ولاتغتّر بخلاف من أنكر الزيارة خشية الإختلاط، فانّه يتعين حمل كلامه على مافصلناه وقررناه، و إلاّ لم يكن له وجه، وزعم إنَّزيارة الأولياء بدعة لم تكن فيزمن السلف ممنوع، وبتقدير تسليمه فليس كلّ بدعة يُنهى عنها، بل قد تكون البدعة واجبة فضلاً عن كونها مندوبة، كما صرحوا به.
5 ـ قال الشيخ محمد الخطيب الشربيني المتوفّى 977هـ في «المغني 1: 357»: يسّن الوضوء لزيارة القبور كما قاله القاضي حسين في شرح الفروع، ويسلّم الزائر للقبور من المسلمين مستقبلاً وجهه، ويقرأ عنده من القرآن ما تيسر، ويدعو له عقب القراءة رجاء الإجابة لأنّ الدّعاء ينفع الميت وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة، وعند الدّعاء يستقبل القبلة، وإنْ قال الخراسانيون باستحباب استقبال وجه الميت.
قال المصنّف: ويستحب الإكثار من الزيارة، وأنْ يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل، انتهى ملخّصاً.
6 ـ قال الملا علي الهروي القاري الحنفي المتوفّى 1014هـ في «المرقاة شرح المشكاة 2: 404»، في زيارة القبور: الأمر فيها للرخصة أو الاستحباب، وعليه الجمهور، بل ادّعى بعضهم الإجماع، بل حكى ابن عبد البّر عن بعضهم وجوبها.
7 ـ قال الشيخ أبو البركات حسن بن عمار بن علي، المكنّى بابن الإخلاص الوفائي الشرنبلالي الحنفي المتوفّى 1069هـ في حاشية(186) غرر الأحكام المطبوعة بهامش درر الأحكام 1: 168 : زيارة القبور مندوبة للرجال، وقيل: تحرم على النساء، والأصحّ أنّ الرخصة ثابتة لهما، ويستحب قراءة يس، لما ورد: «من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفّف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد مافيها حسنات»(187).
وقال في «مراقي الفلاح»: فصل في زيارة القبور: ندب زيارتها من غير أنْ يطأ القبور للرجال والنساء فتندب لهن أيضاً على الأصحّ، والسنّة زيارتها قائماً والدعاء عندها قائماً، كما كان يفعل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في الخروج إلى البقيع ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله لي ولكم العافية.
ويستحب للزائر قراءة سورة يس، لما ورد عن أنس(رضي الله عنه)أنّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «من دخل المقابر فقرأ سوة يس (يعني وأهدى ثوابها للأموات) خفّف الله عنهم يومئذ العذاب، ورفعه»(188). وكذا يوم الجمعة يرفع فيه العذاب عن أهل البرزخ، ثمَّ لا يعود على المسلمين وكان له (أي للقارئ) بعدد مافيها (رواية الزيلعي: من فيها من الأموات) حسنات.
وعن أنس أنّه سأل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول الله إنّا نتصدق عن موتانا ونحجّ عنهم وندعوا لهم، فهل يصل ذلك اليهم؟ فقال: «نعم ليصل ذلك اليهم ويفرحون به كما يفرح أحدكم بالطبق إذا أُهدي إليه»، رواه أبو حفص السكيري.
إلى أنْ قال: وعن علي(رضي الله عنه): «أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من مرّ على المقابر فقرأ قل هو الله أحد احدى عشر مرة، ثمَّ وهب أجرها للأموات، أُعطي من الأجر بعدد الأموات»(189). رواه الدارقطني.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنّه قال: «من دخل المقابر فقال: اللّهمَّ رب هذه الأجساد البالية والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة ادخل بها روحاً من عندك وسلاماً مني. استغفر له كلّ مؤمن مات منذ خلق الله آدم».
وأخرج ابن أبي الدنيا بلفظ: «كتب له بعدد من مات من ولد آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات».
