح الاسلامي الواسع واختلاط المسلمين بالموالي وبرزت فيه هذه الروح في العصر الاموي وكانت سبباً للصراع بين المسلمين وتقسيمهم إلى العرب والموالي، ثم امتدت إلى العصر العباسي والعثماني.


وقد كان شيعة أهل البيت(عليهم السلام) بسلوكهم الايماني يجسّدون روح الاخوّة بين المسلمين، ولا يستشعرون بالامتيازات القومية أو العنصرية، تأثراً بسلوك أئمتهم.


ومن هنا نجد هذا الاتهام الذي واجهه شيعة أهل البيت(عليهم السلام) ولا زالوا يواجهونه حتى الان من رميهم بأنّهم من الاعاجم، لانهم كانوا يتعايشون مع الجميع بروح الاخوّة الكاملة. كما كانوا يجدون التعاطف من أوساط الموالي والاعاجم بسبب هذه الروح المنفتحة.


6 ـ التضحية والشهادة:


إذكاء روح التضحية والفداء والاحتفاظ بها في أوساط الامة الاسلامية، وكذلك روح الرفض للظلم والطغيان، ولذلك كان دور هذه الجماعة الصالحة واضحاً عبر التاريخ الاسلامي في مختلف عصوره في تأجيج الانتفاضات والثورات التحريرية والتصحيحية للاوضاع الفاسدة في المجتمع الاسلامي. حيث كانوا يقومون بها قياماً مباشراً أو من خلال تأثير هذه الروح في الاوساط الاسلامية العامة([13]).


وبقيت هذه الظاهرة تحكم مسيرة أتباع أهل البيت وعلاقتهم بأوساط الامة الاسلامية حتى عصرنا الحاضر الذي تميز واضحاً في هذا التأثير المتبادل.


وكان من أهم المميزات التي اختص بها أتباع أهل البيت هي التزامهم بالحرمة المطلقة للتعاون مع الظالمين وحكام الجور إلاّ في حالات استثنائية([14]).


ج ـ حفظ الشريعة الاسلامية من التحريف


لقد كان هدف حفظ الشريعة الاسلامية من أهم الاهداف التي استهدفها الائمة من بناء الجماعة الصحالحة; حيث كان أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يسعون إلى تحقيق هذا الهدف في زمن حضورهم لكي لا تبتلى الشريعة بعد غياب الائمة(عليهم السلام)بالتحريف والضياع، بسبب الاوضاع السياسية والاهواء والعوامل الاخرى التي كانت السبب في تحريف الديانات الاخرى وضياعها، الامر الذي يفرض ضرورة وجود الجماعة الصالحة التي لابد لها أن تتحمل هذه المسؤولية، خصوصاً وأن الرسالة الاسلامية هي الرسالة الخاتمة التي يجب أن تحفظ من الضياع، ليس بمنطق المحافظة على المصالح البشرية وتطورها ورقيها الذي يتحقق بالالتزام بالحدود الواقعية للرسالة فحسب، بل بمنطق ضرورة إقامة الحجة من قبل الله تعالى على الامة في كل العصور والازمنة (لِئلاّ يكون للناس على الله حجّةٌ بعد الرسلِ)([15]).


ومن أجل أن يتضح الدور الذي قام به أتباع أهل البيت في حفظ الشريعة الاسلامية والخط الاسلامي الاصيل نشير ـ باختصار ـ إلى المعالم التالية في الجماعة الصالحة المتمثلة بأتباع أهل البيت(عليهم السلام):


1 ـ مبدأ المقاومة:


الاول: الالتزام العقائدي والفكري بالمبدأ السياسي في مقاومة الظالمين ومواجهتهم الذي كان يتصف به اتباع أهل البيت(عليهم السلام)، حيث تعرض هذا الاصل الاسلامي إلى محاولات الطمس والاخماد، إما بطريقة القمع والمطاردة، أو بطريقة التضليل والتحريف. حيث كانت النصوص والاحاديث توضع على لسان النبي لتبرير الاستسلام للظالمين والقبول بحكمهم وسلطانهم، بحيث تأثرت بذلك الاوساط العامة للمسلمين، وبقيت الجماعة الصالحة من أتباع أهل البيت تلتزم بهذا الخط السياسي، ونقلته لنا عبر الاجيال المتعاقبة لا على مستوى الشعار والنظرية فحسب، بل على مستوى التطبيق والموقف السياسي الفعلي.


بالاضافة إلى أن هذا الموقف السياسي كان يتعالى بمدرسة أهل البيت والجماعة الصالحة عن أن تجعل عملية استنباط الحكم الشرعي والافتاء به خاضعة للتأثّر بأهواء الظالمين ومتبنّياتهم، بحيث تجسد عنصر الاستقلال في موقف الجماعة الصالحة من الحاكمين على المستويين العملي والنظري، وفصل قضية الاجتهاد عن الاوضاع السياسية الحاكمة المنحرفة، وهذا مما يتميز به أتباع أهل البيت(عليهم السلام).


2 ـ الاجتهاد في إطار الكتاب والسنة:


الثاني: بقاء باب الاجتهاد والاستنباط مفتوحاً ولكن ضمن الاسس والضوابط التي تعتمد أساسياً على المصادر الصحيحة التي أهمها (الكتاب والسنة)، في حين أن الجماعات الاسلامية الاخرى التي اعتمدت مصادر أخرى ـ لاسباب عديدة ـ كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وقول الصحابي وغيرها، اضطرّت بعد ذلك إلى إغلاق باب الاجتهاد للاضرار البالغة التي لحقت بالشريعة وعملية الاستنباط وتطبيق الحكم الشرعي على موارده ومصاديقه المتجددة، الامر الذي وضع الشريعة في خطر التحريف الكبير. وهذا الاغلاق أو الحد من عملية الاجتهاد كانت له آثار سلبية كبيرة على عملية الاستنباط، وقدرة الشريعة الاسلامية على معالجة التطورات الجديدة التي واجهت المجتمع الانساني، وأصبح الفقه في الاوساط العامة يعيش حالة من الجدب والعسر، الامر الذي جعل الكثير من العلماء في مختلف العصور يطمحون إلى فتح باب الاجتهاد خصوصاً في هذا العصر.


وهذا بخلاف المزيّة التي تفرّدت بها الجماعة الصالحة من أتباع أهل البيت في إثراء عملية الاستنباط مع ضبطها، بحيث أصبحت مواكبة باستمرار للتطورات دون وجود خطر الانحراف أو الوقوع تحت تأثيرات الافكار والحضارة المادية، وبقيت معطاءً مع الاحتفاظ بالاصالة في مصادرها وينابيعها الصافية، وقادرة بذلك على المحافظة على الشريعة والتراث الاسلاميين.


3 ـ الحرية الفكرية:


الثالث: القدرة على حرية التفكير والتأمل والتدبر والفحص لمختلف القضايا الفلسفية والكلامية والسياسية بعيداً عن الاطر الجامدة أو القيود الفكرية المفروضة سياسياً أو مذهبياً. الامر الذي جعل هذه الكتلة قادرة على نقد التاريخ الاسلامي، والابداع والتطور في فهم القضايا الفلسفية والكلامية والتصدي لمواجهة التيارات الفكرية والفلسفية في مختلف العصور.


وبالرغم من وجود محاولات مهمة بهذا الاتجاه في التاريخ الاسلامي، مثل محاولة المعتزلة وإخوان الصفا، إلاّ أنها باءت بالفشل، بسبب انفصالها عن الجذر الفكري الاصيل.


4 ـ التقوى والعدالة:


الرابع: إعطاء التقوى والعدالة والوثاقة في الشخصية الانسانية وفي الممارسة الاجتماعية دوراً كبيراً ومهمّاً وأساسياً يتسم بالواقعية والاخلاق، فلا تقبل شهادة غير العادل، وهي شرط في إمام الجماعة، وفي شهود الطلاق والقضاء وفي القاضي، ولابدّ في الراوي من الوثاقة، مع قطع النظر عن انتمائه السياسي، فتقبل رواية المخالف في المذهب والعقيدة إذا كان ثقة، وترفض رواية الكاذب والضعيف مهما كان متعصباً في ولائه لاهل البيت(عليهم السلام)، ولا يقبل الحديث إلاّ إذا كان عن ثقة أو كانت هناك وثاقة بصدوره.


وقد كان لذلك دور مهم في حفظ النصوص وتميّزها، ولذا أصبح جميع ما ورد من الحديث خاضعاً للنقد والتمييز والتدقيق على مستوى السند والمتن معاً.


ولا نجد كتاباً من كتب الحديث مقبولاً مطلقاً لدى الجماعة الصالحة([16])، على خلاف الاوساط الاسلامية الاخرى التي تلتزم بمجموعة من الكتب على أساس أنها صحيحة مطلقاً، بالرغم من وجود رواة معروفين بالانحراف والكذب في أسناد أحاديثها.


كما أن هناك أحاديث كثيرة لم تتناولها كتب الحديث، لمجرد أنّ رواتها لهم انتماء مذهبي مخالف، بحيث أصبحت القضية السياسية هي الاساس في القبول.


5 ـ التدوين والحفظ:


الخامس: الاهتمام بالتدوين والحفظ والضبط للاحاديث والنصوص بحيث تمكّنت هذه الجماعة أن تحفظ ثروة كبيرة من الاحاديث في مختلف الموضوعات الشرعية والحيوية وكذلك في التفسير والادعية والوصايا والخطب والتاريخ، بالرغم من الظروف الصعبة التي كانت تمر بها في مختلف العصور، وبالرغم من قلّة الامكانات والفرص المواتية، بحيث أن ما يملكه ابناء الجماعة الصالحة من هذا التراث الاسلامي أوسع وأشمل من مجموع ما تملكه المجموعات الاسلامية الاخرى، الامر الذي يسّر المحافظة على الشريعة والخط الاسلامي الاصيل بعيداً عن الاهواء والتحريف أو خدمة الحاكمين.


د ـ التمهيد للظهور


لقد بشّرت جميع الاديان السماوية، ومنها الاسلام، بظهور المصلح المنقذ في آخر الزمان ونهاية التاريخ الانساني ليملا الارض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجور.


وجاءت هذه الفكرة والبشارة تأكيداً للحقيقة القرآنية التي تؤكد على وراثة الصالحين والمستضعفين في الارض: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون)، (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً).


كما أن هذا ينسجم مع الحقيقة التي أشار إليها القرآن الكريم من غلبة الحق على الباطل في مجمل الصراعات التي تحدث في التاريخ الانساني، الذي يعني أن حركة التاريخ ـ ومن خلال العناية والتدخل الالهي بإرسال الانبياء والمرسلين وإنزال الكتب السماوية ـ هي حركة تكاملية لابد أن تصل في نهايتها إلى المجتمع الكامل الذي بشّر به الانبياء والصالحون.


وجاءت الرسالة الخاتمة (رسالة الاسلام) معبرة عن التكامل الانساني في هذه المرحلة على مستوى الوعي والادراك، وعلى التكامل النظري لتنظيم الحياة الانسانية، والتطور الكامل للعلاقات المختلفة في المجتمع. إلاّ أن التكامل على مستوى التطبيق والممارسة والتجسيد والالتزام العملي لم يتحقق تحققاً كاملاً، لان هذا المستوى من التكامل يحتاج إلى فترة طويلة من المعاناة والالام والتجارب والامتحان.


وهنا يأتي دور أئمة أهل البيت(عليهم السلام) والجماعة الصالحة التي أعدّوها للقيام بدور التمهيد لتلك المرحلة التاريخية، ولظهور ذلك المنقذ المصلح للبشرية.


فقد كان أهل البيت يطرحون أكثر من كل أحد من الناس فكرة المهدي المنتظر والقائم بالامر لانقاذ البشرية من الظلم والطغيان والفساد، حتى كان الكثير من المسلمين في مختلف عصور أهل البيت وحتى من قبل اتباعهم يتصور أن أحدهم هو القائم المهدي.


ونحن هنا لا نريد أن نتحدث عن الابعاد والتأثيرات الروحية والسياسية التي أوجدها هذا الطرح المستمر لفكرة الظهور وقيام القائم بالامر، فإنّ لذلك مجالاً آخر سوف نتناوله بالبحث ولكن المقصود هو الاشارة إلى دورهم في عملية التمهيد.


وقد وضع الائمة(عليهم السلام) في منظورهم بناء الكتلة والجماعة الصالحة التي تقوم بهذا الدور في عصر الغيبة، ليس على المستوى الفكري والعقائدي فحسب، بل على المستوى العملي أيضاً، فكان أحد أهداف وجود هذه الكتلة الصالحة هذا الدور الخاص بالتمهيد للظهور.


ويمكن أن نتبين ذلك بوضوح فيهذه الجماعة الصالحة من خلال ملاحظة النقاط التالية:


1 ـ الظهور فكرة حية:


بقاء فكرة الظهور حية في وسط هذه الجماعة من المسلمين مع الارتباط الحقيقي بها والاحساس بالانتظار، وجعله شعاراً مطروحاً في وجودها الثقافي ووعيها السياسي.


ولكن من الواضح، بالرغم من أن جميع المسلمين يؤمنون بهذه الفكرة، أن هذه الجماعة الصالحة تتميز عن بقية المسلمين في مقدار تبنّيها وإحساسها بهذه الفكرة والتزامها بتفاصيل معالمها. فالقائم المنتظر ليس مجرد حالة مستقبلية يطمح إليها الانسان، بل هو حيّ يعيش مع الفرد المسلم، ويتحسس آلام الانسان ومشاكل المجتمع الانساني، وهو ينتظر إلى جانب جميع المؤمنين ذلك اليوم الموعود. فهو غائب ولكنه يشهد كل الاوضاع التي يعيشها الحاضرون.


2 ـ مسؤولية وإرادة التغيير:


إن التمهيد الذي تمارسه هذه الجماعة الصالحة ليس مجرد طرح نظري أو التزام عقائدي كما نشاهده عند جميع المسلمين، بل معتنقي الاديان، وإن كان ذلك بتفاوت كما أنه ليس ـ أيضاً ـ مجرد حالة نفسية وروحية وإن كان كل من هذين البعدين له دور في التمهيد.


وأما هذا التمهيد ـ وهو الاهم ـ فهو حركة سياسية جهادية في الامة تتميز بالشعور بالمسؤولية تجاه ما يجري من أحداث، وتملك الارادة في العمل على تحقيق هذا الهدف، وفي نفس الوقت تعمل للمنع من استسلامها أمام الطغاة أو الضغوط الحضارية أو الثقافية التي تواجهها عبر عصور التاريخ.


وهذا ما تميزت به هذه الجماعة الصالحة على مر الازمنة والاعصار.


3 ـ العودة إلى الاسلام:


المساهمة الفعالة في عملية الظهور وإنجاحها في مواجهة الحضارات المادية واللادينية التي تتحكم الان في رقاب العالم الغربي، وهذا مما سوف يكشف عنه المستقبل كما تشير إلى ذلك النصوص المؤكدة. ولكن على مستوى الحاضر يمكن أن نشاهد واضحاً الدور الذي تقوم به هذه الجماعة الصالحة في العودة إلى الاسلام بعد المحاولات التي جرت للقضاء عليه، أو إبعاده عن الحياة خصوصاً فيهذا العصر([17]).


وبهذا الاستعراض للاهداف من بناء الجماعة الصالحة، يمكن أن نقول: إن حصيلة الهدف هي المساهمة مع الائمة(عليهم السلام) في تحقيق الهدف من وجودهم، ونصرتهم في ذلك من جانب، ومن جانب آخر بقاء واستمرار دور الائمة(عليهم السلام) في المجتمع الاسلامي بواسطة الجماعة الصالحة، بعد فرض حصول الغيبة الكبرى للامام الحجة عجل الله فرجه الشرف.


