امام الصادق و المذاهب الاربعة جلد 5

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

امام الصادق و المذاهب الاربعة - جلد 5

حیدر اسد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

مناقشة أبي زهرة بمسألة الصحابة

ونعود إلى الحديث مع الشيخ ومناقشته بعد أن ذهبنا في الموضوع إلى بيان ما يتعلق بمسألة الصحابة من حيث هي، إجمالا في البيان، واختصاراً للكلام، وإلاّ فالأمر يدعو إلى مزيد من البيان، وسعة في البحث، لأنّها أعظم مشكلة حلّت في الجامعة الإسلامية، فقد اُريقت دماء أتباع أهل البيت(عليهم السلام) بحجة سبّ الصحابة، أو سبّ الشيخين، وقد أفتى علماء الدولة بأنّ سابّ الشيخين يقتل ولا تقبل توبته، إلى آخر ما هنالك من اُمور كانت أعظم سبب في تفرقة الصف الإسلامي، وهي مثار لكثير من المشاكل التي أحاطت بالمجتمع.

نعم نعود فنسائل فضيلة الشيخ عن قوله: إنّ أصحاب محمد جميعاً كانوا محل تقدير جعفر وأبيه. فما هو الدليل على ذلك؟ وأيّ أثر استنتج منه هذا القول؟ وكيف صحّ هذا التعبير؟

أيصح أن يقال: إن جميع الصحابة كانوا محل تقدير جعفر وأبيه؟

وإن كلّ من وسم في الصحبة هو عادل([259])، كما هو رأي الجمهور من السنة؟ وبهذا تظهر مخالفة الشيعة لأهل البيت(عليهم السلام) وذلك قول لا يسنده برهان ولا تدعمه حجة.

أيكون اُولئك الذين وصفهم القرآن بصفات الكمال والعدالة وحقيقة الإيمان، هم وأهل الجرائم ومن يراؤون الناس فيقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم على حد سواء؟

أنقول بعدالة الجميع ونعصب عيوننا عن تلك المشاهد المؤلمة، التي مثّلها بعض من وسم بالصحبة؟ أم نصمّ أسماعنا عن أصوات المظلومين الذين تجرّعوا الغصص والمصائب من سوء أعمال من وسموا بالصحبة؟

وإنّ أجلى مثال لما نقوله، وأصدق صورة لما نبيّنه، هو عهد معاوية، ذلك العهد الظالم، والدور المظلم وهو معدود من الصحابة، وقد وازره على ذلك عدد يعدون منهم: كمروان بن الحكم، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وبسربن أرطأة، وعمر بن العاص، وغيرهم.

ولنترك الحديث للمؤلّف نفسه عن ذلك العهد الأسود، ونرجع إلى الوراء قليلا، ونصغ لبعض حديثه هناك عن أعمال معاوية وأعوانه، إذ يقول في ص 114: لقد ارتكب معاوية بن أبي سفيان أشدّ ما ارتكب لطمس معالم الشورى في الحكم الإسلامي، فقد عهد إلى ابنه يزيد بن معاوية، فحوّل الخلافة إلى ملك عضوض، بل إلى ملك فاجر، وقد زعم وهو يعهد إلى ابنه بأنّه يقتدي في أبي بكر وعمر...

ويقول: أمّا معاوية بن أبي سفيان فقد علم فيه التاريخ ما علم، وقد قال في هذا المقام الحسن البصري: أربع خصال في معاوية لو لم تكن إلاّ واحدة لكانت موبقة: خروجه على هذه الاُمة بالسفهاء حتى ابتزّها بغير مشورة منهم، واستخلافه يزيد وهو يسكر ويلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياداً وقد قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): الولد للفراش، وللعاهر الحجر وقتله حجر ابنعدي([260]).

ويقول في ص 116: وهنا مثل آخر لتأثير الوقائع على الآراء: ما سنّه معاوية من سُنّة سيئة، وهي لعن علي سيف الإسلام على المنابر، فإنّ ذلك له تأثير شديد في نفوس المؤمنين، لأنّ ما ثبت لعلي من سابقات مكرمات، لا يمكن أن يذهب إذا وقف منافق يلعنه، بل إنّ ذلك يزيد منزلته في النفوس تمكيناً، إذ يحسّ الناس بغضاضة الظلم، وفحش العمل، فيلعنون في نفوسهم ومناجاتهم ـ من يلعن سيف الله الذي سلّه على الشرك ـ ولذلك سادت النقمة ولم تعلن الحروب على من يأمرون بلعن الإمام العالم، التقي رضي الله عنه، وعن آله الأطهار، وإذا كان قد روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال لعلي كرم الله وجهه: لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق.([261]) فقد علم الذين شاع بينهم الخبر وصف النبوة لهؤلاء الذين سنّوا سنّة السوء.

وقال في ص 112: وقد لام كثيرون معاوية على ذلك العمل (أي سبّ علي(عليه السلام)) البالغ أقصى حدود الحقد، ولقد أرسلت اُم المؤمنين السيدة اُم سلمة تقول له: إنكم تلعنون الله ورسوله; إذ تلعنون علي بن أبي طالب ومن يحبّه، وأشهد أنّ الله ورسوله يحبانه.([262])

وقال في ص 116: ولكن تعلل معاوية في خروجه بأن الاختيار لمن في المدينة وغيرها من الأمصار، ولا حكم لعلي ما دام اختياره لم يتم بالعرب في جميع الأمصار الإسلامية كلّها، ولكن ذلك التعلل لم يمنع من أن يحكم عليه بالإجماع أنّه كان باغياً، وإن ترفق بعضهم فسماه متأولاً، ولكن يجب على المترفق أن يقول: إنّ تأويله كان باطلا لا يبرر خروجه على مثل إمام الهدى علي بن أبي طالب، إن كان للدين سلطان على نفسه.

هذا بعض ما حدّثنا به المؤلف عن أعمال معاوية وحزبه، وفيهم من وسموا بالصحبة وكانوا في عداد الصحابة; وعلى هذا أيصح أن يكون أمثال هؤلاء محل تقدير جعفر وأبيه وهم يعلنون سبّ علي(عليه السلام)؟ حتى ورد أنّه كان في أيام بني اُمية أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي(عليه السلام) بما سنه لهم معاوية بن أبي سفيان.

وأخرج الدار قطني: إنّ مروان بن الحكم قال: ما كان أحد أدفع عن عثمان من علي.