8 ـ قال الشيخ محمد أمين الشهير بابن عابدين المتوفّى 1253هـ في «ردّ المحتار على الدر المختار» في الفقه الحنفي 1: 630 بعد بيان استحباب زيارة القبور: وتُزار في كل اسبوع كما في «مختارات النوازل»، فقد قال محمد بن واسع: الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة يوماً قبله ويوماً بعده، فتحصّل أنّ يوم الجمعة أفضل.انتهى.
وفيه: يستحب أنْ يزور شهداء جبل أحد، لما روي ابن أبي شيبة: أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأتي قبور الشهداء بأحد على رأس كلّ حول، فيقول: السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار»، والأفضل أنْ يكون ذلك يوم الخميس متطهراً مبكراً، لئلا تفوته الظهر بالمسجد النبوي.انتهى.
قلت: استفيد منه ندب الزيارة وإنْ بعد محلها، وهل تندب الرحلة لهاكما أعتيد من الرحلة إلى زيارة خليل الرحمن وأهله وأولاده وزيارة السيد البدوي وغيره من الأكابر الكرام؟! لم أَرَ من صرّح به من أئمتنا، ومنع منه بعض الشافعية إلاّ لزيارته(صلى الله عليه وآله وسلم)قياساً على منع الرحلة لغير المساجد الثلاثة، وردّه الغزالي بوضوح الفرق.
ثمّ ذكر محصّل قول الغزالي فقال: قال ابن حجر في فتاواه: ولا تُترك لما يحصل عندها من منكرات ومفاسد، كاختلاط الرجال بالنساء وغير ذلك; لأنّ القربات لاتُترك لمثل ذلك، بل على الانسان فعلها وانكار البدع، بل وازالتها إنْ أمكن. انتهى.
قلت: ويؤيده ما مرّ من عدم ترك اتباع الجنازة وإن كان معها نساء ونائحات، إلى أنْ قال:
قال في الفتح: والسنّة زيارتها قائماً، والدعاء عندها قائماً، كما كان يفعله(صلى الله عليه وآله وسلم)في الخروج إلى البقيع، ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.
وفي شرح «اللباب» للملا علي القاري: ثمَّ من آداب الزيارة ماقالوا من أنّه يأتي الزائر من قبل رجلي المتوفّى لا من قبل رأسه; لأنّه أتعب لبصر الميت، بخلاف الأوّل; لأنّه يكون مقابل بصره. لكن هذا إذا أمكنه، وإلاّ فقد ثبت أنّه عليه السلام قرأ أول سورة البقرة عند رأس ميت وآخرها عند رجليه.
9 ـ قال الشيخ ابراهيم الباجوري المتوفّى 1277هـ في حاشيته على شرح ابن الغزّي 1: 277: تندب زيارة القبور للرجال لتذكّر الآخرة، وتكره من النساء لجزعهنّ وقلة صبرهنّ، ومحل الكراهة فقط إنْ لم يشتمل اجتماعهنّ على محرم و إلاّ حرم، ويُستثنى من ذلك قبر نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) فتندب لهنّ زيارته وينبغي كما قال ابن الرفعة: إنَّقبور الأنبياء والأولياء كذلك.
ويندب أنْ يقول الزائر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، ونسأل الله لنا ولكم العافية، اللّهمَّ لاتحرمنا أجرهم، ولاتفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم. وأن يقرأ ما تيسر من القرآن كسورة يس، ويدعو لهم ويهدي ثواب ذلك لهم، وأن يتصدق عليهم، وينفعهم ذلك فيصل ثوابه لهم، ويسّن أنْ يقرب من المزور كقربه منه حياً. وأن يسلّم عليه من قبل رأسه، ويكره تقبيل القبر، إلى آخر مامرّ ص154.