ولذا كان من الضروري وجود هذه الكتلة والجماعة الصالحة بتخطيط مقصود، ولم يكن وجودها هو مجرد نتيجة طبيعية لقضية هداية الناس وإقامة الحجة عليهم، وإن كان ذلك له تأثير طبيعي في تكوّن هذه الجماعة الصالحة التي تؤمن بولاية الائمة الاثني عشر وموقعهم الطبيعي في الاُمة الاسلامية.


ولعل في النص التالي الذي رواه الكليني في الكافي عن الامام ابي جعفر الجواد(عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ما يلقي الضوء على طبيعة الهدف من بناء هذه الجماعة الصالحة، الذي تحدث عنه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله خلق الاسلام فجعل له عرصة وجعل له نوراً وجعل له حصناً وجعل له ناصراً; فأمّا عرصته فالقرآن، وأمّا نوره فالحكمة، وأمّا حصنه فالمعروف، وأمّا أنصاره فأنا وأهل بيتي وشيعتنا، فأحبوا أهل بيتي وشيعتهم وأنصارهم; فإنّه لمّا أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرائيل(عليه السلام)لاهل السماء استودع الله حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة، ثمّ هبط بي إلى أهل الارض فنسبني إلى أهل الارض فاستودع الله عزّوجلّ حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب مؤمني أمّتي، فمؤمنو أمّتي يحفظون وديعتي في أهل بيتي إلى يوم القيامة. ألا فلو أنّ الرجل من اُمّتي عبد الله عزّوجلّ عمره أيام الدنيا ثمّ لقي الله عزّوجلّ مبغضاً لاهل بيتي وشيعتي ما فرج الله صدره إلاّ عن النفاق([18]).


الفصل الثاني


الخصائص العامة للجماعة الصالحة


لاشك ان الاهداف العامة تنعكس بطبيعة الحال على الخصائص والصفات المطلوبة في هذه الجماعة، كما أن الاهداف والخصائص تنعكس بطبيعة الحال على تفاصيل البناء المطلوب في هذه الجماعة الصالحة.


وهذا هو الذي يفسر لنا وجود التشابه بين بعض النقاط في هذه الابعاد الثلاثة مع الاختلاف في الاجمال والتفصيل أو الاختلاف في البعد المنظور من النقطة المطروحة.


ولابدّ لنا بعد بيان الاهداف العامة من وراء بناء الجماعة الصالحة أن نتعرّف على الخصائص والصفات الرئيسية التي لابدّ أن تتميّز بها هذه الجماعة الصالحة وتتصف بها لتقوم بدورها الطبيعي في التاريخ الاسلامي، وفي أداء دور الائمة في الدفاع عن الاسلام وحفظ الامة الاسلامية والمجتمع الاسلامي.


وقد تعرّفنا على مجموعة من هذه الخصائص عند استعراضنا للاهداف الرئيسية من وراء وجود هذه الكتلة الصالحة. ونحاول هنا أن نلخّص ونفهرس هذه الخصائص سواء التي تمت الاشارة إليها في استعراض الاهداف، أو غيرها من الخصائص الاخرى:


1 ـ العقيدة السليمة:


لقد اهتّم أهل البيت(عليهم السلام) بالبناء العقائدي لهذه الكتلة، والحفاظ على معالم العقيدة الاسلامية الاصيلة، بحيث تكون بعيدة عن المؤثّرات الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية التي كانت تواجهها الامة، مثل المحتوى الفكري والثقافي للحضارة الرومانية والفارسية واليونانية التي قادت بعض الجماعات الى الزندقة والالحاد والتحلل.


وكذلك تكون سليمة عن التأثر بمرض الخدر الحضاري الذي أصيبت به الامة الاسلامية بسبب انفتاحها على حياة المجتمعات الجديدة في العالم الاسلامي، والثروات الهائلة وأساليب الترف والاستمتاع بالشهوات.


وأيضاً بعيدة عن التأثر بردود الفعل النفسية والروحية التي انتهت ببعض الجماعات إلى العزلة عن الحياة والانكفاء على النفس، كما يلاحظ ذلك في بعض مذاهب التصوّف أو الباطنية، أو الوقوع في هاوية الفوضى والتمرد على المجتمع والنظام الاسلاميين بحيث يلغي كل الالتزامات، ويحكم بالخطأ والبطلان على جميع المظاهر والاوضاع السائدة كما نشاهده في بعض حركات الخوارج أو في حركة القرامطة وغيرها أو التعصب الاعمى والغلو في العواطف لتتحول إلى عقائد ومذاهب، كما نلاحظه في مذاهب الغلاة والنواصب والقدرية والمفوضة.


وبذلك تمكّن الائمة أن يحافظوا في هذا الجانب على الموقف المتوازن والعقيدة السليمة لاتباعهم بحيث يحفظوا الاسلام الصحيح والاصيل في الوجود العقائدي لهذه الكتلة من ناحية، ويهيئوا لهم القدرة على الاستمرار والتعايش والحيوية في النشاط والحركة والتأثير على الاخرين من ناحية أخرى.


ولذلك عندما نريد أن نراقب الخط البياني لحركة هذه الجماعة ومسيرتها عبر التاريخ الاسلامي نجد ظاهرة الاصالة والتجذر والتوسّع والانتشار والصلابة والصمود، بالرغم من عمليّات القمع ومحاولات الاستئصال التي تعرضت لها هذه الجماعة والكتلة دون أن تضطر إلى اللجوء إلى الاستبطان أو الهروب من الواقع الاجتماعي أو الانزواء في مجاهل البلاد، بل بقيت تعيش في الحواضر الاسلامية وفي مراكز الاشعاع العلمي والديني والثقافي للعالم الاسلامي مثل: العراق، وإيران، وتركيا، ولبنان، وسوريا، والخليج، وشبه القارة الهندية (الهند والباكستان)، وآسيا الوسطى، وأفغانستان، وآذربيجان، وبعض مناطق إفريقيا المهمّة. كما ضمّت قوميات متعددة مثل: العرب، والفرس، والترك، والكرد، والهنود بكل قوميّاتهم، والبربر، فضلاً عن إفريقيا السوداء وغيرهم من القوميات المعروفة.


ولعل الائمة(عليهم السلام) كانوا يشعرون من هذا المنطلق أنه لم تكن هناك حاجة ملحّة لاتباعهم أن يقوموا بالمزيد من الدعوة والعمل التبليغي في أوساط الناس من المسلمين، لان العقيدة الصحيحة بنفسها يمكنها أن تؤدّي هذا الدور بمجرد طرحها وعرضها على الامة.


فقد روى الكليني بسنده عن ثابت بن سعيد قال: قال لي أبو عبد الله(عليه السلام): يا ثابت، ما لكم وللناس. كفّوا عن الناس، ولا تدعوا أحداً إلى أمركم، فوالله لو أن أهل السماء وأهل الارض اجتمعوا على أن يُضلوا عبداً يريد الله هداه ما استطاعوا. كفوا عن الناس ولا يقول أحدكم أخي وابن عمي وجاري، فإنّ الله إذا أراد بعبد خيراً طيّب روحه، فلا يسمع بمعروف إلاّ عرفه، ولا بمنكر إلاّ أنكره، ثم يقذف الله في قلبه كلمة يجمع بها أمره([19]).


ولا شك أن الامر بالكفّ والنهي عن الدعوة إنّما يراد به النهي عن الوصول بالدعوة إلى حد المخاصمة والالحاح، كما ورد ذلك في حديث آخر للكليني: ولا تخاصموا بدينكم الناس، فإنّ المخاصمة ممرضة للقلب، فإنّ الله عزوجل قال لنبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء). (أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)([20]).


كما انه ورد في بعض الروايات الحث على الدعوة عندما تتوفر لها فرصة لا تؤدي إلى المخاصمة، لان الدعوة الى الحق تمثل واجباً شرعياً([21]).


وبهذا الاتجاه يمكن ان نفهم تأكيد أهل البيت(عليهم السلام) كما جاء في الروايات على تشخيص دعائم الدين وبالخصوص النص على الولاية، وكذلك على التمييز بين الاسلام والكفر، والاسلام والايمان، فإن كل ذلك وامثاله إنما جاء لتحديد معالم هذه العقيدة الصحيحة.


وقد كان الخط الذي يميز هذه العقيدة السليمة في الكتلة الصالحة هو موضوع حب علي والائمة المعصومين من ولده (الائمة الاثني عشر)(عليهم السلام) والايمان بولايتهم، حيث رُبطت العقيدة السليمة بهذه الولاية في بعض الروايات الواردة عن أهل البيت(عليهم السلام).


عن زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: بني الاسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والولاية.


قال زرارة: فقلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لانها مفتاحهنّ والولي هو الدليل عليهن، قلت: ثم الذي يلي ذلك في الفضل؟ فقال: الصلاة، قلت: فثم الذي يليها في الفضل؟ قال: الزكاة لانه قرنها بها، وبدأ بالصلاة قبلها، قلت: فالذي يليها في الفضل؟ قال: الحج، قلت ماذا يتبعه؟ قال: الصوم الحديث([22]).


وفي رواية أخرى رواها الصدوق في أماليه عن أبي حمزة الثمالي عن علي ابن الحسين(عليه السلام) قال: قال سلمان الفارسي رحمة الله عليه: كنت جالساً عند رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أقبل علي بن أبي طالب(عليه السلام)، فقال له: يا علي ألا أبشّرك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: هذا حبيبي جبرئيل يخبرني عن الله جل جلاله أنه قد أعطى محبّيك وشيعتك سبع خصال: الرفق عند الموت، والانس عند الوحشة، والنور عند الظلمة، والامن عند الفزع، والقسط عند الميزان، والجواز على الصراط، ودخول الجنة قبل سائر الناس من الامم([23]).


وقد وضع أهل البيت عدّة معالم ومؤشرات على هذا الحب والولاء كان من أبرزها زيارة الامام الحسين(عليه السلام) في كربلاء على ما تنص عليه الروايات.


2 ـ الرجوع إلى أهل البيت في معرفة الدين:


إن قضية الالتزام بالوصول إلى الحكم الشرعي من مصادره الاصيلة الصحيحة، وكذلك الحصول على الموقف الشرعي للفصل في الحكم والخصومات والقضايا المستجدّة ومن خلال (الانسان الصالح) (الامام المعصوم) أو (الفقيه العادل) من القضايا الاساسية التي تميّزت بها الكتلة الصالحة. فإنّه بالرغم من اتفاق المسلمين جميعاً على أن القرآن الكريم والسنّة النبويّة هما المصدران الاساسيان للشريعة الاسلامية، امتاز أتباع أهل البيت(عليهم السلام) على بقيّة المسلمين في هذا المجال بعدّة نقاط مهمّة:


أ ـ فهم القرآن:


الرّجوع إلى أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في تفسير القرآن الكريم، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منه، والمحكم والمتشابه، والخاص والعام، والمجمل والمبيّن، وأسباب النزول، وغير ذلك مما له علاقة بفهم القرآن وشرحه وتفسيره. وقد أجمع المسلمون على أن علياً وأهل بيته(عليهم السلام) هم أعلم الناس بالقرآن من غيرهم من علماء الاسلام، ودلت على ذلك النصوص الصحيحة في كتب الفريقين.


ب ـ معرفة السنة:


الرّجوع إلى أهل البيت في التعرّف على السنّة النبوية، ذلك أن السنّة النبوية تعرّضت لمشاكل وتزوير وغموض بسبب عمليات النقل والتفسير غير الامينة، أو بسبب الفصل بين النص وظروف مجيئه أو بسبب عمليات الوضع والاختلاق والكذب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أو بسبب الاجتهاد في تجميد النص وعدم الاخذ به بتصور وجود مصالح تفرض هذا التجميد والتنازل عن النص. الامر الذي أدّى إلى تشويش واضطراب واسع في فهم الشريعة الاسلامية.


وقد امتاز اتباع أهل البيت(عليهم السلام) على غيرهم من المسلمين بالرجوع إليهم وحدهم([24]) في أخذ السنّة النبوية وكذلك شرحها وفهمها ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها، والمطلق والمقيّد، والخاص والعام، كما يعتقد أتباع أهل البيت بأن أهل البيت(عليهم السلام) قد حفظوا السنة النبوية بصورتها الشاملة دون أن تكون هناك حاجة للرجوع إلى ادلة ظنية أخرى للوصول إلى الحكم الشرعي.


ج ـ تقليد المجتهد العادل الحي:


الانضباط في عملية الاخذ في حدود المجتهد العادل الذي يعرفه الناس بالاجتهاد والعدالة العالية والتقوى والورع من خلال الفحص والشعور بالمسؤولية. وليس من خلال طرح الحكام والطغاة لهذا الاسم أو ذلك.


ويكون الرجوع إلى هذا المجتهد في الفتوى أو في القضاء وتحديد الموقف الشرعي من القضايا والخصومات والالتزام بفتوى المجتهد الحي([25]) الذي يمكنه أن يعيش الحدث من ناحية، ويمكن للناس أن يتعرّفوا على خصائصه وميزاته من ناحية أخرى.


وهذه النقاط هيّأت فرصة لاتباع أهل البيت(عليهم السلام) أن يكون تحرّكهم ضمن الاطار التشريعي الصحيح ولا يتعرّضوا لمشاكل الفتاوى التي تعرّض لها جمهور المسلمين بحيث أدّت إلى تباين واختلاف كبيرين ومن ثم نزاعات في الفتاوى والاحكام والمواقف. ولعل هذا هو السر الذي جعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد على أهمية مرجعيّة أهل البيت(عليهم السلام) في قضايا الشريعة، إلى جانب أهمية ولاية الامر والخلافة، حيث ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) متواتراً التأكيد على ذلك كما هو مضمون حديث الثقلين: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض([26]). وكذلك تأكيد أهل البيت(عليهم السلام) لهذه المرجعية في أحاديث كثيرة وواضحة، بحيث ربّوا شيعتهم على هذا الالتزام، وحذّروهم من الوقوع في الانحرافات أو الاعتماد على الظنون والاستحسانات في معرفة الحكم الشرعي.


3 ـ الاتصاف بالدرجة العالية من الكمالات الانسانية:


إن هذه المزيّة، بالاضافة إلى كونها هدفاً إسلامياً للانسان المسلم، تمثّل في نظر أهل البيت(عليهم السلام) شرطاً ضرورياً لابدّ لهذه الجماعة الصالحة أن تتّصف به حتى تتمكّن من القيام بدورها في التاريخ الانساني; حيث أن هذه الدرجة العالية هي التي تكون قادرة على التأثير في حركة التأريخ الانساني، وعلى استنزال النصر والخيرات والبركات الالهية على المجتمع: (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)([27]).


ولذا نجد أن أهل البيت(عليهم السلام) يؤكّدون هذه المزيّة ليس في مقام تربيتهم لشيعتهم فحسب، وإنما في مقام التعريف بهويّة هؤلاء الشيعة وشخصيتهم أيضاً.


فقد ورد عن الامام الرضا عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلوات الله عليهم قال: يا علي، طوبى لمن أحبّك وصدّق بك، وويل لمن أبغضك وكذّب بك. محبّوك معروفون في السماء السابعة والارض السابعة السفلى وما بين ذلك، هم أهل الدين والورع والسمت الحسن والتواضع لله عزّوجلّ، خاشعة أبصارهم، وجلة قلوبهم لذكر الله عزّوجلّ، وقد عرفوا حق ولايتك...([28]).


وفي هذا المجال تمّ التأكيد في الروايات على عدّة خصوصيات ومعالم أساسية:


1 ـ العبادة والزهد:


الزهد والمواضبة على العبادة بجميع أبعادها، فقد ورد في عدّة روايات تصوير النموذج الرائع لذلك. منها عن أبي جعفر(عليه السلام) في رواية أبي المقداد قال: يا أبا المقداد، إنما شيعة علي(عليه السلام) الشاحبون الناحلون الذابلون. ذابلة شفاههم، خميصة بطونهم، متغيّرة ألوانهم، مصفرّة وجوههم، إذا جنّهم الليل اتّخذوا الارض فراشاً واستقبلوا الارض بجباههم، كثير سجودهم، كثيرة دموعهم، كثير دعاؤهم، كثير بكاؤهم، يفرح الناس وهم محزونون...([29]).