فقيل له: ما لكم تسبّونه على المنابر؟ فقال: إنّه لا يستقيم لنا الأمر إلاّ بذلك.([263])

وقد أشار إلى ذلك العلاّمة أحمد الحفيظ الشافعي في اُرجوزته:

وقد حكى الشيخ السيوطي أنه *** قد كان فيما جعلوه سنه

سبعون ألف منبر وعشره *** من فوقهن يلعنون حيدره

وهذه في جنبها العظائم *** تصغر بل توجه اللوائم

فهل ترى من سنها يعادى *** أم لا وهل يستر أو يهادى

أو عالم يقول عنه نسكت *** أجب فإني للجواب منصت

وليت شعري هل يقال اجتهدا *** كقولهم في بغيه أم ألحدا

أليس ذا يؤذيه أم لا فاسمعن *** إن الذي يؤذيه يؤذي من ومن

بل جاء في حديث اُم سلمه *** هل فيكم الله يسب منه له ([264])

عاون أخا العرفان في الجواب *** وعاد من عادى أبا تراب([265])

فكيف يكون هؤلاء محلّ تقدير جعفر وأبيه كما يقرّره المؤلف؟

أيكون المغيرة بن شعبة الذي كان يلعن علياً على منبر الكوفة; ويدعو الناس إلى البراءة منه محلا للتقدير؟

أم سمرة بن جندب الذي أراق دماء المسلمين; وهتك الحرمات عند ولايته على البصرة من قبل زياد في عهد معاوية، وكان ممّن يحث الناس على الخروج لحرب الحسين(عليه السلام)؟ وقد وضع أحاديث فيما يؤيد معاوية ويشدعضده.

أم بسر بن أرطأة ذلك السفاك لدماء المسلمين; ومن هتك حرماتهم وقد سبى نساء المسلمين في اليمن; وأقامهم في الأسواق للبيع; فكان يكشف عن سوقهن فأيّهن أعظم ساقاً اشتريت([266])؟

أم أبو الغادية قاتل عمار بن ياسر رضوان الله عليه؟ وقد قال رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم):يا عمار تقتلك الفئة الباغية. ([267])

وهكذا مما لا يسع المقام تعدادهم; وهم الذين آزروا الحكم الاُموي الغاشم، وأعلنوا الحرب على أهل البيت(عليهم السلام); واشتركوا في إراقة تلك الدماء الزكية.

ولا نريد هنا أن نعود إلى زمان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فنعطي صورة عمن وسموا بصحبته ولكنهم انحرفوا عن الحق وخالفوا أوامره ([268]).

ونحن ندين الله بحبّ من أحسن الصحبة; ونتبرأ ممن أساء وانحرف عنالحقّ.

ونعود مع الشيخ من جديد إلى الرواية التي أوردها حول آية الولاية، ولعله استنتج منها حكمه السابق وإن كانت لا تنتج شيئاً.آية الولاية

هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)([269]).

هذه الآية الكريمة نزلت في الإمام علي(عليه السلام); ويكاد المفسرون يجمعون على ذلك; ورواه كثير من حفّاظ الحديث عن علي(عليه السلام)، وعبدالله بن عباس، وعمار بن ياسر، وأبي رافع.

وأخرجه الخطيب في المتفق; وابن مردويه في مسنده ([270])، وكنز العمال ([271])ومنتخبه، وإسحاق النيسابوري في تفسيره ([272]).

وقد نقل إجماعهم هذا القوشجي في مبحث الإمامة من شرح التجريد.([273])

وأخرج الطبراني في الأوسط بسند عن عمار بن ياسر قال: وقف سائل على علي بن أبي طالب وهو راكع في تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل; فنزلت (إنَّما وليّكُم اللهُ ورسولهُ).([274])

وقال السيوطي في اللباب: وله شاهد: قال عبد الرزاق: حدثنا عبد الوهاببن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ...)الآية.

وأخرج بن جرير عن مجاهد وابن أبي حاتم عن سلمة بن كهيل مثله، فهذه شواهد يقوّي بعضها بعضاً ([275]).

وقال الواحدي في أسباب النزول: إنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب لأنّه أعطى خاتمه سائلا وهو راكع; وعن ابن عباس: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فنظر سائلا فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): هل أعطاك أحد شيئاً؟

قال: نعم خاتم.

قال(صلى الله عليه وآله وسلم): من أعطاكه؟

قال: ذاك القائم وأشار بيده إلى علي(عليه السلام).

فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): على أيّ حال أعطاكه؟.

قال: أعطاني وهو راكع فكبّر رسول الله ثم قرأ: (وَمن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَـلِبُونَ)([276])

هذا بعض ما ورد حول هذه الآية نذكره بإيجاز للتنبيه على عدم صحة ما نسب للإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام) حول آية الولاية; إنّها لجميع الصحابة.

وقد ورد عنه(عليه السلام) بطرق صحيحة، أنّه(عليه السلام) قال: أمر الله عزّوجلّ بولاية علي(عليه السلام)وأنزل قوله تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ )([277]).

وكذلك ورد عن ولده أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) ، كما رواه عبد الأعلى قال: قلت لأبي عبدالله الصادق(عليه السلام): الأوصياء طاعتهم مفترضة؟. قال: نعم، هم الذين قال الله عزّوجلّ فيهم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) الآية.

وعن الحسين بن أبي العلاء قال: ذكرت لأبي عبدالله قولنا في الأوصياء: إنّ طاعتهم مفترضة.

فقال(عليه السلام): نعم، هم الذين قال الله عزّوجلّ فيهم: (أَطِيعُواْ اللَّهَ وأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاَْمْرِ مِنكُمْ) وهم الذين قال فيهم: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ)([278]).

وعلى أيّ حال: فإنّ المؤلف لم يبين لقرّائه رأي الإمام الصادق(عليه السلام) في الصحابة، ولم يأت بأثر عنه في ذلك، والواقع أنّ الغرض لم يتعلق ببيان رأي الإمام الصادق(عليه السلام)في ذلك، ولكنّ الغرض يدور حول معتقد الشيعة ـ وقد أشرنا إليه ـ وهل أنّهم يتبعون أهل البيت أم لا؟.

أما الجهة التي تعرّض لها وهي الطعن في الشيخين أو الخلفاء فإنّا نقول: من هو الذي يقول: أنّ الأئمة يجوّزون ذلك؟ وأنّ الشيعة يعتقدون هذا؟ ولنترك الجواب لسماحة الاُستاذ الأكبر المغفور له حجة الإسلام الشيخ محمدالحسين آل كاشف الغطاء رحمه الله.

قال بعد ذكر الاختلاف في الخلافة في بحث الفروق الجوهرية بين الطائفتين ([279]): نعم ونريد أن نكون أشدّ صراحة من ذلك، ولا نبقي ما لعلّه يعتلج أو يختلج في نفس القراء فنقول: لعلّ قائلا يقول: إنّ سبب العداء بين الطائفتين أنّ الشيعة ترى جواز المس من كرامة الخلفاء، أو الطعن فيهم، وقد يتجاوز إلى السبّ والقدح، ممّا يسيء الفريق الآخر ويهيج عواطفهم فيشتدّ العداء والخصومة بينهم.