10 ـ قال الشيخ عبد الباسط ابن الشيخ علي الفاخوري المفتي ببيروت في كتابه (الكفاية لذوي العناية) 80: يسّن زيارة القبور للرجال، وتكره للنساء إلاّ القبر الشريف، وكذا قبور بقية الأنبياء والصالحين. و يُسنّ أنْ يقول الزائر: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون، وأن يقرأ ماتيسر من القرآن كسورة يس، وأن يدعو للميت بعد القراءة. وأن يقول: اللّهمَّ أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، وأن يقرب من القبر كقربه منه لو كان حياً.
11 ـ قال الشيخ عبد المعطي السقا في «الإرشادات السنية:111»: زيارة قبور المسلمين مندوبة للرجال لخبر مسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فإنّها تذكّركم الآخرة»(190)، أمّا زيارة النساء فمكروهة إنْ كانت لقبر غير نبيّ وعالم وصالح وقريب، أمّا زيارة قبر النبيّ ومن ذكر معه فمندوبة لهنّ بدون محرم إنْ كانت القبور داخل البلد، ومع محرم إنْ كانت خارجه، ومحل ندب زيارتهنّ أو كراهتها إذا أذن لهنّ الحليل أو الولي وأمنت الفتنة ولم يترتب على اجتماعهنّ مفسدة كما هو الغالب، بل المتحقق في هذا الزمان، و إلاّ فلا ريبة في تحريمها.
ويستحب الإكثار من الزيارة، لتحصيل الاعتبار والعظة وتذكر الآخرة، وتتأكّد الزيارة عشّية يوم الخميس ويوم الجمعة بتمامه، ويكره يوم السبت.
وينبغي للزائر أنْ يقصد بزيارته وجه الله واصلاح فساد قلبه، وأن يكون على طهارة، رجاء قبول دعائه لنفسه وللميت، وأن يسلّم على من بالمقبرة بقوله: السلام عليكم دار قوم مؤمنين «وذكره إلى آخره» ثمَّ إذا وصل إلى قبر ميّته قرب منه ووقف مستقبلاً وجهه خاشعاً قائلاً: السلام عليك. ثمَّ يقرأ عنده ماتيسر من القرآن كسورة الفاتحة وسورة يس وسورة تبارك وسورة الإخلاص والمعوذتين.
والأفضل أنْ يكون وقت القراءة جالساً مستقبل القبلة، قاصداً نفع الميت بمايتلوه، وأن يكثر من التصدق، وأن يرّش القبر بالماء الطاهر، وأن يضع عليه جريداً أخضر ونحوه كالريحان والبريسم، وتتأكّد زيارة الأقارب والدعاء لهم سيّما الوالدين، فقد ورد في الحث على زيارتهما والدعاء لهما أخبار كثيرة صحيحة.
12 ـ قال منصور علي ناصف في «التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول 1: 418»: الأمر«في زيارة القبور» للندب عند الجمهور، وللوجوب عند ابن حزم ولو مرّة واحدة في العمر.
وقال في 419: زيارة النساء للقبور جائزة بشرط الصبر وعدم الجزع وعدم التبرّج، وأن يكون معها زوج أو محرم، منعاً للفتنة، لعموم الحديث (الأول)، ولقول عائشة: كيف أقول لهم يارسول الله؟...الخ. ولزيارة عائشة لقبر أخيها عبد الرحمن، فلما اعترضها عبد الله قالت: نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عن زيارة القبور ثمَّ أمر بزيارتها، رواه أحمد(191) وابن ماجة(192).
13 ـ قال فقهاء المذاهب الأربعة مؤلفوا كتاب الفقه على المذاهب الأربعة 1: 424: زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكّر الآخرة، وتتأكد يوم الجمعة ويوماً قبلها ويوماً بعدها(193). وينبغي للزائر الإشتغال بالدعاء والتضرع، والإعتبار بالموتى، وقراءة القرآن للميت، فإنّ ذلك ينفع الميت على الأصحّ، وممّا ورد أنْ يقول الزائر عند رؤية القبور:
اللّهمَّ ربّ الأرواح الباقية، والأجسام البالية، والشعور الممزقة، والجلود المنقطعة، والعظام النخرة التي خرجت من الدنيا وهي بك مؤمنة، أنزل عليها روحاً منك وسلاماً مني.
