بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
اتّضح ممّا ذكرنا كيف كان بدء تشريع السجود، وأنّه إنّما شرع ليكون خضوعاً لله سبحانه وتعالى وتذلّلا واستكانة لديه وتعفيراً للخدود والجباه بين يديه عزّوجلّ من أجل الابتعاد عن الكبرياء والأنانية، حتّى أنّ الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) لم يسمح لهم السجود على غير الأرض ولو في الرمضاء ولم يشكهم، حتّى رخص لهم في السجود على نباتها، الحاقاً لنباتها بها تسهيلا على العباد ورفعاً للإصر والمشقّة عنهم. هذا كلّه هو ما ساقنا إليه الدليل، وأخذت البراهين بأعناقنا إليه، وأطبقت عليه الأحاديث المتواترة المتضافرة، وجرت عليه السنّة، وعمل به الأصحاب وفقاً لما نزل به الكتاب: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) . فالقول بجواز السجود على الفرش والسجاد والالتزام بذلك وافتراش المساجد بها للسجود عليها كما تداول عند الناس بدعة محضة وأمر محدث غير مشروع يخالف سنّة الله وسنّة رسوله، ولن تجد لسنّة الله تحويلا(214). والفرقة الحقّة الإمامية لا يتديّنون ولا يقولون إلاّ بما نطق به الكتاب وجاء به من نزل عليه روح القدس، والتزم به وقرّره أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرجس وجعلهم سفينة النجاة والأئمة الهداة وعدل الكتاب وقدوة اُولي الألباب، وجعلهم أئمة يهدون بأمره إلى الحقّ المبين والصراط المستقيم. ولكن من العجب وإن عشت أراك الدهر عجباً، أنّ اتّجاه الفتاوى قد انقلب إلى الترخيص بالسجود على الحرير والصوف والقطن وكلّ شيء خطأ في الاجتهاد، ثمّ ازداد الأمر شدّة حتّى انقلب ظهراً وبطناً، فعدّت السنّة بدعة والبدعة سنة، حتّى آل الأمر إلى تكفير شيعة أهل البيت (عليهم السلام) في العمل بالسنّة الإلهية ورميهم بالزندقة والشرك (وإلى الله أشكو وهو المستعان). هذا ما نلاقيه من إخواننا في الحرمين الشريفين من الاستخفاف والإهانة بدل الاكرام والحنان. السجود على تربة الحسين (عليه السلام) : تختّص الشيعة (الإمامية) بالقول باستحباب السجود على تربة قبر الحسين (عليه السلام) تبعاً لأئمتهم، بل اتّباعاً لمنهج رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ومنهج أهل البيت هو منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) لا يخالفونه قيد شعرة أبداً) في تكريمه للحسين سيد الشهداء (عليه السلام) وتكريم تربة قبره (عليه السلام) . فاللازم علينا إذن هو الاتيان ببعض الأحاديث عن أهل البيت (عليهم السلام) أوّلا، وبيان منهج الرسول (صلى الله عليه وآله) ثانياً. فهاك نصوص كلمات أهل البيت صلوات الله عليهم: 1 ـ قال الصادق (عليه السلام) : «السجود على طين قبر الحسين (عليه السلام) ينوّر إلى الأرضين السبعة، ومن كانت معه سبحة من طين قبر الحسين (عليه السلام) كتب مسبّحاً وإنّ لم يسبّح بها»(215). 2 ـ عن أبي الحسن (عليه السلام) : «لا يستغني شيعتنا عن أربع: خمرة يصلّي عليها، وخاتم يتختّم به، وسواك يستاك به، وسبحة من طين قبر الحسين (عليه السلام) »(216). 3 ـ كان لأبي عبدالله جعفر بن محمد (عليه السلام) خريطة من ديباج صفراء فيها من تربة أبي عبدالله (عليه السلام) ، فكان إذا حضرته الصلاة صبّه على سجادته وسجد عليه قال (عليه السلام) : «إنّ السجود على تربة أبي عبدالله (عليه السلام) تخرق الحجب السبع»(217). 4 ـ كان الصادق (عليه السلام) لا يسجد إلاّ على تربة الحسين (عليه السلام) تذلّلا لله واستكانة له(218). 