ومنها رواية الارشاد للمفيد والامالي للطوسي: روي أن أمير المؤمنين(عليه السلام)خرج ذات ليلة قمراء فأمّ الجبّانة، ولحقه جماعة يقفون أثره، فوقف عليهم ثم قال: من أنتم؟ قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين. فتفرّس في وجوههم ثم قال: فما لي لا أرى عليكم سيماء الشيعة؟! قالوا: وما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين؟ فقال: صفر الوجوه من السهر، عمش العيون من البكاء، حدب الظهور من القيام، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، عليهم غبرة الخاشعين([30]).


ويمكن أن نفهم هذه المناقبية الرائعة في تصوير هذا النموذج الحي الذي وضعه الامام علي(عليه السلام) للفرد الشيعي، في الصورة المعبرة التي يقدّمها الامام(عليه السلام) في حديثه مع الاحنف بن قيس فيما رواه الصدوق في كتابه صفات الشيعة قال: لما قدم أمير المؤمنين(عليه السلام) البصرة بعد قتال أهل الجمل دعاه الاحنف بن قيس واتخذ له طعاماً، فبعث إليه صلوات الله عليه وإلى أصحابه، فأقبل ثم قال: يا أحنف ادع لي أصحابي، فدخل عليه قوم متخشّعون كأنهم شنان بوال، فقال الاحنف بن قيس: يا أمير المؤمنين، ما هذا الذي نزل بهم؟ أمن قلة الطعام؟ أو من هول الحرب؟ فقالصلوات الله عليه: لا يا أحنف، إن الله سبحانه أحب أقواماً تنسّكوا له في دار الدنيا تنسك من هجم على ما علم من قربهم من يوم القيامة من قبل أن يشاهدوها فحملوا أنفسهم على مجهودها، وكانوا إذا ذكروا صباح يوم العرض على الله سبحانه توهموا خروج عنق يخرج من النار يحشر الخلائق إلى ربهم تبارك وتعالى، وكتاب يبدو فيه على رؤوس الاشهاد فضائح ذنوبهم، فكادت أنفسهم تسيل سيلاناً أو تطير قلوبهم بأجنحة الخوف طيراناً، وتفارقهم عقولهم إذا غلت بهم من أجل التجرد إلى الله سبحانه غلياناً. فكانوا يحنّون حنين الواله في دجى الظلم، وكانوا يفجعون من خوف ما أوقفوا عليه أنفسهم فمضوا ذبل الاجسام، حزينة قلوبهم كالحة وجوههم ذابلة شفاههم خامصة بطونهم، تراهم سكارى سمّـار وحشة الليل. متخشعون كأنهم شنان بوال، قد أخلصوا لله أعمالهم سراً وعلانية، فلم تأمن من فزعه قلوبهم، بل كانوا كمن حرسوا قباب خراجهم.


فلو رأيتهم في ليلتهم، وقد نامت العيون، وهدأت الاصوات، وسكنت الحركات من الطير في الوكور وقد نهنههم هول يوم القيامة بالوعيد عن الرقاد كما قال سبحانه: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون)فاستيقظوا إليها فزعين، وقاموا إلى صلاتهم معولين باكين تارة واخرى مسبّحين، يبكون في محاريبهم ويرنّون، يصطفون ليلة مظلمة بهماء يبكون.


فلو رأيتهم يا أحنف في ليلتهم قياماً على أطرافهم، منحنية ظهورهم يتلون أجزاء القرآن لصلاتهم، قد اشتدت أعوالهم([31]) ونحيبهم وزفيرهم، إذا زفروا خِلتَ النار قد أخذت منهم إلى حلاقيمهم، وإذا أعولوا حسبت السلاسل قد صفّدت في أعناقهم فلو رأيتهم في نهارهم إذاً لرأيت قوماً يمشون على الارض هوناً ويقولون للناس حسناً فإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً، وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً، قد قيدوا أقدامهم من التهمات، وأبكموا ألسنتهم أن يتكلّموا في أعراض الناس، وسجموا أسماعهم أن يلجها خوض خائض، وكحّلوا أبصارهم بغض البصر عن المعاصي، وانتحوا دار السلام التي من دخلها كان آمناً من الريب والاحزان.


فلعلك يا أحنف شغلك نظرك في وجه واحدة تبدي الاسقام بغاضرة وجهها، ودار قد أشغلت بنقش رواقها وستور قد علقتها، والريح والاجام موكّلة بثمرها، وليست دارك هذه دار البقاء، فأحمتك الدار التي خلقها الله سبحانه من لؤلؤة بيضاء، فشقق فيها أنهارها، وغرس فيها أشجارها، وظلّل عليها بالنضج من أثمارها وكبسها بالعواتق من حورها، ثم أسكنها أولياءه وأهل طاعته.


فلو رأيتهم يا أحنف وقد قدموا على زيادات ربّهم سبحانه، فإذا ضربت جنائبهم صوّتت رواحلهم بأصوات لم يسمع السامعون بأحسن منها، وأظلتهم غمامة فأمطرت عليهم المسك والرادن، وصهلت خيولها بين أغراس تلك الجنان، وتخلّلت بهم نوقهم بين كثب الزعفران، ويتّطئ من تحت أقدامهم اللؤلؤ والمرجان، واستقبلتهم قهارمتها بمنابر الريحان وهاجت لهم ريح من قبل العرش فنثرت عليهم الياسمين والاقحوان، وذهبوا إلى بابها فيفتح لهم الباب رضوان ثم يسجدون لله في فناء الجنان، فقال لهم الجبار: ارفعوا رؤوسكم، فإنّي قد رفعت عنكم مؤنة العبادة وأسكنتكم جنّة الرضوان.


فإن فاتك يا أحنف ما ذكرت لك في صدر كلامي، لتتركنّ في سرابيل القطران ولتطوفنّ بينها وبين حميم آن، ولتسقين شراباً حار الغليان في إنضاجه، فكم يومئذ في النار من صلب محطوم ووجه مهشوم، ومشوّه مضروب على الخرطوم، قد أكلت الجامعة كفّه، والتحم الطوق بعنقه فلو رأيتم يا أحنف ينحدرون في أوديتها، ويصعدون جبالها، وقد ألبسوا المقطّعات من القطران، واقرنوا مع فجّارها وشياطينها، فإذا استغاثوا بأسوأ أخذ من حريق شدّت عليهم عقاربها وحيّاتها، ولو رأيت منادياً ينادي وهو يقول:


يا أهل الجنّة ونعيمها، ويا أهل حليّها وحللها خلود فلا موت. فعندها ينقطع رجاؤهم، وتغلق الابواب، وتنقطع بهم الاسباب فكم يومئذ من شيخ ينادي:


واشيبتاه! وكم من شباب ينادي: واشباباه! وكم من امرأة تنادي: وافضيحتاه! هتكت عنهم الستور، فكم يومئذ من مغموس، بين أطباقها محبوس، يالك غمسة ألبستك بعد لباس الكتان، والماء المبرّد على الجدران، وأكل الطعام ألواناً بعد ألوان لباساً لم يدع لك شعراً ناعماً كنت مطعمه إلاّ بيّضه، ولا عيناً كنت تبصر بها إلى حبيب إلاّ فقأها، هذا ما أعدّ الله للمجرمين وذلك ما أعدّ الله للمتّقين([32]).


وكذلك الصورة الاخرى التي رواها الكراجكي في كتابه (الكنز)([33]) في رواية نوف البكالي([34]) عن علي(عليه السلام) في حديث له مع جماعة من أصحابه منهم همام ابن عبادة بن خثيم والتي ذكر جانباً منها الشريف الرضي في نهج البلاغة([35]).


2 ـ الايمان بالولاية والعمل:


التطابق بين ادّعاء التشيّع والولاء لاهل البيت(عليهم السلام) والمتابعة العملية لهم والتأسّي بهم فان هذا المبدأ من اهم المبادئ التي جاء بها الاسلام: (يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون)([36]) وأكدها أهل البيت(عليهم السلام) حيث ربطوا بين الايمان والعمل مبينين أن تكامل الايمان لا يكون إلاّ بالعمل كما سوف نشير إلى ذلك في الابحاث الاتية.


فقد ورد عن الصادق(عليه السلام) أنه قال: ينبغي لمن ادّعى هذا الامر في السر أن يأتي عليه برهان في العلانية. قلت: وما هذا البرهان الذي يأتي به في العلانية؟ قال: يحلّ حلال الله ويحرّم حرام الله، ويكون له ظاهر يصدّق باطنه([37]).


وعنه(عليه السلام) أيضاً أنه قال: ليس من شيعتنا من قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا، ولكن شيعتنا من وافقنا بلسانه وقلبه، واتّبع آثارنا وعمل أعمالنا، أولئك شيعتن([38]).


وروى الكشّي بسند صحيح عن داود بن فرقد قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: إنّ أصحابي أولو النُهى والتقى، فمن لم يكن من أهل النُهى والتُقى فليس من أصحابي([39]).


3 ـ الاخلاص لله في القلب والعمل:


الاخلاص لله تعالى في العمل والسلوك أو العواطف والاحساسات وكذلك سواء في الحركة الفردية الشخصية أو في العلاقات الاجتماعية بالالتزام بمبدأ الحب في الله والبغض في الله، بعيداً عن المؤثرات الاخرى الدنيوية، أو الميول النفسية.


فقد أكّد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) هذا الجانب الذي يعبّر عن التديّن والايمان الحقيقي في الالتزامات العقائدية للانسان المسلم، ووضعواهذه الصفة أمام شيعتهم هدفاً وغاية لابد لهم من السعي إليها من خلال مجموعة كبيرة من الاحاديث التي تصرّح بذلك أو تشير إليه بالالتزامات العملية.


فقد روى الكليني في الكافي بسند صحيح عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله فهو ممن كمل إيمانه([40]).


وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: ودّ المؤمن في الله من أعظم شعب الايمان. ألا ومن أحبّ في الله وأبغض في الله وأعطى في الله ومنع في الله فهو من أصفياء الله([41]).


كما ورد التعبير عن الايمان والدين بهذا الحب، فعن فضيل بن يسار قال: سألت ابا عبد الله عن الحب والبغض أمن الايمان هو؟ فقال: وهل الايمان إلاّ الحبّ والبغض؟! ثم تأوّل هذه الاية: (وحبّب إليكم الايمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون)([42]).


وعن أبي عبيدة زياد الحذّاء عن أبي جعفر أنه قال له: يا زياد، ويحك وهل الدين إلاّ الحبّ؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: (قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم)([43]).


4 ـ تجسيد القدوة الحسنة:


تجسيد القدوة والاسوة الحسنة بين الناس في السلوك الفردي والاجتماعي العام; فإن هذه المزيّة من أهم الخصائص التي أكّد أهل البيت(عليهم السلام)ضرورة اتصاف شيعتهم بها; ولذلك جعلوها أيضاً احد الاهداف من بناء الجماعة الصالحة كما عرفنا سابقاً.


ولعل التأكيد على اتصاف شيعتهم بصفة الورع والتقوى والاخلاص والعبادة التي أشرنا إليها سابقاً يمثل جانباً من جوانب هذه المزيّة. ولكن بالاضافة إلى ذلك نجد أهل البيت(عليهم السلام) يؤكّدون على شيعتهم الاهتمام بهذه الصفات والالتزامات تأكيداً يجسد جانب الاقتداء والاسوة في الامة وبين الناس باعتباره قضية ذات علاقة خاصة بدور هذه الجماعة الصالحة في المجتمع الاسلامي، وما يمكن أن يكون لهم من تأثير في تحقيق الاهداف العامة من وراء إيجاد هذه الجماعة انطلاقاً من الدور العظيم المؤثّر الذي تؤديه القدوة الحسنة في المجتمع الانساني، على ما سوف نشير إليه مستقبلاً.


ومن هنا جاءت القدوة والاسوة بعنوانها الخاص ـ إلى جانب الصفات الاخرى ـ صفة لابدّ لشيعتهم من الاتّصاف بها، بل قرنوا هذه المزيّة ببعض الاحاديث بما يتّصفون به أنفسهم من ميزة القدوة.


ففي الحديث عن عمر بن يحيى قال: سمعت أبا عبد الله يقول: إن أحق الناس بالورع آل محمد وشيعتهم كيما تقتدي الرعيّة بهم([44]).


وقد تقدم الحديث الصحيح عن زيد الشحام الذي جاء به عن الامام الصادق: إن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي(عليه السلام) فيكون زينها، أداهم للامانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان؟! إنّه أدانا للامانة وأصدقنا للحديث([45]).


وعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: إنّ أصحاب علي(عليه السلام) كانوا المنظور إليهم في القبائل، وكانوا أصحاب الودائع، مرضيّين عند الناس([46]).


وفي رواية أخرى عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق جعفر ابن محمد(عليه السلام) وعنده نفر من الشيعة وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً. قولوا للناس حسناً واحفظوا ألسنتكم، وكفّوها عن الفضول وقبح القول([47]).


وبالاضافة إلى هذه الصفات يمكن أن نلاحظ اهتمام الائمة بضرورة توفر صفات الانسان المؤمن الكامل، التي تتحدث عنها الروايات الواردة عنهم(عليهم السلام)في بحوث جهاد النفس والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وابواب احكام العشرة وغيرها، كما سنشير إليه في مواطن عديدة من هذا الكتاب وخصوصاً في نظام العلاقات الاجتماعية، إلا أنه يأتي في مقدمة ذلك اليقين بالله تعالى والثقة وحسن الظن به والتوكل عليه والالتزام بأوامره ونواهيه.


5 ـ القدرة على الصمود:


القدرة على الصمود وتحمّل المسؤولية التأريخية الكبيرة في المساهمة والاستمرار لتحقيق الاهداف الكبرى لاطروحة الامامة، وذلك من خلال تكامل الشخصية الانسانية لابناء الجماعة الصالحة في الالتزام، وضبط النفس، وحفظ الاسرار والكتمان، والصبر والثقة بالله والتوكل عليه وروح التضحية والفداء وحسن المعاشرة مع الناس، والوفاء بالعهود وأداء الامانة، والتخلّق بالاخلاق الاسلامية العالية، والوعي والفهم الصحيح للاوضاع والاحداث الاسلامية.


وهذه المزيّة من الصفات المهمة التي تحتاج إليها الجماعة الصالحة في بقائها واستمرار وجودها في مواجهة التصفيات الجسدية، والضغوط الروحية والنفسية التي يمارسها الاعداء ضد هذه الجماعة، وكذلك في مواجهة التلاطم الاجتماعي والمتغيرات السياسية والمشاكل الاخلاقية والاجتماعية، والاستمرار في حمل الرسالة عبر الاجيال الاسلامية في مختلف ادوار التاريخ.


ومن هنا نجد أهل البيت(عليهم السلام) يضعون لشيعتهم أنظمة وقوانين وخصوصيات للتقيّة وامن الجماعة بمختلف أبعادها التي سوف نتحدث عنها، كما وضعوا انظمة للمعاشرة، ويهتمون اهتماماً خاصاً بالجانب الروحي والاخلاقي والثقافي ويضعون إلى جانبها منهجاً للضوابط والاخلاق والخصائص الضرورية التي يجب أن يلتزم بها المنتسبون لهذه الجماعة من شيعتهم، ويرون أن المحافظة على هذه الضوابط أحد معالم امتحان الانسان الشيعي وتمييزه.


فمن النماذج التي تشير إلى هذه الصفة والتي سوف يأتي المزيد منها الروايات التالية:


فقد روى ابن صدقة عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: امتحنوا شيعتنا عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وإلى أسرارنا كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لاخوانهم فيه([48]).