وممّا ورد أيضاً أنْ يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إنْ شاء الله بكم لاحقون.
ولافرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة، بل يندب السفر لزيارة الموتى، خصوصاً مقابر الصالحين، أمّا زيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)فهي من أعظم القرب. وكما تندب زيارة القبور للرجال تندب أيضاً للنساء العجائز اللاتي لايُخشى منهنّ الفتنة إنْ لم تؤد زيارتهنّ إلى الندب أو النياحة، وإلاّ كانت محرمة.
النذور لأهل القبور
إنّ لابن تيميّة ومن لفّ لفّه في المسألة هثهثة، أتوا فيها بالمهاجر، ورموا مخالفيهم من فرق المسلمين بمهجرات، وقد مرّ عن القصيمي ص90 أنّها من شعائر الشيعة الناشئة عن غلوهم في أئمتهم وتأليههم لعلي وولده.
إنّ هذا إلاّ اختلاق وليس إلاّ الهث والهتر، وماشذّت الشيعة في المسألة عمّا أصفقت عليه الأمة الإسلامية سلفاً وخلفاً، فقد بسط الخالدي فيها القول في كتابه «صلح الإخوان: 102 ـ 109»، ومجمل ذلك التفصيل: إنَّ المسألة تدور مدار نيات الناذرين، وانّما الأعمال بالنّيات، فإن كان قصد الناذر الميت نفسه والتقرب إليه بذلك، لم يجز قولاً واحداً. وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء بوجه من الوجوه وثوابه لذلك المنذور له الميت، سواء عيّن وجها من وجوه الإنتفاع أو أطلق القول فيه، ويكون هناك ما يطرد الصرف فيه في عرف الناس من مصالح القبر أو أهل بلده أو مجاوريه أو الفقراء عامّة أو أقرباء الميت أو نحو ذلك، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور.
وحكى القول بذلك عن الأذرعي، والزركشي، وابن حجر الهيثمي المكي، والرملي الشافعي، والقباني البصري، والرافعي، والنووي، وعلاء الدين الحنفي، وخير الدين الرملي الحنفي، والشيخ محمد الغزّي، والشيخ قاسم الحنفي.
وذكر الرافعي نقلاً عن صاحب «التهذيب» وغيره: أنه لو نذر أنْ يتصدق بكذا على أهل بلد عينه، يجب أنْ يتصدّق به عليهم.
قال: ومن هذا القبيل ما ينذر بعثه إلى القبر المعروف بجرجان، فإنّ ما يجتمع منه على مايحكى يقسّم على جماعة معلومين، وهذا محمول على أنّ العرف اقتضى ذلك، فنزل النذر عليه. ولاشك أنّه إذا كان عرف حمل عليه، وإن لم يكن عرف فيظهر أنْ يجري فيه خلاف وجهين:
أحدهما: لايصح النذر، لأنّه لم يشهد له الشرع، بخلاف الكعبة والحجرة الشريفة.
والثاني: يصحّ إذا كان مشهوراً بالخير، وعلى هذا ينبغي أنْ يصرف في مصالحه الخاصة به ولا يتعدّاها، واستقرب السبكي بطلان النذر في صورة عدم العرف هناك للصرف.
راجع فتاوى السبكي 1: 294.
وقال العزامي في «فرقان القرآن: 133»: وقال (يعني ابن تيمّية): من نذر شيئاً للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)أو غيره من النبيين والأولياء من أهل القبور، أو ذبح له ذبيحة، كان للمشركين الذين يذبحون لأوثانهم وينذرون لها، فهو عابد لغير الله، فيكون بذلك كافراً. ويطيل في ذلك الكلام، واغترّ بكلامه بعض من تأخّر عنه من العلماء ممّن ابتلى بصحبته أو صحبة تلاميذه.