والجواب أنّ هذا لو تبصرنا قليلا ورجعنا إلى حكم العقل، بل والشرع أيضاً لم نجده مقتضياً للعداء أيضاً.

أمّا أوّلاً: فليس هذا من رأي جميع الشيعة، وإنّما هو رأي فردي من بعضهم، وربّما لا يوافق عليه الأكثر، كيف وفي أخبار أئمّة الشيعة النهي عن ذلك؟ فلا يصحّ معاداة الشيعة أجمع لإساءة بعض المتطرفين منهم... الخ.

وما أكثر الشواهد على تفنيد تلك المزاعم وكذب تلك الأقوال حول عقيدة الشيعة في الصحابة!

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المؤلّف يوافق القائلين بأنّ الشيعة يطعنون على جميع الصحابة بدون استثناء، كما أشرنا لذلك، ولكنه بعد برهة من المضي في بحثه يعترف بخطئه ويستغفر من ذنبه، وذلك بعد أن وقف على ما نقله عن ابن أبي الحديد وأورده في ص 209 عقبه بقوله: ولا شكّ أنّ هذا الرأي معتدل في هذا الجزء كلّ الاعتدال، ويكون تعميم الحكم عليهم بأنّه في ماضيهم يستسيغون سبّ الصحابة، وإذا كانت بعض عباراتنا فيما كتبنا تفيد التعميم فإنّا نستغفر الله عنها، ونقول: يجب تخصيص هذا العام.

وهكذا يتراجع الشيخ عن رأيه وينقض حكمه، ويعترف بخطئه ويستغفر من ذنبه. وأنّ هذا الحكم الجائر: وهو تعميم سبّ الشيعة لجميع الصحابة أو بعضهم هو أمر دبّر بليل، وخطة مرسومة من قبل ولاة أمر حاولوا القضاء على أتباع آل محمد، فقد جعلوا ذلك وسيلة للقضاء عليهم، إذ رموهم بالزندقة والكفر، وقد وجدت السياسة بهذا الحكم الجائر أقرب طريق للقضاء على الشيعة، وهم خصوم لاتلين قناتهم، ولا يرهبهم الموت، ولا تفزعهم أهوال الإشاعات الكاذبة، ما داموا على بيّنة من أمرهم في المحافظة على وصية النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في آله، فهم أهل الحقّ وأئمة الهدى، ومهما كلّفهم الأمر في ذلك من تحمل المحن، ومواجهة المصاعب فهم لا يزدادون إلاّ إيماناً، ورسوخ عقيدة، ولم تقعد بهم تلك الإشاعات المغرضة، والأقوال المكذوبة التي كان يروّجها دعاة السوء وأعوان الظالمين.

وإنّ الشيخ أبا زهرة قد أطلق حكمه بدون دراسات للبيّنات، أو وقوف على حقيقة الأمر، وإنّما كان ذلك لتأثره بتلك الدعايات الكاذبة، وقد اعترف بخطئه واستغفر من ذنبه. ([280])

وفيما قدمناه كفاية عن الإطالة، لأنّنا قررنا الاختصار في البحث وترك المناقشة لاُمور استوجبت ذلك. إننا نترك الكثير من الأشياء التي تلفت النظر وتستوجب المناقشة، ونشير للبعض بموجز من القول حتى ننتهي إلى الحد الذي تقرر الوقوف عليه والافتراق منه.

ولهذا فإنّا نسرع الخطى، ولا نقف عند أكثر نقاط المناقشة، فنمر على ما يذكره حول رأي الإمام الصادق(عليه السلام) في شروط الإمامة ص 211 وقوله: إنّنا لانتفق مع إخواننا الإمامية في الإمامة كانت بالنص إلى آخر ما يقوله ولا نتعرّض له بشيء، لأنّا قد بيّنا هناك ضعف أدلّته، وعقم استنتاجه، فلنتركه ورأيه.

كما أننا نترك التعليق على ما يقوله في ص 212: إننا لا نعرف للإمام رأياً مقطوعاً بنسبته في ذلك، لأنّ الذين كانوا يتشيعون له... الخ.

وهنا لا نقف معه. لأنّ المقطوع به أن الأخ المؤلف لم يصل بدراسته إلى إيضاح رأي من آراء الإمام الصادق(عليه السلام)، ولم يوضّح لقرّائه من ذاك شيئاً.

ومن الحقّ أن نقول: إنّ المؤلف قليل العدة من المصادر التي يتعرف على آراء الإمام الصادق(عليه السلام) منها، ولهذا أصبح في دائرة ضيقة مع فسحة المجال في ذلك.

ونستمر مع الاُستاذ بعجالة فنمر على كلمته التي تحزّ في النفس وتبعث على الأسف لما وصل إليه من التساهل في الحكم وهي قوله في ص 213: وقد مدّ يده أي الإمام الصادق(عليه السلام) ليبايع عبدالله بن الحسن.

وهذا أمر لم تشر اليه المصادر التاريخية مطلقاً، ولا يكون أبداً، ولكنّ المؤلف استنتجه بدون مقدّمات، وقد أشرنا له.

وبعد هذا نسرع أكثر من قبل، ونعرض عن ذكر أيّ شيء فنتحول من ص213 إلى 252 وإنّما قطعنا هذه المسافة بسرعة لأنّ الحديث فيها يدور حول آراء الإمامية بالذات، ويذكر آراء الإمام الصادق(عليه السلام) بالعرض، وهو خلاف موضوع البحث فنتركه عن النقاش، ونصل إلى موضوع:فقه الإمام الصادق(عليه السلام)

وهو موضوع مهم، وعنوان شيّق، إنّه يريد أن يحدّثنا عن فقه

الإمام الصادق(عليه السلام)، وبدون شكّ، إنّنا نهتمّ بهذا غاية الاهتمام، وهو

مدار بحثنا.

ماذا يريد أن يقول المؤلف تحت هذا العنوان؟ أتراه يريد أن يقدّم دراسة تاريخية عن مدرسة الإمام، ونشاطها وكثرة المنتمين؟ أم تراه يريد أن يتحدّث عن تراث الإمام العلمي، ومكانته في المجتمع، وأثره في بعث الفكر الإسلامي؟

وهل يحاول أن يقدّم لقرّائه عن فقه الإمام الصادق(عليه السلام) ما يتفق مع الواقع؟

نريد أن نتريث ونترك الاستعجال ولنصغ لبعض حديثه حول الموضوع إذ يقول: إنّه بلا ريب كان الإمام الصادق من أبرز فقهاء عصره إن لم يكن أبرزهم، وقد شهد له بالفقه فقيه العراق الإمام أبو حنيفة، الذي قال فيه الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة.