وفي رواية أخرى عن أبي الربيع الشامي قال: دخلت على أبي عبد الله والبيت غاصّ بأهله، فيه الخراساني والشامي ومن أهل الافاق، فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله وكان متكيا ثم قال: يا شيعة آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، اعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه، ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، ومجاورة من جاوره...([49]).


وفي رواية أخرى عن ميسر قال: قال أبو جعفر(عليه السلام): يا ميسر ألا أخبرك بشيعتنا؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال: إنهم حصون حصينة، وصدور أمينة، وأحلام رزينة، ليسوا بالمذاييع البذر، ولا بالجفاة المرائين. رهبان الليل، أُسد النهار([50]).


وفي رواية أخرى عن أبي جعفر(عليه السلام): شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا، وإن رضوا لم يسرفوا، بركةٌ على من جاوروا، سلمٌ لمن خالطو([51]).


وقد قرأنا في حديث سابق ـ كما هو في أحاديث عديدة ـ التأكيد لاداء الامانة. ويتّضح هذا النهج وضوحاً رائعاً من خلال الاحاديث الكثيرة جداً التي وردت عنهم في تأديب شيعتهم وتربيتهم على الاخلاق الفاضلة، كما نجده في الموسوعات الحديثية، خصوصاً في أبواب العشرة والامر بالمعروف. وقد ألّفت فيه الكتب المستقلة. وسوف يأتي مزيد من التوضيح لذلك في الجانب الروحي ونظام العلاقات الاجتماعية.


6 ـ الكيان المتكامل المحكم:


إيجاد الكيان الاجتماعي القوي المحكم لهذه الجماعة والمستقل روحياً ومعنوياً عن الهيمنة التي كان يفرضها الطواغيت في المجتمعات الاسلامية، وكذلك عن الانفعال بالاوضاع الاجتماعية المتقلّبة، والاعتماد في ذلك على التأييد والنصر الالهيين والامكانات الذاتية للجماعة الصالحة.


ويمكن أن نلاحظ هذه الخصوصية عبر التأريخ الاسلامي من خلال بعض المعالم التي سوف نتحدث عنها أكثر تفصيلاً في الاتي من البحث:


أ ـ النظام السياسي المتمثل بنظام الولاية، والقضاء، والفتيا، حيث يتحمّل المجتهدون مسؤولية هذا النظام بإرشاد الائمة من أهل البيت(عليهم السلام) لشيعتهم في هذا الجانب، فقد قام الائمة(عليهم السلام) بصياغته صياغة دقيقة تتناسب مع النظام السياسي العام للامة، وتحفظ للجماعة الصالحة في نفس الوقت استقلالها وقدرتها على القيام بدورها المطلوب وعدم السقوط في الاوضاع السياسية الفاسدة والرجوع إلى الحكام والتحاكم إلى الطاغوت. وسيأتي الحديث عن هذا النظام إن شاء الله.


ب ـ النظام المالي للجماعة الذي يؤمّن مصاريف الاعمال الدينية العامة في وسطها، والذي يعتمد بصورة أساسية على الحقوق الشرعية وفي مقدمتها (الخمس والزكاة) حيث كان لهذا النظام دور عظيم في حفظ هذه الجماعة واستمرارها. وهذا ما سوف نتناوله في النظام الاقتصادي للجماعة.


ج ـ وجود المؤسسات الثقافية كالمدارس والحوزات العلمية التي يتخرج منها المجتهدون والمبلّغون وذوو الاختصاص بالعلوم الشرعية، والتي كانت الحصون المنيعة لتربية هذه الجماعة وحفظها من الانهيار. وقد أكد أهل البيت وجوب طلب العلم وضرورة بذل العلماء لعلمهم.


عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنه كان يقول: أيها الناس، اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به. ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال. إن المال مقسوم مضمون لكم، قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله، وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه([52]).


كما ورد في عدة روايات أن (طلب العلم فريضة)، (ألا إن الله يحب بغاة العلم)، (وان الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله).


وروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: تذاكروا وتلاقوا وتحدّثوا فإن الحديث جلاء للقلوب. إن القلوب لترين كما يرين السيف جلاؤها الحديث.


وكذلك ايجاد المجالس والاجتماعات التي يُتذاكر فيها فضائل أهل البيت(عليهم السلام)وتراثهم العلمي والثقافي والاخلاقي والشؤون الحيوية واليومية للجماعة. وهذا ما سوف نتناوله في الجانب الثقافي.


د ـ الاهتمام بتأمين الموارد المالية لمجتمع الجماعة من خلال خطّي التجارة والزراعة، اللذين يؤمّنان شيئاً من الحماية الاقتصادية بعيداً عن تأثير الطاغوت وقوانينه وممارساته ومطاردته لافراد الجماعة ومحاصرتهم.


حيث جاءت النصوص الكثيرة التي تحث على سلوك طريقي التجارة والزراعة، وقد ورد أن تسعة أعشار الرزق في التجارة. وهذا ما سوف نتناوله في النظام الاقتصادي أيضاً.


7 ـ الولاء للمؤمنين:


الاتصاف بروح الانصاف والتناصر والتعاضد والتكافل والمواساة للاخوان باعتبارها تعبر عن عقد ولاء المؤمن للمؤمن، وهو القاعدة القوية التي تقوم عليها العلاقات بين أفراد الجماعة، وتحقيق وحدتها وتلاحمها، ومعالجة نقاط الضعف والخلل فيها حيث قد يصاب الافراد ـ بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ـ بالشعور بالعزلة أو المحاصرة أو الضعف.


وقد وردت عن أهل البيت(عليهم السلام) روايات كثيرة تؤكد أهمية هذا المبدأ وهذه المزيّة، وأن ذلك حق من حقوق المؤمنين بعضهم على البعض الاخر كما سبق الاشارة إلى ذلك. وهو ما سوف نتناوله في النظام الاقتصادي وفي نظام العلاقات الاجتماعية للجماعة.


ومن هذه النصوص، عن أبي جعفر(عليه السلام): إن من حق المؤمن على أخيه المؤمن أن يشبع جوعته ويواري عورته ويفرّج عن كربته ويقضي دينه، فإذا مات خلفه في أهله وولده([53]).


8 ـ الشعور بالمسؤولية العامة:


الشعور بالمسؤولية وتحملها تجاه الامة الاسلامية جمعاء، وذلك من خلال تأكيد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لمقاومة الظلم والبغي والانحراف، ومبدأ النصرة للمسلمين وكذلك مبدأ التعاون بينهم ومبدأ الاهتمام بأمورهم ومبدأ النصيحة لهم ومبدأ الاخوة بينهم وحرمة دمائهم واموالهم واعراضهم ومبدأ التعايش مع الناس من المسلمين، وغيرها من المبادئ التي تشكل بمجموعها قاعدة قوية ومنهجاً متكاملاً لهذا الشعور والاحساس وسوف يأتي توضيح كل هذه الامور في تفاصيل الابحاث الاتية.


الباب الثاني


القواعد والاسس العامة


الفصل الاول:


الفكر والعقيدة


الفصل الثاني:


الجانب الاخلاقي


الفصل الثالث:


الجانب الثقافي


الفصل الرابع:


الجانب الروحي والمعنوي


تمهيد:


عندما بدأ أئمة أهل البيت(عليهم السلام) بناء الجماعة الصالحة وضعوا مجموعة من القواعد والاسس القوية والمحكمة لارساء هذا البناء عليها، وقد تم استنباط هذه القواعد والاسس من الرسالة الاسلامية الخاتمة بحيث تمثل الفهم الصحيح للرسالة من ناحية، وتحقق الاهداف والخصائص ـ سالفة الذكر ـ من ناحية اخرى.


ولذلك نجد أن هذه القواعد والاسس اتصفت بالشمولية والاصالة والاحكام والانسجام، فكانت مزيجاً من الابعاد والجوانب تتوافر فيه جميع مستلزمات البناء المرصوص المحكم الذي يؤهّله للقيام بهذا الدور التاريخي وهو حفظ الاسلام والامة الاسلامية والدفاع عنهما من ناحية، وتحقيق المثل الصالح للجماعة الانسانية في مسيرة البشرية من ناحية أخرى.


وتمثل هذه القواعد والاسس الجانب العقائدي والاخلاقي والثقافي والمعنوي والروح المعنوية العالية والخطوط السياسية العامة.


وبذلك يكون امامنا خمسة من فصول البحث في هذا الباب وسوف نتناول كلّ واحد من هذه الفصول الخمسة بالاشارة والحديث المختصر وسوف يتبين بعض التفصيل لها من خلال القسم الثاني عندما نتناول البناء الفوقي والانظمة للجماعة الصالحة.


علماً بأن كل واحد منها يصلح لدراسة مستقلة وثائقية وتاريخية وتحليلية.


الفصل الأول


الفكـر والعقيدة


لقد اهتم أهل البيت(عليهم السلام) اهتماماً خاصاً ومتميّزاً بجانب الفكر والعقيدة; لانه يعتبر الاساس الذي يمكن أن يقوم عليه بناء أي جماعة بشرية. وبمقدار ما يكون هذا الجانب قوياً وواضحاً ومنسجماً وشمولياً، تكون الجماعة قوية وقادرة على مواجهة المصاعب والمشكلات والظروف المختلفة التي تفرزها حركة التاريخ.


ومن خلال هذه الرؤية لدور الجانب العقائدي والفكري نجد أن القرآن الكريم يهتم به أكبر اهتمام، ويعالج ـ في المجتمع الجاهلي ـ القضية العقائدية والفكرية، قبل كل شيء. ويرسّخ في المجتمع (الجماعة الاسلامية) هذه القضية.


ويمكن أن نلاحظ في بناء الكتلة الصالحة والجماعة الصالحة الذي أقامه أهل البيت(عليهم السلام) من خلال هذا الجانب (الفكري والعقائدي)، الامور التالية:


1 ـ القرآن والسنة مصدرا العقيدة:


الالتزام بطرح الافكار والعقائد التي يمكن استنباطها من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، حيث كانوا دائماً يستشهدون على هذه العقائد بالنصوص القرآنية والاحاديث النبوية، بالاضافة إلى الالتزام بأن يكون الطرح منسجماً مع الفطرة الانسانية السليمة.


ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح من خلال النصوص التي وردت عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) في توضيح هذه الافكار والعقائد، وكذلك في اساليب الاحتجاج والمناقشة للافكار الاخرى([54]).


وقد اعطى أهل البيت(عليهم السلام) اهمية خاصة للعقل في فهم العقيدة، ولكن إنما كان ذلك من اجل ترسيخ المنهج الصحيح في ادراك الامور ـ كما سوف نعرف في النقطة الرابعة ـ وايجاد القناعة واليقين بالافكار العقائدية التي لا يصح الاكتفاء فيها بالظن. ومع ذلك لم يُغفل اهل البيت(عليهم السلام) موضوع تأكيد أن جميع العقائد الصحيحة قد جاء بها الكتاب الكريم والسنة النبوية واكدها العقل البشري والفطرة الانسانية السليمة.


2 ـ التكامل بين العقيدة والمذهب:


مراعاة التكامل المذهبي والعقائدي بين أصول العقائد والفطرة الكليّة للكون والحياة وعالم الغيب والشهادة من ناحية، والفروع التي تتفرّع عن هذه العقائد من ناحية أخرى، أي التكامل بين النظرية والتطبيق، وبين العقيدة والسلوك، وبين الاصول والفروع. فالمذهب الامامي يقوم على أساس العقيدة التي ترى أن أهل البيت(عليهم السلام) يمثلون دوراً يرتبط بالعقيدة في النظرة الكلية للاسلام، وأن الامامة لها بُعد إلهي يشبه بُعد الرسالة ومسؤولياتها باستثناء الوحي، لان الامام منصوب من قبل الله تعالى كما أن الرسول مبعوث ومرسل منه تعالى.


إن السلوك الانساني يتأثّر بهذا الفهم العقائدي حيث يشاهد الربط بين الايمان (بالولاية) وتكامل (الاعمال والسلوك).


فقد روى الكليني في الصحيح عن احدهما(عليهما السلام) قال: الايمان إقرار وعمل والاسلام إقرار بلا عمل([55]).


وأيضاً عن الامام الرضا(عليه السلام) قال: من أحب عاصياً فهو عاص، ومن أحب مطيعاً فهو مطيع، ومن أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل ظالماً فهو عادل. إنه ليس بين الله وبين أحد قرابة، ولا تنال ولاية الله إلاّ بالطاعة.


وفي عيون الاخبار عن ابراهيم بن محمد الهمداني: من خذل عادلاً فهو ظالم وفيه: لا ينال احد ولاية الله ذيله: ولقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لبني عبد المطلب: ائتوني بأعمالكم لا بأحسابكم وانسابكم. قال الله تعالى: (فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقُلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا انفسهم في جهنم خالدون)([56]).


كذلك الاخذ عن (أئمة أهل البيت(عليهم السلام)) سواء في الاصول أو الفروع إنّما هو أخذ عن الانسان الذي يتّصف (بالعلم الكامل) ولكن في المدى الانساني، و(بالعصمة) عن الذنب والخطأ في البيان، و (بحق الولاية)، والامر والنهي في المصاديق والتفاصيل.


عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: إن العلم الذي نزل مع آدم(عليه السلام) لم يرفع، والعلم يتوارث، وكان علي(عليه السلام) عالم هذه الامّة، وإنّه لم يهلك منّا عالم قطّ إلاّ خلفه من أهله من عَلِمَ مثل علمه، أو ما شاء الله([57]).


وعنه(عليه السلام): إنّ العلم يتوارث، ولا يموت عالم إلاّ وترك من يعلم مثل علمه، أو ما شاء الله([58]).


وعن ضريس الكناسيّ قال: كنت عند أبي عبد الله(عليه السلام) وعنده أبو بصير فقال ابو عبد الله(عليه السلام): إن داود ورث علم الانبياء، وان سليمان ورث داود، وان محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) ورث سليمان، وإنا ورثنا محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: إن هذا لهو العلم، فقال: يا أبا محمد ليس هذا هو العلم، إنّما العلم ما يحدث بالليل والنهار، يوماً بيوم وساعة بساعة([59]).


فلا يكون الاخذ عنهم من قبيل الاخذ عن (الرواة) أو (المجتهدين) الذين يكون دورهم النقل والفتوى، ويرجع إليهم الناس في حدود معرفة الحكم الشرعي من خلال النقل والفتوى دون أن يكون لهم حق الولاية والتشريع في منطقة الفراغ كما أن المجتهدين يعتمدون على الحدس ويتعرضون إلى الاشتباه والنسيان في الفهم أو في حفظ النص أو الاستنباط منه وهذا بخلاف أئمة الهدى من أهل البيت(عليهم السلام) فإن لهم الولاية وعلمهم يقيني قطعي.


عن محمد بن الحسن الميثمي، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول: إن الله عزّوجلّ أدّب رسوله حتى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه فقال عزّ ذكره: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فما فوّض الله إلى رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقد فوّضه إلين([60]).


ولذلك لم تتعرّض هذه الجماعة إلى حالة الانفصام والتأرجح بين الاوامر التي كان يصدرها الحكّام والولاة للمجتمع الاسلامي العام والتي كان يراها العامة والجمهور ذات صيغة شرعية، وقد تكون من منطلقات الانفعال والتأثر بالاهواء والعواطف ـ أحياناً ـ أو الظروف السياسية التي كانت تحيط بهم، أو يتعرضون أحياناً أخرى إلى الاشتباه والخطأ، وبين الفتاوى التي كان يصدرها المجتهدون من منطلقات الفهم الخاص للنص القرآني والسنّة النبوية، أو الرجوع إلى الظنون مثل قواعد (القياس) و(الاستحسان) و(المصالح المرسلة) وغيرها، عندما يعجزون عن الوصول إلى النص الشرعي، أو يصدرون فتواهم في مقابل هذا النص، كما في موارد الاجتهاد في مقابل النص، حيث كانوا يرونه بعيداً عن مواقع الاستحسان أو المصالح الاجتماعية المرسلة التي كانوا يرونها من خلال فهمهم لحركة المجتمع وقد تعرض بعض هؤلاء الفقهاء للاذى والملاحقة من قبل هؤلاء الولاة في بعض الاحيان بسبب هذا التناقض، كما حصل ذلك لابي حنيفة الذي تعرض للسجن والاعتقال من قبل المنصور بسبب موقفه السياسي في تأييد يحيى بن زيد، وكذلك احمد بن حنبل بسبب موقفه من قضية خلق القرآن واختلافه مع المأمون في ذلك.