5 ـ سئل أبو عبدالله (عليه السلام) عن استعمال التربتين من طين قبر حمزة وقبر الحسين (عليهما السلام) والتفاضل بينهما فقال (عليه السلام) : السبحة الّتي من طين قبر الحسين (عليه السلام) تسبّح بيد الرجل من غير أن يسبّح»(219). 6 ـ قال الحميري: «كتبت إلى الفقيه أسأله هل يجوز أن يسبّح الرجل بطين القبر؟ وهل فيه من فضل؟ فأجاب وقرأت التوقيع ومنه نسخت: تسبّح به، فما في شيء من السبح أفضل منه»(220). والظاهر أنّ المراد من القبر قبر الحسين (عليه السلام) ، والألف واللام للعهد; لكون ذلك معهوداً مشهوراً عند أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم. 7 ـ محمدبنعبدالله بنجعفر الحميري عن صاحب الزمان (عليه السلام) : إنّه كتب إليه يسأله عن السجدة على لوح من طين القبر هل فيه فضل؟ فأجاب (عليه السلام) : «يجوز ذلك، وفيه الفضل»(221). ولا غرو أن يجعل الله سبحانه الفضل في السجود على تربة سيد الشهداء عليه الصلاة والسلام وهو هو سيد شباب أهل الجنة وقرّة عين الرسول (صلى الله عليه وآله) ومهجة فاطمة البتول (عليها السلام) وابن أمير المؤمنين (عليه السلام) وأحد أصحاب الكساء، وهو وأخوه المراد من الأبناء في الكتاب الكريم في قصة المباهلة، وهو شريك أبيه واُمّه في سورة هل أتى، وإحدى سفن النجاة للاُمّة، وأحد الأئمة الكرام الهداة، وأحد الخلفاء الإثني عشر، وهو مصباح الهدى وسفينة النجاة. ولا تخفى على من له أدنى حظّ من الحديث والتأريخ فضائله (عليه السلام) المأثورة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أجمع وفيه خاصّة، فأيّ مانع من تشريف الله تعالى له وتكريمه إياه بتفضيل السجود على تربته؟ قال العلاّمة كاشف الغطاء رحمة الله عليه في كتابه «الأرض والتربة الحسينية» في بيان حكمة إيجاب السجود على الأرض واستحباب السجود على التربة الشريفة: «ولعلّ السر في إلزام الشيعة الإمامية (استحباباً) بالسجود على التربة الحسينية، مضافاً إلى ما ورد في فضلها (إيعاز إلى ما مرّ من الأحاديث) ومضافاً إلى أنّها أسلم من حيث النظافة والنزاهة من السجود على سائر الأراضي وما يطرح عليها من الفرش والبواري والحصر الملوثة والمملوءة غالباً من الغبار والميكروبات الكامنة فيها، مضافاً إلى كلّ ذلك، فلعله من جهة الأغراض العالية والمقاصد السامية أن يتذكّر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة تضحية ذلك الامام بنفسه وآل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ وتحطيم الجور والفساد والظلم والاستبداد. ولمّا كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث «أقرب ما يكون العبد إلى ربّه حال سجوده» فإنّه مناسب أن يتذكّر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية أولئك الّذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحقّ وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع ويحتقر هذه الدنيا الزائفة وزخارفها الزائلة، ولعلّ هذا هو المقصود من أنّ السجود عليها يخرق الحجب السبعة كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سرّ الصعود والعروج من التراب إلى ربّ الأرباب» (انتهى كلامه طيّب الله رمسه)(222). وقال العلامة الأميني (رحمه الله) (223) ونعم ما قال (باختصار منّا): إنّ الغاية المتوخّاة للشيعة من اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً للشيعة، إنّما تستند