الآية الأُولى: إلى ربّها ناظرة - رؤیـة الله فی ضوء الکتاب والسنة والعقل نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

رؤیـة الله فی ضوء الکتاب والسنة والعقل - نسخه متنی

جعفر سبحانی تبریزی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

إنّ ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقُّق قصة العجل، لقوله سبحانه: (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتِ فَعَفَوْنَا عَنْ ذلِكَ) (النساء/153)، فإن تخلل لفظة «ثم» حاك عن تأخّرها عن الذهاب، ومع ذلك كلّه فقد جاء ذكر ذهابهم إلى الميقات في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل، وهذا لو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ السياق ليس دليلا قطعياً لا يجوز مخالفته، فكما جاز تأخير المتقدّم وجوداً في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخره لنكتة سنوافيك بها.

فما نقله الرازي عن بعضهم من أنهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا عن عبادة العجل فقالوا في الميقات: (أَعْطِنَا مَا لَمْ تُعطِهِ أَحَداً قَبْلنَا ...)ليس بشيء، وقد عرفت تصريح الآية على تقدّم سؤالهم الرؤية على عبادته.

الثاني: استقلال السؤالين غير معقول

انّ لاحتمال استقلال السؤالين صورتين:

الأُولى: أن يتقدّم موسى بسؤال الله الرؤية لنفسه ثمّ يَحدث ما حدث، من خروره صعقاً وإفاقته وإنابته ثمّ إنّه بعدما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يُرِي الله لهم جهرة، فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.

الثانية: عكس الصورة الأُولى، بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثمّ يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث ثمّ هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيُخاطب بقوله: (لَنْ تَرَانِي وَلكِن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ).

انّ العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية.

أما الأُولى، فلو كان موسى متقدّماً في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به بقوله (لَنْ تَرَانِي) كان عليه أن يذكّر قومه بعواقبِ السؤال، وأنه سألها ربّه ففوجئ بالغشيان، مع أنه لم يذكرهم بشيء مما جرى عليه حين طلبهم، ولو ذكّرهم لما سكت عنه الوحي.

أمّا الثانية: فهو كذلك، لأنه لو كان قد تقدّم سؤال قومه الرؤية وقد شاهد موسى ما شاهد حيث اعتبر عملهم سفهياً فلا يصحّ في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه بعد ذلك مستقلا.

وكل ذلك يؤكد عدم وجود ميقاتين ولا لقاءين ولا سؤالين مستقلّين، وإنّما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتّب وصلة، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأوّل، وعندئذ لا يدلّ سؤال موسى الرؤية على كونها أمراً ممكناً لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه.

وتوضيح ذلك: أنّ الكليم لمّا أخبر قومه بأنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعتَ، فاختار منهم سبعين رجلا لميقاته وسأله سبحانه أن يكلِّمه، فلما كلّم الله وسمع القوم كلامه قالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وإلى هذه الواقعة تشير الآيات التالية:

1 ـ (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ) (البقرة/151).

2 ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (البقرة/55).

3 ـ (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ)(النساء/153).

4 ـ (وَاخْتَارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ)(الأعراف/155).

إلى هذه اللحظة الحساسة لم يتكلّم موسى (عليه السلام) حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئاً، وإنّما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم، وهو القائل: (قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ).

فلو كان هناك سؤال فإنّما كان بعد هذه المرحلة وبعد اصابة الصاعقة السائلين، وعودتهم إلى الحياة بدعاء موسى، وعندئذ نتساءل هل يصح للكليم أن يطلب السؤال لنفسه وقد رأى بأُمّ عينيه ما رأى؟ كلا، وكيف يصحّ له أن يسأله وقد وصف السؤال بالسفاهة، فلم يبق هناك إلاّ احتمال آخر، وهو انّه بعدما عاد قومه إلى الحياة أصرّوا على موسى وألحّوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحلّ رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد اخباره بالرؤية(72)، وهذا هو المعقول والمرتقب من قوم موسى الذين عرفوا بالعناد واللجاج، وبما أنّ موسى لم يُقْدِم على السؤال إلاّ باصرار منهم لكي يسكتهم، لذلك لم يتوجه إلى الكليم أيُّ تَبَعة ولا مؤاخذة، بل خوطب بقوله (لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).

وللإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) هنا كلام حول سؤال موسى:

قال عليّ بن محمّد بن الجهم: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا عليّ بن موسى (عليهما السلام)، فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك انّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول الله عزّ وجلّ (وَلَمَّا جَاءَ مُوسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أنّ الله ـ تعالى ذكره ـ لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟

فقال الرضا (عليه السلام): «إنّ كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أنّ الله تعالى عن أن يُرى بالأبصار، ولكنّه لما كلّمه الله عزّ وجلّ وقرّ به نجيّاً، رجع إلى قومه فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ كلّمه وقرّبه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً، ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه، فخرج بهم إلى طور سينا، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلّمه ويسمعهم كلامه، فكلّمه الله تعالى ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأنّ الله عزّ وجلّ أحدَثَه في الشجرة، ثمّ جعله منبعثاً منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا:

لن نؤمن لك بأنّ هذا الذي سمعناه كلامَ الله حتى نرى الله جهرةً، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عزّ وجلّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسى: يا ربّ ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعتُ إليهم وقالوا: إنّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنّك لم تكن صادقاً فيما ادّعيت من مناجاة الله إيّاك، فأحياهم الله وبعثهم معه، فقالوا: إنّك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حقّ معرفته، فقال موسى (عليه السلام): يا قوم إنّ الله لا يُرى بالأبصار ولا كيفية له،

وإنّما يعرف بآياته ويعلم باعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى (عليه السلام): يا ربّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جلّ جلاله إليه: يا موسى إسألني ما سألوك فلن أُؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكِ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنْ أُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ (بآية من آياته) جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيكَ (يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)منهم بأنّك لا تُرى».

فقال المأمون: لله درّك يا أبا الحسن، والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة(73).

وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال: ما كان طلب الرؤية إلاّ ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضُلاّلا وتبرأ من فعلهم، وذلك أنّهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحقّ فلجّوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لابدّ، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرةً، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله: (لَنْ تَرَانِي)ليتيقّنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة، فلذلك قال: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)(74).

وعلى كلّ تقدير فما ذكره صاحب الكشّاف قريب ممّا ذكرناه، وكلا البيانين يشتركان في أنّ السؤال لم يكن بدافع من نفس موسى، بل بضغط من قومه.

ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال:

ظاهر الحال يقتضي أنْ تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدّمة، لأنّ الألْيَق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الأُولى في وضع واحد ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأمّا ذكر بعض القصة (سؤال موسى الرؤية) ثمّ الانتقال منها إلى قصة أُخرى (اتّخاذ العجل ربّاً) ثمّ الانتقال منها بعد تمامها إلى بقيّة الكلام في القصة الأُولى (سؤال قوم موسى) يوجب نوعاً من الخَبْط والإضطراب، والأَولى صون كلام الله تعالى عنه(75).

والجواب: أنّه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من آية 241 وختمها في الآية 551، فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو ابراز العناية بسؤال الرؤية باعتباره مسألة مهمّة في حياة بني إسرائيل.

فقد اتّضح ممّا ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسى.

* * *

الشبهة الثانية: تجلّيه على الجبل

إنّ تجلّيه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل له، فلمّا رآه (سبحانه) اندكّت أجزاؤه، فإذا كان الأمرُ كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية، وأقصى ما في الباب أنْ يقال: الجماد جماد، والجماد يمتنع أن يَرى شيئاً، إلاّ أن نقول لا يمتنع أن يقال: إنّه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثمّ خلق فيه الرؤية متعلّقة بذات الله(76).

لكن يلاحظ على هذا الكلام: انّ ما ذكره من رؤية الجبال لله تعالى مع افتراضه الحياة والعقل والفهم للجبل شيء نسجه فكره، وليس في الآية أيّ دليل عليه، والحافز إلى هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي وَرِثها، وظاهر الآية أنّه سبحانه تجلّى للجبل وهو لم يتحمّل تجلّيه لا أنّه رآه وشاهده.

وأمّا التجلّي، فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل، فمن لم يتحمّل تجلّيه بفعله وقدرته فالأولى أن لا يتحمّل تجلّيه بذاته، وعندئذ فمن المحتمل جداً أن يكون تجلّيه بآثاره وقدرته وأفعاله، فعند ذلك لا يدلّ أنّ تجلّيه للجبل كان بذاته.

