اشاعرة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اشاعرة - نسخه متنی

عبیدی مؤید

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



دور أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)فـي مواجهـة الانحـراف الأشاعرة نموذجمؤيد العبيدي


دور أئمـة أهـل البيـت(عليهم السلام)فـي مواجهة الانحرافالأشاعرة اُنموذج 61550; المؤلف: مؤيد العبيدي 61550; الموضوع: دورأئمة أهل البيت(عليهم السلام) في مواجهة الانحراف الاشاعرة نموذج 61550; الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) 61550; الطبعة: الاُولى 61550; المطبعة: ليلى 61550; الكمية: 5000 61550; تاريخ النشر: 1422 هـ


المجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام)


المقدمـة


الحمدلله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


لا تزال الحاجة قائمة إلى دراسة التاريخ الإسلامي دراسة موضوعية واعية، ذلك لأنّ حالة الترابط بين الماضي والحاضر في حركة الاُمة الإسلامية لا تزال شاخصة ومؤثرة في حركة الاُمة وتكوينها الفكري والسياسي، فالتداعيات التي رافقت الحقبة الاُولى للاُمة الإسلامية وعلى الخصوص بعد وفاة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، والصراع داخل الكيان الإسلامي أفرز تيارات سياسية ومذهبية، فظهرت فِرق إلى الوجود ساهم في تكوينها دوافع مختلفة، تلك الأحداث والظروف نحتاج إلى سبر أغوارها ودراسة الأحوال المحيطة بها وإخضاعها إلى التحليل والبحث الدقيق، ذلك لأن الوعي التاريخي أصبح جزءاً لا يتجزأ من الوعي العقيدي، من هنا أصبحت الحاجة إلى وسائل سليمة نعتمدها في تصحيح وتنقيح تلك الأحداث التاريخية والنظر فيها لكي تتّضح لنا صورة تلك الفِرق والمذاهب التي فرضت نفسها على المسرح الثقافي والسياسي الإسلامي، والسبب في كل ذلك هو أن الجميع يقرّ بوقوع حالة الانحراف في المسار الإسلامي، خصوصاً بعد وفاة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله)، فاشرأبت أعناق الطامعين، وبرزت حبيكة المنافقين لكي تمارس دورها الخطير حتى إذا سنحت لها فرصة التسلل إلى أجهزة الخلافة الإسلامية لتنفيذ مشروعها ومخططاتها من موقع الشرعية، ومن على منبر رسول الله(صلى الله عليه وآله)


وكل السبب تجسّد في عدم إعمال الوصية الأخيرة للرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) التي تركها لهم، وعدم حمل أمانة الله في أرضه وأداء ميثاقه الذي واثقهم به، والاحتكام إلى الوديعة الإلهية النبوية المتمثلة بالقرآن الكريم والعترة الطاهرة: إنّي مخلّف فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض( [1] ).


فبعد قرار اقصاء العترة الطاهرة من موقعها الإلهي، جاء قرار الخلافة الإسلامية بمنع تدوين الحديث، ليضيف ضبابية جديدة وليلقي بضلاله أزمة جديدة في التاريخ الإسلامي حتى مطلع القرن الثاني الهجري، ليأتي بعد ذلك قرار الخليفة الاُموي عمر بن عبدالعزيز بتدوين الحديث والسنّة النبوية، فانبرى لذلك اُناس اعتمدوا على مصادر مخلفات تلك الحقبة التي اختلطت بها الاُمور وضاعت الحقيقة، لابتعادهم عن معدن العلم ومهبط الوحي وأهل بيت النبوة، تلك الثلّة الطاهرة المتمثلة بأهل البيت(عليهم السلام) الذي كان دورهم يتمثل بعد اقصائهم عن مهمة قيادة الدولة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله) بالحفاظ على الرسالة الإسلامية، وصيانة الاُمة وتحصينها من الانحراف فانبرى الأئمة الأطهار(عليهم السلام)ليراقبوا الخلل ويُشيروا إليه ويعالجوه، ثم فتحوا أبواب العلم والمدارس، كما فعل الباقرين والكاظمين بحيث أصبحت كل الاتجاهات العلمية والمذهبية عيالاً على مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).


ومع كل ذلك وكما أكدنا في بحث المرجئة كان للعامل السياسي دور خطير في الترويج إلى بعض الفرق وتأهيلها رسمياً في أرجاء الدولة الإسلامية، ذلك لأن السلطات الحاكمة كانت تشكل غطاءً وحماية لأصحاب هذه المذاهب، فالمعتزلة برزوا عند مطلع القرن الثاني واستمرّ بهم الحال حتى بلغوا عزّهم الفكري ومجدهم إبّان حكم المأمون العباسي وأخيه المعتصم، ولكن عند عهد المتوكل انقلب عليهم ومال إلى مدرسة الحديث والأشاعرة فأقرّ بمكافحة الاعتزال واقصائه من ساحة الفكر والعقيدة، هذه التجاذبات السياسية تجعل من هذه المذاهب بين شدّ وجذب الحكّام فتكون أسيرة الأذواق والأهواء للسلاطين، ومن ثَمَّ سوف يقتل الابداع الفكري، ويتم توجيه الرأي العام للاُمة الإسلامية عن عمد وبتوجيه السلطات عن حقائق العلم وعند من يتوفر ذلك المعين الذي لا ينضب، وهل يتوفر عند غير أهلالبيت(عليهم السلام)؟ فهذا الإمام الباقر (أبوجعفر) يقول لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرّقا وغرّبا لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئاً يخرج من عندنا أهل البيت( [2] ).


ذلك لأن هدف الحكام الاُمويين والعباسيين هو ابعاد الاُمة عن أئمة أهلالبيت(عليهم السلام)، فهم كانوا يعيشون مع أتباعهم حالة الحصار الفكري والاقتصادي والاجتماعي من خلال ملاحقة أتباعهم سياسياً، فمن الطبيعي أن تتوالد اجتهادات وراء ذلك في مقابل مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، فخلاصة القول إن العامل السياسي كان له الأثر البارز في انتشار المذهب الأشعري كما سنرى ذلك في طيّات هذا البحث إن شاء الله تعالى.


ومن هنا وجدنا ضرورة تسليط الأضواء على فِرقة اُخرى وهي فِرقة الأشاعرة بعد بحث المرجئة، والأشاعرة فرقة كلامية ظلّت آثارها إلى يومنا هذا، فهي جديرة بالدراسة والتحليل; لأنها تمثل القطاع الأكبر في الساحة الإسلامية السنيّة.


لذلك عقدنا لهذا البحث خمسة فصول، كان الفصل الأوّل فيه تعريف لمذهب الأشاعرة، ومَن هو أبوالحسن الأشعري كمؤسس للمذهب والاطلاع على مكوناته وخلفياته الفكرية والسياسية، كذلك أشرنا إلى عوامل نشوء هذا المذهب، وطبيعة الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة، وأسباب ودوافع تحول الأشعري من مذهب الاعتزال وإعلانه ذلك، ثم أبرزنا موقع الشيعة الإمامية من الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة.


وفي الفصل الثاني ركّزنا البحث على المقولات الأساسية للمذهب الأشعري والاُصول والمرتكزات التي إنطلق منها هذا المذهب.


أما الفصل الثالث فأوضحنا فيه النظريات والمباني لأبيالحسن الأشعري وخصوصاً منهج التوفيق والوسطية بين المنهج العقلي، والمنهج النقلي مدرسة أهل الحديث، والنظرية الاُخرى التي جاء بها الأشعري في أفعال العباد والتي أضاف لها مفهوم الكسب فسميناها بـ نظرية الكسب كمفهوم ورؤية عقيدية في أفعال العباد واختيارهم، وبيّنا كيف يؤدي ذلك إلى الجبر، كما أكّد الباحثون.


أما الفصل الرابع فأفردناه إلى حالة الصراع والخلافات التي خاضتها الأشاعرة مع خصومها في الجانب المذهبي، وأوضحنا لذلك ثلاثة نماذج وهو الصراع الذي دار بين الأشاعرة والماتريدية باعتبارهما صنوان من منبع واحد ومع ذلك حصلت مسائل خلافية بينهما، كذلك الصراع بين الأشاعرة والحنابلة، والأشاعرة والسلفية، وفي نفس الفصل رأينا ضرورة إبراز مؤلفات أبيالحسن الأشعري وخصوصاً كتابيه الإبانة و اللُمع والفوارق الجوهرية بينهما.


أما الفصل الخامس فقد كرّسناه لترجمة بعض علماء الأشاعرة، وتم انتقاء أحد عشر عالماً بارزاً، قاموا بدور كبير في إيضاح وتكميل وتحوير المذهب الأشعري، ثم ذكرنا طبقات أصحاب الأشعري التي أحصاها ابن عساكر والسبكي بسبع طبقات، وبعد ذلك أتممنا البحث بظاهرة التدهور الذي أصاب الفكر الأشعري خصوصاً بعد عهد عضد الدين الإيجي، وكيف جَمُدَ الفكر الأشعري على الشروح والحواشي والأراجيز والغيبيات والمتون وإلى يومنا هذا، ومن الطبيعيفي طيّات البحث أوضحنا موقف ونظرية أهلالبيت(عليهم السلام)بردود علماء الإسلام على مقولات الأشعرية والتي تتقاطع مع نظرية أهلالبيت(عليهم السلام). نسأله تعالى أن يوفقنا لما فيه الخير والسداد إنّه مجيب الدعاء.مؤيد العبيدي


الأشاعرةتعريف الأشاعرة


الأشاعرة فرقة كلامية تنسب إلى مؤسسها أبيالحسن علي بن إسماعيل الأشعري( [3] ) المنتسب إلى أبيموسى الأشعري.مَن هو أبوالحسن الأشعري؟


هو أبوالحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبدالله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبيموسى الأشعري، ولد في البصرة عام (266 هـ)( [4] ) وتوفي عام (333 هـ).


وهاجر إلى بغداد فأقام فيها، وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي، وتفقّه بابن سريج( [5] ).


وذكر الخطيب البغدادي: أنّ الأشعري كان يجلس أيام الجمعات في حلقة أبي إسحاق المروزي الفقيه في جامع المنصور( [6] )، والأرجح أنّه انتقل من البصرة إلى بغداد بعد وفاة الجبائي عام (303 هـ)( [7] ).الانتماء العائلي


وأما أبوه، فيقول ابن عساكر في التبيين: إنّ أباه كان سنيّاً جماعياً حديثياً أوصى عند وفاته إلى زكريا بن يحيى الساجي وهو إمام في الفقه والحديث، وقد روى عنه الشيخ أبوالحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة( [8] ).


ويكشف ذلك أن البيت الذي تربى فيه أبوالحسن الأشعري كان بيت الحديث والرواية مقابلاً للمنهج العقلي الرائج بين المعتزلة، ومن شأن الأبناء أن يرثوا ما للآباء من الأفكار، فرجوع الشيخ وعودته إلى منهج أهل الحديث والإنابة عن الاعتزال كان رجوعاً موافقاً للأصل لا مخالفاً له، فهو رجع إلى الفكرة التي ورثها في خزانة ذهنه من بيته( [9] ).


وأما بخصوص جدّه الأعلى أبيموسى الأشعري فالذي تميز به هو موقفه المعروف من الإمام علي(عليه السلام)حيث أخذ يُخذل الناس في الكوفة عن نصرة الإمام علي(عليه السلام)، في حربه مع الناكثين يوم الجمل، وأبو موسى الأشعري كان من أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله)، قال ابن الأثير: كان عامل رسول الله(صلى الله عليه وآله) على زبيد وعدن، واستعمله عمر على البصرة وشهد وفاة أبيعبيدة الجراح بالشام، وكان أبوموسى على البصرة لما قتل عمر فأقرّه عثمان عليها ثم عزله، واستعمل بعده ابن عامر فسار من البصرة إلى الكوفة فلم يزل بها حتى أخرج أهل الكوفة سعيد بن العاص وطلبوا من عثمان أن يستعمله عليهم، فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان فعزله علي(عليه السلام) عنه( [10] ).


فلقد ذكر الطبري أنّ الإمام عليّاً كتب إلى أبيموسى الأشعري: أني وجهت هاشم بن عتبة لينهض من قبلك من المسلمين إليّ، فأشخص الناس فأني لم أولّك الذي أنت به، إلاّ لتكون من أعواني على الحقّ، فدعا أبوموسى السائب بن مالك الأشعري فقا له: ما ترى؟ قال: أرى أن تتبع ما كتب به إليك، قال لكني لا أرى ذلك، فكتب هاشم إلى علي(عليه السلام) أنّه قد قدمت على رجل غال مشاق ظاهر الغل والشنآن.


وبعث بالكتاب مع المحل بن خليفة الطائي، وعند ذاك بعث علي(عليه السلام)الحسن بن علي(عليه السلام) وعمار بن ياسر رضوان الله عليه وهما يستنفران له بالناس، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً على الكوفة وكتب معه إلى أبي موسى أمابعد: فقد كنت أرى أن تعزب عن هذا الأمر الذي لم يجعل الله عزّ وجل لك منه نصيباً، سيمنعك من رد أمري وقد بعثت الحسن بن علي وعمار بن ياسر يستنفران الناس وبعثت قرظة بن كعب والياً على المصر، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً( [11] ).


وتكشف هذه اللهجة الشديدة من الإمام علي(عليه السلام) لأبي موسى الأشعري عن غضب الإمام علي(عليه السلام) واستنكاره لموقفه المتخاذل في نصرة إمام المسلمين وقائدهم.


وموقف آخر لأبي موسى الأشعري والذي يشهد له بالضعف وعدم حبّه وميله إلى علي بن أبيطالب(عليه السلام)، فقد عُيّن من جانب علي(عليه السلام) وشيعته بالعراق ممثلاً قاضياً وحاكماً، كما عُيّن عمرو بن العاص من جانب معاوية حاكماً ليقضيا في أمر الفريقين بما وجدا في كتاب الله، وإن لم يجدا في كتاب الله فليرجعا إلى السنّة( [12] ).


ويقول جعفر السبحاني في ذلك: ـ وياللأسف ـ إنه خلع علياً عن الخلافة، وأثبت عمرو بن العاص معاوية في الخلافة، وكأنّه وجد دليلاً في الكتاب والسنّة على عدم صلاحية الإمام للخلافة، وذاك وجد دليلاً حاسماً على صلاحية معاوية لها، وما عشت أراك الدهر عجباً، فقد عزل الإمام الذي اتفق المهاجرون والأنصار على إمامته اتفاقاً لم يرَ مثله لا قبله ولا بعده، ونصّب الآخر معاوية ابن آكلة الأكباد إماماً للناس وحافظاً لدينهم ودنياهم( [13] ).


وأما ابنه هو أبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، من أوائل الذين تولّوا قضاء الكوفة، ولا نعرف الكثير عن حياته، والذي عيّنه قاضياً على الكوفة هو الحجاج خلفاً لشريح( [14] ).


هذه إذن خلفية أبيالحسن الأشعري فهو ينتمي إلى أب كان سنّياً جماعياً حديثياً كما وصفه ابن عساكر، كما وأنّه ينتمي إلى جدّه أبيموسى الأشعري حيث كانت مواقفه كما أوضحنا.مذهب الاعتزال


بما أن الأشعري كان معتزلياً في شبابه وأخذ الاعتزال عن معتزلة البصرة وعلى رأسهم أبوعلي الجبائي، ولم يفارقهم مدّة أربعين سنة( [15] )، فلابد أن نتعرّف مذهب الاعتزال بصورة مبسطة: فالاعتزال يرجع في اُصوله إلى الصدر الأوّل من الإسلام وسبب تسميتهم بالمعتزلة يعود إلى عدة أسباب منها:


إنّ اُناساً رأوا أنّه لما بايع الإمام الحسن معاوية وسلّم الأمر إليه اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وذلك أنّهم من أصحاب علي(عليه السلام) ولزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة فسما ذلك معتزلة( [16] ).


والبغدادي يقول: إنّ أهل السنّة هم الذين دعوهم معتزلة لاعتزالهم قول الاُمة بأسرها في مرتكب الكبيرة من المسلمين( [17] ).