إلى أصلين قويمين وتتوقف على أمرين قيّمين: أولهما: استحسان اتّخاذ المصلّي لنفسه تربة طاهرة طيّبة يتيقّن بطهارتها من أيّ أرض أخذت ومن أيّ صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلّها في ذلك شرع سواء لا امتياز لإحداها على الاُخرى في جواز السجود عليها، وإن هو إلاّ كرعاية المصلّي طهارة جسده وملبسه ومصلاّه، فيتّخذ المسلم لنفسه صعيداً طيباً يسجد عليه في حلّه وترحاله وفي حضره وسفره; إذ الثقة بطهارة كل أرض يحلّ بها ويتّخذها مصلّى لا تتأتّى له في كلّ موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات وباحات النزل والساحات ومحالّ المسافرين ومنازل الغرباء. فأيّ مانع من أن يحتاط المسلم في دينه ويتّخذ معه تربة طاهرة يطمئنّ بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته حذراً من السجدة على النجاسة والأوساخ التي لا يتقرّب بها إلى الله قطّ، ولا تجوّز السنّة السجود عليها بعد ذلك التأكيد التامّ البالغ على طهارة أعضاء المصلّي ولباسه، والنهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق والحمام ومعاطن الإبل، والأمر بتطهير المساجد وتطييبها، وكأنّ هذه النظرة كانت متّخذة لدى رجال الورع من فقهاء السلف، وأخذاً بهذه الحيطة كان التابعي الفقيه الكبير مسروق بن الأجدع يأخذ معه لبنة يسجد عليها كما مرّ، والذي ربّما يقال بأنّ مسروقاً من الصحابة كما في الإصابة. هذا هو الأصل الأوّل لدى الشيعة، وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأوّلين، وأمّا الأصل الثاني فإنّ قاعدة الاعتبار المطّردة تقتضي التفاضل بين الأراضي بعضها على بعض; إذ بالاضافات والنسب تصير للأراضي والأماكن والبقاع خصوصيّة ومزيّة. ألا ترى أنّ الأماكن والساحات المضافة إلى الحكومات، وبالأخص ما ينسب منها إلى البلاط الملكي، لها شأن خاص؟ فكذلك الأمر بالنسبة إلى الأراضي والأبنية والديار المنسوبة إلى الله تعالى فإنّ لها شؤوناً خاصّة وأحكاماً ولوازم وروابط لا مناص منها، ولابدّ لمن أسلم وجهه لله من أن يراعيها ويراقبها، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها. فبهذا الاعتبار المتسالم عليه اعتبر للكعبة حكمها، وللحرم حكمه، وللمسجدين الشريفين جامع مكة والمدينة حكمهما، وللمساجد العامّة والمعابد في الحرمة والكرامة والتطهير والتنجيس ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء إليها والنهي عن بيعها. فاتخاذ مكّة المكرمة حرماً آمناً وتوجيه الخلق إليها وحجّهم إيّاها من كلّ فجّ عميق وإيجاب كلّ تلكم النسك فيها، وكذلك عدّ المدينة المنورة حرماً إلهياً محترماً. الحسين السبط ويقيم كل تلكم المآتم ويأخذ تربة كربلاء ويشمّها ويقبّلها(225)، وهي التي جعلت السيّدة اُمّ المؤمنين تصرّ تربة كربلاء في ثيابها، وهي الّتي سوّغت للصدّيقة فاطمة أن تأخذ تربة قبر أبيها الطاهرة وتشمّها، وهي الّتي حكمت على بني ضبّة يوم الجمل أن يجمعوا بعر جمل عائشة اُم المؤمنين ويفتّونه ويشمّونه (ذكره الطبري). وهي الّتي جعلت عليّاً أمير المؤمنين (عليه السلام) يأخذ قبضة من تربة كربلاء لمّا حلّ بها فشمّها وبكى حتّى بلّ الأرض بدموعه(226)، وهي الّتي جعلت رجل بني أسد يشمّ تربة الحسين ويبكي(227). ... فبعد هذا البيان الصافي، يتّضح لدى الباحث النابه الحرّ سرّ فضيلة كربلاء المقدّسة ومبلغ انتسابها إلى الله سبحانه وتعالى ومدى حرمتها وحرمة صاحبها دنوّاً واقتراباً من العليّ الأعلى، فما ظنّك بحرمة تربة هي مثوى قتيل الله وقائد جنده الأكبر المتفاني دونه، هي مثوى حبيبه وابن حبيبه والداعي إليه والدالّ عليه والناهض له والباذل دون سبيله أهله ونفسه ونفيسه، والواضع دم مهجته في كفّه تجاه إعلاء كلمته ونشر توحيده وتحكيم معالمه وتوطيد طريقه وسبيله. لماذا لا يباهي به الله وكيف لا يتحفّظ على دمه لديه، ولا يدع قطرة منه أن تنزل إلى الأرض لمّا رفعه الحسين بيديه إلى السماء؟ (راجع تأريخ ابن عساكر 4 : 338، والحافظ الكنجي في الكفاية : 284). ولماذا لا يبعث الله رسله من الملائكة المقرّبين إلى نبيّه (صلى الله عليه وآله) بتربة كربلاء؟ ولماذا لا يشمّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقبّلها؟ ولماذا لا يذكرها طيلة حياته؟ ولماذا لا يتّخذها بلسماً في بيته؟ فهلمّ معي أيها المسلم الصحيح أفليست السجدة على تربة هذا شأنها لدى التقرّب إلى الله في أوقات الصلاة أولى وأحرى من غيرها ...؟ أليس أجدر بالتقرب إلى الله وأقرب بالزلفى لديه وأنسب بالخضوع والخشوع والعبودية له تعالى أمام حضرته وضع صفحة الوجه والجباه على تربة في طيّها دروس الدفاع عن الله ومظاهر قدسه ومجلى المحاماة عن ناموسه ناموس الإسلام المقدّس؟ أليس أليق بأسرار السجود على الأرض السجود على تربة فيها سرّ المنعة والعظمة والكبرياء لله جلّ جلاله ورموز العبودية والتصاغر بأجلى مظاهرها وسماتها؟ أليس أحقّ بالسجود تربة فيها بينات التوحيد والتفاني دونه؟ أليس الأمثل اتّخاذ المسجد من تربة تفجّرت عليها عيون دماء اصطبغت بصبغة حب الله، وصيغت على سنّة الله وولائه المحض الخالص؟ منتربةعجنتبدممنطهّرهالجليلوجعلحبّهأجرالرسالة ...؟ فعلى هذين الأصلين نتّخذ نحن من تربة كربلاء قِطَعاً وأقراصاً نسجد عليها. ... وليس اتّخاذ تربة كربلاء مسجداً لدى الشيعة من الفرض المحتّم ولا من واجب الشرع والدين ... خلاف ما يذهب الجهّال بآرائهم وبهم ... (انتهى كلامه ملخصاً طيّب الله رمسه)(228). وبعد ... فلقد اتّضح بما ذكرنا من الأحاديث كون السجود على التربة الزكيّة مندوباً إليه في سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما تقدّم من أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كلّ ما يفتون ويحكمون به، فإنّما هو رواية عن آبائهم (عليهم السلام) عن الرسول (صلى الله عليه وآله) ، فكلّ ما أفتى به جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) مثلا، فهو يرويه عن أبيه أبي جعفر محمّد بن عليّ، وهو عن أبيه عليّ بن الحسين وهو عن أبيه الحسين بن علي، وهو عن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) ، وقد صرّحوا بذلك بل قالوا: إنّا لا نقول شيئاً برأينا من عند أنفسنا، وكلّ ما نقول مكتوب عندنا بخطّ عليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) . أضف إلى ذلك أنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم المرجع الوحيد العلمي للاُمّة الإسلامية، وإذا أردت الوقوف على ذلك فعليك بكتاب المراجعات للسيد شرف الدين رضوان الله عليه، وكتب الفضائل ككتاب ينابيع المودّة والفصول المهمة وكفاية الطالب ونور الأبصار وغيرها(229). سنّة الله تعالى وسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التربة الشريفة: حينما صدرت هذه الأحاديث الشريفة عن أهل البيت (عليهم السلام) ، لم يكن السجود على الخمرة أو على التربة الزاكية الحسينية