ثم يستمر بالحديث حول رواية الإمام الصادق، والرواة عنه، ويتعرّض للتشكيك في صحة ما يروى عنه(عليه السلام)، لا من حيث ذاته، ولكن من حيث سند الرواية، ثم يمزج بين الخطابية وأصحاب المغيرة وغيرهم فيمن روى عنه الأكاذيب إلى أن يأتي لتأييد ما يراه وقرره في نظره سابقاً من أنّ الإمام الصادق(عليه السلام)كان يروي عن غير آبائه الكرام ويورد رواية كتاب الآثار لأبي يوسف عن أبي حنيفة عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عمر... الخ، كما في ص 253 وهكذا حتى ننتهي إلى آخر البحث ص 255.

ولنقف هنا ملياً ـ رغم إصرارنا على عدم الوقوف ـ ونشر إلى ما تجدر الإشارة إليه بدون إسهاب، وبعد فحص ما ذكره الاُستاذ لم نلمس شيئاً حول بيان فقه الصادق، ولم يتبين لنا ما يندرج تحت العنوان، سوى ألفاظ لا تؤدي إلاّ إلى التشكيك، ولا تخلو من وخزات.

والذي نودّ التنبيه عليه هو رواية أبي حنيفة، فإنّه أسند عن جعفر بن محمد عن سعيد بن جبير، وهذا أمر لا يخلو من مناقشة، فإنّ التاريخ لم يثبت لنا التقاء سعيد بن جبير بالإمام الصادق(عليه السلام) لأنّ ولادة الإمام الصادق(عليه السلام) كانت سنة (83هـ) وكان سعيد مع ابن الأشعث في حربه على الحجّاج، وقد شهد وقعة دجيل سنة (82 هـ) ووقعة دير الجماجم سنة (83 ـ 85 هـ) وهرب سعيد إلى بلاد إيران، وبقي متخفياً هناك خائفاً من الحجاج واعتمر متخفياً وكان يأوي إلى الشعاب والوديان، وألقي عليه القبض، وقتله الحجاج في شهر شعبان سنة (95هـ) وكانت مدة اختفائه اثنتي عشرة سنة ولم يلتقِ بالإمام الصادق(عليه السلام)، وكان عمره(عليه السلام) يوم قتل سعيد أحد عشر عاماً.

والغرض: نحن نشك في صدق هذه الرواية، كما نشك في صدق ما أورده من قول الشافعي في أبي حنيفة.

وننتهي من الحديث عن فقه الإمام الصادق، ولكن بدون نتيجة، لأنّه لم يتعرف على فقه الإمام الصادق(عليه السلام) لما ساوره من تشكيك، وما اعترض طريقه من عقبات وبدون شك أنّها وهمية.

وهنا يحاول أن يتصل به من طريق آخر وهو طريق الشيعة فيضع العنوان المتقدم ويقول في ص 156:

ولذلك لا بدّ لتعرف فقه الإمام الصادق من الشيعة، ونخصّ منهم بالذكر الإثني عشرية، لأنّهم متمسكون بالقول: بأنّ فقههم ينتهي الى الإمام الصادق وسائر الأئمة الأحد عشر(عليهم السلام); لأنّ الثاني عشر مغيب لا يعرف علمه في غيبته.

ثم يمضي المؤلف في كلامه حول الرواية عن الإمام الصادق(عليه السلام) بما يشاء أن يتكلم به، مما يطول نقله ونبعد عن الطريق في نقاشه، إلى أن يقول في صفحة 258:

الأمر الثاني الذي يعترض الباحث عندما يدرس الروايات عن الإمام الصادق(عليه السلام) وغيره أنّه إن طبق اُصول الإسناد التي يطبقها علماء الحديث لايجد السند متصلاً بينها وبين الإمام في كلّ الأحوال، ذلك أنّ أقدم المؤلفين الذين جمعوا أحاديث الصادق وأفعاله وأقواله هو الكليني في كتابه الكافي، وإذا لوحظ أنّ الكليني توفي سنة (329 هـ) أي بعد وفاة الإمام الصادق رضي الله عنه بنحو من 181 ولم يذكر السند المتصل إلى الإمام الصادق في كلّ الأحوال. نعم إنّه يروي الكثير عن تلاميذه ولكن من المؤكد أنه لم يلتق بتلاميذه إلاّ إذا فرضنا أنّ تلاميذه امتدّت أعمارهم إلى أكثر من مائة سنة أو فرضنا عنده سنداً متصلا غير منقطع، ومن تلاميذه من مات في حياته كالمعلّى بن خنيس.

قد يقال: إنّ تلك الأحاديث والأخبار كانت مدوّنة عند تلاميذ الصادق وإنّه نقل هذه المدونات، ولكن يجب أن تكون هذه المدونات قد اشتهرت وعرفت، وتكون هي الأصل الذي يعتمد عليه، ولا يكون الأصل هو الكافي وحده، أو غيره من الكتب التي جاءت من بعده، بل يعد الأصل تلك المدونات التي دونها أصحابه كالشأن في المجموعين اللذين أسندا إلى الإمام زيد رضي الله عنه، فإنّهما نسب جمعهما إلى تلميذه أبي خالد، وعرف من تلقاهما عن أبي خالد، ومن تلقاهما منه جيلاً بعد جيل حتى اشتهرا وصارا ككل كتاب مشهور معروف تتوارثه الأجيال بعد هذا الاشتهار، وقد يقول قائل: إن هذه الكتب قد اشتهرت وتوارثتها الأجيال جيلاً بعد جيل، ونقول: إنّ الكلام في الفترة ما بين الكليني ومن بعده من الرواة وبين الصادق رضي الله عنه، فإنّ هذه الفترة فجوة ربّما تقطع السند ويمنع اتصاله، إلاّ إذا كان السند موصولاً بطرق اُخرى.

ومهما يكن فإنّا نريد أولا أن ندرس رواية فقه الإمام الصادق دراسة موضوعية، ولا مانع من أن نبدي رأينا فيما تواضع عليه إخواننا من غير أن نجرح مبادئهم، ولا نمسّ اعتقادهم، ولكن نقول بنظرنا دون نظرهم عندما نتجه إلى إبداء رأينا، واختلاف أوجه النظر لا ضرر فيه وإنّما الافتراق هو الذي يكون فيه الضرر من غير ريب. انتهى.

هنا يجب على المؤلف أن يستغفر الله ألف مرة لهذا الحكم المرتجل بوصفه للأسانيد بأنّها مقطوعة فلا يصح الاعتماد عليها كما يراه، والصحيح أنه لم يستنطق البينات ولم يتريث في الحكم. وهو ـ غفر الله له ـ قد جاء هنا بأمر لا يمكن السكوت عنه، وانسدال الستار عليه، إنّه يتحدث عن فقه الشيعة بالذات، ولكنّه يطعن في أسانيدهم إلى الإمام الصادق، وإذا وهن السند فلا قيمة للاستدلال.