ويقول الشهرستاني: إنّ واصل بن عطاء الغزال وعمر بن عبيد اختلفا مع الحسن البصري في مسجد البصرة في مرتكب الكبيرة من المسلمين هل هو مؤمن أم كافر؟ فأقرّ الحسن إيمانه، وأما عمر وواصل فإنّهما ذهبا إلى أنّه لا مؤمن ولا كافر، بل هو منزلة بين المنزلتين، فأثار هذا الخلاف اعتزال واصل وعمر حلقة الحسن وجلسا قرب إحدى اُسطوانات المجلس يشرحان معنى المنزلة بين المنزلتين، فقال الحسن عنهما: اعتزلا واصل وعمر فسموا معتزلة( [18] ).


أما في كتاب المنية والأمل قال: إنّ المعتزلة هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم لا غيرهم، فإنّهم لم يخالفوا الإجماع، بل عملوا بالجمع عليه في الصدر الأوّل من الإسلام، فإذا كانوا خالفوا شيئاً فإنّما الأقوال المحدثة والمبتدعة قد اعتزلوها( [19] ).


وأما عقائد المعتزلة فيقول الخيّاط: وليس يستحق أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كملت فيه هذه الصفات فهو معتزلي( [20] ).


والمعتزلة يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، ويعنون بالعدل نفي القدر، والقول بأنّ الإنسان هو موجد أفعاله تنزيهاً لله تعالى عمّا يضاف إليه من الشر، ويعنون بالتوحيد نفي الصفات القديمة، والدفاع عن وحدانيته عزّوجل( [21] ).


فالمعتزلة اتفقوا على عقائد مشتركة تسمى الاُصول الخمسة، فقد أجمعوا على أن الله قديم والقدم أخص وصف لذاته، ونفوا الصفات القديمة، واتفقوا على كلامه أنه محدث مخلوق في محل واتفقوا على نفي رؤية الله بالأبصار في دار القرار ونفي التشبيه عنه من كل وجه، واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة، والرب منزّه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية، واتفقوا على اُصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبح يجب معرفتهما بالعقل، وأوجب ذلك ورود التكاليف أنها ألطاف للباري سبحانه وتعالى أرسلها للعباد بتوسط الأنبياء(عليهم السلام) امتحاناً واختياراً (ليهلك من هل عن بيّنة ويحيا من حي عن بيّنة)( [22] ).


إذن المعتزلة اشتهروا بالتوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه اُصولهم الخمسة في العقائد إذ يتفرع عنها القول بأن القرآن مخلوق، وغيرها من العقائد.نشوء المذهب الأشعري


لم يكن رجوع أبيالحسن الأشعري عن مذهب الاعتزال أمراً عابراً وعادياً، بل إن ذلك يحتاج إلى تأمل ودراسة للظروف والحيثيات التي دعته إلى أن يتخذ هذا القرار الخطير، حيث كان انقلابه على مذهب الاعتزال أمراً مفاجئاً وغريباً.


إنّ أقدم رواية بخصوص ذلك هو ما نقله ابن النديم في فهرسته قال: أبوالحسن الأشعري من أهل البصرة كان معتزلياً، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة من يوم الجمعة، رقى كرسياً ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا فلانبن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وأن الله لا يرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة، وخرج بفضائحهم ومعايبهم وكان فيه دعابة وفرح كبير( [23] ).


والغرابة في هذا التحول والانقلاب يستند إلى طول المدة التي بقي فيها تلميذاً لاُستاذه أبيعلي الجبائي فيقول الخطيب البغدادي: ولد أبوالحسن الأشعري سنة مئتين وستين من الهجرة وسكن بغداد ولا يعلم بداية دراسته، وأنه رافق اُستاذه أباعلي الجبائي أربعين سنة( [24] ).


وقال الدكتور حمودة غرابة: التحق الأشعري بعد نشأته بالمعتزلة مبكراً، ودرس مذهب الاعتزال على أبي علي الجبائي رئيس معتزلة البصرة واستمر في الدراسة حتى بلغ في الاعتزال مبلغاً خطيراً كان له أكبر الأثر في اُستاذه له( [25] ).


وكتب الدكتور حمودة غرابة مقالاً جاء فيه: أنّه شبّ في بغداد وكانت حاضرة الملك والعلم، وكان رفيقاً لأبي هاشم الجبائي، فكان من الطبيعي أن ينشأ معتزلياً، اعتنق آراء اُستاذه الجبائي، وظل يؤمن بها ويناضل عنها في حماس حتى بلغ الأربعين من عمره وكان اُستاذه يُنيبه عنه كثيراً في المحاورات العلمية حتى حاز بين معاصريه شهرة فائقة، وفي هذه الآونة لا يدري إلاّ الله ماذا كان يدور بخلده ويحوّل مجرى أفكاره بطريقة غامضة، إذ لم يلبث الناس أن شاهدوا عليه تغييراً فجائياً حيث اعتكف في منزله بضعة أيام لا يرى أحداً، ثم خرج على أثر ذلك فصعد المنبر في وسط جموع حاشدة من الناس وطلب إليهم أن يصغوا إليه، فلمّا فعلوا ذلك نزع عباءته ومزقها ثم قال: إني كما خرجت من هذه العباءة أعلن براءتي من كل أخطائي السابقة واُصرّح بأن جميع آرائي الماضية باطلة( [26] ).


وذكر ابن كثير بخصوص مشايخه قائلاً: وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي، وتفقّه بابن سريج( [27] )، أما المقريزي قال: كان معتزلياً في مطلع حياته، تلقى مذهب المعتزلة من زوج اُمّه محمد بن عبدالوهاب الجبائي، واقتدى بآرائه مدّة أربعين سنة من حياته حتى صار من أئمة المعتزلة( [28] )، ثم ترك مذهب المعتزلة وردّ عليهم وأسس مذهبه في الاُصول والعقائد المنسوب إليه مذهب الأشاعرة.عوامل التحول والانقلاب


إنّ دراسة أسباب انقلاب الأشعري من مذهب الاعتزال إلى مذهبه الجديد والذي أسس فيه صياغات عقائدية جديدة جمعت بين العقل والنقل كما سترى إن شاء الله تعالى، يحتاج ذلك إلى تأمل وبحث دقيق للوقوف على الدوافع الحقيقية لهذا التحول المفاجئ، فلقد رأينا أن هناك عدّة عوامل من خلال استقرائنا للأحداث التي ساهمت في إيجاد هذا الانقلاب منها:العامل الأوّل: الطموح الذاتي والانتماء العائلي


قال الدكتور حمودة غرابة: كثير من الباحثين تعرض لأسباب هذا التحول، ويذكر ناقدوه تبعاً لبعض الروايات عن معاصريه أنه كان خاضعاً في


ذلك لضغط من أفراد اُسرته كما يحاول البعض الآخرتعليل ذلك برغبة أبيالحسن أن يستغلّ كراهة الشعب للمعتزلة وأن يظفر بالبطولة والمجد على حسابهم( [29] ).


وكما ألمحنا سابقاً بأن الأشعري ينتمي إلى المدرسة السنيّة الحديثية فيقول ابن عساكر: إنّ أباه كان سنيّاً جماعياً حديثياً أوصى عند وفاته إلى زكريابن يحيى الساجي وهو إمام في الفقه والحديث، وقد روى عنه الشيخ أبوالحسن الأشعري في كتاب التفسير أحاديث كثيرة( [30] ). وهذا يكفي على أنّ أباالحسن الأشعري كان قد تربى في بيت الحديث والرواية في مقابل المنهج المعتزلي، الذي تبنّى الإتجاه العقلي، إذن فرجوع الأشعري إلى مذهب أهلالحديث كان موافقاً للأصل لا مخالفاً له كما يقول جعفر السبحاني( [31] ).


ويقول الدكتور محمد غلاب: إنّ خصوم أباالحسن الأشعري كالحنيفية والحنبلية والماتريدية شكّوا في إخلاصه، وفي الوقت الذي كان المحايدون الأبرياء معجبين به إلى حد الافتتان كان خصومه يعلمون أنّ الذي حمله على سلوك هذا الطريق الجديد، ليس هو الاخلاص للشريعة وإنّما هو لأغراض شخصية والرغبة في لفت الأنظار إليه واجتماع كثير من التلاميذ حوله وفوزه بمكانة سامية في عصره; لأنه لو ظلّ معتزلياً لما استطاع أن يتفوق على أساتذته ورفقائه زعماء الفرقتين الجبائية والهاشمية فحوّل تيار حياته إلى الجهة التي يستطيع أن يظهر فيها، وقد قطعوا في هذا الاتهام شوطاً بعيداً فنسبوا إليه كتباً سرية زعماً أنّه خالف فيها آراءه العلنية( [32] ).


وهناك من يشكك بدوافع أبيالحسن الأشعري ذلك لأنه كان يعتقد بصواب المذهب الاعتزالي أربعين سنة مدافعاً عنه بحماس، وفي ذلك يقول الصعيدي: إنّه كان الأجدر بالأشعري ألا يتنكر لمذهب مكث معتقداً صوابه أربعين سنة كل هذا التنكر; لأنه بلاشك كان مخلصاً في اعتقاده له كل هذه المدة، بل كان له أوجه من النظر يعتمد عليها فيه، ويرى معها أنه لا يُنافي الإسلام، أو يُقال أنّهم فسّاق مسلمون وإنّما هم مجتهدون يُثابون على صوابهم ويعذرون في خطئهم، وقد انتفع بهم خلقاً كثيراً، إلى أن يقول: لم يكن من اللائق أن يبالغ في خصومتهم بعد مخالفته لهم لأنهم كانوا أساتذته( [33] ).


وتأكيداً لتأثير عامل الطموح الشخصي لأبيالحسن الأشعري في تحوّله هو ما لخّصه الأب آلار لآراء بعض الباحثين اعتماداً على ما ذكره المستشرق ماسنيون كما أثبت رأي الأهوازي الذي يرد تحوله إلى أنه خشي ألايرث في أحد أقارب بعد وفاته بسبب اعتزاله وأنه أيضاً خرج عن الاعتزال لاكتشافه أنّه لم يوصله إلى مكانة عليّاً بين الناس تناسب ما كان يصبوا إليه( [34] ).


فالمؤاخذة على أبي الحسن الأشعري هي أن عقيدة الاعتزال كانت عقيدة راسخة وملكة متأصلة في نفسه فمن المشكل جداً أن ينخلع الرجل دفعة واحدة عن كلّ ما تعلم وعلم، وناظر وغلب أو غُلب، وينخرط في مسلك يُضاد ذلك ويغايره بالكلية، نعم نتيجة بروز الشك والترديد هو عدوله عن بعض المسائل وبقاؤه على مسائل اُخر، وأما العدول دفعة واحدة عن جميع ما مارسه وبرع فيه، والبراءة عن كل ما يمتّ إلى منهج الاعتزال بصلة، فلا يمكن أن يكون أمراً حقيقياً جدياً من جميع الجهات( [35] ).


يتّضح لنا من استعراض كلام العلماء أنه لابد من دوافع شخصية وذاتية، ذلك لطول المدة ومكوثه ودفاعه عن مذهب الاعتزال أربعين سنة ثم يتحول هذا التحول المفاجئ الذي يبعث عند اُولي النظر شكاً معتبراً. ويقول


الدكتور عبدالرحمن بدوي: والروايات المتعلقة بهذا الإعلان كثيرة متنوعة مسرحية أحياناً( [36] ).


وإليك نماذج هذه الروايات:الرواية الاُولى:


ذكرها حجاج بن محمد الطرابلسي من أهل طرابلس الغرب، قال: سألت أبابكر إسماعيل بن أبي محمد بن إسحاق الأزدي القيرواني، المعروف بابن عزرة(رحمه الله)، عن أبيالحسن الأشعري(رحمه الله) فقلت له: قيل لي عنه إنّه كان معتزلياً، وإنه لما رجع عن ذلك أبقى للمعتزلة نكتاً لم ينقضها، فقال لي: الأشعري شيخنا وإمامنا ومن عليه معوّلنا، أقام على مذهب المعتزلة أربعين سنة، وكان لهم إماماً. ثم غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً. وبعد ذلك خرج إلى الجامع، فصعد المنبر وقال: معاشر الناس! إني إنما تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجّح عندي حق على باطل، ولا باطل على حق. فاستهديت الله تبارك وتعالى، فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت اعتقده، كما انخلعتُ من ثوبي هذ ـ وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتاب إلى الناس( [37] ).


قال جعفر السبحاني: ولا يصح هذا النقل من وجوه:


أما أولاً: فلأنّ ظاهر كلامه ذلك أنه قام بتأليف هذه الكتب في أيام قلائل وهو في غاية البعد.


وأما ثانياً: فلأنّ الناظر في كتابيه (الإبانة واللمع) يجد الفرق الجوهري بينهما في عرض العقائد، فالأوّل منهما هو الذي ألّفه بعد انخراطه في مسلك أهل الحديث، وأما كتاب اللمع فهو كتاب كلامي لا يشبه كتب أهل الحديث ولا يستحسنه طلابه وأتباعه.


وأما ثالثاً: فإنه يمكن أن يقال إنّه أقام على مذهب اُستاذه أربعين سنة، فلو دخل منهج الاُستاذ في أوان التكليف لزم أن يكون عام الخروج موافقاً لكونه ابن خمس وخمسين سنة وبما أنه من مواليد عام (260 هـ) يجب أن يكون عام الإنابة موافقاً لسنّة (315 هـ).


هذا من جانب ومن جانب آخر أنّه تبرأ من منهج الاُستاذ وهو حي وقد توفى اُستاذه الجبائي عام (303 هـ) وعندئذ فكيف يمكن تصديق ذلكالنقل( [38] ).الرواية الثانية


وهي تنتهي إلى أبيعبدالله الحمراني، يقول فيها: لم نشعر يوم الجمعة وإذا بالأشعري قد طلع على منبر الجامع بالبصرة بعد صلاة الجمعة، ومعه شريط شدّه في وسطه، ثم قطعه وقال: اشهدوا عليّ أني كنت على غير دين الإسلام، وأني قد أسلمت الساعة، وأني تائب مما كنت فيه من القول بالاعتزال( [39] ).


ويعلّق ابن عساكر على الراوي فيقول: الحمراني مجهول فيقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في ذلك: ولعلّ هذه الرواية أظهر الروايات تكلفاً وزيفاً; لأنها فضلاً عن افتعالها إنّما تقرر أن الاعتزال كفر وأن المعتزلي كافر، ومن غير المعقول أن يكون الأشعري قد قال مثل هذا الكلام وأصدر هذا الحكم بهذه الجدّة( [40] ).الرواية الثالثة


قال ابن النديم: وكان ـ أي الأشعري ـ أوّلاً معتزلياً، ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة في يوم الجمعة: رقى كرسياً ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا اُعرّفه نفسي: أنا فلان بن فلان، كنت قلت بخلق القرآن، وإن الله لا يرى بالأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع( [41] ).


قال الدكتور عبدالرحمن بدوي بعد استعراض الروايات المتعلقة بإعلان الأشعري رفضه للاعتزال قائلاً: ويلاحظ على هذه الروايات أنها تستهدف:


1 ـ الدفاع عن علم الكلام، وأنه لا يتنافى مع السنّة، مما يؤذن بأن أصحابها أشاعرة.


2 ـ الدفاع عن مذهب الأشعري، بوصفه مطابقاً لسنّة النبي(صلى الله عليه وآله).


3 ـ بعضها يرمي إلى الطعن في مذهب المعتزلة ودفعه بالكفر( [42] ).العامل الثاني: الرؤيا والمنامات


نقل العلماء منامات كثيرة رآها أبوالحسن الأشعري، أمر فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله)أبا الحسن أن ينصر سنته ويرجع عما كان فيه، ويقول جعفر السبحاني في ذلك: إلاّ أن قلم الخيال والوهم، أو قلم العاطفة، أعطى للموضوع مسرحية خاصة أقرب إلى الجعل والوضع منها إلى الحقيقة( [43] ).