كما أن هذه الجماعة الصالحة لم تتعرّض إلى حالة الانفصام بين الكلاميّين والفلاسفة المسلمين أصحاب النظريات والمتبنّيات العقائدية التي اختلفوا فيها أشدّ الاختلاف، وبين الفتاوى التي أفتى بها فقهاء قد لا يلتزمون هذه النظرية أو تلك، بحيث واجهت بعض الجماعات الاسلامية حالة الرجوع إلى فقيه يلتزم متبنّيات عقائدية وفكرية معينة فيكون اشعرياً أو معتزلياً أو مفوضاً أو غير ذلك من العقائد التي قد يختلف فيها مع مقلِّده الذي أخذ بالنظريات العقائدية والفكرية من رجال آخرين.


ولذلك لا نجد بين علماء ومجتهدي الشيعة وأتباع أهل البيت هذا الاختلاف العقائدي والفكري الذي نراه في علماء المذاهب الاسلامية.


3 ـ الشمول في العقائد:


الشمولية في الحالة المذهبية العقائدية، حيث تناول أهل البيت(عليهم السلام)هذا الجانب بالشرح والتوضيح والتفصيل فكان شاملاً لمختلف القضايا العقائدية، ولم يتركوا فراغاً في هذا الجانب يتصرّف فيه المجتهدون بآرائهم واجتهاداتهم واستنباطهم.


وذلك لان القضية العقائدية ـ بخلاف القضية السلوكية الفرعية ـ خطيرة وتترتّب عليها آثار ونتائج حساسة وحادّة، وتنعكس على كل تفاصيل البناء الروحي والاجتماعي والسياسي والمستقبلي للحياة الانسانية.


ومن هذا نجد أن أهل البيت(عليهم السلام) لم يقتصروا في طرحهم للجانب العقائدي على أصول العقائد الاسلامية كالتوحيد، والنبوة، والمعاد فحسب بل شمل المجالات المختلفة مثل: قضايا العدل، والامامة، والجبر والاختيار، والقدر، والكفر والايمان وعلاقتهما بالعمل، والعصمة، والعدالة، والموت والحياة، وسنن التاريخ، والابتلاء، والولاء، والحب والبغض، والاخلاق، وظهور المهدي في آخر الزمان، ومعالم الدار الاخرة: كالبرزخ، والبعث، والنشور، والحوض، والصراط، والرؤية، والحساب، والشفاعة، والجنة والنار، والعذاب والراحة، والخلود في النار والجنة، والحسن والقبح، والوحي الالهي، والعقل.


إن هذه التفاصيل وغيرها التي تناولها الائمة، وعالجوا فيها الجانب الفكري والعقائدي، وقدموا فيها الموقف الناجز كان لها دور عظيم في قوة القاعدة العقائدية واستحكام بناء هذه الجماعة الصالحة وتراصّ صفوفها.


ويمكن أن نلاحظ هذه الشمولية عندما نرجع إلى كتاب عقائد الصدوق وشرحه للشيخ المفيد، حيث يعتمدان أساسياً في التفاصيل على روايات أهل البيت(عليهم السلام).


ولعل من افضل الشواهد على اهمية هذا التأسيس لهذه القاعدة أننا نلاحظ أن تاريخ فترة الحضور (أي حياة الائمة الاحد عشر) شهد اختلافات واسعة في أوساط جماعة أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بسبب هذه العقائد تفرعت عنه مذاهب وجماعات. ولكن عندما تمكّن الائمة من تحقيق هذه السعة والشمول في الطرح العقائدي بدأت تتناقص وتتضاءل هذه الاختلافات حتى أصبحت محدودة إلى حدّ بعيد في زمن (الغيبة الكبرى)، مع أن ظروف الغيبة هي أشدّ صعوبة من فترة وجود الائمة بسبب غيبة الامام وعدم القدرة على الاتصال به. ولم يكن ذلك إلاّ بسبب هذا الانجاز الكبير الذي قام به الائمة في فترة وجودهم، وكان ضمانة عقائدية وفكرية لهذه الجماعة الصالحة. كما أن التاريخ الاسلامي شهد اختلافات عقائدية واسعة ولازال بين الجماعات الاسلامية الاخرى بسبب عدم الاتفاق على مرجع واحد غير القرآن الكريم ليكون مآلاً للمسلمين في هذه التفاصيل، بل يمكن أن نقول بعدم وجوده.


والقرآن الكريم وإن كان موضع اتفاق بين المسلمين ولكنه قابل للتأويل، ولذا اكد أهل البيت اهمية وجود الامام المفسر للقرآن الكريم واكد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)اهمية الثقل الاخر المتمثل بأهل البيت(عليهم السلام) في حديث الثقلين وحديث السفينة([61]).


4 ـ حرية الفكر والمنطق السليم:


إرساء قواعد المنهج الصحيح في معالجة قضايا الفكر والعقيدة سواء كان ذلك من خلال التأكيد للحرية الفكرية والعقائدية في المجتمع الاسلامي، أو من خلال التأكيد لضرورة اعتماد المنطق السليم وتحكيم العقل والوجدان والفطرة الانسانية الصافية، أو من خلال الالتزام بالوحي الالهي (القرآن الكريم) والنص النبوي الصحيح بعيداً عن الاهواء والاتجاهات السياسية الخاصة، وبعيداً عن استخدام الذوق والمزاج والميول والظنون الشخصية أو النوعية التي يكثر فيها الخطأ كالقياس والاستحسان، الشيء الذي يسميه أهل البيت والنص النبوي بـ الرأي. وورد فيه: من فسّرَ القرآن برأيه فقد كفر أو إن دين الله لا يدرك بالعقول([62]).


فقد ورد عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: كلُّ شيء مردود إلى كتاب الله والسنّة، وكلُّ حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف([63]).


وعنه(عليه السلام) قال: ما أتاكم عنّا من حديث لا يصدّقه كتاب الله فهو باطل([64]).


أو من خلال فتح باب الاجتهاد والاستنباط ضمن القواعد والاصول الصحيحة، واستنطاق القرآن تجاه كل الظواهر والاحداث التي تواجهها البشرية بروح موضوعية ومنفتحة على جميع الاحتمالات والظروف التي يواجهها الانسان.


وقد كانت هذه الحرية الفكرية، وهذا الالتزام بالحدود الاسلامية للاستنباط (النص القرآني والسنّة النبوية)، وهذا الانفتاح والتجديد في الفهم والاستنباط والنظر في معالجة القضايا، وهذا الانسجام مع متطلّبات الفطرة الانسانية والعقل والوجدان من الخصائص التي اتّصفت بها مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) وهذه الجماعة الصالحة كما أشرنا إلى ذلك.


وهذه الخصائص في نفس الوقت التي تمكّنت من أن تبني هذه الجماعة بناءً فكرياً وعقائدياً قوياً ومتطوراً وله القدرة على مواجهة جميع الظروف والاوضاع، مكّنت هذه الجماعة الصالحة من القيام بمسؤولياتها في الدفاع عن العقيدة الاسلامية والفكر الاسلامي الاصيل، ليس في مواجهة الاجتهادات الفكرية والعقائدية الاخرى داخل المجتمع الاسلامي والاطار الاسلامي فحسب، بل في مواجهة التيارات الفكرية والعقائدية التي هي خارج الاطار الاسلامي مطلقاً.


الفصل الثاني


الجـانب الأخلاقي


وتأتي الاخلاق في المرتبة الثانية من الاهمية في بناء الجماعة الانسانية; حيث أنها تمثل الاساس الثاني الذي يجب أن يقوم عليه البناء الاجتماعي، وهو الجانب الوجداني والاساس للسلوك الانساني والعلاقات الانسانية التي ترتبط بالعدل والظلم والحسن والقبح والتكامل والتسافل في المسيرة البشرية. وهو ما يعبّر عنه الفلاسفة بالعقل العملي في مقابل العقل النظري الذي يعتمد عليه الجانب العقائدي والفكري كما اشرنا.


ويمكن أن نلاحظ معالم هذا الجانب في بناء الجماعة الصالحة في الامور التالية:


1 ـ دور الاخلاق في صياغة الحكم الشرعي:


التأكيد لدور الاخلاق في صياغة النظام والحكم الشرعي للمجتمع الانساني من جانب، وعلاقتها بالارادة الانسانية وتكاملها من خلال مسؤولية الانسان تجاهها من جانب آخر; حيث أن هذين الجانبين كانا من نقاط الاختلاف الحادّة في الفكر الاسلامي. وذهب عدد كبير من المفكرين الاسلاميين إلى الجبر، وعدم تحمّل الانسان المسؤولية تجاه الانحرافات السلوكية والاخلاقية وفصلها عن ارادته، فهو خاضع بكل وجوده للارادة الالهية وأفعاله هي من صنع الله وخلقه، ولا معنى لافتراض أن عقاب الانسان على مخالفته للحكم الشرعي هو خلاف العدل الالهي أو أنه قبيح على الله، ذلك لان الانسان ليس لديه مدركات أخلاقية مستقلة تصحح له الحكم بالقبح، وإنما عليه الالتزام بالحكم الشرعي لان الحكم الشرعي هو امر الله وإرادته، والانسان مملوك لله تعالى في كل شؤونه، ولا يسأل الله عن شيء من تلك الشؤون (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون).


هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يكون الحكم مجرداً عن خلفيّته الاخلاقية الانسانية، فهو مجرد تعبير عن الارادة التشريعية الالهية.


ولكننا نجد أن مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) أكّدت مفهومين في هذا المجال:


الاول: قضية إدراك الانسان الاخلاقي للحسن والقبح فهو يدرك قبح عقاب الانسان المكره والمجبور، بل قبح تكليفه وهو مسلوب الارادة، وأن هذا الادراك هو الذي يهدي الانسان إلى الكثير من الحقائق الالهية.


الثاني: ان الحكم الشرعي جاء من أجل أن يكشف ويحدّد للانسان هذا الادراك، وينير له الطريق للوصول إلى هذه الحقائق التي فطره الله تعالى عليها. بحيث أصبح الحكم الشرعي الالهي ليس مجرّد إلزام أو قرار يمارس فيه الله تعالى ولايته المطلقة على الانسان، بل هو إلى جانب ذلك يمثّل العدل والحكمة الالهيين والغنى المطلق منه تعالى عن أفعال هذا الانسان، فهو يعبر عن المصالح والمفاسد المرتبطة بحياة هذا الانسان ومسيرته التكاملية في هذه الحياة، فهو ذو بعد ومحتوى أخلاقي.


وبهذا يمكن أن نفهم أهميّة المعركة الكلامية التي خاضها أهل البيت(عليهم السلام)وحدّدوا فيها البُعد الاخلاقي في الاحكام الشرعية من خلال قضية الحُسن والقبح في الارادة الانسانية، من خلال طرح لا جبر ولا تفويض بل أمٌر بين أمرين في علاقة الارادة الانسانية بالارادة الالهية، فأفعال الانسان التي هي موضوع الحكم الشرعي معلولة لارادة الانسان وهو يتحمل مسؤوليتها، ولكن الانسان بكل وجوده مخلوق لله تعالى وقد خلقه مريداً، وهو خاضع في وجوده وبقائه وقدرته للارادة والقدرة الالهيتين ولا يمكنه أن يتصرف مستقلاً عن هذا الامداد الالهي لوجوده وقدرته.


وقد استفاد أهل البيت(عليهم السلام) هذا الدور للاخلاق من القرآن الكريم، حيث نجد القرآن حينما يضرب للانسان الامثال التي يؤكّد فيها (الحرية) في الارادة الانسانية كما في مثل قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاًلا يقدر على شيء...)([65])، أو يطرح أمامه التساؤلات مثل: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)([66])، أو يطرح أمامه مفاهيم (الحسنة والسيئة) مثل: (ولا تستوي الحسنة ولا السّيئة)([67])، أو العدل والظلم، أو الصدق والكذب، أو البخل والايثار، وغيرها من المفاهيم، إن القرآن حين يتناول كل ذلك يريد أن يخاطب في الانسان تلك الادراكات الفطرية الوجدانية التي تمثّل الاساس للسلوك الاخلاقي الذي حدّده القرآن ورسمه تفصيلياً، والتي نسمّيها بالحسن والقبح العقليّين.


ولا نريد هنا أن نتناول هذا البحث الكلامي الاخلاقي بقدر ما نريد أن ننبّه إلى ان أهل البيت عندما وجّهوا أتباعهم إلى التزام هذا الاعتقاد، وأصبح أحد أصول مذهبهم هو الالتزام (بالعدل الالهي)، أرادوا بذلك أن يؤسّسوا القاعدة الاخلاقية في البناء الروحي والمعنوي لاتباعهم، ويوجدوا نوعاً من الحصانة النفسية والروحية عن الوقوع في الانحرافات الاخلاقية الكبرى، كالظلم والعدوان أو مناصرتهما أو السكوت عنهما على الاقل.


2 ـ التمييز بين الاسلام والايمان:


تأكيد قضية التمييز بين الاسلام والايمان أخلاقياً كما جاء ذلك في القرآن الكريم: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لايلتكم من اعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم* إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله اولئك هم الصادقون)([68]).


وبذلك يكون الاسلام والقبول بالشهادتين واليوم الاخر والالتزام بالصلاة والصيام والحج والزكاة يمثل الدرجة الاولى في سلّم العقيدة الاسلامية، وبه تحقن الدماء وتُصان الاموال والاعراض وتجري عليه الحياة الاجتماعية الاسلامية العامة. ولكن من الناحية الاخلاقية فان هذا يختلف في واقعه عن الالتزام الحقيقي بالاسلام ومترتباته.


وأما الايمان فهو يمثل درجة عالية من رسوخ العقيدة واستقرارها والالتزام بمقتضياتها وتبعاتها.


ولعل خير ما يصور ويشرح هذا المفهوم ويوضح الفرق بينهما هذا النص الذي رواه الكليني في الكافي بطريق معتبر عن حمران بن اعين عن ابي جعفر الباقر(عليه السلام): الايمان ما استقرّ في القلب وأفضى به إلى الله عزّ وجلّ وصدّقه العمل بالطاعة لله والتسليم لامره، والاسلام ما ظهر من قول أو فعل، وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلّها، وبه حُقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح واجتمعوا على الصلاة والزكاة والصوم والحج، فخرجوا بذلك من الكفر وأضيفوا إلى الايمان والاسلام لا يشرك الايمان والايمان يشرك الاسلام، وهما في القول والفعل يجتمعان، كما صارت الكعبة في المسجد والمسجد ليس في الكعبة، وكذلك الايمان يشرك الاسلام والاسلام لا يشرك الايمان.