المؤلف ـ هداه الله ـ يعتبر نفسه باحثاً، ومنقباً ويريد أن يصل إلى الواقع من أوضح الطرق، وهو هنا يظهر لقرائه مشكلة تقف أمامه عند البحث عن فقه الإمام الصادق حينما يطبق اُصول الإسناد.

وكأنّه قد درس دراسة موضوعية صحيحة، فلم يجد اتصالاً بين الإمام الصادق(عليه السلام) وبين من يروي عنه في كلّ الأحوال، وبالأخصّ ما يرجع إلى رواية الكليني، وأنّه يروي عن اُناس لم يلتق بهم، ويعطي صورة أوضح من ذلك وهي:

إنّ الكليني يروي عن اُناس ماتوا في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) كالمعلى بن خنيس، فالشيخ الكليني يروي عن المعلى بدون إسناد.

هذا ما يورده المؤلف ولا نتعب أنفسنا بعناء الرد عليه فيما أورده.

ولكن نحيل القراء إلى كتاب الكافي ليقفوا على صحة هذه الفروض التي افترضها المؤلف أو صدق الأقوال التي قالها.

نعم ربّما يظنّ أنّ المؤلّف على حقّ فيما يقول حول الكافي;

ولكن بعد الفحص والتتبع يجد القارئ أنّ ما قاله المؤلف أبعد ما يكون

عن الحقّ. لأننا إذا رجعنا إلى الكافي نفسه نجد السند متصلا ولا صحة لما جزم من عدم الاتصال.

فمثلا يقول: إنّ الكليني يروي عن المعلى بن خنيس، وقد مات المعلّى في حياة الإمام الصادق(عليه السلام) وقد أكّد ذلك في آخر الكتاب ص 437 بقوله: ويجب أن ننبه هنا إلى أن الكليني قد يروي عن أشخاص قد ماتوا في حياة الصادق، كروايته عن المعلى بن خنيس، فقد روى عنه عدة أخبار من غير أن نرى من توسط بينه وبين الكليني فيما تحت أيدينا من إسناد، ولنضرب لذلك مثلا قد نقلناه في ما مضى من قولنا وهو: عن المعلى بن خنيس قال قلت لأبي عبدالله: إذا جاء حديث عن أولكم، وحديث عن آخركم، بأيهما نأخذ؟ فقال: خذوا به حتى يبلغكم عن الحي.

قال: ثم قال أبو عبدالله(عليه السلام): إنّا والله لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم، وفي حديث آخر خذوا بالأحداث.

وإنّه ثبت أنّ المعلى قتل في عهد الصادق، قتله داود بن علي والي المدينة من قبل المنصور.

هذا ما يقوله المؤلّف حول رواية الكافي، وانقطاع السند فيما يرويه، ولنرجع الى الكافي نفسه يتضح لنا الأمر، إذ الشيخ أبو زهرة لم يراجع الكافي عند نقله، ولو راجع لوجدها كما يلي: روى الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار، عن يونس، عن داود بن فرقد، عن المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): إذا جاء حديث عن أولكم، وحديث عن آخر كم بأيهما نأخذ؟ ([281]).

فأنت ترى أن سند الرواية هم عليبن إبراهيم وأبوه، وإسماعيل بن مرار، ويونس، وداود بن فرقد، هؤلاء خمسة رواة بين الشيخ الكليني(قدس سره) وبين الإمام الصادق(عليه السلام) ولكنّ المؤلّف أنكر الخمسة وأبرز الرواية بدون واسطة، وعلى هذا قرر حكمه السابق في ص 458 بأن الباحث لايجد السند متصلا بينها وبين الإمام .([282])

ولا ندري ما معنى هذا التساهل، وما هو هذا التسرّع في إعطاء النتائج التي تدعو إلى التشكيك في أخبار الكافي؟

ونحن نناشد المؤلف: هل وقف على كتاب الكافي، واطلع على أسانيده فبان له عدم الاتصال فيها حتى يوجه هذا النقد ويورد هذا التشكيك؟ أم أنّه نقل ذلك بالواسطة، وادعى الإشراف والاطلاع عليه؟ فإن كان قد قرأ كتاب الكافي فكيف يصح له أن يصف أسانيده بعدم الاتصال في جميع الأحوال؟ إذ الأمر خلاف ما يقول، كما ذكرنا في رواية المعلّى بن خنيس، وأنّها متصلة السند، ولكنّ المؤلّف يدعي بأنّها غير متصلة فما أدري بأي منظار ينظر. وكيف أسقط عدة رواة فجزم بحكمه الجائر؟

وإن كان لم يطلع بل اعتمد على نقل الغير، فليس من شأن الباحث الفاحص أن يحكم على شيء بدون اطلاع عليه.

ومن المؤسف له أن المؤلّف يدعي قراءة الكافي والاطلاع عليه، إذ يقول في ص 438: هذه نظرات في كتاب الكافي ألقيناها، ونقلنا إلى القارئ صورة ما انطبع في نفوسنا عند قراءته.

هذا ما يقوله المؤلف بأنه أعطى صورة عن الكافي عند قراءته ولعلّ قرّاءه يصدّقون ذلك.

ونحن نقول: إنّه لم يقرأ الكافي، ولو قرأه لما حكم على بعض

الروايات بأنّها مقطوعة السند، وعلى الأقل أنّه لا يصدق بمن نقل ذلك،

إذ الروايات التي ادعى أنّها مقطوعة السند عند قراءته للكافي أو قراءة من

نقل ذلك هي متصلة الإسناد غير منقطعة، وإليك بيان ما ذكره المؤلف في ص435 عن الكافي:

1 ـ الكافي عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال: من زعم أن الله يأمر

بالفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر إليه فقد كذب

على الله.

هكذا يورد المؤلف هذه الرواية ويقول بعد ذلك: ونرى في هذا أنّ الذي يصل السند واحد فقط، وليس من المعقول أن يكون قد لقيه; لأنّ ما بين وفاة الصادق ووفاة الكليني نحو 180 سنة.

ونحن نقول: ليس من المعقول أنّ الشيخ المؤلّف قد قرأ كتاب الكافي فيورد هذا النقد، إذ لو قرأه لوجد السند متصلا وإلى القرّاء ذلك.سند الرواية

الكليني عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد عن الحسين بن علي الوشا عن حماد بن عثمان، عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال: من زعم([283]).. الرواية; فهؤلاء الرواة قد أنكر المؤلف وجودهم، وحكم على أنّ السند منقطع بدون حجة ظاهرة.

ولزيادة البيان نذكر ما أورده على الرواية الاُخرى ([284]) وهي: الكافي عن حفص ابن قرط عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله... الحديث.