فذكر ابن عساكر في تبيينه بعض هذه الروايات منها:الرواية الاُولى:


تنسب إلى الإمام أبيعبدالله الحسين بن محمد، إذ يقول: سمعت غير واحد من أئمتنا يحكي كيف كان بدء رجوع الإمام المبرّأ من الزيغ والتضليل أبيالحسن علي بن إسماعيل أنه قال: بينا أنا نائم في العشر الاُول من شهر رمضان، رأيت المصطفى(صلى الله عليه وآله) فقال: يا علي! انصر المذاهب المروية عني فأنها الحق. فلمّا استيقظت دخل عليّ أمرٌ عظيم. ولم أزل مفكراً مهموماً لرؤياي ولما أنا عليه من إيضاح الأدلة في خلاف ذلك، حتى كان العشر الأوسط فرأيت النبي(صلى الله عليه وآله) في المنام فقال لي: ما فعلت فيما أمرتك به؟ فقلت: يا رسول الله! وما عسى أن أفعل، وقد خرّجت للمذاهب المروية عنك وجوهاً يحتملها الكلام، واتبعت الأدلة الصحيحة التي يجوز إطلاقها على الباري عزّوجل. فقال لي: اُنصر المذاهب المروية عني، فإنّها الحق ـ فاستيقظت وأنا شديد الأسف والحزن. فأجمعت على ترك الكلام، واتبعت الحديث وتلاوة القرآن، فلمّا كانت ليلة سبع وعشرين، ومن عادتنا بالبصرة أن يجتمع القرّاء وأهل العلم والفضل، فيختموا القرآن في تلك الليلة ـ مكثت فيهم على ما جرت عادتنا. فأخذني من النعاس ما لم أتمالك معه أن قمت فلمّا وصلت إلى البيت نمت وبي من الأسف على ما فاتني من ختم تلك الليلة، أمرٌ عظيم. فرأيت النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: ما صنعت فيما أمرتك به؟ فقلت: قد تركت الكلام ولزمت كتاب الله وسنتك. فقال لي: ما أمرتك بترك الكلام، إنّما أمرتك بنصرة المذاهب المروية عني، فإنّها الحقّ، قلت: يا رسول الله! كيف أدفع مذهباً تصورت مسائله وعرفت أدلته منذ ثلاثين سنة لرؤيا؟ فقال لي: لولا أني أعلم أن الله تعالى يمدك بمدد من عنده لما قمت عنك حتى اُبيّن لك وجوهها، وكأنك تعد إتياني إليك هذا رؤيا. أَوَ رؤياي جبرئيل كانت رؤيا؟ إنّك لا تراني في هذا المعنى بعدها، فجدّ فيه فإنّ الله سيمدّك بمدد من عنده. قال ـ أي الأشعري ـ : فاستيقظت وقلت: ما بعد الحقّ إلاّ الضلال. وأخذت في نصرة الأحاديث في الرؤية والشفاعة والنظر وغير ذلك، فكان يأتيني شيء والله ما سمعته من خصم قط ولا رأيته في كتاب، فعلمت أنّ ذلك من مدد الله تعالى الذي بشرني به رسول الله(صلى الله عليه وآله)( [44] ).


وفعلاً كما ذكر الدكتور عبدالرحمن بدوي فأن الملاحظ على هذه الرواية هو الدفاع عن علم الكلام، وأنّه لا يتنافى مع السنّة( [45] ).الرواية الثانية


عن أبيالحسن بن مهدي بطبرستان قال: حكى لنا الشيخ أبوالحسن(رضي الله عنه)قال: كان الداعي إلى رجوعي عن الاعتزال، وإلى النظر في أدلتهم واستخراج فسادها أني رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) في منامي في أوّل شهر رمضان، فقال لي: يا أباالحسن! كتبت الحديث؟ فقلت: بلى يا رسول الله! فقال لي(صلى الله عليه وآله): فما الذي يمنعك من القول به؟ قلت: أدلّة العقول منعتني، فتأولت الأخبار. فقال لي: وما قامت أدلة العقول عندك على أن الله تعالى يرى في الآخرة؟ فقلت: بلى يا رسول الله. فإنّما هي شُبه. فقال لي: تأملها وانظر فيها نظراً مستوفى فليست بشُبه، بل هي أدلة ـ وغاب عني(صلى الله عليه وآله) ـ .


قال أبوالحسن الأشعري: فلما انتهيت فزعت فزعاً شديداً وأخذت أتأمل ما قاله (صلى الله عليه وآله)، واستثبت فوجدت الأمر كما قال. فقويت أدلة الإثبات في قلبي وضعفت أدلة النفي. فسكت ولم أظهر للناس شيئاً، وكنت متحيراً في أمري. فلمّا دخلنا في العشر الثاني من رمضان، رأيته (صلى الله عليه وآله) قد أقبل، فقال: يا أباالحسن! أي شيء عملت فيما قلت لك؟ فقلت: يا رسول الله! الأمر كما قلت صلّى الله عليك. والقوة في جانب الإثبات. فقال لي: تأمل سائر المسائل وتذاكر فيها. فانتبهت، فقمت وجمعت جميع ما كان بين يدي من الكتب الكلامية وخبرتها ورفعتها، واشتغلت بكتب الحديث وتفسير القرآن والعلوم الشرعية، ومع هذا فاني كنت أتفكر في سائر المسائل لأمره (صلى الله عليه وآله) إيّاي بذلك، قال: فلمّا دخلنا في العشر الثالث رأيته ليلة القدر فقال لي ـ وهو كالحردان ـ: ما عملت فيما قلت لك؟ فقلت: يا رسول الله! أنا متفكر فيما قلت، ولا أدع التفكر والبحث عليها. إلاّ أني قد رفضت الكلام كله وأعرضت عنه، واشتغلت بعلوم الشريعة، فقال لي مغضباً: ومن الذي أمرك بذلك؟ صنّف وانصر هذه الطريقة التي أمرتك بها فإنّها ديني وهو الحق الذي جئت به. وانتبهت.


قال لي أبوالحسن (الأشعري): فأخذت في التصنيف والنصرة وأظهرت المذهب( [46] ).


ويعلّق على هذه الروايات الدكتور عبدالرحمن بدوي قائلاً: وإذا كان اللجوء إلى الرؤى التي فيها يشاهد النبي بأمر بكذا وكذا ـ أمراً شائعاً لدى الفقهاء بل وبعض المتكلمين ـ فإنّ الرواية المذكورة في مجموعها تتنافى مع واقع الحال من ضرورة التطور الذهني بحيث تبدأ الشكوك وتتزايد حتى تؤدي إلى التحول وإعلان القطيعة مع ما سار عليه الأمر حتى ذلك الوقت، وهذا لا يتفق مع هذه الرؤى التي تكاد أن تكون تعبيراً عن تحولات مفاجئة( [47] ).


أما جعفر السبحاني فنراه يتهكم في هذه الروايات قائلاً: وكان الاُولى للمحقق ترك نقل هذه المنامات; لأنّ العوام والسذج من الناس إذا أعوزتهم الحجة في اليقظة، يلجؤون إلى النوم فيجدون ما يتطلبونه من الحجج في المنام فيملؤون كتبهم بالمنامات والرؤي( [48] ).العامل الثالث: التأثيرات السياسية


عندما نستقرئ الظروف والبيئة السياسية والفكرية السائدة في عصر أبيالحسن الأشعري، وعندما نلاحق المتناقضات والإرهاصات التي سادت في تلك المرحلة، ولا سيّما أن الأشعري أعلن لجوءه إلى مدرسة الحديث وتركه لمذهب المعتزلة كانت في الفترة التي توفّي فيها الواثق بالله عام (232هـ) حيث أخذ المتوكل بزمام السلطة، ومال إلى مدرسة الحديث، ثم بدأ العدّ العكسي لمذهب الاعتزال وتضيّق الخناق عليه، واستمر ذلك إلى عهد المنتصر بالله، فالمستعين بالله، فالمعتز بالله، فالمهتدي، فالمعتمد، فالمعتضد، فالمكتفي، فالمقتدر، وقد أخذ المقتدر زمامالحكم من عام (295 إلى320هـ)، وفي تلك الفترة أظهر أبوالحسن الأشعري التوبة والإنابة عن الاعتزال والانخراط في سلك أهل الحديث، وقد ضيّق أصحاب السلطة في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر الأمر على منهج التعقّل الاعتزال فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبداً، وفي تلك الفترة، لا عتب على الشيخ


ولا عجب منه أن يخرج من الضغط والضيق بإعلان الرجوع عن الاعتزال، والانخراط في سلك أهل الحديث الذين كانت السلطة تؤيدهم كما


كانوا يؤيدونها( [49] ).


إذن قمع السلطة لأهل الاعتزال، وحمايتها لأهل الحديث يعتبر أحد العوامل المهمة في انقلاب الأشعري باتجاه مدرسة أهل الحديث، فالحكام المتسلطين على رقاب الشعوب الإسلامية قرّبوا المعتزلة كما في فترة المأمون العباسي وأخيه المعتصم إلى أن استلم المتوكل العباسي مقاليد الاُمور، فانقلب عليهم وإذا به يتبنى اُصول المذهب الأشعري.طبيعة الصراع ونهاية المطاف


يقول السيد هاشم معروف الحسني: بدأ المعتزلة نشاطهم في مطلع القرن الثاني الهجري حينما ظهر واصل بن عطاء بآرائه التي تفرّد بها عن أساتذته الفقهاء وعلى الخصوص الحسن البصري، فأسس مدرسة الاعتزال التي كانت تضم مجموعة من المفكرين كعمرو بن عبيد وأمثاله، ثم بدأت تنشط وتنتشر بمبادئها ومناهجها بمناصرة الحكام العباسيين إلى أوائل القرن الرابع الهجري عام (303 هـ) في السنة التي توفي فيها الجبائي الزعيم الأخير لتلك المدرسة واُستاذ أبيالحسن الأشعري، وفي خلال هذه المدة بلغ عدد المتزعمين من المعتزلة عشرين شيخاً( [50] ).


ومن خلال هذه النصوص التي ذكرها المؤرخونترى أن العصر الذهبي للاعتزال كان في زمن المأمون العباسي وأخيه المعتصم والواثق بالله إلى عصر المتوكل بحيث أصبح المذهب الرسمي لهذه الحكومات هو مذهب الاعتزال، وتقول المصادر: إنّ السلطات اعتقلت أحمد بن حنبل حتى جلد ثلاثين سوطاً لمخالفته مدرسة الاعتزال وقوله بقدم القرآن، حتى إذا جاء عهده المتوكل انعكست الموازين إلى صالح الأشاعرة ومدرسة الحديث حتى عصر أبيالحسن الأشعري (260 ـ 324 هـ).


فالسجال والصراع بين الأشاعرة والمعتزلة كان من جرّاء الشد والجذب للحكام، فغلبة فريق منهم على الآخر كان بسبب ميول السلطات لصالح ذلك الفريق الغالب.


فيقول الحسني: لعب الأشاعرة دوراً بارزاً في الصراع الذي حدث بين المعتزلة والمحدثين، أدى إلى حرق كتبهم وتشريدهم في البلاد، شرقها وغربها، وأصبح المسلمون ينظرون إلى مذهب المعتزلة بعين الريبة والحذر، وبقي الاعتزال ينتشر حتى جاء المتوكل العباسي فخفف من حدّته، وأصبح المجال للمحدثين أن يعبّروا عن آرائهم حسب اجتهادهم، ورفع منزلتهم بين الناس، ولا سيما في الشطر الأخير من حكمه، ومن مجموع ذلك تبيّن أن المعتزلة منذ نشأتهم لم يصادفوا مقاومة من الحكّام العباسيين( [51] ).


وأما موقف السلطات الحاكمة من الاُمويين والعباسيين من هذا الصراع فقد كانوا يقومون بعملية إذكاء لهذه الخصومات المذهبية، فكانت تستفيد من هذه المناخات الكلامية ومن الجدل في الآراء والصراع الفكري بين الفِرق والمذاهب المختلفة، بل فسحوا المجال لهذا الصراع; لأنّ ذلك لا يشكل خطراً سياسياً عليهم بل يشغلهم عن التدخل في الاُمور السياسية ومراقبة وضع السلطات التي تمارس عمليات القمع والإرهاب واستعباد الناس، ومن هنا جاء قرار الخليفة العباسي المنتصر بالله بإصدار مرسوم يحصر المذاهب الفقهية بالمذاهب السنيّة الأربعة والتي لا تزال إلى اليوم مرجعاً لأهلالسنّة يفتون الناس ويعملون بآراء اُولئك الذين مضى عليهم أكثر من ألف ومئتين سنة تقريباً( [52] ).


أما نتيجة الصراع العقائدي بين الفريقين الذي امتدّ إلى أوائل القرن الخامس الهجري فقد حسمه الخليفة القادر العباسي الذي تدخل بدوره ليوضع حداً لهذا الصراع لصالح الأشاعرة وسيادة مذهبهم ونهاية الاعتزال، فيذكر محمد محيي الدين عبدالحميد قائلاً: فجمع المحدثين وأنصارهم من الأشاعرة فوضعوا كتاباً أسموه الاعتقاد القادري يتضمن ما يجب على المسلم الاعتقاد به من اُصول الدين، كالتوحيد، والصفات، وخلق القرآن، وعدّ ذلك من المسائل التي كانت محلاً للخلاف بين الطرفين، ثم وقّعه الفقهاء بخطوطهم، وتعهدت الدولة بنشره بين المسلمين، وحذّرت المخالفين بالعقوبات الصارمة، وأصدر الخليفة القادر أوامره بعدم الخوض في المباحث الكلامية، وتدريسها، والمناظرات على مذهب الاعتزال( [53] ).


فيعتبر هذا القرار للقادر العباسي بمثابة الضربة الفنية القاضية لمذهب الاعتزال وبما أنّ الناس على دين ملوكهم، فأصبحت السيادة المطلقة لمذهب المحدثين والأشاعرة الذين تمتعوا بحماية السلطات العباسية في ذلك الوقت فكان ذلك أثراً بالغاً في انتشار مذهب الأشاعرة.انعكاسات التدخل السياسي في الصراع المذهبي


يمكن لنا تسجيل بعض الملاحظات وما تركه قرار السلطات العباسية بالانحياز لصالح الأشاعرة ومحاربة المعتزلة، منها:


1 ـ القضاء على مذهب المعتزلة والاقتصار على مذهب الأشاعرة من قبل الحكّام العباسيين أدّى إلى تأكيد حالة التحجّر والتعبد بظواهر النصوص، وعدم محاكمتها عقلاً ودراية وتأويلاً، ومن ثَمّ سوف تقع كثير من الاشكالات التي لا تتفق مع روح الشريعة الإسلامية، وقد بدأ بعد ذلك الانحطاط الفكري بين المسلمين عامة، فتسلط عليهم الجمود، وغلب عليهم الخمود، واقتصرت مهمتهم على النقاش اللفظي دون التحقيق العلمي( [54] ).


2 ـ إنّ تعطيل العقول يعني التخلف وعدم استخدامه في مجالات التطوير لكافة العلوم، حيث تم القضاء على الاجتهاد وعدم ملء منطقة الفراغ، وهذا ما اُبتليت به المذاهب السنيّة الأربعة، حيث جمدت على ما مضى عليه السلف فماهو جواب الفقهاء لهذه المذاهب على مستحدثات المسائل ومجارات الزمن وتطوّره المذهل؟! فيقول الاُستاذ جعفر السبحاني: وكان المحدثون يرون الكتاب والسنّة مصدراً للعقائد، وينكرون العقل ورسالته في مجالها، ولم يعدّوه من أدوات المعرفة في الاُصول فكيف في الفروع، ولا شك أنّ هذا خسارة كبيرة لا تجبر( [55] ).


3 ـ أصبح التقليد مفروضاً على الناس في الاُصول وهذا يخالف العقل والشرع، حيث إنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام) يؤكد عدم جواز التقليد بالاُصول; لأنّ الواجب على المسلم أن يتوسل في الوصول إلى عقائده عن طريق النظر والفكر والاستدلال بالطرق المؤدية إلى ذلك وهي المسائل العقائدية، أما في اُصول الدين كالتوحيد والعدل الإلهي وضرورة بعثة الأنبياء وفق قاعدة اللطف الإلهي، والإمامة كامتداد طبيعي للنبوة، كذلك عقيدة المعاد في يوم القيامة أو غيرها من الاعتقادات التي جاءت بها الشريعة الإسلامية.العامل الرابع: المناظرات مع اُستاذه الجبائي


من الأسباب التي أدّت إلى انفصال الأشعري عن اُستاذه الجبائي هو الاختلاف في وجهات النظر بينهما، ويلاحظ ذلك من خلال المناظرات التي حصلت بين الاثنين، ومن هذه المناظرات ما يلي:المناظرة الاُولى:


ذكر السبكي في طبقات الشافعية المناظرة في الأصلح والتعديل:


سأل الأشعري أبا علي الجبائي فقال: أيها الشيخ ما قولك في ثلاثة: مؤمن، وكافر، وصبي؟


فقال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.