وقد قال الله عزّوجلّ: (قالت الاعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الايمان في قلوبكم)، فقول الله عزّوجلّ أصدق القول: قلتُ: فهل للمؤمن فضل على المسلم في شيء من الفضائل والاحكام والحدود وغير ذلك؟ فقال: لا، هما يجريان في ذلك مجرى واحداً، ولكن للمؤمن فضل على المسلم في أعمالهما وما يتقرّبان به إلى الله عزّوجلّ. قلتُ: أليس الله عزّوجلّ يقول: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) وزعمت أنّهم مجتمعون على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ مع المؤمنين؟ قال: أليس قد قال الله عزّوجلّ: (يضاعف له أضعافاً كثيرة)؟ فالمؤمنون هم الذين يضاعف الله عزّوجلّ لهم حسناتهم لكل حسنة سبعون ضعفاً، فهذا فضل المؤمن، ويزيده الله على قدر صحة ايمانه أضعافاً كثيرة ويفعل الله بالمؤمنين ما يشاء من الخير. قلت: أرأيت من دخل في الاسلام، أليس هو داخلاً في الايمان؟ فقال: لا، ولكنّه قد أضيف إلى الايمان وخرج من الكفر. وسأضرب لك مثلاً تعقل به فضل الايمان على الاسلام: أرأيتَ لو بصرت رجلاً في المسجد، أكنت تشهد أنك رأيته في الكعبة؟ قلت: لا يجوز لي ذلك. قال: لو بصرت رجلاً في الكعبة، أكنت شاهداً أنه قد دخل المسجد الحرام؟ قلت: نعم، قال: وكيف ذلك؟ قلت: إنه لا يصل إلى دخول الكعبة حتى يدخل المسجد، فقال: قد أصبتَ وأحسنتَ، ثم قال: كذلك الايمان والاسلام([69]).


3 ـ الايمان والعمل:


إعطاء الايمان بالله تعالى ـ الذي يمثل أهم وأفضل صفة اخلاقية تكامليّة في الانسان ـ بُعداً عملياً، وإخراجه من الحالة العقائدية المجرّدة والالتزامات النفسية المحضة إلى الممارسة السلوكية والعملية والتطبيقية، وذلك بتفسير الايمان على أساس أنه حقيقة وماهيّة تكاملية وذات مراتب ودرجات تتكامل وتتصاعد عن طريق العمل والتطبيق. ويبدو أنّ هذا الموضوع كان من الموضوعات المثيرة للجدل والخلاف في زمن الائمة، بحيث أنّ بعض العلماء ـ كما أشرنا ـ كان يذهب إلى أنه لا يتفاوت إيمان الانبياء مع إيمان إبليس; لان الايمان حقيقة مطلقة وهو مجرد الالتزام بوجود الله تعالى. وهذه الحقيقة، إمّا أن تكون موجودة أو لا تكون، وإنّما يختلف الانبياء عن إبليس في السلوك والعمل لا في وجود اصل هذا الالتزام.


وكان مذهب أهل البيت(عليهم السلام) الذي تربّى عليه أتباعهم، هو اختلاف درجات الايمان بالله في المؤمنين، حيث يتأثّر الايمان إلى حد كبير ـ صعوداً ونزولاً ـ بالممارسات العمليّة. فكلما مارس العبد هذا الالتزام القلبي عملياً وجسده في سلوكه خارجياً، تصاعدت درجة هذا الايمان والالتزام من ناحية وثبت في قلبه ووجدانه من ناحية اخرى فقد روى الكليني في الكافي بطريق معتبر عن جميل بن دراج قال: سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن الايمان فقال: شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله. قال: قلت: اليس هذا عملاً قال: بلى. قلت: فالعمل من الايمان؟ قال: لا يثبت له الايمان إلاّ بالعمل والعمل منه([70]).


وتشرح بعض النصوص هذا المفهوم بأساليب مختلفة، ومنها هذا النص الذي رواه الكليني في الكافي عن حماد بن عمرو النصيبي قال: سأل رجل العالم(عليه السلام) فقال: أيها العالم، أخبرني أي الاعمال أفضل عند الله؟ قال: ما لا يقبل عمل إلاّ به، فقال: وما ذلك؟ قال: الايمان بالله، الذي هو أعلى الاعمال درجة وأسناها حظاً وأشرفها منزلة. قلت: أخبرني عن الايمان أقوْلٌ وعملٌ أم قولٌ بلا عمل؟ قال: الايمان عمل كله، والقول بعض ذلك العمل بفرض من الله بيّنه في كتابه، واضح نوره، ثابتة حجته، يشهد به الكتاب ويدعو اليه. قلت: صف لي ذلك حتى أفهمه، فقال: إن الايمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه ومنه الناقص المنتهي نقصانه ومنه الزائد الراجح زيادته. قلت: وإن الايمان ليتم ويزيد وينقص؟ قال: نعم، قلت: وكيف ذلك؟ قال: إن الله تبارك وتعالى فرض الايمان على جوارح بني آدم وقسّمه عليها وفرَّقه عليها فليس من جوارحهم جارحة إلاّ وهي موكّلة من الايمان بغير ما وكّلت به أختها، فمنها قلبه الذي به يعقل ويفقه ويفهم وهو أمير بدنه الذي لا تورد الجوارح ولا تصدر إلاّ عن رأيه وأمره; ومنها يداه اللتان يبطش بهما ورجلاه اللتان يمشي بهما، وفرجه الذي الباه من قبله، ولسانه الذي ينطق به الكتاب ويشهد به عليها; وعيناه اللتان يبصر بهما; وأذناه اللتان يسمع بهما. وفرض على القلب غير ما فرض على اللسان وفرض على اللسان غير ما فرض على العينين وفرض على العينين غير ما فرض على السمع وفرض على السمع غير ما فرض على اليدين وفرض على اليدين غير ما فرض على الرجلين وفرض على الرجلين غير ما فرض على الفرج وفرض على الفرج غير ما فرض على الوجه; فأما ما فرض على القلب من الايمان فالاقرار والمعرفة والتصديق والتسليم والعقد والرضا بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحداً، صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً وأن محمداً(صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله([71]).


ومن هذا المنطلق نجد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) يقسمون الايمان على الصفات التي يتصف بها المؤمن أيضاً، ويرون أن التكليف يجب ان يكون على قدر وسع الانسان وطاقته.


عن عمار بن الاحوص، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: إن الله عزّوجلّ وضع الايمان على سبعة أسهم، على البّر والصدق واليقين والرضا والوفاء والعلم والحلم، ثم قسّم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الاسهم فهو كامل محتمل، وقسم لبعض الناس السهم، ولبعض السهمين، ولبعض الثلاثة، حتى انتهوا إلى السبعة. ثم قال: لا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة فتبهضوهم، ثم قال: كذلك حتى تنتهي إلى السبعة([72]).


وعن سدير في حديث معتبر قال: قال لي أبو جعفر الباقر(عليه السلام): إن المؤمنين على منازل، منهم على واحدة، ومنهم على اثنين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على أربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ستّ، ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقوَ، وعلى صاحب الثنتين ثلاثاً لم يقوَ، وعلى صاحب الثلاثة أربعاً لم يقوَ، وعلى صاحب الاربعة خمساً لم يقوَ، وعلى صاحب الخمسة ستّاً لم يقوَ، وعلى صاحب الستّة سبعاً لم يقوَ، وعلى هذه الدرجات([73])([74]).


وبذلك يصبح إيمان الانسان مهدّداً عندما ينحرف في سلوكه العملي، ويتخلّى عن السلوك الاخلاقي، وكذلك يتصاعد ويتكامل إيمانه من خلال الالتزامات السلوكية الاخلاقية.


كما أن هذا يفتح امامنا منهجاً في التربية والادارة، فكلما كان ايمان الانسان اكمل كان مؤهلاً لدرجات عالية من التكاليف والمسؤوليات، وكلما كان ايمانه أقل كان لابد من رعايته وتحديد تكاليفه كما نصت على ذلك الروايات السابقة.


ولا شكّ أن هذا الفهم للايمان ولدور الاخلاق فيه، له تأثير كبير وانعكاسات إيجابيّة على الالتزامات السلوكية والاخلاقية، وعلى تحمل المسؤوليات والمهام.


4 ـ القدوة والاخلاق:


التأكيد على أصحابهم وأتباعهم أن يأخذوا دور القدوة في المجتمع الاسلامي وبين أفراد الجماعة المسلمة، والعمل للوصول إلى المثل الاعلى ضمن الجماعة; بحيث يكون هؤلاء الافراد موضع الثقة والطمأنينة بين أفراد المجتمع الاسلامي.


ولا شكّ أن الاخلاق والمثل والقيم والالتزامات السلوكيّة المنسجمة معها هي التي يمكنها أن تعطي هذا الدور في المجتمع الاسلامي.


ففي فلسفة التأريخ التي تحدّث عنها القرآن الكريم يشير إلى نوعين من القدوة والاقتداء.


الاول: النوع الحسن (الاسوة الحسنة)، وهي الاسوة التي تقوم على المثل والقيم والالتزامات الاخلاقية، مثل الاسوة بإبراهيم(عليه السلام) والذين معه ومحمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، والانبياء والرسل(عليهم السلام). قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر وذكر الله كثيراً)([75]). وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا بُرآء منكم ومما تعبدون من دون الله)([76]) وقال تعالى: (لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الاخر)([77]). وقال تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين * أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)([78]).


الثاني: النوع السيئ (الاسوة السيّئة)، وهي التي تقوم على أساس القوة والقدرة والهيمنة الخارجية، وهي الاسوة بالجبابرة والطغاة وأئمة السوء وأصحاب الجاه والمال. قال تعالى: (بل قالوا إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون)([79]). وقال تعالى: (وقالوا ربّنا إنّا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلّونا السبيلا)([80]).


حيث أن الانسان يقع عادة تحت تأثير أحد هذين العاملين الاساسيين في قضية (الاسوة) أو (القدوة) وهما: عامل الفطرة الانسانية السليمة، ومنابع الحق والعدل والوجدان في النفس الانسانية، وعامل الهوى والشهوات والخوف والطمع، ومواضع الضعف والنقصان في النفس الانسانية.


وقد حث أهل البيت(عليهم السلام) أتباعهم على استنفار العامل الاول والاستفادة منه في الوصول إلى هذا الموضع الاجتماعي والانساني.


عن عبد الله بن ابي يعفور، عن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: كونوا دعاة للناس بالخير بغير ألسنتكم. ليروا منكم الاجتهاد والصّدق والورع([81]).


وفي المجالس عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي الجلساء خير؟ قال: من تذكركم الله برؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الاخرة عمله([82]).


وعن الامام زين العابدين(عليه السلام): إن أبغض الناس إلى الله عزّوجلّ من يقتدي بسنّة إمام ولا يقتدي بأعماله([83]).


5 ـ العدالة والاخلاق:


منح العدالة([84]) دوراً مهماً فيالحياة الاجتماعية العملية; حيث يشترط مذهب أهل البيت(عليهم السلام) حصول صفة العدالة فيالاشخاص الذين يتصدّون إلى الكثير من المناصب والاعمال، مثل: الحكّام، والولاة، والقضاة، والمفتين، وأئمة الجماعة، والشهود في الخصومات، والشهادة على الطلاق، وغيرها من الموارد التي يجدها المتتبّع في الكتب الفقهية. الامر الذي يدل على إعطاء هذه الاهمية وهذا الدور لهذه الصفة، حتى أصبحت العدالة من حيث الاهمية مقدمة على العلم والمعرفة. حيث لا قيمة للعالم بدون عمل وتقوى بل يتحول العلم إلى شيء مضر بدون التقوى، ولذا جاء التحذير الشديد من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) من علماء السوء.


فقد أصبح للعدالة في ذهنيّة أتباع أهل البيت وأوضاعهم النفسية والروحية موقع خاص، ولها تأثير عميق على موقفهم من المجتهدين والقضاة والمتصدّين للاعمال السياسية، والنشاطات العامة.


وهذا الموقف والفهم للعدالة لا نجده في المذاهب الاسلامية الاخرى، ولا في الاوساط الدينية التي تنتسب إليها، حيث تقبل المذاهب الاسلامية ـ على اختلاف فيما بينها ـ إمامة الفاسق لصلاة الجماعة، وولايته للحكم، وتتسامح في الشهود.


ولا شك أن للعدالة مفهوماً أوسع من مفهوم الثقة والاعتماد، ولذلك تأخذ بعداً أخلاقياً واسعاً.


كما أن العدالة التي تُشترط في الشهود تختلف في مستواها بطبيعة الحال عن العدالة التي لابد من حصولها في الحكّام والولاة والقضاة والمفتين; حيث يجب أن تكون في الصنف الثاني بمستوىً عال يتناسب مع أهمية الموقع ومستوى الضغوط النفسية والاجتماعية التي يتعرض لها هذا الموقع.


6 منهج التزكية:


ـ وضع الخطط والمناهج والاساليب للوصول بالجماعة والكتلة الصالحة إلى تزكية النفس والمستوى الاخلاقي الرفيع المطلوب.


فلم يترك الائمة(عليهم السلام) هذا الخط بصفته مطلباً عاماً يحثّون أتباعهم على الوصول إليه، ويطلبون منهم الالتزام به، وإنما وضعوا أمامهم مجموعة من الخطوط العملية التي تمكّنهم ـ عند الالتزام بها ـ من الوصول إلى هذا الهدف وتحقيق هذه الغاية والمستوى الاخلاقي الرفيع ومنها (جهاد النفس).


جهاد النفس: النظرية والمنهج


أ ـ النظرية:


ولابد في البداية أن نتصور ابعاد الرؤية الاسلامية لموضوع جهاد النفس ونظريته، حيث يمكن الاشارة مختصراً إلى الابعاد التالية:


الاول: أن الحياة الانسانية هي حياة ممتدة وطويلة وليست مقتصرة على الحياة الدنيا، بل هي مرحلة قصيرة ومحدودة بالنسبة إلى الحياة الانسانية الكاملة. ولذلك فقد جعلت الحياة الدنيا حياة الاختبار والابتلاء، كما أنها لقصرها حياة لهو ولعب وزينة وتفاخر. وأما الحياة الطويلة الحقيقية فهي الحياة الاخرة التي تتحقق فيها النتائج والاثار وتوزن بميزان العدل والحق.


الثاني: أن محور التكامل في الحياة الانسانية هو النفس الانسانية لا الحياة المادية ولا بدن الانسان وجسده; لان النفس هي الباقية والمستمرة والمتطورة وأما بدن الانسان فيفنى وينتكس في الخلق ويتغير ويتبدل.


ولذلك كان جهاد النفس تكاملاً لهذه النفس الانسانية.


الثالث: أن الله تعالى قد خلق في الانسان واودع فيه العقل والعلم والمعرفة للهداية ومعرفة الحقائق والمصالح والمفاسد، كما اودع فيه الهوى والشهوة وزين له الحياة الدنيا لاختباره وامتحانه من ناحية، ولتكون الشهوة طاقة محركة من ناحية اخرى، فهما عاملان متوازيان ومتضادان في حركة الانسان.


ومنحه القدرة على خلق الافعال والنشاطات وتصور المستقبل والتركيب بين الصور، فكانت الارادة الانسانية هي العامل الحاسم في حركة الانسان واختياره لهذا الفعل أو ذلك.


فكلما جعل الانسان العقل هو الهادي لارادته ولاختياره كان سائراً في طريق التكامل، وكلما جعل الهوى والشهوة هما المسيطران على ارادته والموجهان لحركته كان سائراً في طريق النزول والسقوط والتسافل.


وفي الفرضية الاولى تتحول الشهوة الموجهة من قبل العقل والمعرفة إلى طاقة تدفعه للتكامل، ولكنها في الفرضية الثانية تتحول إلى طاقة مدمرة ومهلكة للانسان.


الرابع: أن الله تعالى بلطفه ورحمته وجوده وحكمته وعلمه ارسل الانبياء بالكتب والرسالات، وانزل عليهم الوحي والهدى ليرشدوا الانسانية إلى طريق الحق والصواب عندما تختلط الصور ويشتبه الحق بالباطل، أو عندما يتحير أو يعجز الانسان عن ادراكه ومعرفته للحقائق والمصالح والمفاسد، من أجل أن يقوم هؤلاء الانبياء والرسل بإبلاغ الرسالة وتزكية الانسانية ويعلمها الكتاب والحكمة والحكم بالحق بين الناس فيما اختلفوا فيه والشهادة على سلوكهم وتجربتهم.