وهذه الرواية أوردها المؤلف على أنّها منقطعة السند والصحيح أنّها متصلة السند([285]) وهي:

الكليني عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن عبد الرحمن عن حفص بن قرط، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): من زعم أن الله يأمر بالفحشاء. ـ الحديث ـ.

وبهذا يظهر كلامه حول رواية الكافي بدون روية وتريث، فهو يصف كلّ رواياته بالإرسال، وضرب لنامثلا في ذلك ونسي نفسه، بأنّه يتصف بصفة الباحث المنقب، أو القاضي العادل، إذ لم يسلك المسلك الذي يلزمه أن يسلكه بما وصف نفسه فيه.

ولنتحول مع القراء إلى نقده للشيخ الصدوق عليه الرحمة صاحب كتاب (من لا يحضره الفقيه)، لنعطي للقراء صورة عن تساهل الشيخ وتسرّعه في حكمه، وإنّ هذا الكتاب تتصف رواته بالإرسال.

فيقول في ص 445: وللصدوق كتاب آخر غير من لا يحضره الفقيه اسمه التوحيد، كلّ ما فيه رواية، وفيه ذكر لكلام الصادق في العقائد، والمسلك الذي سلكه في كتاب من لا يحضره الفقيه هو المسلك الذي سلكه في كتابه التوحيد، من حيث الإرسال، والاعتماد على الكتب التي قبله، ولنقبض قبضة منه. تريك منهاجه في الرواية، انتهى.

وإنّ القارئ يتصور عندما يقف على تعبير الشيخ في نقده، بأنّه يتحدث عن خبرة ودراية، وأنّه نقل من الكتاب ما يريد أن يصور فيه منهاج الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد، وأنّ مسلكه هنا هو مسلكه في كتاب من لا يحضره الفقيه من حيث الإرسال([286]) وقد قبض قبضة من مرويات كتاب التوحيد وقدّمها لقرائه، دليلا على ما يقول، وحجة على ما يذهب إليه من ادعاء الإرسال في الروايات.

فلنصغ لحديثه عن روايات التوحيد، ونعدّه لمعرفة واقع الحال، وحقيقة الأمر، وهل كان الأمر كما حدّث به الشيخ أم لا؟قال المؤلّف:

1 ـ جاء في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم، قلت لأبي عبدالله: ما الدليل على أنّ الله واحد؟

قال: اتصال التدبير، وتمام الصنع، كما قال عزّوجلّ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)([287]).

2 ـ وفي كتاب التوحيد قال قوم للصادق: ندعو فلا يستجاب لنا؟

فقال: لأنكم تدعون من لاتعرفون.

ونرى أنّه من هذا لم يذكر حتى من روى عن الصادق، فدلّ هذا على أنّه أخذ من كتاب لا من سند مرسل أو متصل.

3 ـ وجاء في التوحيد عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال: قلت: أخبرني عن الله عزّوجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ فقال: نعم. وقد رأوه قبل يوم القيامة.

فقلت: متى؟

قال: حين قال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم سكت الإمام الصادق ساعة ثم قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فاُحدّث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنّك إذا حدثت أنكره منكر جاهل بمعنى ما نقوله.

4 ـ وفي التوحيد عن الصادق(عليه السلام) أنّه قيل له: إنّ رجلا منكم ينتحل موالاتكم أهل البيت يقول: إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع وبصيراً ببصر وعليماً بعلم وقادراً بقدرة فغضب وقال: من قال ذلك ودان به فهو مشرك وليس من ولايتنا على شيء، إنَّ الله تعالى ذاته عليمة سميعة بصيرة قادرة.

ونرى أنّ هذه الرواية لم تذكر بسند قط، فهي من القسم الذي أخذه من الكتب.

هذا ما ذكره المؤلّف عن دراسته لكتاب التوحيد وألقاه على تلامذته وحدث قرّاءه. وكأنّه واثق من صحة ما يقوله، لأنّه اعتمد على كتاب جاءت هذه الأخبار مرسلة نقلا عن كتاب الصدوق، وقد حذف الناقل إسنادها.

فإنّ هذه الأخبار التي ساقها المؤلف أو القبضة التي قبضها من كتاب التوحيد ليبين للقراء منهاج الصدوق، لم تكن مرسلة كما يدّعي المؤلف، بل هي مسندة، وإلى القراء بيان ذلك بعد مراجعة كتاب التوحيد، والوقوف عليها وهي كمايلي:الخبر الأول

قال الصدوق: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد(قدس سره)، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن عمير عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): ما الدليل على أن الله واحد؟

قال: اتصال التدبير، وتمام الصنع، كما قال عزّوجلّ: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا).

هذا هو الخبر الأوّل الذي يدّعي المؤلف أنّه مرسل، وهو كما ترى موجود في كتاب التوحيد صفحة 178 طبع طهران سنة (1375 هـ).الخبر الثاني

قال الصدوق: حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المروزي المقري، قال: حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقري، قال: حدثنا محمد بن الحسن الموصلي ببغداد، قال: حدثنا عياش بن يزيد بن الحسن بن علي الضحاك مولى زيد بن علي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني موسى بن جعفر قال: قال قوم للصادق(عليه السلام): ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه.

هذا هو الخبر الثاني أورده الصدوق عليه الرحمة بهذا الإسناد في كتابه التوحيد كما في صفحة 206 منه.الخبر الثالث

قال الصدوق: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران الدقاق(قدس سره) قال: حدثنا محمدبن أبي عبدالله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير عن أبي عبدالله قال: قلت له: أخبرني عن الله عزّوجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم وقد (رآه) ([288])قبل يوم القيامة.

فقلت: متى؟.قال حين قال لهم: (ألست بربّكم؟)، قالوا: بلى.. ثم سكت ساعة أي الإمام الصادق ثم قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة.ألست تراه في وقتك هذا؟

قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فاُحدّث بهذا عنك؟ فقال: لا، فإنّك إذا أحدثت([289]) به فأنكر منكر جاهل بمعنى ما نقوله، (ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون).

هذا هو الخبر الثالث أورده الصدوق(قدس سره) بهذا الإسناد كما جاء في

كتاب التوحيد في صفحة 70 منه. وليس الأمر كما يقول المؤلف

وقد حذف أبوزهرة ـ عن قصد أو غير قصد ـ من هذا الخبر ما فيه تمام

فائدته وقد جعلنا ما حذفه بين قوسين، وأنّ الحذف يغيّر معنى الخبر

ويكون دالا على معنى رؤية الباصرة كما تدعيه بعض الفرق، وهذا لم يكن من رأي أهل البيت(عليهم السلام).الخبر الرابع

قال الصدوق: حدثنا محمد بن علي بن ماجيلويه رضي الله عنه، قال: حدثني عمي محمد بن أبي القاسم، قال: حدثني محمد بن علي الصيرفي الكوفي، قال: حدثني محمد بن سنان عن أبان بن عثمان الأحمر، قال: قلت للصادق جعفر بن محمد(عليه السلام): أخبرني عن اللّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بصيراً عليماً قادراً؟ قال: نعم.