فقال الشيخ (الأشعري): فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات: هل يمكن؟


قال الجبائي: لا! يقال له: إنّ المؤمن إنّما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها.


قال الشيخ (الأشعري): فإن قال: التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن.


قال الجبائي: يقول له الله: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت، فراعيت مصلحتك وأمتّك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.


قال الشيخ (الأشعري: فلو قال الكافر: يا ربّ! علمت حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟!


فانقطع الجبائي( [56] ).


ورواها ابن خلكان مع بعض الاختلاف بالشكل التالي:


سأل أبوالحسن الأشعري اُستاذه أبا علي الجبائي على ثلاثة إخوة:


أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً شقيّاً، والثالث كان صغيراً، فماتوا، فكيف حالهم؟


فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة.


فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد، هل يؤذنله؟


فقال الجبائي: لا; لأنه يقال له: إنّ أخاك وصل إلى هذه الدرجات بسبب طاعته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات.


فقال الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس مني، فإنّك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة.


فقال الجبائي: يقول الباري جلّ وعلا: كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك.


فقال الأشعري: فلو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين! كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟!


فقال الجبائي للأشعري: إنّك مجنون!


فقال: لا! بل وقف حمار الشيخ في العقبة!( [57] )


وانقطع الجبائي.


هذه المناظرة حاول البعض أن يستغلها لصالح مذهبه كما هو عليه ابن السبكي وابن خلكان الذي قال معلقاً على هذه المناظرة: هذه المناظرة دالة على أنّ الله تعالى خصّ من شاء برحمته وخص آخر بعذابه، وأن أفعاله غير معللة بشيء من الأغراض( [58] ).


وقد ردّ هذا الاستغلال لهذه المناظرة العلامة جعفر السبحاني ردّاً بليغاً قائلاً:


أقول: إن تنزيه أفعاله سبحانه عن اللغو والعبث ممّا دلّ عليه العقل والنقل، ولو اعتزل الأشعري عن إدراك ما يحكم به العقل السليم فليس له مناص عن سماع كلام رب العزّة قال سبحانه: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الاِْنسَانِ مِن طِين)( [59] ). وقال عزّ من قائل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ)( [60] ) إلى غير ذلك من الآيات النافية للعبث واللغو عن ساحته.


ويضيف العلامة السبحاني بقوله: ومعنى القاعدة: أنّ أفعاله على الإطلاق غير منفكة عن الأغراض والمصالح التي ترجع إلى نفس العباد دون خالقهم، ثم إنّ قسماً كبيراً من الحكم والمصالح المرعية، ظاهر غير خفي، يقف عليه الإنسان بالتأمل والتروي، وقسماً منها خفي غير بارز لا يكاد يقف عليه الإنسان لقلّة علمه وضآلة دركه قال سبحانه: (وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً)( [61] )وقال عزّ من قائل: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَياةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)( [62] )، ومع ذلك نعلم أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ الخير، ولا يعجز عن الإيجاد على الوجه الأصح، ومن الخطأ أن يطلب الإنسان تحليل ما في الكون من دقائق الاُمور وجلائلها، بعقله الصغير ودركه البسيط، ويحكم بأنه كانت المصلحة في إبقاء هذا وإفناء ذاك، وكان هذا هو المزلقة الكبرى للمعتزلة حيث أرادوا اخضاع كل ما في الكون من الحوادث والأفعال لعقولهم( [63] ).المناظرة الثانية: في أسماء الله هل هي توقيفية


وهي كالتالي:


دخل رجل على الجبائي فقال: هل يجوز أن يسمى الله تعالى عاقلاً؟


فقال الجبائي: لا; لأنّ العقل مشتق من العقال، وهو المانع، والمنع في حقّه سبحانه محال. فامتنع الإطلاق.


قال الشيخ أبوالحسن الأشعري: فقلت له: فعلى قياسك لا يسمى الله ـسبحانه ـ حكيماً; لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابّة من الخروج، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت(رضي الله عنه):






  • فنحكم بالقوافي من هجانا
    ونضرب حين تختلط الدماء



  • ونضرب حين تختلط الدماء
    ونضرب حين تختلط الدماء




وقول الآخر:





  • أبني حنيفة حكّموا سفهاءكم
    إنّي أخاف عليكم أن أغضبا



  • إنّي أخاف عليكم أن أغضبا
    إنّي أخاف عليكم أن أغضبا




أي: نمنع بالقوافي من هجان، و امنعوا سفهاءكم فإذا كان اللفظ مشتقاً من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق حكيم عليه سبحانه وتعالى.


قال: فلم يُحِرْ جواباً، إلاّ أنه قال لي: فلم منعت أنت أن يسمى الله سبحانه عاقلاً، وأجزت أن يسمى حكيماً؟


قال (أي الأشعري): فقلت له: لأنّ طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي، دون القياس اللغوي، فأطلقت حكيم لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقل لأنّ الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته( [64] ).


ويلاحظ العلاّمة جعفر السبحاني على هذه المناظرة الملاحظات التالية:


1 ـ إنّ الروايات السابقة( [65] ) دلّت على أنّ صلة الأشعري بالجبائي قد انقطعت بعد إنخراطه في مسلك المحدثين، والظاهر من هذه الرواية خلافها، وأن الأشعري يناظر اُستاذه حتى بعد الإنابة عن الاعتزال، بشهادة قول الاُستاذ فلم منعت هذا وأجزت ذاك....


2 ـ إنّه من البعيد أن لا يقف الجبائي على عقيدة أهل الحديث بل عقيدة المسلمين جميعاً في أسمائه سبحانه، وأنّها توقيفية، وأنّه لا تصح تسميته إلاّ بما سمى به سبحانه نفسه، وذلك لصيانة ساحة الربّ عما لا يليق بها، إذ لو لم تكن التسمية توقيفية، ربما يعرف سبحانه بأسماء وصفات غير لائقة بساحته، فإنّ السواد الأعظم من الناس غير واقفين على الحد الذي يجب تنزيهه سبحانهعنه.


3 ـ لقائل أن ينصر الاُستاذ الجبائي ويقول: إن الحكم مشترك بين معنيين، أحدهما المنع، والآخر معنى يلازم العلم والفقه والقضاء والاتقان، قال سبحانه: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً)( [66] ) وإرجاع المعنى الثاني إلى الأوّل تكلف، وإطلاق الحكيم على الله بالملاك الثاني دون الأوّل( [67] ).


إلى هنا انتهينا من سرد العوامل والأسباب التي أدّت إلى قرار التحول والانقلاب عند الأشعري من مذهب الاعتزال إلى مذهب أهل الحديث ثم اختطّ لنفسه طريقة كلامية سميت فيما بعد باسم الأشاعرة.


ومجمل القول استخلصنا من خلال هذا السرد بأنّ هناك دوافع خاصة تختص بها شخصية أبيالحسن الأشعري أطلقنا عليها الدوافع والطموحات الذاتية بالإضافة إلى انتمائه العائلي الذي دأب على مجاراة بل تبنّي مذهب أهل الحديث، كذلك يعتبر العامل السياسي الضاغط في تلك المرحلة وميول السلاطين إلى مدرسة أهل الحديث ونبذهم للمعتزلة، من أهم العوامل التي دفعت بالأشعري أن يتخذ مثل هذا الإجراء، لما فيه من انعكاسات قمعية على حرية الفكر وحركة الاجتهاد التي دعا إليها الإسلام الحنيف.


وأما عاملي الرؤيا والمنافات أو المناظرات فتتغير من العوامل التي ليست لها مكانة وأهمية معتبرة في عملية الانقلاب لأبيالحسن الأشعري من مذهب الاعتزال، نعم ربّما يمكن القول بأنّ أباالحسن الأشعري وصل إلى مرحلة من القدرة على المناظرة في علم الكلام شعر من خلالها بحالة التفوّق على اُستاذه الجبائي الذي تصفه الروايات بأنّه كان قوياً في قلمه ولم يكن كذلك في مناظراته، وهذه الحالة التي يمكن أن يُصاب بدائها أكثر العلماء يمكن أن نسميها عقدة العلم فكان من الأولى أن تتوجّه إيجابياً من خلال مدح التلميذ لاُستاذه وإكباره وتكريمه وتبجيله; لأنّ الشريعة الإسلامية أكّدت ضرورة إكرام العلماء، وهو أقل حقّ يمكن أن يمارسه أبوالحسن الأشعري تجاه اُستاذه الجبائي الذي أوصله إلى هذه الدرجة العلمية، نراه قد اتّهمه بالكفر والانحراف، فيعتبر ذلك سابقة خطيرة تلاحقها الشبهات والتساؤلات ممّا يستدعي الشك في دوافع التحوّل الذي حصل بصورة فجائية.


إذن يبقى العامل السياسي هو أهم العوامل التي ساهمت في هذا التحول لهذه الشخصية بل ساهم ذلك في انتشار المذهب الأشعري من خلال تبنّي السلطات القائمة على مرّ العصور وإجبار الناس على إتّخاذ المذهب الأشعري وقمع مذهب الاعتزال فضلاً عن الخط الأحمر الذي وضعته الحكومات الجائرة على مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، كما سنرى ذلك في الأسباب التي ساعدت على انتشار مذهب الأشعري.لماذا ساد المذهب الأشعري؟ أبِسَفك الدماء؟!!


يعتبر النص الذي أورده المقريزي في خططه الحالة الماثلة والسبب الرئيسي في انتشار مذهب الأشاعرة قال: فهذه جملة في اُصول عقيدته التي عليها الآن جماهير أهل الأمصار الإسلامية والتي من جهر بخلافها اُريقدمه( [68] ).


إذن عامل الإجبار واخضاع الناس من قبل السلاطين على تبني مذهب الأشاعرة هو الذي دفع بهذا المذهب إلى الانتشار في الأمصار الإسلامية.


فلقد بدأ ميلاد المذهب الأشعري عندما أعلن علي بن إسماعيل الأشعري من منبر مسجد البصرة رجوعه عن آراء المعتزلة، ثم انتقل هذا المذهب إلى مناطق اُخرى من البلدان وهي بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب، ومن هنا قال في مقدمة التبيين: وتفرق أصحابه في بلاد العراق وخراسان والشام وبلاد المغرب، وبعد وفاته بيسير، استعاد المعتزلة بعض قوتهم في عهد بني بويه، لكن الإمام ناصر السنّة أبابكر الباقلاني قام في وجههم وقمعهم بحججه، ودان للسنّة على الطريقة الأشعرية أهل البسيطة إلى أقصى بلاد أفريقية( [69] ).


فكان انتشاره في العراق في حدود (380 هـ)، ثم اُرغم الناس في مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي على اتّباع مذهب الأشعري، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه فتمادى الحال على ذلك جميع أيام الملوك من بنيأيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك، وأتّفق مع ذلك توجه أبيعبيدالله بن تومرت أحد رجالات المغرب إلى العراق، وأخذ عن أبي حامد الغزالي مذهب الأشعري، فلما عاد الى بلاد المغرب وضع للمغاربة عقيدة على اُصول الأشعرية، وقد أقام دولة الموحدين بعد موته خليفته عبدالمؤمن بن علي، وناصر عقيدة ابن تومرت، وكان اُمراء هذه الدولة يحملون الناس على هذه العقيدة، ويستبيحون دماء من خالفها، وأوضح من ذلك إنه كما كان للعلماء الأشاعرة فضل كبير في نشر عقيدة أهل السنة على طريقة الأشعرية، كان للسياسة أيضاً أثر كبير في نجاح المذهب وانتشاره( [70] ).


فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلاّ الله خالقها سبحانه وتعالى كما هو معروف في كتب التاريخ، فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري، وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نُسي غيره من المذاهب، وجهل حتى لم يبق اليوم مذهب يخالفه، إلاّ أن يكون مذهب الحنابلة( [71] ).


وفي نفس السياق يذكر الدكتور أبوالخير محمد أيوب علي أن وجه انتشار الأشعرية يعود إلى العامل السياسي كما يذكر عدة أسباب اُخرى منها:الأوّل: الذين ناصروا مذهب الأشعري كانوا من أشهر العلماء وأساطين العلم في زمانهم وكانوا يقيمون في المراكز العلمية في خراسان والعراق والشام ومصر... وكان طلاب العلم يفدون إليهم من كل صوب، فإذا عادوا إلى بلادهم أخذوا معهم الأفكار التي تلقوها من أساتذتهم، وبفضلهم وجهودهم اشتهرت الأشعرية مذهباً لأهل السنّة.الثاني: عروج بعض الأشاعرة إلى المراكز العالية ومنازل الاقتدار في الحكم والسلطان، فاستغلوا نفوذهم وبذلوا جهودهم في حمل الناس على الأخذ بمذهبهم. ومن أشهر هؤلاء نظام الملك أبوعلي الحسن بن علي الطوسي (408ـ 485 هـ)( [72] )، وأبوعبدالله محمد بنعبدالله بنتومرت (485ـ524 هـ)( [73] )، وصلاح الدين أبوالمظفر يوسف بن أيوب الملك الناصر (532 ـ 589 هـ)( [74] )، وكان نظام الملك أشعرياً شافعياً( [75] )، فلمّا أصبح عام (456 هـ)، وزيراً للسطان ألب أرسلان (455 ـ 465 هـ) قام يناصر الأشعرية وبنى المدارس للتدريس فيها على اُصولها( [76] )، فأصبحت الأشعرية بفضله مذهب الدولة منذ عام (456هـ) وانتشرت فيالعراق( [77] ).


ثم يضيف الدكتور أبوالخير قائلاً: وكذلك السلطان صلاح الدين الأيوبي كان قد حفظ في صباه عقيدة ألّفها له قطب الدين أبوالمعالي مسعود بن محمد النيسابوري الأشعري، فلما ملك ديار مصر عام (567 هـ) حمل كافة المسلمين على التزام هذا المذهب، وتبع مسلكه جميع الملوك من بني أيوب، ثم مواليهم الملوك من الأتراك فانتشرت الأشعرية فيمصر والشام( [78] )، وكان محمد بن تومرت المغربي قد أخذ عن الإمام الغزالي مذهب الأشعرية، فلما عاد إلى بلاد المغرب، وضع للمغاربة عقيدة على اُصول الأشعرية، وقد أقام دولة الموحدين بعد موته خليفته عبدالمؤمن بن علي، وناصر عقيدة ابن تومرت، وكان اُمراء هذه الدولة يحملون الناس على هذه العقيدة، ويستبيحون دماء من خالفها، وواضح من ذلك أنه كما كان للعلماء الأشاعرة فضل كبير في نشر عقيدة أهلالسنة على طريقة الأشعرية، كان للسياسة أثر كبير في نجاح هذا المذهب وانتشاره( [79] ).


إلى هنا انتهينا من الأسباب التي أدت إلى انتشار مذهب الأشعري، حيث برز فيها ظاهرة إجبار الناس وقمعهم لمخالفة هذا المذهب حيث تم فرضه على الناس من خلال استخدام القوة وفق نظام الغلبة والقهر، والناس على دين ملوكهم كما يقول المثل المشهور، حيث توصلنا من خلال هذا الاستقراء التاريخي وتحليل الأوضاع الفكرية والسياسية والاجتماعية التي كانت سائدة في تلك العهود إلى وجود حالة خطيرة تتمثل في جانبين:الأوّل: هو القمع الفكري الذي مارسته السلطات الحاكمة آنذاك، فاعتناق المهذب الأشعري في الاُصول من قبل معظم أتباع المذاهب الأربعة، حيث تُبنيّت عقيدته تبنياً رسمياً كما رأينا كذلك تُبنيت المذاهب الفقهية الأربعة الحنفي والمالكي والشافعيوالحنبلي تبنيّاً رسمياً من السلطات العباسية.الثاني: وهو الجانب الذي يُضلّله الدافع السياسي، فالسؤال المثير الذي يحتاج إلى إجابة وهو أين مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ودورها في تلك المرحلة، فأين أئمة الشيعة(عليهم السلام) وعلماؤهم من هذا الصراع الذي عمّ العالم الإسلامي؟ والذي دخل فيه كل من المعتزلة والأشاعرة في اُتون عملية الشدّ والجذب للحكام، فهل كانت عملية إخفاء دور مذهب التشيع في تلك المرحلة متعمدة من قبل السلطات؟ كذلك لماذا أخفى هذا الدور كتّاب التاريخ، هذه تساؤلات تحتاج إلى إجابة وجوابها في فقرتنا التالية:أين موقع الإمامية من الصراع بين الأشاعرة والمعتزلة؟


بما أنّ تاريخ الإمامية ومذهب التشيّع بدأ حيث بدأ الإسلام، وأنهم أقدم الفرق الإسلامية، ومبادئ التشيع أسسها صاحب الرسالة الإلهية العظيمة محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعلي بن أبيطالب(عليه السلام) الذي يرجع إليه التشيّع، فالتشيّع كما هو معروف ولد في حياة الرسول(صلى الله عليه وآله) ويؤكد ذلك النصوص النبوية الشريفة والآيات القرآنية مثل حديث الدار الذي نصّه: ... فأخذ النبي(صلى الله عليه وآله) برقبة علي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام قوم يضحكون ويقولون لأبيطالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع( [80] ).