الخامس: أن الارادة الانسانية إذا تطابقت مع الارادة التشريعية الالهية المتمثلة بالشريعة والاحكام والحدود الشرعية تكاملت النفس الانسانية. وهذا يحتاج من الانسان أن يجاهد هواه ويهيمن على شهواته وغرائزه ليجعلها تتطابق مع هذه الاحكام الشرعية.


بل إن جهاد النفس مع الهوى والشهوات في حد ذاته يؤدي بالانسان إلى تكامل نفسه التي هي محور التكامل الانساني، كما يتكامل الانسان في بدنه من خلال المجاهدة الجسمية والرياضة البدنية.


وقد وضع الاسلام منهجاً لهذه المجاهدة النفسية ليتكامل الانسان من خلاله.


ولهذا المنهج اركان واسس واساليب وصيغ عملية، وهنا نشير إلى خلاصة الاركان والاسس والعناوين العامة ذات العلاقة بالصيغ والاساليب العملية اجمالاً ونترك التفصيل إلى مجال آخر([85]).


ب ـ المنهج:


ويمكن ان نلخص الاركان والاسس لمنهج الاسلام وأهل البيت(عليهم السلام) في جهاد النفس ضمن الخطوط التالية التي يمكن أن نجد معالمها في ابحاث جهاد النفس من الكتب الاخلاقية الحديثية أو التحليلية([86]):


الاول: تقوية الارتباط بالله تعالى من خلال شدة اليقين به والتوكل عليه وحسن الظن به والاخلاص في العمل والنية والحب لله تعالى والخوف منه والرجاء له.


الثاني: استخدام العقل الذي يهدي إلى الحق والحقيقة وطاعته، ومنه العلم والمعرفة في مقابل الجهل والهوى والوقوع تحت تأثيرهما. ومن هنا كان العقاب والثواب على قدر العقل، وكان الحث على مشورة العاقل والترجيح لجانب العقل على جانب الشهوة في الامور التي يواجهها الانسان في حياته.


الثالث: التقوى والعفة واصلاح النفس عند ميلها للشر والشهوات، واجتناب المعاصي والخطايا والذنوب ومن ثم تحديد وتشخيص مسير الانسان وحركته في جهاده لنفسه وضبط ميولها وتوظيف طاقاتها في اطار الحدود الشرعية. وإن الاثار النفسية والروحية ايجاباً وسلباً ترتبط بهذا الالتزام.


الرابع: الصبر على الطاعة والالتزام بالواجبات، والصبر عن المعصية واجتناب المحرمات، وتحمل الضغوط النفسية والخارجية وعدم الاستسلام لها أو القبول والرضوخ لها، والاستمرار في طريق الطاعة واجتناب المعصية وتربية عامل الصبر وتنمية الارادة والقدرة على التحمّل والسيطرة على العواطف والانفعالات من خلال قوة الارادة.


الخامس: محاسبة النفس ومراقبة الاعمال والنشاطات التي تقوم بها، بل مراقبة العواطف والمشاعر والاحساسات ومعرفة مدى التطابق بين عمله وسلوكه وعواطفه ومشاعره مع الاحكام الشرعية والاخلاق الاسلامية والصفات الكمالية والاهداف النبيلة التي وضعها الله سبحانه وتعالى امام الانسان في حركته التكاملية.


السادس: التوبة والانابة لله تعالى عند الخروج عن جادة الصواب وطريق الاستقامة والعدل، والوقوع في الذنب والاثم وارتكاب اللمم من الاثم، والمبادرة اليها من خلال الاحساس بالندم، والاعتراف بالذنب والعزم على الالتزام بالوظيفة الشرعية، ورد المظالم المالية أو المعنوية التي ارتكبها في حق الاخرين.


السابع: تشخيص مواضع ضغوط الهوى مثل حب النفس والشهوات من النساء والبنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة، والاتجاهات النفسية في الانسان كالغضب والحسد وحب الرئاسة والكبر والاختيال والطمع والكسل والعصبية القبلية أو القومية والحمية الجاهلية وغيرها، أو الظلم والاتجاه للعدوان وتجاوز حقوق الاخرين وغيرها، ثم معالجة هذه الضغوط بعد تشخيصها والتنبيه عليها.


الثامن: ايجاد حصانة ومقاومة ومناعة في النفس الانسانية، وحريم له امتدادات ومستويات متعددة لحركة التكامل الانساني في جهاد النفس; وذلك من خلال مجموعة من الالتزامات والاداب المستحبة أو المكروهة، بحيث تكوّن سياجاً وحصناً يمنع النفس من الوقوع تحت تأثيرات الهوى، ويوجد فيها المزيد من التكامل الانساني.


ويمكن أن نلاحظ ذلك أيضاً، بالاضافة إلى هذا المنهج في المناهج الاسلامية العامة، وفي مناهج الدعاء والذكر التي وضعها الائمة(عليهم السلام) وتشمل اليوم والليلة بتمامهما، بالاضافة إلى الاهتمام بإحياء الليل وخصوصاً الليالي الخاصة، مثل ليالي القدر والجمعة، والاعياد، والمناسبات الاسلامية (المولد النبوي الشريف، والمبعث النبوي، وعيد الغدير، وليلة النصف من شعبان، ... إلخ)، وكذلك احياء بعض الايام الخاصة مثل التسع الاوائل من ذي الحجة وايام التشريق والعيدين ويوم الغدير ويوم المولد والمبعث الشريفين ويوم عاشوراء وغيرها.


وكذلك منهج الصلوات المستحبّة الخاصة، مثل الصلاة المنتسبة إلى المعصومين الاربعة عشر(عليهم السلام) واحداً بعد آخر وصلاة جعفر وغيرها، أو الصلوات العامة في ليالي الاحياء، وليالي شهر رمضان، والمناسبات الاسلامية الاخرى.


ومنهج العبادات الاخرى كالصوم المستحب والاعتكاف والحج المستحب، والعمرة، وزيارات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، والائمة(عليهم السلام)، والصالحين من عباد الله، والاذكار، والانفاق في سبيل الله، وصلة الارحام والجيران والمؤمنين، حتى صلة عامة المسلمين.


كل ذلك في تفاصيل دقيقة يمكن أن نشاهدها في الكتب الحديثيّة، كأبواب جهاد النفس والعشرة، والاخوان، والسلوك الاخلاقي; بحيث تكون الحصيلة هي تصعيد الجانب الاخلاقي والالتزامات السلوكية وقوة الشخصية على المستوى الفردي وفي المجتمع الانساني.


وسوف نتناولها إن شاء الله في نظام الشعائر والعبادات.


الفصل الثالث


الجـانب الثقافي


تمهيد:


تأتي الثقافة في المرتبة الثالثة من الاهمية في بناء الكتلة الصالحة; لانها هي التي يمكنها أن ترسم المعالم الصحيحة للجماعة الصالحة، وتمثل الخطوط التفصيلية نسبياً للمضمون العقائدي والاخلاقي والارضية للبناء الفوقي للجماعة الصالحة. كما يمكن لمؤسساتها ومناهجها وآثارها أن تحافظ على بقاء واستمرار هذا البناء بمقدار ارتباطها بالجانب العقائدي والاخلاقي، حيث يصبح هذا الجانب جزءاً من الثقافة التي تلتزم بها الامة. فالثقافة هي الحصن الحصين الذي يمكنه أن يحفظ للامة والجماعة عقائدها وأخلاقها من جانب ويمدها بالروح المعنوية العالية من جانب آخر، ويمسك جميع أطرافها، ويوحدها في مسارها ومواقفها وأهدافها من جانب ثالث، لانها تُعنى بتفاصيل البناء الاجتماعي، وتمد جميع جوانبه وأبعاده بالتصورات والاطر التي يحتاجها سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التنظيمي أو الامني، وعلى مستوى الشكل والمضمون والمحتوى.


ومن هنا نجد هذا الامتياز الخاص لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام) في الجانب الثقافي، واعطائه الاهمية الخاصة في وجودهم وحركتهم، وكذلك في بناء الكتلة الصالحة والجماعة المؤمنة.


ولا شك أن القرآن الكريم اغنى مصدر للثقافة الاسلامية لدى أهل البيت(عليهم السلام); ولذا كان موضوع اهتمام من قبلهم، فبادر الامام علي(عليه السلام) إلى جمعه تنزيلاً وتأويلاً:


1 ـ فقد روى عمرو بن ابي المقدام، عن جابر قال: سمعت ابا جعفر(عليه السلام)يقول: ما ادّعى أحدٌ من الناس أنه جمع القرآن كلّه كما أنزل إلاّ كذاب، وما جمعه وحفظه كما نزله الله تعالى إلاّ عليُّ بن ابي طالب(عليه السلام) والائمة من بعده(عليهم السلام)([87]).


كما أنه(عليه السلام) كان اول من بادر إلى جمع السنة النبوية المصدر الثاني للثقافة الاسلامية، وكذلك تدوينها وحفظها، فكانت الصحيفة الجامعة. ثم تداول ذلك أئمة أهل البيت(عليهم السلام):


2 ـ وروي عن أبي بصير في حديث عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: يا أبا محمد، وإن عندنا الجامعة وما يدريهم ما الجامعة؟ قال: قلت: جعلت فداك وما الجامعة؟ قال: صحيفة طولها سبعون ذراعاً بذراع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وإملائه من فلق فيه، وخط عليّ بيمينه، فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج الناس اليه حتى الارش في الخدش... الحديث([88]).


3 ـ وعنه أيضاً، عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: سمعته يقول ـ وذكر ابن شبرمة في فتياه ـ فقال: أين هو من الجامعة؟ أملى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وخطه علي بيده، فيها جميع الحلال والحرام، حتى أرش الخدش فيه([89]).


مضافاً إلى ذلك، نجد أن الامام علياً(عليه السلام) كان أعلم الناس بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)وأقضاهم، وأعرفهم بالحلال والحرام وبتفسير القرآن، وكان باب مدينة علم الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).


كما أنه كان على مستوى الممارسة أكثر الناس عطاءً في الجانب الثقافي والتربوي بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأول من بادر لوضع المناهج وابتكار العلوم ذات البعد الثقافي، وهو المؤسس لجملة منها: كعلم الفقه والحديث والتفسير والنحو... وغيرها([90]).


وعلى هذه السيرة سار أئمة أهل البيت(عليهم السلام) واتباعهم وشيعتهم وكانوا المبادرين لتأسيس علوم الاسلام تبعاً لائمتهم أو أخذاً عنهم([91]).


وقد عمل الائمة على مستوى الاهتمام بالجانب الثقافي لبناء الكتلة الصالحة والجماعة المؤمنة على تشخيص وبناء مشروعين مهمين:


المشروع الاول: المناهج الثقافية والتعليمية


لا شك أن للمنهج الثقافي دوراً مهماً في ترسيخ الجانب الثقافي ونجاحه في الجماعة، بحيث يكون قادراً على الوفاء بمتطلباتها وملء الفراغ في حاجاتها الثقافية.


وقد اعتمد أهل البيت سلام الله عليهم في بناء الكتلة الصالحة والجماعة المؤمنة ثقافياً أربعة خطوط من المناهج الثقافية يكمل بعضها بعضاً:


الخط الاول: حرية الفكر ومصادر الثقافة الاسلامية:


حرية الفكر والاجتهاد، وهو يرتبط بالاطار العام للمناهج والقاعدة التي ترتكز عليها المناهج الثقافية، وقد أشرنا إلى ذلك عندما تحدثنا عن الجانب الفكري والعقائدي. وكانت إحدى المميزات الاساسية التي امتاز بها الفقه الامامي الاثنا عشري عن فقه المذاهب الاخرى.


وفي هذا المجال يمكن أن نلاحظ أن الائمة الاطهار كان لهم هدف واضح ومنهج صحيح تكوّنت على أساسه مدرستهم الثقافية، وتأطّرت به مؤسساتهم العلمية.


وقد اعتمد هذا الاطار العام على الاسس التالية:


أولاً: أن يكون مصدر الثقافة الاسلامية سواء في فلسفة التأريخ والمجتمع، أو في الفقه الاسلامي أو في الاخلاق أو علم العقائد، أو فهم الكون والحياة أو الاداب واللغة، هو القرآن الكريم، والسنّة النبوية الصحيحة.


ثانياً: مبدأ مرجعيّة أهل البيت(عليهم السلام) في معرفة الاسلام ونظريته والشريعة الاسلامية، حيث واجه النص الاسلامي وكذلك التأريخ الاسلامي والسيرة النبويّة تأويلات وتفسيرات، وتعددت المواقف والاتجاهات تجاه ذلك. وبالرغم من أن أهل البيت(عليهم السلام) هم ولاة الامة وحكّامها وخلفاء الرسول في التصوّر المذهبي لاتباعهم، إلاّ أن هناك قضية أخرى في هذا المجال هي قضية (المرجعية) في الشؤون الدينية وفي فهم الاسلام والشريعة. ومنهج أهل البيت يعتمد على الحقيقة التي تقول بأنهم هم المرجع في فهم الاسلام، حتى لو صرفنا النظر عن الولاية والخلافة. وهذا ما يشير إليه حديث الثقلين الذي أشرنا إليه في الحديث السابق([92]).


ثالثاً: استنباط مجموعة من القواعد الفقهية والاصول الشرعية من القرآن الكريم والسنّة النبويّة، التي يرجع إليها الفقيه والمجتهد لمواجهة الاحتمالات المستجدة، أو ملء منطقة الفراغ التي تركها الشارع المقدّس ليملاها الفقيه المجتهد والولي، حسب الظروف وطبق القواعد العامة والاحكام الكليّة.


حيث أن الشريعة الاسلامية الخاتمة وضعت لكل عصر وزمان، فلابد للفقهاء والمجتهدين أن يقوموا بدور استنباط الاحكام الشرعيّة الفرعيّة والتفصيلية لمواجهة الظروف المستجدة، وطبق الاحكام الكليّة العامة، كما أن عليهم أن يشخّصوا الموقف والتكليف تجاه كل حدث وظرف.


ومن ذلك تطبيق المعلومات القرآنية المرتبطة بتفاصيل الشريعة الاسلامية على موضوعاتها من الامور المستجدة والمستحدثة في الحياة الاسلامية.


وكذلك تطبيق المفاهيم والسنن التاريخية على مصاديقها ومفرداتها الخارجية التي تؤول لها الاوضاع الاجتماعية والسياسية في حركة المجتمع الاسلامي.


رابعاً: الاهتمام بتعليم أتباعهم طريقة الاستنباط والاستفادة من النصوص الاسلامية (القرآن والسنّة) والجمع بين هذه النصوص عند اختلافها، وإيجاد النسب والارتباط بينها، أو اختيار بعضها على أساس ضوابط وموازين خاصّة. مذكورة في علم الاصول.


ولذلك اهتم أهل البيت(عليهم السلام) بالتأكيد لاهمية معرفة الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمجمل والمبيّن، وكيفية التعامل معها وفهم بعضها على ضوء البعض الاخر. وكان هذا الامر مما يفتخر به الامام علي(عليه السلام)على الصحابة.


الاجتهاد وحيوية الشريعة:


وقد كان الهدف من وراء هذه الحرية الفكرية الملتزمة تحقيق أمرين مهمين:


1 ـ إيجاد طبقة من المجتهدين القادرين على استنباط الحكم الشرعي من مصادره وينابيعه الاصلية، دون الوقوع في محذور (الانفلات) بالاعتماد على الرأي كما صنع أصحاب اتجاه الرأي، ودون الوقوع في محذور الجمود بالاعتماد على النص الواحد ـ كما صنع أهل الحديث ـ بعدم إخضاعه للفهم الكامل من خلال النصوص الاخرى; حيث أن مجموع كلام الله تعالى القرآن، وكلام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)السنّة النبوية، وكلام الائمة الاطهار(عليهم السلام)الاحاديث المروية عنهم(عليهم السلام) كلام واحد يفسّر بعضه بعضاً، شأنه شأن كلام المتحدث الذي لم ينقطع، بحيث يمكن أن يكون أوله أو وسطه أو آخره قرينة على بقية الكلام.