وهو منه تلبيس في الدين، وصرف إلى معنى لا يريده مسلم من المسلمين، ومن خبر حال من فعل ذلك من المسلمين وجدهم لايقصدون بذبائحهم ونذورهم للميتين من الأنبياء والأولياء إلاّ الصدقة عنهم، وجعل ثوابها اليهم، وقد علموا أن اجماع أهل السنة منعقد على أنّ صدقة الأحياء نافعة للأموات واصلة بهم، والأحاديث في ذلك صحيحة مشهورة:
فمنها ماصحّ عن سعد أنه سأل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يانبيّ الله إنَّ أمي قد أفتلتت، وأعلم أنّها لو عاشت لتصدّقت، أفإن تصدّقت عنها أينفعها ذلك؟ قال: «نعم»، فسأل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أيّ الصدقة أنفع يارسول الله؟ قال: «الماء»، فحفر بئراً وقال: هذه لأم سعد(194).
فهذه اللام هي الداخلة على الجهة التي وجهت اليها الصدقة، لاعلى المعبود المتقرب إليه، وهي كذلك في كلام المسلمين، فهم سعديون لاوثنيون، وهي كاللام في قوله: }انما الصدقات للفقراء}(195)، لا كاللام التي في قول القائل: صلّيت لله ونذرت لله، فاذا ذبح للنبيّ أو نذر الشيء له فهو لا يقصد إلاّ أنْ يتصدق بذلك عنه ويجعل ثوابه إليه، فيكون من هدايا الأحياء للأموات المشروعة المثاب على اهدائها، والمسألة مبسوطة في كتب الفقه وفي كتب الردّ على هذا الرجل ومن شايعه. انتهى.
فالنذر بالذبح وغيره للأنبياء والأولياء أمر مشروع سائغ من سيرة المسلمين عامة، من دون أي اختصاص بفرقة دون أخرى، وانما يثاب به الناذر إنْ كان لله وذبح المنذور بالذبح باسم الله.
قال الخالدي: بمعنى إنَّالثواب لهم والمذبوح منذور لوجه الله، كقول الناس: ذبحت لميتي، بمعنى تصدّقت عنه، وكقول القائل: ذبحتُ للضيف، بمعنى أنه كان السبب في حصول الذبح. انتهى.
وليس أيّ وازع من جواز نذر الذبح ولزوم الوفاء به إنْ كان على الوجه المذكور، ولا يتصور من مسلم وغيره.
وربما يستدل في المقام بما أخرجه أبو داود السجستاني في سننه2: 80 باسناده عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ ينحر أبلاً ببوانة(196)، فأتى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فأخبره فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «هل كان فيها وثن يعبد من أوثان الجاهلية؟» قالوا: لا قال: «فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟» قالوا: لا، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «أوف بنذرك، فإنّه لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى ولا فيه ما لا يملك ابن آدم».
وبما أخرجه أبو داود في السنن 2: 81 عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت: يارسول الله إنّي نذرت أنْ أضرب على رأسك الدف. قال: «أوفي نذرك»، قالت: إنّي نذرت أنْ أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: «لصنم؟» قالت: لا، قال: «لوثن؟»، قالت: لا، قال: «أوفي بنذرك»(197).
وفي «معجم البلدان 2: 300»: وفي حديث ميمونة بنت كردم: أنّ أباها قال للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّي نذرت أنْ أذبح خمسين شاة على بوانة. فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «هناك شيء من هذه النصب؟» فقال: لا، قال: «فأوف بنذرك» فذبح تسعاً وأربعين، وبقيت واحدة فجعل يعدو خلفها ويقول: اللّهمَّ أوف بنذري حتّى أمسكها، فذبحها «وهذا معنى الحديث لالفظه».