وحديث المؤاخاة: روي أن النبي(صلى الله عليه وآله) لمّا آخى بين أصحابه آخى بين أبيبكر وعمر، وبين عثمان وعبدالرحمن بن عوف، ولم يؤاخ بين علي بن أبيطالب وبين أحد منهم( [81] )، فقال علي(عليه السلام): يا رسول الله لقد ذهبت روحي وأنقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت بغيري، فإنّ كان هذا من سخط عليّ; فلك العتبى والكرامة. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق ما أخّرتك إلاّ لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي.


فقال(عليه السلام): وما أرث منك؟ قال(صلى الله عليه وآله): ما ورث الأنبياء من قبلي، كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم، وأنت معي في قصري في الجنة( [82] ).


وامتاز علي(عليه السلام) على جميع من حضروا غزوة الخندق بمبارزته عَمْراً وقتله، وقد تردّد المسلمون في مبارزته فلم يخرج إليه أحد، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله)مُشيداً بموقف علي(عليه السلام): لمبارزة علي بن أبيطالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من عمل اُمتي إلى يوم القيامة( [83] ).


وأما الشرف الرفيع الذي ناله علي(عليه السلام) بشهادة الرسول حين قال (صلى الله عليه وآله) عند مبارزة علي(عليه السلام) وخروجه إلى عمرو بن عبدودّ: خرج الإيمان كلّه إلى الشرككلّه( [84] ).


كذلك أشار النبي(صلى الله عليه وآله) إلى مكانة ومقام أهل بيته(عليهم السلام) ووجودهم وعظيم حبّه لهم، وميّز عليّاً(عليه السلام)، وقد دعم القرآن الكريم موقف النبي(صلى الله عليه وآله) بقول: (قُل لاَّ أَسْـألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)( [85] )، وكذلك أشار(صلى الله عليه وآله) موجّهاً المسلمين إلى التمسك بكتاب الله وعترته الطاهرة قائلاً: إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا، كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض( [86] ).


وأما حديث الغدير الذي نصّ على تعيين الإمام علي(عليه السلام) زعيماً سياسياً وقائداً وخليفة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) فلقد بلغ حد التواتر والذي قال فيه: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلّغ الشاهد الغائب. ثم لم يتفرقوا حتى نزل أمين الوحي بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِْسْلامَ دِينًا)( [87] ) فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي ثم طفقوا يهنئون أمير المؤمنين(عليه السلام) وأوّل من هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبوبكر وعمر، كلٌّ يقول: بخ بخ لك يابن أبيطالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة( [88] ).


وكل ما ذكرناه غيضٌ من فيض في مقام ومكانة أهل البيت(عليهم السلام) ومقام علي ابن أبيطالب(عليه السلام)، فهم الذين طهّرهم القرآن الكريم بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)( [89] ).


هذا هو إذن مذهب ومدرسة أهل البيت(عليهم السلام) الذي يمثل الصورة الحقيقية للإسلام والمصداق الأمثل للرسالة المحمدية الأصيلة حيث أقر الله تعالى ونبيّه الكريم باتباعهما من خلال التمسك بكتاب الله وعترة نبيّه(صلى الله عليه وآله)، فلا يمكن قبول من يدّعي أن التشيّع بدأ بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان كما ذهب إليه الشيخ محمد أبوزهرة( [90] )، أو القول بأن التشيّع وجد بعد معركة صفين، أو كما يدعي أحمد أمين زوراً وبهتاناً بأنّ أوّل من قال بالوصاية لعلي(عليه السلام) هو عبدالله بن سبأ اليهودي( [91] ).


وفي خصوص ذلك يقول السيد هاشم معروف الحسني: وإني أعتقد أن وراء هذه الأفكار وطمس معالم التشيّع ونسبة هذه المقولات وراءه ما وراءه من الأحقاد ودوافع التعصب الأعمى من دون تحكيم العقل ودراسة النصوص القرآنية والحديثية بتأنٍّ وروية ومحاكمتها محاكمة علمية لكي يصل الباحث إلى لب الحقيقة والواقع( [92] ).


ويضيف الحسني قائلاً: وعلي بن أبيطالب(عليه السلام) الذي يرجع إليه التشيّع كان قد تكلم في التوحيد والعدل والخلق والابداع والعدل والقدر قبل أن تولد الأشاعرة والمعتزلة بمئات السنين، فهذا السيد المرتضى(رضي الله عنه) يقول في أماليه: إنّ اُصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين(عليه السلام) وجميع من جاء بعده من المتكلمين قد اعتمدوا عليه وشرحوا أقواله وآراءه، وروي عن الأئمة من أبنائه في ذلك ما لا يحصى( [93] )، وهذا مما يثبت أنّ الإمامية مستقلون في تفكيرهم وآرائهم استقلالاً كاملاً في جميع الأدوار والمراحل التي مرّوا بها، ولا يعتمدون على غير كتاب الله وسنّة نبيّه وعقولهم فيما يعتقدون ويعملون من اُصول وفروع( [94] ).


فالإمامية من الشيعة تعتبر من أبرز الفرق الإسلامية في العلوم وعلى مختلف فروعها، ولكن تجاهل السلطات الحاكمة المتعمد لمذهب أهلالبيت(عليهم السلام) وآرائه الواسعة في مختلف العلوم وميولهم إلى المعتزلة تارة وإلى الأشاعرة اُخرى، فالمأمون العباسي وأخيه المعتصم قرّبوا المعتزلة، أما المتوكل وما بعده من الحكّام فمالوا إلى الأشاعرة بل فرضوا هذا المذهب على الناس بالقوة، وملاحقة المخالفين لمذهب الأشاعرة، كل ذلك كان عن أحقاد وتعصبات عمياء حتى انتهوا إلى اتّهام الشيعة بميولهم إلى المعتزلة بل إنهم من أتباعهم، في حين أنّ علماء الشيعة كانوا قد خاضوا معارك كلامية مع المعتزلة بل ناظروهم بالفكر والاستدلال العلمي، كما ناظروا الأشاعرة وغيرهم من الفرق الاُخرى، فمجالس المفيد والمرتضى والطوسي وغيرهم من علماء الإمامية كانت تُعقد فيها المناظرات بينهم وبين المعتزلة الذين تبنّوا المنهج العقلي.


فالحرب على الشيعة حرب على كل الأصعدة، فاستعمل معهم الحكّام سياسة الإبادة وخصوصاً مع ثوار الشيعة على مرّ التاريخ في مواجهة الطواغيت الذين حكموا باسم الإسلام، ولمّا لم ينفع القتل والتشريد والاقصاء والسجون في تحييد الكيان الشيعي أو حرفه عن مساره الذي أسسه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وبأمر من الله تعالى في اتباع وطاعة أهل البيت(عليهم السلام)، لجأ أعداء أهل البيت(عليهم السلام)إلى أساليب اُخرى كالافتراء عليهم بوضع الأحاديث الكاذبة والمجعولة واستخدام الاُجراء وتجنيدهم لهذه المهمة الخطيرة التي أساءت إلى مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) أيّما إساءة، ولكن كل ذلك لم يثنِ عزيمة العاملين الشيعة وعلماءهم في نصرة الحق على الباطل، في حين أن كتاب الله العزيز يصرخ قائلاً: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)( [95] ).


و(وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَاجَاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُوْلَـئكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)( [96] ).


و(شَرَعَ لَكُم مِّن الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ)( [97] ).


لذلك نرى أنه في مطلع القرن الثاني الهجري وما بعده انتشرت المذاهب الإسلامية وتعددت آراء العلماء، فأصبح لكل عالم مذهب له أنصاره وأتباعه يدافعون عنه، وله اُصولٌ وفروع وبذلك تباينت الفرق واتّهم بعضهم البعض فأخذ كل واحد يكفّر الآخر حتى حصلت الاصطدامات المسلحة التي كانت ضحيتها الآلاف المؤلّفة.


المقولات الأساسية للمذهب الأشعرياُصول المذهب الأشعري عرضٌ ونقد


يبتني المذهب الأشعري على اُسس واُصول ونظرية شاملة لتفسير الإلهيات والسلوك البشري، ونظرية العلم والمعرفة والإمامة والسياسة وغيرها من مفردات العقيدة ومقدماتها التي تسمى بالاُصول.


علماً أنّ الشيخ أباالحسن الأشعري اختلف في كثير من موارد هذه الاُصول مع مدرسة الشيعة الإمامية والمعتزلة وبعض الأحناف والحنابلة، فيذكر المقريزي أن الأشعري حين صعد على منبر جامع البصرة أعلن عن اُصول مذهبه بقوله: ... كنت أقول بخلق القرآن، وإنّ الله لا يرى بالأبصار وأفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائبٌ مقلع معتقد الرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم...( [98] ).


أي الرد على تلك الأفكار والقول بخلافها، والآن نحاول تلخيص آراء الأشعري ومرتكزات أفكاره من خلال استقرائها كما يلي:1 ـ الأشاعرة ومبدأ العلّية والسببية


أنكر الأشاعرة مبدأ العلّية والسببية بشكل مطلق في عالم الطبيعة والفكر والمجتمع فقالوا بنظرية العادة والتي مفادها أن ليس بين الموجودات والحوادث أيّة علاقة علّية، ولكن جرت عادة الله سننه سبحانه أن يخلق عُقيب الحادثة حادثة اُخرى، ولخّص الشهرستاني في الملل والنحل نظرية الأشعري هذه بقوله: .. ثم على أصل أبيالحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث... غير أنّ الله تعالى أجرى سنته بأن يخلق عُقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له، ويسمى هذا كسباً فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد حصولاً تحت قدرته( [99] ).


وردّ عليه الشيعة الإمامية بأن هذا المذهب ينافي عدل الله سبحانه، إذ كيف يعذّب الإنسان على فعل شر لم يفعله هو؟، كما أن هذا المذهب ينافي صريح القرآن في العديد من آياته، فهو ينسب الفعل صريحاً للإنسان كقوله تعالى: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)( [100] ).


فيقول العلامة جعفر السبحاني: الأشعري حيث يرى أنه لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث، وإنّما جرت سنّة الله بأن يلازم بين الفعل المحدث وبين القدرة المحدثة ـ بالكسر ـ . ولا نعلق على هذه النظرية سوى القول بأنها مخالفة للبراهين الفلسفية القائمة على وحدة حقيقة الوجود في جميع المراتب.


ويضيف قائلاً: إن إنكار التأثير على وجه الإطلاق بين الظواهر الطبيعية، وما فوقها يخالف البرهان العقلي الفلسفي أوّلاً، وصريح الذكر الحكيم ثانياً والفطرة السليمة ثالثاً( [101] ).


وإن الآيات القرآنية تعترف بوضوح بقانون العلّية والمعلولية بين الظواهر الطبيعية وتسند الآثار إلى موضوعاتها، وفي الوقت نفسه تسندها إلى الله سبحانه وتعالى. قال سبحانه وتعالى: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَبِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ)( [102] ). وقال عزّ من قائل: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ)( [103] ).


فمن وقف على مجموعة كبيرة من الآيات في هذا المجال لم يشك في أنّ القرآن يعترف بناموس السببية بين الأشياء وآثارها وإنهاء كل الكون إلى ذاته تبارك وتعالى( [104] ).


وكما طبّق الأشاعرة نظرية نفي العلّية في السلوك فانتهوا إلى القول بالجبرية، كذلك طبّقوه على منهج العلوم والمعارف فقالوا بأن التفكير لا ينتج علماً، فقادهم هذا المنهج إلى نفي العلاقة بين التفكير وإنتاج العلم النظري الاستدلالي القائم على أساس المقدمة والنتيجة، فيقول الإمام محمد أبوزهرة: فابن حزم يعدّه من الجبرية; لأن رأيه في أفعال الإنسان لا يثبت الاختيار للعبد( [105] ).2 ـ الأشاعرة وعقيدة الصفات


يذهب الأشاعرة إلى القول بأنّ الله عالم بعلم، قادر بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، حي بحياة( [106] )، وهكذا الأمر في بقية الصفات، وإن صفاته غير ذاته، وإنها قديمة قائمة في ذاته، ورُدّ عليهم بأن هذا الاعتقاد يعني: أنّ الذات الإلهية تحمل معاني وحقائق غير الذات ممّا يقتضي تعدّد القدماء وحاجة الذات إلى تلك المعاني، وهو مخالف لعقيدة التوحيد; لأنّ الإلهيين اتفقوا على أنّه سبحانه عالم، قادر، حي، سميع، بصير وهذه من الصفات الذاتية، أو الصفات الثبوتية الكمالية حسب مصطلح متكلمي الإمامية، وهي في مقابل صفات الفعل، أعنيما ينتزع لا من مقام الذات بل من مقام الفعل ككونه رازقاً، محيياً، مميتاً( [107] )، وبما أنّ صفاته عين ذاته، لأن قدم الصفات يلزم الخلق بدليل: المفروض أنّ العلّة هو الذات وهي قديمة فيلزم قدم معلولها، ولو كانت الذات الإلهية فاقدة لهذه الصفات منذ الأزل لاستلزم ذلك كون صفاته ممكنة وحادثة وحيث إن كل ممكن مرتبط بعلة ومحتاج إلى محدث( [108] ) وهذا باطل.


ولكن الإمام محمد أبوزهرة نقل رأي الأشعري في الصفات قائلاً: فرأيه في الصفات وسط بين المعتزلة ومعهم الجهمية، وبين الحشوية والمجسمة، فالأولون نفوا الصفات التي وردت في القرآن، ولم يثبتوا إلاّ الوجود والقدم والبقاء والوحدانية، ونفوا السمع والبصر والكلام وغيرها من الأوصاف الذاتية، وقالوا: ليست شيئاً غير الذات، وقالوا إنها في القرآن أسماء لله تعالى كالرحمن والرحيم، والحشوية والمجسمة شبهوا ذاته تعالى في أوصافها بصفات الحوادث ـ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراًـ. وجاء الأشعري فأثبت الصفات التي وردت كلها في القرآن والسنّة، وقرّر أنها صفات تليق بذاته تعالى، ولا تشبه صفات الحوادث التي تسمى باسمها، فسمع الله تعالى ليس كسمع الحوادث، وبصره ليس كبصرهم، وكلامه ليس ككلامهم( [109] ) وهنا نلاحظ أنّ الأشعري انتهج منهجاً وسطاً كما هو مبناه بين آراء العدلية ـ ومنهم المعتزلة ـ وبين أهل الحديث ـ وعلى رأسهم الحنابلة ـ حيث ذكر أنها صفات تليق بذاته تعالى وليست صفاته عين ذاته كما أكد ذلك العدلية.


كذلك ذكر عبدالرحمن بدوي رأي الأشعري في أنّ الصفات قائمة بالذات أزلية قائلاً: وصفات الله قائمة بذاته، أي أنها ليست ذاته ولا غير ذاته( [110] ).3 ـ الأشاعرة والتأويل


رفض الأشعري تأويل ما جاء في آيات القرآن وفاقاً لأحمد بن حنبل، ممّا يؤدي إلى إثبات صفات التجسيم لله تعالى سبحانه عن ذلك علوّاً كبيراً: كالوجه واليدين والرجل، فقد آمن الأشعري بالصفات الخبرية، أي الإيمان بما يستفاد من ظاهر اللفظ كما ورد في القرآن والسنّة، كالعرش والكرسي واليدين والوجه والاستواء... الخ، ممّا يقود إلى التوافق مع رأي المجسمة والمشبهة في نهاية المطاف مع اختلاف في بيان الكيف أي الإثبات بلا تشبيه ولا تكييف.