أضِفْ إلى ذلك أنّ أقصى ما تُعطيه الآية هو الإشعار بذلك، لذا لا يمكن التمسك به وطرح الدلائل القاطعة عقلا ونقلا على امتناع رؤيته.

إلى هنا تمّ ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم على امتناع الرؤية، وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي، وتعرّفت فيه على موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار.

رؤية الله في الذكر الحكيم

دراسة أدلة المثبتين

الآية الأُولى: إلى ربّها ناظرة

استدلّ القائلون بجواز الرؤية بآيات متعدّدة والمهم فيها هو الآية التالية، أعني قوله سبحانه: (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الاْخِرَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ * تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) (القيامة/20-25).

يقول?الشارح?القوشجي?في?شرحه?لتجريدالاعتقاد: إنّ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ويُقال انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة «في»، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام»، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى»، فيحمل على الرؤية(77).

أقول: لقد طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية، بين مثبتي الرؤية ونافيها، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام، فإنّ المثبتين يُركّزون على أنّ الناظرة بمعنى الرؤية، كما أنّ نافيها يفسّرونها بمعنى الانتظار، مع أنّ تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثّر في اثبات مدّعيها كما سيظهر، والحقّ عدم دلالتها على جواز رؤية الله بتاتاً، وذلك لأمرين:

الأول: أنّه سبحانه استخدم كلمة «وجوه» لا «عيون»، فقسم الوجوه إلى قسمين: وجوه ناضرة، ووجوه باسرة، ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه، والعجب أنّ المستدلّ غفل عن هذه النكتة التي تحدّد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردّد بين المعنيين، وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريد منه الرؤية بالعيون والأبصار، بل كلما أُريد منه الرؤية نُسب إليهما.

الثاني: لا نشك أنّ «الناظرة» في قوله (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) بمعنى الرائية، ونحن نوافق المثبتين بأنّ النظر إذا استعمل مع «إلى» يكون بمعنى الرؤية، لكن الذي يجب أن نُلفت إليه نظر المستدل هو أنه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي، ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، فالجملة مستعملة في معناها اللغوي، ولكن كثرة الرماد مراد استعماليّ لا جِدّيّ، والمراد الجِدّي هو ما اتّخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب، والمراد هنا هو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، فإذا قال الرجل: زيد كثير الرماد، فلا نقول: إنّ القائل أخبرنا عن كثرة الرماد في بيت زيد الذي يعدّ أوساخاً ملوثة لبيته، فيكون قد ذمّه دون أن يمدحه، بل يجب علينا أن نقول: بأنه أخبر عن جوده وسخائه، والعبرة في النسبة المراد الجدي لا الاستعمالي، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء.

والآن سنوضح مفاد الآية ونبيّن ماهو المراد الاستعمالي والجدي فيها، وذلك لا يعلم إلاّ برفع ابهام الآية بمقابلها، فنقول: إنّ هناك ستة آيات تقابلها ثلاثة، وهي كالآتي:

1 ـ (كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةِ)???يقابلها:???(وَتَذَرُونَ الاْخِرَةِ).

2 ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاضِرَةٌ)???يقابلها:???(وُجُوهٌ يَوْمَئِذ بَاسِرَةٌ).

3 ـ (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)??????يقابلها:???(تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).

فلا شك أنّ الآيات الأربع الأُول واضحة لا خفاء فيها، وانّما الابهام وموضع النقاش هو الشق الأول من التقابل الثالث، فهل المراد منه جداً هو الرؤية، أو انها كناية عن انتظار الرحمة؟ والذي يعيّن أحد المعنيين هو الشقّ الثاني من التقابل الثالث، أعني (تَظنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) فهو صريح في أنّ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم، ويظنّون نزوله. وهذا الظن لا ينفكّ عن الانتظار، فكلّ ظانّ لنزول العذاب منتظر، فيكون قرينة على أنّ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربهم، أي يرجون رحمته، وهذا ليس تصرّفاً في الآيات ولا تأويلا لها، وإنّما هو رفع الإبهام عن الآية بالآية المقابلة لها، وترى ذلك التقابل والانسجام في آيات أُخرى، غير أنّ الجميع سبيكة واحدة.