قال الخالدي في «صلح الأخوان: 109»، بعد ذكر حديثي أبي داود: وأمّا استدلال الخوارج بهذا الحديث على عدم جواز النذر في أماكن الأنبياء والصالحين، زاعمين أنّ الأنبياء والصالحين أوثان والعياذ بالله وأعياد من أعياد الجاهلية، فهو من ضلالهم وخرافاتهم وتجاسرهم على أنبياء الله وأوليائه حتّى سموهم أوثاناً، وهذا غاية التحقير لهم، خصوصاً الأنبياء، فإنّ من انتقصهم ولو بالكناية يكفّر ولا تقبل توبته في بعض الأقوال، وهؤلاء المخذولون بجهلهم يسمون التوسّل بهم عبادة، ويسمونهم أوثاناً، فلاعبرة بجهالة هؤلاء وضلالاتهم، والله أعلم. انتهى.
كما لا عبرة بجهالة ابن تيمية، ومن لفّ لفّه وضلالاتهم.
{أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم}(198).
القبور المقصودة بالزيارة
التوسّل والتبّرك بها، الدّعاء والصلاة لديها،
ختم القرآن لمدفونيها
هناك قبور تُقصد بالزيارة، وقد قُصدت في القرون الإسلامية منذ يومها الأول، ولأعلام المذاهب الأربعة حولها كلمات، يأخذ الباحث منها دروساً عالية من شتّى النواحي، ويقف بها على فوائد جمّة، منها: عرفان سيرة المسلمين وشعارهم في القرون الخالية حول زيارة القبور، والتوسّل والتبّرك بها، والدعاء والصلاة لديها، وختم القرآن لمدفونيها، واليك نبذة منها:
ـ بلال بن حمامة الحبشي، مؤّذن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)المتوفّى سنة20هـ، قبره بدمشق، وفي رأس القبر المبارك تاريخ. باسمه(رضي الله عنه)، والدعاء في هذا الموضع المبارك مستجاب، قد جرّب ذلك كثير من الأولياء وأهل الخير المتبركين بزيارتهم. «رحلة ابن جبير:229».
ـ سلمان الفارسي، الصحابي العظيم المتوفّى 36هـ، قال الخطيب البغدادي في تاريخه 1: 163: قبره الآن ظاهر معروف بقرب ايوان كسرى عليه بناء، وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر إليه في أمر مصالحه، وقد رأيت الموضع وزرته غير مرّة.
وقال ابن الجوزي في «المنتظم 5: 75»: قال القلانسي وسمنون: زرنا قبر سلمان وانصرفنا.
ـ طلحة بن عبيد الله، المقتول يوم الجمل سنة 36هـ، قال ابن بطوطة في رحلته 1: 116: مشهد طلحة بن عبيد الله أحد العشرةرضياللهعنهم، وهو بداخل المدينة وعليه قبّة ومسجد، وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر، وأهل البصرة يعظّمونه تعظيماً شديداً وحقّ له، ثمّ عدّ مشاهداً في البصرة لجملة من الصحابة والتابعين فقال: وعلى كلّ قبر منها قبّة مكتوب فيها اسم صاحب القبر ووفاته.
ـ الزبير بن العوام المتوفّى 36هـ، قال ابن الجوزي في «المنتظم7: 187»: فمن الحوادث في سنة 386هـ أنّ أهل البصرة في شهر المحرّم ادّعوا أنهم كشفوا عن قبر عتيق فوجدوا فيه ميّتاً طرّياً بثيابه وسيفه وأنّه الزبير بن العوام، فأخرجوه وكفّنوه ودفنوه بالمربد بين الدربين، وبنى عليه الأثير أبو المسك عنبر بناءً وجعل الموضع مسجداً، ونُقلت إليه القناديل والآلات والحصر والسّمادات، وأقيم فيه قوّام وحفظة ووقف وقوفاً.
ـ أبو أيّوب الأنصاري الصّحابي المتوفّى 52هـ بالروم، قال الحاكم في «المستدرك 3: 458»: يتعاهدون قبره ويزورونه، ويستسقون به إذا قحطوا. وذكره ابن الجوزي في «صفة الصفوة1:187».