قال في الإبانة: وإن الله استوى على عرشه كما قال: (الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)( [111] ) وأن له وجهاً بلا كيف كما قال: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالاِْكْرَامِ)( [112] ) وأن له يدين بلا كيف كما قال: (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)( [113] ) وكما قال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)( [114] ).


ثم قال في الباب السابع من هذا الكتاب: كل ذلك يدل على أنه ليس في خلقه ولا خلقه فيه، وأنه مستو على عرشه بلا كيف ولا استواء( [115] ).


وردّ عليه ناقدوا مذهبه وآرائه بأنّ الآيات والروايات التي تحدثت عن تلك الصفات إنّما تحدثت على سبيل المجاز لا الحقيقة، وأن عدم حمل الآيات والروايات على المجاز يؤول إلى التجسيم، والله منزّه عن ذلك، وأن تفسير هذه الآيات والروايات وأمثالها التي تحدثت عن الغضب والرضا... الخ مرتبطة بقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)( [116] ).


ولاحظ عليه الإمام محمد أبوزهرة قائلاً: إنّه أخذ بظواهر النصوص في الآيات الموهمة للتشبيه من غير أن يقع في التشبيه في نظره، فهو يعتقد أن لله وجهاً، لا كوجه العبيد، وأنّ لله يداً لا تشبه يد المخلوقات( [117] ).4 ـ رؤية الله بالأبصار


قال الأشعري في بيان عقائد أهل الحديث والسنّة: يقولون إنّ الله سبحانه يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون، ولا يراه الكافرون; لأنّهم عن الله محجوبون، قال الله تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئذ لَّمَحْجُوبُونَ)( [118] )، وأنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا، وأنّ الله سبحانه تجلّى للجبل فجعله دكّاً فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة( [119] ).


أما الآمدي فقال: اجتمعت الأئمة من أصحابنا على أنّ رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة جائزة عقلاً، واختلفوا في جوازها سمعاً في الدنيا فأثبته بعضهم ونفاه آخرون( [120] ).


وأجاز كثير ممّن جوز رؤيته في الدنيا، مصافحته وملامسته ومزاورته إياه، وقالوا: أنّ المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك( [121] ).


هذه أفكار وآراء بعض من مدرسة أهل الحديث، ولأجل ذلك ذهبت المعتزلة والإمامية والزيدية إلى امتناع رؤيته سبحانه في الدنيا والآخرة وقالوا بأنّ القول بالرؤية لا يفارق التجسيم والتشبيه( [122] ).


أما الأشاعرة فبصورة عامة قد تجنّبوا التجسيم كما يدّعون ويعدّون أنفسهم من أهل التنزيه والبراءة من التشبيه، ولكن مع ذلك فإنهم يقولون بالرؤية، فيرى الأشعري من ناحية العقل أنّه ليس في جواز الرؤية إثبات حدثه، لأن المرئي لا يكون مرئياً لأنه محدث، وليس في الرؤية إثبات حدوث في معنى المرئي; لأن الألوان مرئيات ولا يجوز حدوث معنى فيها لأنها أعراض والعرض لا يقوم بالعرض، وليس في إثبات الرؤية لله تعالى تشبيه الباري تعالى ولا تجنيسه ولا قلبه عن حقيقته، وليس في الرؤية تجويره، ولا تظليمه ولا تكذيبه( [123] )، وأما من ناحية السمع فيرى الأشعري فيعتمد في إثبات الرؤية على الآيتين: (وُجُوهٌ يَوْمَئذ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)( [124] )، وهو يورد معاني مختلفة لكلمة النظر منها:


1 ـ النظر بمعنى الاعتبار كما في قوله تعالى: (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الاِْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)( [125] ).


2 ـ والنظر بمعنى الانتظار، كما في قوله تعالى: (مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً)( [126] ).


3 ـ النظر بمعنى الرؤية.


4 ـ النظر بمعنى الرحمة كما قال تعالى: (وَلاَيَنظُرُ إِلَيْهِمْ )( [127] ) أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم( [128] ).


ثم يقول الأشعري: ولا يجوز أن يكون الله عزّ وجل عنى نظر التفكر والاعتبار... ولا يجوز أنه عنى نظر الانتظار... فلا يجوز أن يكون الله عزّ وجل أراد نظر التعطف; لأن الخلق لا يجوز أن يتعطفوا على خالقهم( [129] ). ثم يقول عبدالرحمن بدوي: وإذا أفسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع من أقسام النظر، وهو أن معنى قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)( [130] ): إنها رائيةترى ربّها عزّ وجل( [131] ).


إذن محل النزاع هو رؤية الله سبحانه بالأبصار رؤية حقيقية، ولكن المجسمة يقولون بها بلا تنزيه، والأشاعرة يقولون بها مع التنزيه، أي بدون استلزام ما يمتنع عليه سبحانه من المكان والجهة( [132] ).


وقد ردّ عليه بأنه قد أجمعت المعتزلة على أنّ الله لا يرى بالأبصار، وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من الزيدية: إنّ الله لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة، ولا يجوز ذلك عليه( [133] ).


وقد استدل القاضي عبدالجبار المعتزلي على صحة رأي المعتزلة بالعقل والسمع معاً: بدأ بأن استشهد بالآية: (لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)( [134] ). وقال: وجه الدلالة في الآية هو ما قد ثبت من أن الإدراك إذا قُرِن بالبصر لا يحتمل إلاّ الرؤية وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، وتجد في ذلك تمدّحاً راجعاً إلى ذاته. وما كان في نفيه تمدح راجع إلى ذاته كان إثباته نقصاً، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال، ثم يرد القاضي على استدلالهم بهذه الآية: (وُجُوهٌ يَوْمَئذ نَّاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)( [135] )فيسألهم: ما وجه الاستدلال بالآية؟ فإن قالوا: إنّه يقال بيّن أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه، والنظر هو بمعنى الرؤية قلنا: لسنا نُسلّم أن النظر بمعنى الرؤية فما دليلكم عليه؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً، ثم يقال لهم: كيف أن يكون النظر بمعنى الرؤية، ومعلوم أنّهم يقولون: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو كان أحدهما هو الآخر لتناقض الكلام ونزل منزلة قول القائل: رأيت الهلال وما رأيت، وهذا تناقض فاسد( [136] ).


ثم يذكر العلامة جعفر السبحاني: استدلالات المنكرين للرؤية بالعقل قائلاً: استدلّ المفكرون بوجوه عقلية:الأوّل: إنّ الرؤية البصرية لا تقع إلاّ أن يكون المرئي في جهة ومكان، ومسافة خاصة بينه وبين رائيه، وأن يكون المرئي مقابلاً لعين الرائي، وكلّ ذلك ممتنع على الله سبحانه، والقول بحصول الرؤية بلا هذه الشرائط أشبه بتمني المحال.الثاني: إنّ الرؤية إما أن تقع على الله كلّه فيكون مركباً محدوداً متناهياً محصوراً، وإما أن تقع على بعضه فيكون مبعضاً مركباً، وكلّ ذلك لا يلتزم به أهل التنزيه.الثالث: إنّ كل مرئي بجارحة العين يُشار إليه بحدقتها، وأهل التنزيه كالأشاعرة وغيرهم ينزهونه سبحانه عن الإشارة إليه بأصبع أو غيره.الرابع: إنّ الرؤية بالعين الباصرة لا تتحقق إلاّ بوقوع النور على المرئي وانعكاسه منه إلى العين والله سبحانه منزه عن ذلك.


وإلى هذا الدليل يشير الإمام الهاديأبوالحسن علي بن محمد العسكري(عليهما السلام) فيما رواه الكليني عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبيالحسن الثالث(عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس: فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية( [137] )، ومراده من الهواء هو الأثير الحامل للنور ونحوه( [138] ).


ثم يقول العلامة السبحاني: ومن عجيب التأويل، قول الأشعري: إنّ قوله سبحانه: (لا تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ): تأويله الصحيح أما إن الأبصار لا تدركه تعالى في الدنيا ولكن تدركه في الآخرة، وأما إن أبصار الكافر لا تدركه( [139] )، ولا يخفى أنّه تأويل لا شاهد له وهو يهاجم المعتزلة بنظير هذه التأويلات وقد إرتكبه هو في الذب عن مذهبه( [140] ).


وحسبك في توضيح الآية ما ذكره الإمام الطاهر علي بن موسى الرضا(عليه السلام)في تفسير الآية، روى العياشي في تفسيره عن الأشعث بن حاتم قال: قال ذوالرئاستين: قلت لأبي الحسن الرضا(عليه السلام) جعلت فداك أخبرني عمّا اُختلف فيه الناس من الرؤية فقال بعضهم: لا يرى، قال: يا أباالعباس من وصف الله بخلاف ما وصف به نفسه، فقد أعظم الفرية على الله، قال الله: (لاَّ تُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)( [141] )( [142] ).


كذلك من الاستدلال بالسنّة نورد بعض الروايات لنفي الرؤية، فعن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربّك يا أميرالمؤمنين؟ فقال(عليه السلام): أفأعبد ما لا أرى؟ فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكنه تدركه القلوب بحقائق الإيمان، قريب من الأشياء غير ملامس، بعيد عنها غير مباين( [143] ).


وقال(عليه السلام): الحمدلله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد ولا تراه النواظر ولا تحجبه السواتر( [144] ).5 ـ أفعال العباد


ورأيه في قدرة الله تعالى وأفعال الإنسان وسطٌ بين الجبرية والمعتزلة، فالمعتزلة قالوا: إنّ الله هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله تعالى إيّاه، والجبرية قالوا: إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولا كسب شيء بل هوكالريشة في مهب الريح، فقال الأشعري: إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولكن يقدر على الكسب( [145] ).


ومسألة أفعال الإنسان من المسائل الرئيسية في مذهب الأشعري، ومذهبه فيها أنّ أفعال العباد مخلوقة لله، وليس للإنسان فيها غير اكتسابها، أي أنّ الفاعل الحقيقي هو الله، وما الإنسان إلاّ مكتسب للفعل الذي أحدثه الله على يدي هذا الإنسان، والكسب هو تعلق قدرة العبد وإرادته بالفعل المقدور المحدث من الله على الحقيقة( [146] ).


ومن المعلوم أن الشيخ الأشعري أعلن عقيدته هذه عندما ارتقى كرسياً في جامع البصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني... كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وإن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة( [147] ).


وقال في مقالات الإسلاميين في حكاية جملة قول أهل الحديث وأهل السنّة: وأقروا أنّه لا خالق إلاّ الله، وأن سيئات العباد يخلقها الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله عزّ وجل، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا منها شيئ( [148] ).


وأورد الإمام محمد أبوزهرة رأي الأشعري في أفعال العباد قائلاً: ورأيه في قدرة الله تعالى وأفعال الإنسان وسط بين الجبرية والمعتزلة، فالمعتزلة قالوا: إنّ العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله تعالى إياه، والجبرية قالوا: إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولا كسب شيء بل هو كالريشة في مهب الريح، فقال الأشعري: إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولكن يقدر على الكسب( [149] )، ونظرية الكسب هذه سوف نتناولها بالتفصيل في الفصل القادم إن شاء الله تعالى.


ويقول عبدالرحمن بدوي: كذلك يؤدي مذهب الأشعري إلى كون الله هو الذي قضى المعاصي وقدّرها، بأن خلقها وكتبها وأخبر عن كونها، ولا تقول: قضاها وقدرها: بأن أقرّ بها( [150] ).


ثم القاضي عبدالجبار المعتزلي يرد على نظرية الأشعري بقوله: يلزم عنه أن لا يُفرق بين المحسن والمسيء، وأن يرتفع المدح والذم والثواب والعقاب، ويلزمهم قبح بعثة الأنبياء، ويلزمهم أيضاً أن يكون هو فاعل القبائح، لأنّه إذا كان خالقاً لأفعال العباد وفيها القبائح، لزم ما ذكرناه، وذلك يوجب ألاّ تقع لهم ثقة البتة في كتاب الله تعالى، وأن يجوّزوا أن يبعث إليهم رسولاً كاذباً ويُظهر المعجز عليه، ليضلّهم عن سواء السبيل، ويدعوهم إلى الكفر، ويصرفهم عن الإسلام; لأن إذا جاز أن يفعل بعض القبائح جاز أن يفعل سائرها، إذ لا فرق بين بعضها وبين البعض في القبح... كذلك يلزمهم أن لا تثبيت لرسل الله حجة على الكفار... كذلك يلزمهم قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وكذلك يلزم أيضاً قبح مجاهدة أعداء الإسلام والكفار( [151] ).


وبهذه الإلزامات أراد القاضي عبدالجبار أن يبين للقائلين بنسبة أفعال العباد إلى الله أنّ قولهم هذا يؤدي إلى نتائج لا يقرونها ومن شأنها إبطال الدين وقواعده( [152] ).


ثم يرد العلامة جعفر السبحاني رأي الأشعري والمعتزلي قائلاً: فالأشعري، خلع الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه عن مقام التأثير والإيجاد، كما أنّ المعتزلي عزل سلطانه عن ملكه وجعل بعضاً منه في سلطان غيره أعني فعل العبد في سلطانه.


ويضيف قائلاً: والحق الذي عليه البرهان ويصدقه الكتاب هو كون الفعل موجوداً بقدرتين، لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علّتين تامتين، بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الاُولى وشوؤنها وجنودها (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ)( [153] )، وقد جرت سنة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها، فجعل لكل شيء سبباً وللسبب سبباً إلى أن ينتهي إليه سبحانه، والمجموع من الأسباب الطولية علّة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل( [154] )... ثم يختم المطلب بحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): أبى الله أن يجري الأشياء إلاّ بأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً وجعل لكل سبب شرح( [155] ).6 ـ خلق القرآن


استعرض القاضي عبدالجبار ثلاثة مذاهب للقول في مسألة خلق القرآن وهي:


أ ـ مذهب الحشوية النوابت من الحنابلة، الذين ذهبوا إلى أن هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف غير مخلوق ولا محدث، بل قديم مع الله تعالى.


ب ـ مذهب الكلابية الذين قالوا إن كلام الله هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى، مع أنّه شيء واحد: توراة، وإنجيل، وزبور، وفرقان، وإن هذا الذي نسمعه ونتلوه هو حكاية كلام الله.


ج ـ وإلى نفس مذهب الكلابية ذهب أبوالحسن الأشعري: إلاّ أنه كما رأى أن قوله: إن الذينتلوه في المحاريب ونكتبه في المصاحف حكاية كلام الله تعالى يوجب أن يكون كلامه أيضاً محدثاً وأصواتاً وحروفاً; لأنّ الحكاية يجب أن تكون من جنس المحكي، قال: إنّ هذا المسموع هو عبارة عن كلام الله تعالى، ولم يدر أنّ العبارة يجب أن تكون من جنس المعبّر عنه، إلاّ أنه قد جرى على القياس فقال: الكلام معنى قائم بذات المتكلم من دون فرق بين الشاهد والغائب( [156] ).


ويستعرض الدكتور عبدالرحمن بدوي رأي القاضي عبدالجبار في هذا القول قائلاً: وتعلقوا بآيات من القرآن، منها قوله تعالى: (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالاَْمْرُ)( [157] ) قالوا: إنّه تعالى فصل بين الخلق والأمر، وفي ذلك دلالة على أنّ الأمر غير مخلوق( [158] ).


ويرد القاضي فيقول: إنّ هذا الاستدلال باطل; لأنّ مجرد الفصل لا يدل على اختلاف الجنسين، مثاله في القرآن: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)( [159] ) فصل بين الفاكهة والرمان، مع أن الرمان من الفاكهة.


ومن الآيات التي تعلقوا بها أيضاً قوله تعالى: (الرَّحْمَـنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الاِْنسَانَ)( [160] ) قالوا: إنّ هذا يدل على أن القرآن غير مخلوق; لأنّه وصف الإنسان بالخلق ولم يصف القرآن به.


ويرد القاضي على هذا القول فيقول: ليس يجب إذا وصف الله تعالى الإنسان بأنه مخلوق أن لا يكون ما عدا الإنسان مخلوقاً، فإن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على ما عداه، وبعد، فلو استدللنا نحن بهذه الآية لكنّا أسعد حالاً منكم. فقد قال (علم القرآن)، والتعليم لا يتصور إلاّ في المحدثات( [161] ).