1 ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ مُسْفِرَةٌ) يقابلها: (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ).

2 ـ (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ) يقابلها: (تَرْهَقُهَا قَترَةٌ)(78).

فإنّ قوله (ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) قائم مقام قوله (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)فيرفع ابهام الثاني بالأوّل.

3 ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ خَاشِعَةٌ) يقابلها: (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةٌ) (الغاشية/2-4).

4 ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاعِمَةٌ) يقابلها: (لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّة عَالِيَة) الغاشية/8-10).

أُنظر إلى الإنسجام البديع، والتّقابل الواضح بينهما، والهدف الواحد، حيث الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلى ناضر ومسفر، وناعم وإلى باسر، وأسود (غبرة) وخاشع.

أما جزاء الصنف الأول فهو الرحمة والغفران، وتحكيه الجمل التالية:

إلى ربّها ناظرة، ضاحكة مستبشرة، في جنة عالية.

وأمّا جزاء الصنف الثاني فهو العذاب والابتعاد عن الرحمة، وتحكيه الجمل التالية:

تظنّ أن يفعل بها فاقرة، ترهقها قترة، تصلى ناراً حامية.

أفبعْدَ هذا البيان يبقى شكّ في أنّ المراد من (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) هو انتظار الرحمة!! والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية، ويغضّ النظر عمّا حولها من الآيات، ومن المعلوم أنّ هذا من قبيل محاولة اثبات المدّعى بالآية، لا محاولة الوقوف على مفادها.

ويدلّ على ذلك أنّ كثيراً ما تستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب، وإليك بعض ما ورد في ذلك:




  • وجوه بها ليل الحجاز على الهوى
    وجوه ناظرات يوم بدر
    إلى الرحمن يأتي بالفلاح



  • إلى ملك كهف الخلائق ناظرة
    إلى الرحمن يأتي بالفلاح
    إلى الرحمن يأتي بالفلاح



فلا نشكّ أنّ قوله: وجوهٌ ناظرات بمعنى رائيات، ولكن النظر إلى الرحمن هو كناية عن انتظار النصر والفتح.




  • إنّي إليك لما وعدت لناظر
    نظر الفقير إلى الغني الموسر



  • نظر الفقير إلى الغني الموسر
    نظر الفقير إلى الغني الموسر



فلا ريب أنّ اللفظين في الشعر وإن كانا بمعنى الرؤية، ولكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين، بل الصبر والانتظار حتى يعينه.

قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلا أُولئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الاْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران/77)، والمراد من قوله: (لاَ يَنْظُرْ إِلَيْهِمْ)هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطّفه عليهم، لا عدم مشاهدته إيّاهم، لأنّ رؤيته وعدمها ليس أمراً مطلوباً لهم حتى يهدّدوا بعدم نظره سبحانه إليهم، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم، والذي يصح تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم، فيكون المراد عدم تعطّفه إليهم، على أنّ تفسير قوله (لاَ يَنْظُرْ إِلَيْهِمْ) بـ?«لا يراهم» يستلزم الكفر، فإنّه سبحانه يرى الجميع (وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ).

والحاصل: أنّ النظر إذا أُسند إلى العيون يكون المعنى بالمراد الاستعمالي والجدّي هو الرؤية على أقسامها، وإذا أُسند إلى الشخص كالفقير أو إلى الوجوه فيراد به الرؤية استعمالا والانتظار جدّاً.

ثمّ إنّ لصاحب الكشاف هنا كلمةٌ جيدة، حيث يقول بهذا الصدد: يقال: «أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرجاء، ومن هذا القبيل قوله:




  • وإذا نظرت إليك من ملك
    والبحر دونك زدتني نعماً



  • والبحر دونك زدتني نعماً
    والبحر دونك زدتني نعماً



وقال: سمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلُق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيينتي نويظرة إلى الله واليكم، تقصد راجية ومتوقّعة لاحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: أنا أنظر إلى الله ثمّ إليك، وأتوقّع فضل الله ثمّ فضلك(79).

رؤية الله في الذكر الحكيم

/ 12