فقلت له: إنّ رجلا ينتحل موالاتكم أهل البيت، يقول: إنّ الله لم يزل سميعاً بسمع وبصيراً ببصر وعليماً بعلم وقادراً بقدرة. فغضب(عليه السلام) ثم قال: من قال ذلك ودان به فهو مشرك وليس من ولايتنا على شيء، إنَّ الله تبارك وتعالى ذاته عليمة سميعة بصيرة قادرة.

هذه هي الأخبار التي أوردها المؤلف لبيان منهاج الصدوق في رواياته وأنّها مرسلة، وها أنت ذا قد رأيت أنّ الصدوق عليه الرحمة يروي الحديث بسند متصل، وهو يذكر الرجال وآباءهم، وصفاتهم، وألقابهم، ولكنّ المؤلف ينكر ذلك، ونحن ننكر عليه أشدّ الإنكار، لأنّ ما ذهب إليه وما حكم به أمر يثير التشكيك ويبعث على عدم الثقة; وإن كان المؤلف يدعي البراءة من ذلك، كما يقول بعد إيراده لهذه الأخبار ص 447: هذه نظرات ألقيناها على رواية من لا يحضره الفقيه، وكتاب التوحيد، وكلاهما لابن بابويه القمي، وقد قصدنا بهذه النظرات أن ننقل صورة للكتاب في روايته وفي منهاجه، وما قصدنا أن نثير غباراً من الشك أو التشكيك حوله ([290])، وليس لنا أن نتهجم على مقدسات إخواننا ولكننا أردنا التوضيح والبيان.

هذا ما يقوله، وهو يحاول إقناع قرّائه بأن يأخذوا برأيه حول طعنه في روايات هذه الكتب، ويدّعي أنّ قصده الإيضاح والبيان في إعطائه هذه الصورة، وهو يزعم أنّها طبق الأصل. وبمزيد من الأسف أنّ الاُستاذ لم يقل الحقيقة، فهو يدّعي اطلاعه على هذه الكتب، ونقل منها ولكنّه لم يطلع عليها، بل نقل عنها بالواسطة.

ونظراً لحصول أشياء كثيرة من أمثال هذه الاُمور التي خالف المؤلف فيها ما يوجبه عليه الحقّ من سعة الاطلاع والتتبع، فإنّ متابعة ذلك يدعو إلى اتساع البحث، واستيعاب هذا الجزء كلّه، وربّما يتعداه إلى الجزء السادس فآثرنا الاختصار، والاكتفاء بالإشارة لما يلزم التنبيه عليه. وقد ألّف الاُستاذ الكبير الشيخ عبدالله السبيتي كتاباً في الردّ على أبي زهرة، وكذلك الاُستاذ العلامة السيد حسين بن يوسف المكي العاملي.وفي الختام نقول:

كنّا نأمل من الشيخ المحترم أن يكون قلمه رائداً لحرية الفكر، لأنّه يتحدث عن نفسه في هذه الدراسة: إنّها بروح خالية من الطائفية([291]) وإنّه يدرس ويوازن، ويختار فيأخذ ما هو الأصلح لغذاء العقول والنفوس، وأقواها في بناء المجتمع على اُسس تشتق من الماضي قوّتها، وتلائم الحاضر، ولا تنافي الصالح العام([292]). وهو كقاض يدرس البيّنات يستنطقها ويأخذ عنها حتى إذا انتهى إلى الحكم نطق به([293])، إلى كثير من أقواله التي تدل على حرصه الشديد في إظهار الحقيقة، ومناصرة الحقّ بدراسة عميقة، وتتبع واسع، وبذل جهد في الحصول على ما يتفق مع الحقيقة.

ولقد ساءنا ـ كما ساء كثيراً من القرّاء ـ ما لمسناه من تساهله في النقل واعتماده على مصادر لا يليق بالباحث المنقب الاعتماد عليها، وكان الأجدر به أن يتأمّل فيما يكتب، ويتوثّق ممّن ينقل عنه، لأنّه يبحث عن اُمور لها أهميتها من الواقع وما يترتب عليها في بناء المجتمع بإزالة رواسب خلقتها أفكار بالية وغذّتها طائفية رعناء.

وعلى كل حال فإنّ جوهر الخلاف بيننا وبين المؤلّف في إبداء هذه الملاحظات هو ما استنكرناه من الاُمور المخالفة للحقيقة والبعيدة عن الصحة; لأني لمست منه الاسترسال وعدم التتبع في حكمه على كثير من الاُمور بدون بيّنة، وإعطاء النتائج بدون مقدمات، مما أوقعه في أخطاء كثيرة، وهو مؤاخذ على ذلك، ولا يغفر له ولأمثاله، ممّن نأمل منهم أن ينظروا إلى الاُمور بمنظار الواقع، ويتأملوا فيما يسجلونه، فإنّ الإسفاف وراء سراب الخداع والإشاعات المغرضة، ليس من شأن العلماء الذين يعتصمون بغزارة علمهم، لأنّهم يحترمون الحقائق أكثر من غيرهم، ويحاولون رفع ما يتأشب به الحقّ من الأباطيل.

ولهذا فقد ترفعنا عن مناقشة من يدعي العلم وهو جاهل، وينتحل الدفاع عن الإسلام ويطعنه في الصميم، لأنّ هؤلاء يبذرون الشقاق، ويوقدون نار الفتنة، بما تقذفه أقلامهم من سموم، ولم يتّعظوا بمآسي التأريخ، وما حلّ في المسلمين من ويلات الدمار، وعوامل الانهيار، وما جلبه عليهم انشقاق كلمتهم من الذل والهوان.

والغرض أننا نظرنا إلى الشيخ بعين الإكبار والتقدير وسايرناه في بحوثه نظراً لشهرته الواسعة وكثرة إنتاجه، ولكنّه بمزيد الأسف لم يعط الموضوع ما يستحقه من التتبع وكثرة المصادر، بل أقول بكلّ صراحة إنّ دراسته هذه أعطتنا عنه صورة غير ما كنّا نتصوّره، والشيء الذي نود التنبيه عليه هو اعتماد المؤلّف على مصادر لا يصحّ الإعتماد عليها ككتاب الوشيعة لموسى جار الله، وقد أشرنا له من قبل.

كما أنّه جعل المرآة الكاشفة عن كتب الحديث عند الشيعة: كتاب المسند المنسوب للإمام الصادق، وهو كتاب مجهول المؤلف، وليس له مقدمة ولا تقديم من أحد، ولا يعرف منهاجه ولا يدرى قصده، وليس فيه ما يدلّ على جعله في ميزان الاعتبار.