والجدير ذكره أنه شاع في أواخر القرن الثاني، كون كلام الله غير مخلوق وقد اعتنقه أهل الحديث وفي مقدمتهم إمام الحنابلة أحمد بن حنبل، حيث تحمّل في سبيل هذه العقيدة ألوان التعذيب علماً بأنه لم يرد نصّ من رسولالله(صلى الله عليه وآله) ولا من الصحابة بخصوص هذه المسألة، وقد شربت هذه العقيدة مثل القوة بالتشبيه والتجسيم إلى المسلمين من اليهودية والنصرانية، حيث قالت اليهود بقدم التوراة( [162] ) والنصرانية بقدم الكلمة المسيح( [163] ).


ومن المعلوم أن الخليفة العباسي المأمون يدعو الناس بقوة السلطان إلى اعتناق هذه الفكرة... وقد سارع نائبه في بغداد إلى تنفيذ ما أمر به، لكنّه تجاوز الحد السلبي إلى الحد الإيجابي فأحضر المحدثين والفقهاء فسألهم عن عقيدتهم حول القرآن وأعلن الكلّ عن اعتناق ما كتبه المأمون سوى أربعة فأصروا على عدم كون القرآن مخلوقاً وهم أحمد بن حنبل و محمد بن نوح و والقواريري وسجادة. فشدوا بالوثاق، لكن الكل رجعوا عن عقيدتهم إلاّ اثنان وهما: ابن نوح وأحمد بن حنبل فسيقاً إلى طرسوس ليلتقيا بالمأمون الذي كان يدعم ويتبنى رأي المعتزلة فسجّل المعتزلة بموقفهم ومحاولتهم أخذ الناس بالعنف على القول برأيهم أسوأ مثال على التدخل في الحرية الكفرية مع أنهم روّادها الأوائل، وليست هذه أوّل قارورة كسرت في الإسلام، وكم في تاريخ خلفاء الإسلام ضغط وعنف وتدخل في الحرية الفكرية، هؤلاء هم شيعة أهل البيت عاشوا قروناً بين إخوانهم المسلمين تحت ستار التقية خوفاً على نفوسهم ودمائهم وأموالهم( [164] ).


أما موقف أهل البيت(عليهم السلام) من هذه الفتنة فأنهم منعوا أصحابهم عن الخوض في تلك المسألة فقد سأل الريان بن الصلت، الإمام الرضا(عليه السلام) وقال له: ما تقول في القرآن؟ فقال: كلام الله لا تتجاوزوه ولا تطلبوا الهدى في غيره، فتضلّو( [165] ).


وروى علي بن سالم عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد فقلت له: يابن رسول الله ما تقول في القرآن؟ فقال: هو كلام الله، وقول الله، وكتاب الله، ووحي الله، وتنزيله، وهو الكتاب العزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد( [166] ).


وحدث سليمان بن جعفر الجعفري قال: قلت لأبيالحسن موسى ابنجعفر(عليه السلام): يا بن رسول الله، ماتقول في خلق القرآن؟ فقد اختلف فيه من قبلنا، فقال قوم أنه مخلوق، وقال قوم إنه غير مخلوق، فقال(عليه السلام): أما أني لا أقول في ذلك ما يقولون ولكني أقول إنه كلام الله( [167] ).


فيقول العلامة جعفر السبحاني: إنّ الامإم(عليه السلام) يبتعد عن الخوض في تلك المسألة لما رأى أنّ الخوض فيها ليس لصالح الإسلام، والاكتفاء بأنه كلام الله أحسم لمادة الخلاف، ولكنهم(عليهم السلام) عندما أحسو بسلامة الموقف، وهدوء الأجواء أدلوا برأيهم في الموضوع، وصرحوا بأن الخالق هو الله وغيره مخلوق والقرآن ليس نفسه سبحان، وإلاّ يلزماتحاد المنزل (بالكسر) والمنزل (بالفتح)، فهو غيره فيكون لا محالة مخلوقاً( [168] ).


فقد روى محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني قال: كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا(عليهم السلام) إلى بعض شيعته ببغداد: بسم الله الرحمن الرحيم، عصمنا الله وإياك من الفتنة، فإن يفعل فقد أعظم بها نعمة، وإن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطى السائل ما ليس له، ويتكلف المجيب ما ليس عليه، وليس الخالق إلاّ الله عزّ وجل، وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون( [169] ).7 ـ إنكار الحسن والقبح العقليين


تعتبر هذه المسألة الحجر الأساس لكلام الأشعري وعقيدة أهل الحديث والحنابلة، ولقد عارض الأشعري المعتزلة في قولهم: بوجوب فعل الأصلح على الله، وأطلق حرية المشيئة الإلهية دون قيد أو شرط، وعلى هذا قال: إنّ لله أن يؤلم الأطفال في الآخرة، ويعد ذلك منه عدلاً إن فعله، وله أن يعاقب على الجُرم الصغير بعقوبة لا تتناهى، وأن يُسخر الحيوان بعضه لبعض، وأن ينقم على بعضه دون بعض، وله أن يخلق من يعلم أنهم سيكفرون، وله أن يلطف بالكفار ليؤمنوا، وكل ذلك عدل منه،... لا يقبح من الله لو ابتدأهم بالعذاب الأليم، ولا يقبح منه أن يعذب المؤمنين ويدخل الكافرين الجنان، وإنّما نقول إنّه لا يفعل ذلك; لأنّه أخبرنا أنه يعاقب الكافرين، وهو لا يجوز عليه الكذب في خبره( [170] ).


وبناءً على هذا العرض يستدل عبدالرحمن بدوي على لسان الأشعري فيقول: وإذن فالتحسين والتقبيح ليسا عقليين، بل كلاهما من الله وهو وحده مصدر التقويم، ولو شاء أن يجعل ماهو حرام حلالاً وماهو حلال حراماً لفعل; لأنه لا سلطان لغير سلطانه، ولا مصدر للتشريع غيره، ولا تحسن الأفعال، أو تقبح لذاتها، أو لأسباب توجب ذلك بل الخير والشر كلاهما من تقدير الله( [171] ).


وردّه القاضي عبدالجبار بآيات من القرآن من أن الله تعالى لا يريد المعاصي ومن جملتها:


1 ـ قوله تعالى: (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ)( [172] ) وقوله (ظلماً) نكرة، والنكرة في النفي تعم، فظاهر الآية يقتضي أنّه تعالى لا يريد شيئاً ممّا وقع عليه اسم الظلم.


2 ـ وقوله تعالى: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)( [173] )، يدل على أنه لا يريد الفساد ولا يحبه سواء كان من جهته أو من جهة غيره.


3 ـ وقوله تعالى: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا)( [174] )، وهذا يدل على أنّ المعاصي كلها مكروهة عند الله، ولن تكون كذلك إلاّ وهو كاره لها، ولا يكون كارهاً لها إلاّ وهو غير مريد لها، إذ لو كان مريداً لها مع الكراهة لكان حاصلاً على صفتين ضدين وذلك مستحيل( [175] ).


ثم يقول هذا من جهة السمع أما من جهة العقل فقد استدلّ بما يلي:


1 ـ إنّ الله لو كان مريداً للقبيح لوجب أن يكون فاعلاً لإرادة القبيح، وإرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يفعل القبيح لأنه عالم بقبحه ومستغن عنه.


2 ـ ولو كا الله مريداً للمعاصي لوجب أن يكون حاصلاً على صفة من صفات النقص، وذلك لا يجوز على الله.


3 ـ نهي الله عن المعاصي، فلو كان مريداً لها لما جاز ذلك، ولو كان مريداً لها مع نهيه عنها لكان يجب أن يكون حاصلاً على صفتين متضادتين، إذ النهي لا يصير نهياً إلاّ بالكراهة، وهذا محال.


4 ـ لو كان الله مريداً للمعاصي لوجب أن يكون محباً لها وراضياً بها( [176] ).


ومن جملة استدلالات الشيخ جعفر السبحاني على هذه المسألة هو وجود التحسين والتقبيح في القرآن الكريم قائلاً: إن التدبر في آيات الذكر الحكيم يعطي أنه يسلم وجود التحسين والتقبيح العقليين خارج إطار الوحي، ثم يأمر بالحسن وينهى عن القبيح:


1 ـ قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِْحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)( [177] ).


2 ـ (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ)( [178] )


3 ـ (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ)( [179] ).


4 ـ (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)( [180] ).


فهذه الآيات تعرب بوضوح عن أنّ هناك اُموراً توصف بالإحسان والفحشاء والمنكر والبغي والمعروف مثل تعلق الأمر أو النهي بها، وأنّ الإنسان يجد اتصاف الأفعال بأحدها ناشئاً من صميم ذاته، كما يعرف سائر الموضوعات من الماء والتراب، وليس عرفان الإنسان لها موقوفاً على تعلق حكم الشرع وإنّما دور الشرع هو تأكيد إدراك العقل بالأمر بالحسن والنهي عنالقبيح( [181] ).


ثم يتحدث العلامة السبحاني عن دور التحسين والتقبيح والعقليين بأنهما يحتلان مكانة مرموقة في الأبحاث الكلامية إذ بها ينحل كثير من المشاكل في الكلام وغيره فيذكر من ذلك وجوب المعرفة بأن العقل يحكم بحسن المعرفة وقبح تركها، ولزوم النظر في برهان النبوة، وأن العلم بصدق دعوى النبوة إذا اقترنت بالمعاجز والبينات الواضحة، واتفاق الاُصوليون على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، واستقلال العقل بالتحسين والتقبيح من الملائمة للفطرة العلوية، أو المنافرة لها أساس الخاتمية وبقاء أحكام الإسلام وخلودها إلى يوم القيامة، كذلك يبعثان إلى لزوم بعث الأنبياء وثبات الاختلاق وتطورها، وأن الله عادل لا يجور( [182] ).


خلاصة الأمر أنّ مقولة الحسن والقبح اُثيرت بين المذاهب والفرق الإسلامية وكانت لهم آراء ونظريات مختلفة في ذلك، حيث تتأسس عليها آراء عقيدية هامة كما ذكر العلامة السبحاني، ويترتب عليها تفسير لفعل الله تعالى بالعباد، حيث تلخص رأي الأشعري في هذه المسألة أن العقل لا يستطيع أن يدرك حسن الأفعال وقبحها، وليس للأفعال كالظلم والعدل والكذب والصدق، طبيعة ذاتية توصف بالحسن والقبح، والحسن والقبح ما حسّنه الشارع أو قبّحه فقط، وللشارع أن يحسّن القبيح ويقبّح الحسن، وكان الأشعري قد سجّل رأيه هذا بقوله: ... فلمّا لم يكن الباري مملكاً ولا تحت أمر، لم يقبح منه شيء، فإن قال: فإنّما يقبّح الكذب، قيل له: أجل، ولو حسّنه لكان حسناً، ولو أقرّ به لم يكن عليه اعتراض( [183] ). مضافاً إلى الملاحظات التي ذكرناها وتأسيساً على ذلك ـ حسب رأي الأشعري ـ فله أن يدخل المجرمين الجنّة، وله أن يعذّب البريء، وهو عادل في ذلك.8 ـ الكفر والإيمان


يؤمن الأشاعرة بأنّ الإيمان بالله ورسله هو تصديق بالقلب، أما القول والعمل بالأركان فهي اُمور متفرّعة على ذلك الإيمان، ولا يخرج المسلم منه حتى ينكر شيئاً من ذلك; لذا فإن يغفر الله له برحمته، وإما أن تناله شفاعة النبي(صلى الله عليه وآله) لقوله: شفاعتي لأهل الكبائر من اُمتي، وإمّا أن يعذّب بقدر ما يستحق على جرمه( [184] )، وهم يوافقون بذلك رأي الشيعة الإمامية.9 ـ التكليف بما لا يُطاق


جوّز الأشعري أن يكلّف الله العباد بما لا يطاق( [185] )، ويسألهم عن ذلك ويحاسبهم عليه، وأن هذا التكليف لا ينافي العدل حسب رأيه.


ورُدّ بأن التكليف بما لا يطاق سواء كان ممكناً بالذات أو غير ممكن، مما يأباه العقل وتنكره الفطرة، ولا يقرّ به العقلاء في حياتهم الاجتماعية، كما تنكره الآيات الصريحة( [186] ).10 ـ كلام الله تعالى


ذهب الأشعري إلى أنّ كلام الله معنى قديم قائم في ذاته سوى العبارات، والعبارة دلالة عليه من الإنسان، فالمتكلم عنده من قام به الكلام.


وقد ردّ عليه: بأن المعاني الواردة في القرآن هي معان حادثة كقوله تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا...)( [187] )، فلا يصبح القول بأنها قديمة بل كلامه الذي خاطب به الأنبياء والرسول: هو حادث مخلوق من خلقه.11 ـ العدل


وكما مرّ فإن معنى العدل عند الأشعري: هو التصرّف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم، وليس هو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة، وإنطلاقاً من هذا التعريف ونفيه لمبدأ الحسن والقبح الذاتيين (العقليين) جوّز الأشعري كما عرفنا التكليف بما لا يُطاق، وأن يعذّب المطيع، وينعّم العاصي، كما آمن بنسبة فعل الإنسان إلى الله سبحانه، فأشكل عليه نقّاده والمختلفون معه في الرأي بأنّ مجمل هذا الإتجاه وتفصيله يعني نفي عدل الله سبحانه وإن لم تقله بصيغة لفظية.12 ـ الوعد والوعيد


ويقصد بالوعد الوفاء بالأجر والثواب على ما أمر به الله سبحانه والوعيد هو العقاب على ما نهى عنه، ويذهب الأشعري إلى القول بأن الله سبحانه لا يجب عليه الوفاء بالوعد والوعيد، وليس في ذلك ظلم لو فعله، ذلك لأنّ معنى عدل الله هو التصرف في الملك على مقتضى المشيئة والعلم، وليس هو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة، فلا يجب عليه شيء من حكم العقل( [188] ).


وقد أسس الأشعري هذا الرأي على نظريته في نفي الحسن والقبح العقليين.13 ـ كرامات الأولياء


ومما يؤمن به الأشعري هو إثبات الكرامات للأولياء، كما يثبت المعاجز للأنبياء(عليهم السلام)، وتلك الكرامات حسب رأيه في بعض دلالاتها تصديق للأنبياء، وتأكيد للمعاجز( [189] ).14 ـ الإمامة


ويذهب الأشعري إلى أنّ الإمامة تثبت بالاتفاق والاختيار دون النص والتعيين، والخلفاء الأربعة ـ حسب رأيه ـ مترتبون في الفضل وفق ترتبهم في تولي الخلافة، ويؤمن الأشعري أنّ الإمام الحقّ هو علي بن أبيطالب(عليهم السلام) وأما معاوية بن أبيسفيان وعمرو بن العاص فهم بغاة خرجوا على الإمام الحقّ فقاتلهم قتال البغاة( [190] )، ولقد كان علي(عليه السلام) مع الحقّ في جميع أحواله يدور الحقّ معه حيث دار( [191] ).


وأما الخوارج (أهل النهروان) ففي رأيه هم فئة مارقة عن الدين لما ورد من خبر عن النبي(صلى الله عليه وآله) في ذلك( [192] ).


ويلاحظ أنه قد اختلف مع الإمامية في تفضيل الخلفاء على علي(عليه السلام) حسب الترتب، واتفق معهم في الموقف من معاوية والخوارج.15 ـ في أهل القبلة جميعاً


أهل القبلة مصطلح يقصد به جميع المسلمين الذين يتوجهون إلى بيت الله الحرام في صلواتهم، والأشعري يرى كل أهل القبلة مسلمين موحّدين على اختلاف آرائهم ومذاهبهم في الاُصول والفروع، فقد روى أحمد بن زاهر السرخسي وهو من أصحاب الإمام أبيالحسن الأشعري، وقد توفي الأشعري بداره قال: أمرني الأشعري بجمع أصحابه فجمعتهم فقال: اشهدوا عليّ أني لا أُكفّر أحداً من أهل القبلة بذنب; لأني رأيتهم كلّهم يشيرون إلى معبود واحد، والإسلام يشملهم ويعمّهم( [193] ).خلاصة القول


خلاصة القول رأينا أنّ أباالحسن الأشعري تبنى قول أحمد بن حنبل باتّباع الظاهر بدون تأويل، لكنّه تراجع بعد ذلك إلى التأويل في كل ما يوهم التشبيه، إلاّ الاعتقاد برؤية الله تعالى في الآخرة، وناقض المعتزلة في منزلة العقل ودوره في الشرع وخالفهم فيمسألة الحسن والقبح العقليين، فجعل الحسن ما حسنّه الشارع والقبيح ما قبّحه الشارع وليس للعقل دور في معرفة ذلك، ولم يُفرّق في العقيدة بين السنّة المتواترة وأحاديث الآحاد، وجعل الصفات الثبوتية ـ العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصرـ صفات قديمة قائمة بذاته، لا يقال: هي هو، ولا هي غيره، ولا لا هو، ولا غيره( [194] ).