وقال الخطيب البغدادي في تاريخه 1: 154: قال الوليد: حدثني شيخ من أهل فلسطين: أنه رأى بنيّة بيضاء دون حائط القسطنطينية فقالوا: هذا قبر أبي أيّوب الأنصاري صاحب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأتيت تلك البنيّة فرأيت قبره في تلك البنيّة وعليه قنديل معلّق بسلسلة.
وفي تاريخ ابن كثير 8: 59: وعلى قبره مزار ومسجد، وهم «أيّ الروم» يعظّمونه.
وقال الذهبى في «الدول الإسلامية 1: 22»: فالروم تعظّم قبره ويستشفعون إلى اليوم به.
ـ رأس الحسين «الإمام السبط الشهيد» بمصر، قال ابن جبير المتوفّى 614هـ في رحلته 12: هو في تابوت فضّة مدفون تحت الأرض قد بُني عليه بنيان حفيل يُقصر الوصف ولا يحيط الإدراك به، مجلّل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار فضّة خالصة ومنها مذهّبة، وعلّقت عليه قناديل فضّة، وحفّ أعلاه كلّه بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع شبيه الروضة، يقيد الأبصار حسناً وجمالاً، فيه من أنواع الرخام المجزّع الغريب الصنعة البديع الترصيع مالايتخّيله المخيّلون، ولا يحقّ أدنى وصفه الواصفون.
والمدخل إلى هذه الروضة على مثالها في التأنّق والغرابة، حيطانه كلّها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الرّوضة المذكورة وشمالها بنيان من كليهما المدخل اليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها، والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع.
ومن أعجب ماشاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل، شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل،
وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، واحداقهم به وانكبابهم عليه، وتمسّحهم بالكسوة التي عليه، وطوافهم حوله مزدحمين داعين باكين، متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة، ومتضّرعين بمايُذيب الأكباد، ويصدع الجماد، والأمرفيهأعظمومرأىالحالأهول،نفعنااللهببركةذلكالمشهدالكريم.
وانّما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدّلاً على ما وراء ذلك، اذ لا ينبغي لعاقل أن يتصدّى لوصفه; لأنّه يقف موقف التقصير والعجز، وبالجملة فما أظن في الوجود كلّه مصنعاً أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع، قدّس الله العضو الكريم الذي فيه بمنّه وكرمه.
وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبّانة المعروفة بالقرافة، وهي أيضاً احدى عجائب الدنيا، لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وأهل البيت، والصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين والعلماء والزهّاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة، وانّما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته.
فمنها: قبر ابن النبيّ صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعونرضياللهعنها، ومشاهد اهل البيترضياللهعنهم أجمعين مشاهد أربعة عشر من الرجال وخمس من النساء، وعلى كلّ واحد منها بناء حفيل، فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكّل بها قوم يسكنون فيها ويحفظونها، ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كلّ شهر،ثمّ ذكر تفصيل المشاهد.
عقد الشبرواي الشيخ عبد الله الشافعي المتوفّى 1172هـ في كتابه ـ الإتحاف بحب الأشراف ـ ص2540 باباً في ذلك المشهد، وذكر فيه زيارته وشطراً من الكرامات له واحياء يوم الثلاثاء بزيارته وقال: والبركات في هذا المشهد مشاهد مرئية، والنفحات العائدة على زائريه غير خفّية، وهي بصحّة الدعوى ملّية، والأعمال بالنيّة، ولأبي الخطاب بن دحية في ذلك جزء لطيف مؤلف.
واستفتى القاضي زكي الدين عبد العظيم في ذلك فقال: هذا مكان شريف، وبركته ظاهرة، والاعتقاد فيه خير والسلام.
وما أجدر هذا المشهد الشريف والضريح الأنور المنيف بقول القائل:
نفسي الفداء لمشهد أسراره
ورواق عزّ فيه أشرف بقعة
تغضى لبهجته النواظر هيبة
ويرد عنه طرفه المتأمل
من دونها ستر النبّوة مسبل
طلّت تُحار لها العقول وتذهل
ويرد عنه طرفه المتأمل
ويرد عنه طرفه المتأمل