2 ـ المحافظة على حيويّة الشريعة الاسلامية وقدرتها على مواكبة الظروف والتطورات، دون الوقوع في أخطار التحريف والتزييف، أو الاستجداء من المذاهب الاخرى أو تأويلها، أو ضياعها أو التمرد بسبب الفوضى السياسية والثقافية التي مرّ بها العالم الاسلامي جرّاء الفتن والحوادث المؤلمة.


ولقد علمنا في الكتاب الثالث أن أهل البيت(عليهم السلام) كان لهم فضل عظيم في حفظ التراث الاسلامي والشريعة الاسلامية، كما كان لهم فضل في حفظ الامة الاسلامية من الضياع والانحراف عندما خطّوا لها هذا المنهج، وسجّلوا هذه السابقة في تكوين هذا الاطار.


الخطّ الثاني: العلم والتعليم


الحث على طلب العلم وخصوصاً علم الشريعة، بحيث أصبح واجباً شرعياًفي مذهب أهل البيت، يتحمّل الانسان مسؤولية الاخلال به. وقد وردت عنهم(عليهم السلام) أحاديث كثيرة في تأكيد هذا الجانب، بحيث خصّص لها أصحاب كتب الحديث باباً مستقلاً ومنها:


روى الامام الرضا(عليه السلام) عن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يقول: طلب العلم فريضة على كل مسلم... به يطاع الرب، وبه توصل الارحام، وبه يعرف الحلال والحرام. العلم إمام العمل والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الاشقياء([93]).


وعن الصادق(عليه السلام): لو علم الناس ما في العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج([94]).


وعن زيد الزرّاد، عن أبي عبد الله الصادق(عليه السلام) قال: قال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): يا بني، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الايمان. إني نظرت في كتاب لعلي(عليه السلام) فوجدت في الكتاب: إن قيمة كل امرئ وقدره معرفته...([95]).


وعن الصادق(عليه السلام): اعرفوا منازل شيعتنا بقدر ما يحسنون من رواياتهم عنا، فإنا لا نعدّ الفقيه منهم فقيها حتى يكون محدّثاً، فقيل له: أو يكون المؤمن محدّثاً؟ قال: يكون مفهّماً، والمفهّم محدّث([96]).


وفي هذا المجال لم يكتف أهل البيت(عليهم السلام) بهذا الامر العام بل رسموا خطوات لذلك:


أ العلم والرأي:


ـ تأكيد المنهج العلمي القرآني في البحث، ودور العلم واليقين في المعرفة في مقابل اعتماد الظنون والاوهام في الحصول على المعرفة.


وقد ربط أهل البيت(عليهم السلام) العلم واليقين بالحكم الشرعي بالمصادر الصحيحة كما ذكرنا سابقاً، ولكنهم لم يكتفوا بذلك بل أكّدوا أن الاستفادة من هذه المصادر لابد أن تكون وفق المنهج العلمي الذي يعتمد على الدرس والتعليم والاخذ من العلماء وهم أهل البيت(عليهم السلام).


وبذلك أغلقوا الطريق أمام الاعتماد على الحدس أو الهوى أو الرأي وحتى الظنون مثل: الاستحسان والقياس والمصالح المرسلة وأمثالها; حيث أن الحقيقة الالهية والاحكام الشرعية والمصالح والمفاسد المرتبطة بها، لا يمكن إدراكها إلاّ عن طريق الوحي والالهام، كما هو حاصل بالنسبة إلى الانبياء والصفوة المختارة من الناس، أو عن طريق التعلّم والحفظ والكتابة والضبط والاخذ من العلماء الحقيقيين الذين هم أهل بيت الرسول الامناء على الوحي الالهي.


روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح([97]).


وقال أمير المؤمنين(عليه السلام): إنّ الناس آلوا بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ثلاثة: آلوا إلى عالم هدىً من الله قد أغناه الله بما علم عن غيره (ويقصد أهل البيت)، وجاهل مدّع للعلم لا علم له، معجب بما عنده، قد فتنته الدنيا وفتن غيره، ومتعلّم من عالم على سبيل هدىً من الله ونجاة، ثم هلك من ادّعى وخاب من افترى([98]).


وقال ابو جعفر(عليه السلام): من أفتى بغير علم ولا هدىً من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، ولحقه وزر من عمل بفتياه([99]).


وعن أحدهم قال: قلت لابي عبد الله(عليه السلام): ما حق الله على خلقه؟ قال: أن يقولوا ما يعلمون، ويَكفّوا عما لا يعلمون، فإذا فعلوا أدّوا إلى الله حقّه([100]).


ب ـ تدوين الحديث:


رواية الحديث وحفظه وتدوينه فضلاً عن حفظ القرآن والتأمّل فيه وفهمه. وقد سجل التاريخ في هذا المجال سابقة لاهل البيت وأتباعهم، حيث كانوا أوّل من دوّن الحديث واهتم بحفظه وتداوله. وذلك بعد أن واجهت السنّة النبويّة خطر الانقراض بسبب الموقف السلبي تجاه تدوينها في صدر الاسلام من قبل الخليفة الثاني، الذي طرحت عليه الفكرة فرفضها بادّعاء أن ذلك له تأثير سلبي على حفظ القرآن، وأنه يشغل الناس عن القرآن([101]).


ولذلك نجد أصحاب الائمة قد بلغوا درجة عالية في الفقه والمعرفة، بحيث أصبحوا متميزين على الناس بسبب هذا التوجيه([102]).


وعلى هذا الاساس نجد أن أصحاب الائمة في عصر متقدم يعمدون إلى كتابة الاحاديث وتدوينها بحيث تحولت إلى الاصول الاربعمائة المعروفة. ونجد إشارات إلى ذلك من بعض أصحاب الائمة أمثال أبان بن تغلب، وعبيد الله بن علي الحلبي([103]).


ونجد ائمة أهل البيت(عليهم السلام) يمجّدون أولئك الرجال من أصحابهم الذين تحمّلوا هذه المسؤولية الكبيرة في بداية الطريق أمثال: بريد بن معاوية العجلي، وأبي بصير ليث الراوي، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن اعين([104]).


ج ـ بذل العلم والتعليم:


بذل الحديث وتعليمه، فإنه بمقدار ما يكون الحديث وكتابته مهماً، نجد التأكيد لبذل الحديث وتعليمه، بحيث يصبح موازياً في درجة الاهمية لذلك. وبهذا تمكن أهل البيت(عليهم السلام) أن يخطّوا الطريق لجعل العلم ميسّراً وسهلاً في أوساط هذه الجماعة الصالحة بالرغم من الظروف الصعبة السياسية والحيوية; حيث كان اتباعهم يواجهون عمليات المطاردة والحصار الاقتصادي والثقافي.


روى الكليني في الكافي، عن معاوية بن عمار قال: قلت لابي عبد الله(عليه السلام): رجل راوية لحديثكم يبث ذلك في الناس ويسدده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية ايهما افضل؟ قال: الراوية لحديثنا يشدّ به قلوب شيعتنا أفضل من الف عابد([105]).


وعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تذاكروا وتلاقوا وتحدَّثوا; فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف، جلاؤه الحديد([106]).


وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الاخرة نصيب، ومن اراد به خير الاخرة أعطاه الله خير الدنيا والاخرة([107]).


وعن ابي عبد الله(عليه السلام) قال: من حفظ من احاديثنا أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة عالماً فقيه([108]).


وعن محمد بن مسلم قال: قلت لابي عبد الله(عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص، قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس([109]).


وهذا المنهج هو الذي يفسّر لنا استمرار الزخم الثقافي، وبقاء مراكز العلم والثقافة، بالرغم من الظروف الصعبة التي أشرنا إليها. وكذلك مجانية التعليم في مدارس أهل البيت(عليهم السلام) العلمية، الذي يعتبر أحد المعالم والميزات الواضحة التي تتصف بها هذه المدارس، والتي تمكنت بها من الثبات أمام جميع الضغوط والمشكلات.


ففي الوقت الذي كانت الدولة تدعم بقوة وبإمكانات واسعة المدارس الرسمية للمذاهب الاسلامية الاخرى، كانت تطارد مدارس أتباع أهل البيت(عليهم السلام)فضلاً عن عدم إمدادها باي إمكانات ومساعدات. ومع ذلك استمرت مدارس أهل البيت(عليهم السلام) بوتيرة عالية، فاقت في بعض الاحيان المدارس الرسمية الاخرى التي كانت تتعرّض للانهيار والضمور عند انقطاع المساعدات عنها.


وكان أحد الاسباب المهمّة وراء ذلك هو أسلوب مجانية التعليم وبذله، واعتماد القربة إلى الله تعالى في التدريس. ولا زال ذلك هو الطابع العام لهذه المدارس، وطريقة التعامل مع عموم العمل الثقافي في هذه الاوساط سواء على مستوى التدريس أو التبليغ أو تعليم الحكم الشرعي، أو التأليف للكتب، أو غير ذلك من القضايا الثقافية.


الخط الثالث: التنوع في اساليب الثقافة


التنوّع في أساليب التثقيف والتعليم، حيث نجد مضافاً إلى أساليب الخطابة والسماع والشعر المعروفة في الصدر الاول للاسلام، ان الائمة(عليهم السلام)يهتمّون بأساليب أخرى لم تكن معروفة على مستوى التثقيف العام، بل كانت موجودة بهيئة ممارسات فردية محدودة أو سلوكية خاصة.


ومن هذه الاساليب: (الدعاء)، و (الوصيّة)، والرسائل والبيانات، مضافاً إلى أسلوب (الزيارة) و (المجالس) و (الاجتماعات) ومنها المجالس الحسينية.


الـدعاء:


وقد تحوّل الدعاء إلى مدرسة كاملة لثقافة أهل البيت(عليهم السلام) تدرس فيه العقائد والاخلاق والمفاهيم الاسلامية والاجتماعية والعلاقات الانسانية، والادب العالي، بالاضافة إلى التزكية والتربية العالية.


وقد اسس هذا الاسلوب أهل البيت(عليهم السلام) وعرّف عنه الامام علي(عليه السلام) في ادعيته ومناجاته المشهورة، ومنها دعاؤه المعروف الذي يرويه عنه كميل بن زياد النخعي.


ومن هذه الادعية المشهورة المتميزة لاهل البيت هو دعاء الامام الحسين(عليه السلام) في يوم عرفة.


وقد استفاد من هذا الاسلوب الامام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام)إلى حد بعيد، وكان نتاجه في هذا المجال واسعاً ومتميّزاً; وتأثيره ودوره في المنهج الثقافي كبيراً، وذلك بسبب أن هذا الاسلوب كان أنجح الاساليب في معالجة التدهور الثقافي والاخلاقي في المجتمع الاسلامي من ناحية، وفي التغلّب على الظروف السياسية الصعبة التي كان يواجهها بعد استشهاد أبيه الحسين(عليه السلام)والحصار الذي ضربه الامويون عليه من ناحية أخرى([110]).


الوصية:


كما أن الوصية ذات الابعاد الشاملة التي بدأها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في وصاياه السياسية الثقافية التربويّة لعلي(عليه السلام)، ثم استمر عليها الامام علي(عليه السلام)لولده الامام الحسن(عليه السلام) ولاولاده الاخرين، وأصبحت بعد ذلك منهجاً متميزاً لائمة أهل البيت(عليهم السلام)، بحيث يمكن أن نجمع كتاباً كبيراً كاملاً لوصاياهم التي تشتمل على مختلف المعالم الثقافية([111]).


الرسائل:


وهكذا يمكن أن نلاحظ الامر في الرسائل والبيانات ذات الطابع التوجيهي التعليمي التي يتضمنها نهج البلاغة للامام علي(عليه السلام)، وكذلك في الرسائل التي يبعثها الائمة كالامام الباقر والامام الصادق والامام الكاظم وغيرهم من أئمة أهل البيت(عليهم السلام) لشيعتهم واتباعهم. التي كانت تتضمن تفاصيل كثيرة ودقيقة ومتنوعة في التوجيه الثقافي([112]).


اساليب اخرى:


وسوف نتناول في بحوث آتية ـ بشيء من التفصيل ـ الحديث عن أساليب الزيارة في (الشعائر) و (المجالس الحسينية) في المؤسسات الثقافية والاجتماعات في نظام العلاقات. ونرى عندئذ العمل المتطور العظيم الذي قام به أهل البيت في مجال التنوع في أساليب الثقافة بحيث تحول بعض هذه الاساليب إلى مؤسسات عظيمة ومشاريع مهمة ومتميزة.


الخط الرابع: التنوع في الموضوعات الثقافية


الثقافة المتنوعة والتخصص العلمي، حيث اهتم أهل البيت(عليهم السلام) في مجال المناهج الثقافية والتعليمية بتنوع الثقافة والتخصص العلمي، الامر الذي لابد لاتباعهم من أن يحصلوا عليه في مختلف المجالات الانسانية والطبيعية.


ولم يكتفوا بمجرد التعددية والتنوع في المعلومات الثقافية، بل حثّوا أتباعهم على فكرة الاختصاص بحيث يتمكنون من الوصول إلى المستوى العالي في مختلف القضايا الثقافية، فإن أهل البيت كانوا قد أدركوا منذ البداية أهمية التوسع في مجالات العلوم الانسانية والطبيعية، وما سوف يشهده العالم الاسلامي من آفاق المعرفة، أو يواجهه من الصراعات الفكرية والانحرافات العقائدية، كما حصل من قبل تيارات الالحاد والزندقة والغلوّ والتعصب واتّباع الرأي والهوى والاختلاط بالحضارات اليونانية والهندية والفارسية والبيزنطية.


ولذلك نجد المختصين في هذه العلوم ليس في العصور المتأخرة من التأريخ الاسلامي فحسب حيث تشعّبت الامور الثقافية واتّسعت، بل نشاهد هذا النوع من التخصص والتفكير فيه في بداية القرن الثاني الهجري وبتوجيه خاص من الائمة(عليهم السلام) أنفسهم، حيث نشاهد مختصين بعلم الكلام مثل هشام بن الحكم، وفي الافتاء مثل زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم، وفي القرآن مثل أبان بن تغلب، وفي التأريخ مثل أبان الاحمر البجلي، وسليم بن قيس، ولوط بن يحيى، وفي العلوم الطبيعية مثل جابر بن حيّان الذي علّمه الامام جعفر الصادق(عليه السلام) علم الكيمياء، وكان واضع أسس هذا العلم، والمفضل بن عمر، وغيرهم من كبار العلماءالمختصين([113]).


إن هذه الشمولية من ناحية، والاختصاص من ناحية أخرى، كانت منهجاً في البناء الثقافي لهذه الكتلة من أجل مواجهة المتطلبات وملء الفراغات وسد الحاجات التي تحتاجها الجماعة من ناحية، وإعطاء الجماعة استقلاليتها في البناء والحركة والاعتماد على الذات من ناحية أخرى، ومن أجل أن تأخذ موقعها الطبيعي من الامة الاسلامية بوصفها جماعة رائدة تتحمل مسؤوليتها في حفظ الاسلام واعزازه والدفاع عنه من ناحية ثالثة.


ولا يعني هذا التخصص ـ بطبيعة الحال ـ الانصراف عن تعلّم بقيّة العلوم الاخرى، بل كانوا يتناولونها بالبحث والمعرفة إلى جانب الاهتمام الاكبر بأحد العلوم والموضوعات، لتصبح الحركة الثقافية ذات طبيعة شمولية تتسم بالعمق والقوة.


/ 7