وكما ذكرنا في بداية هذا الفصل أنّه أعلن توبته عن مقالة المعتزلة في القدر وقال بقول الجبرية إلاّ أنه أدخل عليه مفهوم الكسب، ليكون الإنسان مسؤولاً عن فعله بالكسب كما سنرى ذلك لاحقاً.


هذه أهم آراء ومرتكزات أبيالحسن الأشعري العقائدية، حيث أعرضنا عن تفصيل بعضها وأشرنا إلى بعضها لضيق المجال واكتفينا بهذا القدر لكي نأخذ صورة تعكس عقائد وملامح المذهب الأشعري.


النظريات والمباني عند أبيالحسن الأشعريالنظرية الاُولى: نظرية التوفيق والوسطية


المتتبع لآراء الأشعري يرى أنه بالإضافة إلى اتفاقه مع آراء المحدثين والفقهاء وخلافه معهم ومع المعتزلة بالخصوص إلاّ أنه كانت آراؤه وسطاً بين المتنازعين والمختلفين، وفي هذا يقول الإمام محمد أبوزهرة: وفي الحقيقة أنّ آراءه كانت وسطاً بين المغالين، بين النفي والإثبات، والمتجاذبين لأطراف النزاع من المعتزلة والحشوية والجبرية، وأنّ الدارس لحياة الأشعري يجد أنّ الذي يتفق مع اطلاعه هو أن يختار مذهباً وسطاً بعيداً عن المغالاة على أي شكل كانت المغالاة، وكتابه مقالات الإسلاميين يدل على اطلاع غزير على أقوال الفِرق الإسلامية كله( [195] )، ولذلك رأينا أنّ رأيه في الصفات وسط بين المعتزلة ومعهم الجهمية، وبين الحشوية والمجسمة، ورأيه في قدرة الله تعالى وأفعال الإنسان وسط بين الجبرية والمعتزلة.


واشتهر عنه أنه عندما تحول إلى مدرسة الحديث وعندما أعلن ذلك في مسجد البصرة، ولجأ إلى مدرسة المحدثين، وإعلانه في كتابه (الإبانة) بأنه ماض على ما مضى عليه إمام الحنابلة بقوله: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب ربّنا عزّ وجل وبسنّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله) وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبوعبدالله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون; لأنّه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحقّ ودفع به الضلال وأفصح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين( [196] )، كذلك قال مثل ذلك في مقالات الإسلاميين: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب( [197] ).


ولكن على الرغم من هذا الكلام نراه قد انتهج منهجاً وسطاً، فنراه مثلاً ثبت آراء أهل الحديث في الصفات التي في إثباتها على الله تعالى تكون بظواهرها تلازم التشبيه والتجسيم وهما يخالفان العقل الذي تمسك به أهل العدل كالمعتزلة وغيرهم، فأضاف كلمة خاصة لكي يتخلص من شبهة التشبيه والتجسيم وهي: أنّ لله سبحانه وتعالى هذه الصفات لكن بلا تشبيه وتكييف.


كذلك نرى ابن عساكر قد ذكر ذلك قائلاً: إنّه نظر في كتب المعتزلة، والجهمية والرافضة، فسلك طريقة بينها. قال جهم بن صفوان: العبد لا يقدر على إحداث شيء ولا على كسب شيء، وقالت المعتزلة هو قادر على الإحداث والكسب معاً، فسلك طريقة بينهما، فقال: العبد لا يقدر على الإحداث، ويقدر على الكسب فنفى قدرة الإحداث وأثبت قدرة الكسب( [198] ).


إذن نستطيع القول إنّ المذهب الذي جاء به أبوالحسن الأشعري كان مذهباً مزيجاً ووسطاً بين مدرسة أهل الحديث ومدرسة أهل العقل والعدل، فيقول زهدي حسن جار الله: ... فتنكر للمعتزلة وأعلن انفصاله عنهم ورجوعه إلى حضيرة السنّة( [199] ) غير أنه لم يرجع إليها فعلاً كما أعلن للملأ بل إتخذ طريقاً وسطاً بينهما وبين مذهب المعتزلة( [200] )، كذلك نقل الدكتور بدوي: أو وقف موقفاً وسطاً بين أصحاب الحديث وأهل السنّة ومذهب المعتزلة وتوسط بين الطرق على حد تعبير ابن خلدون، أو كان له موقف مستقل ركّبه من آراء استمد بعضها من الآخرين واستمد البعض الآخر من ذاته، فنتج عن ذلك مركب أصيل، هو ما يمكن أن يسمى بمذهب الأشعري( [201] ).


ويقول العلامة جعفر السبحاني في هذا الصدد: وقد صادف هذا العمل قبولاً لدى الناس، ما عدا الحنابلة، ولاقى استحساناً ولا عجب فإن الجمود على التقليد ما كان ليروق للكثير بسبب تقدم الاُمة في الحضارة واقتباسها العلوم العقلية، واطلاعها على فلسفة الأقدمين، وفي الوقت نفسه أصبح الناس لا يرتاحون إلى المعتزلة بعد أن تطرفوا في عقائدهم، وأساؤوا التصرف مع غيرهم، فكانت الحاجة تدعو إلى من يؤلف بين وجهتي نظر السنّة والاعتزال، وهذا هو ما بدأه الأشعري وأكمله من بعده أتباعه الكثيرون الذين اعتنقوا مذهبه وساروا على طريقه( [202] ).


ومن الآثار السلبية التي يسوقها العلاّمة جعفر السبحاني على آثار هذا التوجه الوسطي قائلاً: ترى أنه دعا إلى رؤية الله سبحانه يوم القيامة التي لا تنفك عن القول بالتجسيم والتشبيه وإن أضاف إليه بأن الرؤية بلا إثبات جهة ولا كيف، وإلى القول بالقدر والخلق الذي يجعل الإنسان كالريشة في مهب الرياح... وإلى إنكار التحسين والتقبيح العقليين... إلى غير ذلك من الاُصول( [203] ).


ويلاحظ عليه أيضاً: فان الحركات الفكرية التي ظهرت بعد نكبة المعتزلة كاخوان الصفا لم تجسر أن تعلن عن نفسها خشية طغيان العامة عليها فاضطرت إلى أن تعمل في الخفاء فكان من أسوأ النتائج التي ترتبت على ذلك، شيوع عادة تأليف الفرق والجمعيات السرية كالقرامطة والحشاشين الذين كان لهم أثرٌ كبير في إضعاف الإسلام وتأخيره، أما الذين وجدوا في أنفسهم الجرأة ليتابعوا دروسهم وأبحاثهم على رؤوس الأشهاد وهم جماعة الفلاسفة كالفارابي، وابن سينا، وابن رشد، فقد كانوا مكروهين وظلوا طوال الوقت يحيون في جوٍّ ناء منفصل عن الجوّ الذي تعيش فيه سائر الاُمة( [204] ).النظرية الثانية: نظرية الكسب


ترتبط هذه النظرية ارتباطاً وثيقاً مع الأصل الذي ذكرناه في اُصول المذهب الأشعري، ألا وهو أفعال العباد ولقد أشرنا إلى الكسب هناك، ولكن لأهمية هذه النظرية رأينا أن نخصص شيئاً من البحث حول هذه المقولة التي جاء بها أبو الحسن الأشعري، وهذه النظرية أيضاً ترتبط بمفهوم الجبر والاختيار، وكان الأشعري قد فارق المعتزلة في الجبر والاختيار، وميّز قوله عن قول الجبرية الخالصة بإضافة عنصر الكسب، والكسب عنده: هو الاقتران بين الفعل الذي هو مخلوق لله تعالى وبين اختيار العبد، من غير أن يكون للعبد تأثير في الكسب! هذا القول الذي وصفه العلماء بأنه يؤدي إلى الجبر لا محالة، لأنّ هذا الكسب مخلوق لله تعالى كالفعل نفسه! فبعضهم وصفه بأنه الجبر المتوسط، وبعضهم وصفه بأنّه الجبر الكامل( [205] ).


وأما الإمام محمد أبوزهرة فقد ذكر نظرية الكسب للأشعري بما يلي: ورأيه في قدرة الله تعالى وأفعال الإنسان وسط بين الجبرية والمعتزلة، فالمعتزلة قالوا: إنّ العبد هو الذي يخلق أفعال نفسه بقوة أودعها الله تعالى إياه، والجبرية قالوا: إن الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولا كسب شيء، بل هو كالريشة في مهب الريح، فقال الأشعري إنّ الإنسان لا يستطيع إحداث شيء ولكن يقدر على الكسب( [206] ).


والتساؤل المطروح هو: ماهو الداعي لإضافة الكسب إلى أفعال العباد عند الأشعري؟ فيقول العلامة السبحاني في تفسير هذا الداعي: فلأن الأشعري من أهل التنزيه وهو يناضل أهل التشبيه والتجسيم كما يخالف المجبرة، ولما كان القول بأن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه لا غير، مستلزماً لوقوع الشيخ الأشعري ومن لفّ لفه في طريق الاعتراض، إذ لقائل أن يقول:


إذا كان الخالق هو الله سبحانه فلابد أن يكون هو المسؤول لا غير، وحينئذ يبطل الأمر لأجل الخروج عن ذلك المضيق إلى نظرية ضرار معتقدين بأنهم يقدرون بها على حل العقدة وقالوا: إنّ الله سبحانه هو الخالق، والإنسان هو الكاسب فلو كان هناك مسؤولية متوجهة إلى الإنسان فهي لأجل كسبه وقيامه بهذا العمل( [207] ).


وينتقد السبحاني هذه النظرية قائلاً: .. عبارة الشيح في اللمع...: لما كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسباً; لأن حقيقة الكسب هو أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة...( [208] )


وباختصار أنّ العبارة المذكورة عبارة مجملة وهي على فرض القول بتأثير قوة العبد في عرض قدرة الله سبحانه أو طوله، يستلزم إما اجتماع القدرتين على مقدور واحد ـ إذا كانت القدرتان في عرض واحد ـ أو كون الفعل مقدوراً للقدرة الثانية، أعني قدرة العبد ـ إذا كانت القدرتان طوليتين ـ وعلى فرض عدم تأثير قدرة العبد، وكون الفعل متحققاً بقدرته سبحانه عند حدوث القدرة في العبد يعود الإشكال بعينه ولا تكون للكسب واقعية أبد( [209] ).


ويقول في مكان آخر: ونعم ما قال علاّمة الشيعة في نهج الحق: إنّ القدرة حسب مذهب الأشاعرة غير مؤثرة البتة، لأن المؤثر في الموجودات هو الله تعالى، فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول; لأنه خلاف مذهبهم( [210] ).


أما المعتزلة فإنهم يرون أنّ الإنسان خالق لأفعاله ولا يرون ما قاله الأشعري في أنّ فعل العبد يخلقه الله تعالى، ولكن القاضي عبدالجبار لا ينسب الكسب إلى الأشعري، بل إلى ضرار بن عمرو: المجبري فهو أوّل قائل بالكسب، وضرار( [211] ) بن عمرو عاش في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري، وكان المجلس له بالبصرة قبل أبيالهذيل. ويقول عبدالقاهر البغدادي في الفرق بين الفِرق إنّه قال بالكسب( [212] ) وإذن يعترف الأشاعرة أنفسهم بأنه أوّل من قال به قبل شيخهم أبي الحسن الأشعري( [213] )، فيقول القاضي عبدالجبار: المجبرة ينسبون أفعال العباد إلى الله، ومنهم جهم بن صفوان الذي يقول إنّها لا تتعلق بنا، وإنما نحن كالظروف لها، فإن خلقها فينا كانت، وإن لم يخلقها لم تكن( [214] ).


ومن ردود القاضي عبدالجبار على الأشاعرة في فكرة الكسب ما يلي: عقّلونا معنى الكسب وخبّرونا عنه؟ فإن اشتغلوا بالتحديد قلنا: الشيء يعقل أوّلاً ثم يُحدّ; لأن التحديد ليس إلاّ تفصيل لفظ مشكل بلفظ واضح، فكيف توصلتم إلى معناه بطريق التحديد؟


ثم يقال لهم: وماهو الذي حددتم به الكسب؟ فإن قالوا: ما وقع بقدرة محدثة ـ قلنا: ما تعنون بقولكم: ما وقع بقدرة محدثة؟ فإن أردتم به ما حدث فهو الذي نقوله، وإن أردتم به ما وقع كسباً، فعن الكسب سألناكم، فكيف تفسرونه بنفسه، وهل هذا إلاّ إحالة للمجهول على المجهول( [215] ).


وبنفس السياق ربّما يطلق على هذه النظرية نظرية الكسب بنظرية إنكار مبدأ العلّية والسببية أو نظرية العادة لما لها من علاقة في مسألة أفعال العباد والتي ذكرنا مفادها: أن ليس بين الموجودات والحواث أية علاقة علّية، ولكن جرت عادة الله (سنته) سبحانه أن يخلق عقيب الحادثة حادثة اُخرى، حيث لخّص الشهرستاني في الملل والنحل هذه النظرية بقوله: ... ثم على أصل أبي الحسن: لا تأثير للقدرة الحادثة في الأحداث... غير أن الله تعالى أجرى سنّته بأن يخلق عُقيب القدرة الحادثة أو تحتها أو معها الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرّد له، ويسمى هذا كسباً فيكون خلقاً من الله تعالى إبداعاً وإحداثاً، وكسباً من العبد حصولاً تحت قدرته( [216] ). وقد رأينا كيفية إبطال هذه النظرية.


ومن الذين أنكروا نظرية الكسب للأشاعرة هم أقطاب الأشاعرة أنفسهم ومن هؤلاء:


1 ـ إمام الحرمين أبوالمعالي الجويني المتوفى (478 هـ)، فقد صرّح بتأثير قدرة العباد في أفعالهم، وأن قدرتهم تنتهي إلى قدرة الله سبحانه، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات، وكل سبب يستمد من سببه المقدم عليه، وفي الوقت نفسه يستمد ذاك السبب من آخر، إلى أن يصل إلى الله سبحانه وهو الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني على الإطلاق( [217] ).


2 ـ الشيخ الشعراني المتوفى (973 هـ) وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال، وقال: من زعم أنه لا عمل للعبد فقد عاند، فإن القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء، ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك فلا بد أنه مضطر على الاختيار( [218] ).


3 ـ الشيخ محمد عبده المتوفى (1323 هـ) فقد خالف الرأي العام عند الأشاعرة وصرّح بتأثير قدرة العبد في فعله ولم يبال في ذلك باعتراض رجال الأزهر الذين كانوا يُكفّرون من قال بالعلّة الطبيعية أو بمطلق العلّة غيره سبحانه ويرددون في ألسنتهم قول القائل:






  • ومن يَقُلْ بالطَّبْعِ أو بالعِلّة
    فذاك كُفْرٌ عند أهلِ المِلّة



  • فذاك كُفْرٌ عند أهلِ المِلّة
    فذاك كُفْرٌ عند أهلِ المِلّة




قال الإمام عبده في كلام طويل: منهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق وهو غرورٌ ظاهر( [219] )، ومنهم من قال بالجبر وصرّح به، ومنهم من قال به وتبرّأ من اسمه( [220] ) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف وإبطال لحكم العقل البديهي، وهو عماد الإيمان، ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله يؤدي إلى الإشراك بالله ـ وهو الظلم العظيم ـ دعوى مَن لم يلتفت إلى معنى الاشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة، فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثراً فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة، وأن لشيء من الأشياء سلطاناً على ما خرج عن قدرة المخلوقين...( [221] ).


/ 4