يعدّ شركاً وكفراً وبدعة عند المسلمين; إذ كان قد استمر العمل في عصر الرسول (صلى الله عليه وآله) والصحابة الكرام رضي الله عنهم في السجود على الخمرة، ولمّا كان معروفاً عندهم التبرّك برسول الله (صلى الله عليه وآله) وآثاره وآله وذويه (وقد أفردنا ذلك برسالة تنشرها مجلة الهادي) بحيث لا ريب في ذلك عند أيّ من الصحابة والتابعين وقتئذ، والحسين من آله وذويه، بل هو روحه ونفسه وبضعة منه، ولحمه لحمه، ودمه دمه، فكيف يشكّ صحابي أو تابعي في فضل الحسين الشهيد (عليه السلام) وفي التبرّك به وبتربته؟ بل اتّضح من أدلّة تبرّك الصحابة برسول الله وآثاره وآله وأقربائه، أنّ التبرّك بتربته (عليه السلام) لم يكن مورد شكّ وريب، كيف وقد قال السمهودي في كتابه وفاء الوفا 2 : 544: «كانوا (يعني الصحابة وغيرهم) يأخذون من تراب القبر ـ يعني قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ فأمرت عائشة فضرب عليهم، وكانت في الجدار كوة، فكانوا يأخذون منها، فأمرت بالكوة فسدّت» ومعلوم أنّ منعها لهم لم يكن إلاّ لأنّ أخذ التراب دائماً يوجب خراب البقعة المباركة، لا لأنّه شرك، لأنّه لو كان لذلك لصرّحت به ولأنكره الصحابة، كيف والآخذ هم فيهم الصحابي وغيره، وطبعاً بمرأى منهم وبمسمع وفي وفاء الوفا أيضاً 1 : 69 عن نزهة الناظرين للبرزنجي : 116 ط مصر في البحث عن حرمة المدينة وحكم إخراج ترابها قال: ويجب على من أخرج شيئاً من ذلك (يعني تراب المدينة) ردّه إلى محلّه، ولا يزول عصيانه إلاّ بذلك ما دام قادراً عليه. نعم، استثنوا من ذلك ما دعت الحاجة إليه للسفر كآنية من تراب الحرم وما يتداوى به منه، كتراب مصرع حمزة (رضي الله عنه) للصداع، وتربة صهيب (رضي الله عنه) لإطباق السلف والخلف على نقل ذلك. وقد روي أنّ عمر بن الخطاب تبرّك وتوسّل بالعبّاس عمّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) في الاستسقاء، وتوسّل عبّاس رحمه الله تعالى بعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام) (230)، وتبرك مصعب بن الزبير بالحسين (عليه السلام) ، فإذا كانوا يتبرّكون بآثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأقربائه، فيكون التبرّك في السجود وغيره بتربة قبر الحسين (عليه السلام) من أوضح الواضحات عندهم. وقد روي أنّه قد دفن حمزة في أحد وكان يسمّى سيّد الشهداء، وصاروا يسجدون على تربته(231). وروي أيضاً(232) «أنّ فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت مسبحتها من خيوط صوف مفتل معقود عليه عدد التّكبيرات، وكانت تديرها بيدها تكبّر وتسبح حتّى قتل حمزة بن عبدالمطلب فاستعملت تربته واستعملت التسابيح فاستعملها الناس، فلمّا قتل الحسين (عليه السلام) عدل بالأمر إليه فاستعملوا تربته لما فيها من الفضل والمزية». فهل يظنّ بمسلم يتبرّك بشعر الرسول (صلى الله عليه وآله) وظفره وسؤره وفضل وضوئه وسريره وكأسه ونعله ومسّه ومسحه وأصحابه الذين بايعوه وأقربائه ـ هل يظنّ به ـ أن لا يتبرّك بالحسين (عليه السلام) ودمه وتربته الطاهرة؟؟ حاشا ثمّ حاشا!!! فثبت ممّا ذكرنا فضل السجود على تربة قبر الحسين (عليه السلام) لأحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) واردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) ، ولما سنّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرّره، ولما اتّضح من التبرّك برسول الله (صلى الله عليه وآله) وآثاره من تراب قبره ولباسه وكلّ شيء ينتمي إليه وذويه. هنا أيضاً مصادر جمّة تدلّ على سنّة الله ورسوله في تربة الحسين (عليه السلام) خصوصاً ... هذا ... وإنّ من منن الله تعالى على شيعة أهل البيت (عليهم السلام) (أعني الامامية) أنّهم يتبعون في أقوالهم وأعمالهم سنّة نبيّهم وسيرة أئمتهم (عليهم السلام) علماً منهم بأنّهم (عليهم السلام) أحد الثقلين الّذين تركهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يفترقان أبداً حتّى يردا الحوض، لا يتعدّون ذلك ولا يتخلّفون أبداً، فيحترمون ما يحترمه النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعترته ويلتزمون ما التزمه هو وأهله، ويسلكون سبيله القويم وينهجون نهجه المستقيم. فالشيعي الإمامي يرى أنّ الله تعالى اهتمّ بهذه التربة الشريفة أشدّ اهتمام، واحترمها أجلّ احترام، حيث أرسل رسلا من الملائكة فجاءوا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله) بقبضة منها، فمن أجل ذلك يحترمها ويأخذها وإن شئت الوقوف على هذه المكرمة فعليك بمراجعة المصادر الآتية وغيرها; إذ قد استفاض فيها أنّ جبرئيل (عليه السلام) لمّا نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بخبر قتل الحسين (عليه السلام) أتى بقبضة من تربة مصرعه صلوات الله عليه، وكذا غير جبرائيل (عليه السلام) من الملائكة أيضاً لمّا جاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) بهذا الخبر المؤلم أتى إليه بقبضة من تربة كربلاء. فعليك إذاً بمراجعة البحار 44 : 229، عن أمالي الشيخ الطوسي (رحمه الله) ، وكامل الزيارة لابن قولويه و101 : 118 و127 و135، عن الأمالي والكامل والمصباح والمعجم الكبير للطبراني: 144 و145، وذخائر العقبى : 174، وسير أعلام النبلاء 3 : 194 و195، وكنز العمال 13 : 108 و111 و112، وتلخيص المستدرك للذهبي 4 : 176 و398، والخصائص للسيوطي 2 : 125، والمناقب للمغازلي : 314، ومنتخب العمال 5 : 110 و111، ومفتاح النجاة : 134 و135، ووسيلة المآل : 182، والعقد الفريد 2 : 219، وميزان الاعتدال 1 : 8، وتأريخ الرقة : 75، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ : 154، ونور الأبصار : 116، ومجمع الزوائد للهيثمي 9 : 188 و189 و191، والغنية لطالبي طريق الحق 2 : 56، ومقتل الحسين للخوارزمي 1 : 158 و159، والنهاية لابن الأثير 6 : 230، والصواعق المحرقة : 190 و191، والينابيع : 318 و319، ومسند أحمد 6 : 294، وتأريخ الإسلام للذهبي 3 : 10، وطرح التثريب 1 : 41، وأخبار الحبائك للسيوطي : 44، والمطالب العالية والمستدرك للحاكم 3 : 176، والبداية والنهاية 6: 230، وأخبار الدول : 107، والفتح الكبير للنبهاني 1 : 22، وتأريخ الإسلام للدمشقي 3 : 11. وهذه المصادر أخذناها عن هامش إحقاق الحق 11 : 339 و416 و8 : 142-151، والبيان للعلاّمة الخوئي : 561 عن أبي يعلى في مسنده، وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه عن مسند علي، والطبراني في الكبير عن اُمّ سلمة، ولم نأت بألفاظها لطولها وخروجها عن شرط الرسالة، فمن أراد فليراجع المصادر المذكورة أو هامش الإحقاق. فيرى الشيعي الإمامي أنّ تربة أهداها الجليل إلى رسوله الأقدس (صلى الله عليه وآله) هديّة غالية عالية ثمينة لجديرة بأن يحترمها ويكرمها اتّباعاً لسنّة الله تعالى. ويرى الشيعي أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله) لمّا تسلمها من جبرائيل (عليه السلام) قبّلها فيقبّلها. قالت اُمّ سلمة اُمّ المؤمنين رضي الله عنها: «ثمّ اضطجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ فاستيقظ وفي يده تربة حمراء يقبّلها، فقلت: ما هذه التربة يارسول الله؟ قال: أخبرني جبرائيل أنّ إبني هذا يقتل بأرض العراق يعني الحسين (عليه السلام) ـ فقلت لجبرائيل: أرني تربة الأرض الّتي يقتل بها فهذه تربتها»(233). فالشيعة يقبّلونها عملا بسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التربة الشريفة في تقبيلها وتكريمها كما أنّهم يدّخرونها ويحتفظون بها تأسّياً برسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يرون أنّه (صلى الله عليه وآله) يجعلها في قارورة ويعطيها اُمّ سلمة ويأمرها بحفظها قائلا: «هذه التربة التي يقتل عليها ـ يعني الحسين (عليه السلام) ـ ضعيها عندك، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي ـ الحسين (عليه السلام) »(234). ويرى الشيعة أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) يشمّ التربة كما يشمّ الرياحين العطرة والمسك الطيب(235)، فيعتقد أنّ شمها قبل أن يهراق فيها دم الحبيب ابن الحبيب إنّما هو لعطور معنوية وعلاقات ربّانية وعناية إلهية بالنسبة إليها إمّا في نفسها، أو لما مضى عليها، أو لما يأتي في مستقبلها، فعمل الرسول (صلى الله عليه وآله) يوجد لكلّ مسلم حالة خاصة بالنسبة إليها، فلتسمّها أنت بما شئت من العناوين، ولعلّه (صلى الله عليه وآله) يشمّ منها ما يأتي عليها من الحوادث المؤلمة على أهل البيت (عليهم السلام) من إهراق دمائهم وسلب أموالهم وضرب متونهم وأسرهم، ولعلّه يشمّ منها ما يأتي عليها من اختلاف أولياء الله إليها وسكونهم وعبادتهم ومناجاتهم وبكائهم فيها، ولعلّ ولعلّ ... ولمّا شمّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يملك عينيه أن فاضتا. قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : «دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يانبيّ الله أغضبك أحد ما شأن عينيك تفيضان؟! قال: بل قام عندي جبرائيل قبل فحدّثني أنّ الحسين يقتل بشطّ الفرات قال: فقال: هل أشمّك من تربته؟ قال: قلت: نعم، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها، فلم أملك عيني أن فاضتا»(236). فالشيعة يقبّلونها كما قبّلها النبي الكريم (صلى الله عليه وآله) ، ويشمّونها كما شمّها كأغلى العطور وأثمنها، ويدّخرونها كما ادّخرها، ويسكبون عليها الدموع كما سكب عليها دمعه اقتفاءً لأثره (صلى الله عليه وآله) واتّباعاً لسنّة الله وسنّة رسوله، ولكلّ مسلم في رسول الله (صلى الله عليه وآله) اُسوة حسنة، واهاً لها من تربة سكب عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله) دمعه قبل أن يهراق فيها دم مهجته وحبيبه. بل نقل أنّ علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا نزل كربلاء في مسيره إلى صفّين، وقف هناك ونظر إلى مصارع أهله وذريّته وشيعته ومسفك دماء مهجته وثمرة قلبه، وأخذ من تربتها وشمّها قائلا: «واهاً لك أيّتها التربة، ليحشرنّ منك أقوام يدخلون الجنّة بغير حساب وقال: طوبى لك من تربة عليك تهراق دماء الأحبّة»(237). وفي بعض تلكم الأحاديث أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) لمّا شمّها وأهرق عليها دمعه الساكب قال: «طوبى لك من تربة»، وفي بعضها: «وهو يفوح كالمسك» و «كانت تربة حمراء طيّبة الريح»(238).