وهو كمجموع لبعض الأحاديث اختارها مؤلفه المجهول من كتب الحديث وحذف إسنادها، ومع هذا سمّـاه:مسند الإمام الصادق(عليه السلام).

وإنّ الاُستاذ أبا زهرة تصور في خياله الواسع، أنّ هذا الكتاب لجماعة في النجف إذ يقول في ص 435: ولقد وجدنا إخواناً بالنجف يجمعون الكتب الأربعة في كتاب سموه المسند، وقد صدر عدة أجزاء منه من دار الفكر ببيروت ([294]).

وهذا القول جدير بالتأمّل والتعجّب، لأنّا لا ندري بأيّ دليل يستدل الاُستاذ على أن المسند لجماعة من إخوانه في النجف، وهل استنتج ذلك من مقدمة الكتاب وليس له مقدمة، أم من تقديم لأحد ولا تقديم له، أم تقريظ له وكلّ ذلك لم يكن أبداً؟ وإنّما هي ظنون وتساهل، ولا نقول: إنّه تعمّد ذلك حتّى يتسنّى له النقد، والطعن في اُمور لا يصح له نقدها، ولكنّه يعتذر بأنّه اعتمد على كتاب إخوانه في النجف الذين أخفوا أسماءهم في هذا الكتاب كما يزعم المؤلف، وإن اعتماده على أمثال ذلك هو من الغرابة بمكان، وليس هذا من شأن المحققين. ([295])

ولنترك الحديث عن المسند وحديثه ذو شجون ـ ولا نطيل الوقوف مع أبي زهرة بعد أن قررنا أن نفترق فلنطو بساط البحث، وأملنا أن نعود لمناقشته في كتاب الإمام الصادق وغيره من مؤلفاته التي تعرض بها لذكر الشيعة، أو أفردها للبحث عن فقههم واُصوله، فإنّه عافاه الله قد ارتكب ـ في كثير منها ـ أخطاء لا يصح لمثله أن يرتكبها، لما اتصف به من كثرة التأليف وهو ـ بمزيد الأسف ـ قد بنى أبحاثه على التساهل وعدم التعمق بالبحث; فذكر أشياء على غير وجهها الصحيح، وقد تركت هنا كثيراً من الاُمور التي أخطأ فيها، لأنّ استقصاءها يقصينا عن منهج البحث، وما ذكرناه في هذا العرض إنّما هو صورة مصغرة عن متطلبات الموضوع قدمناها للقرّاء ولهم الحكم، ومن الله نسأل أن يجمع شمل المسلمين ويوحّد كلمتهم وينصرهم، وما النصر إلاّ من عند الله.الفقه الإسلاميبين الشيعة والسنّة

الفقه الإسلامي بين الشيعة والسنّة

من أهم المواضيع التي يجدر بنا التعرّض لها في هذا الكتاب هو موضوع الخلافات في المسائل الفقهية بين الشيعة والسنة; لإيضاح ما اُبهم أمره على كثير من الناس، حتى تسرّب سوء الفهم إلى بعض الأدمغة، وأثمرت حملات الظالمين وأقوال المفترين، فجعل الشيعة بمعزل عن فقه المسلمين، وأنّهم ينفردون بمذهب خاص لا يلتقي مع غيرهم، أو كما يذهب ابن خلدون إلى شذوذ أهل البيت في مذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به. ([296])

كلمة قالها ابن خلدون، ومرّت مع الزمن تعمل عملها في نفوس البسطاء كما تعمل غيرها من كلمات الكذب والافتراء، التي تطلق بدون قيد وشرط.

غريب وأيم الحقّ أن يصل الأمر إلى هذا الحدّ ولكنّ للعلم كلمته الفاصلة، وما دام هو المتكفل في وضع الأشياء في مواضعها، فالحكم للعلم، فحكمه العدل، وقوله الفصل. ولا حاجة بنا إلى الإطالة في عرض الأقوال، وبيان الآراء حول فقه الشيعة واُصوله، مما يبعث على العجب والاستغراب، لصدورها من اُناس يدّعون المعرفة، وسعة الاطلاع.

وأمر آخر يحضرني الآن وأودّ أن اُنبّه عليه: ذلك أنّ أكثر من كتب عن التشريع الإسلامي يقصرون الفقه الإسلامي على المذاهب الأربعة، ولا يبحثون عن سواها، كأن لم يكن الفقه للجميع، فلم يتعرّضوا إلى فقه الشيعة بما يكشف عن واقعه، كأنّ الشيعة ليسوا من المسلمين، أو أنّهم اُمة انقرضت فلا يعتنى بالبحث عن فقههم، وربما تعرّض اُولئك الكتّاب إلى فقه المذاهب البائدة التي لا يوجد بها عامل واحد اليوم.

أما الشيعة الذين يزيد عددهم على المائة مليون([297]) فلم يكن لهم نصيب من الاشتراك في بيان التشريع الإسلامي وذكر فقههم، وما عندهم من ثروة فقهية هي أعظم ثروة إسلامية، وينبوع متدفق يتصل بالمشرّع الأول والرسول الأعظم، بواسطة آله الأطهار.

ولئن تعرض لهم كاتب فإنّما هو تعريض بهم إذ يأخذ بأقوال شاذة وآراء فاسدة، وينهج نهج المقلد الذي ليس لتفكيره حظّ من التصرف، كأن لم تكن الشيعة في طليعة الفرق الإسلامية إلى جميع العلوم، وهم السابقون إلى التدوين، والمحافظون على التراث الإسلامي، وبفتح باب الاجتهاد قد صانوا الفقه عن الجمود الفكري، ووسّعوا مجاله جرياً مع الزمن وتطوّراً مع الحوادث، إذ لم يهمل الإسلام حكمها، فلكلّ واقعة حكم، ولكلّ قضية قاعدة; إذ هو عام شامل لجميع أدوار الحياة الإنسانية.

إنّهم أهملوا فقه الشيعة وهو فقه أهل البيت أوصياء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وحملة علمه، وأهل البيت أدرى بالذي فيه.

كأنّ الذين أهملوا فقه الشيعة أو طعنوا فيه قد خدموا الإسلام، أو جردّوه عن زوائد ليست لها صلة فيه، وفي الحق ـ وما أضيع الحق ـ أنّهم قد جنوا على الإسلام جناية لا تغفر، إذ خضعوا لعوامل زمن اشتد فيه الصراع بين طوائف المسلمين، فكفّر بعضهم البعض، وابتعد بعضهم عن بعض، كأنّ الإسلام لم يأمرهم بالتمسك بحبل الله، والاعتصام به، وأن يكونوا جميعاً ولا يتفرّقوا، ليصبحوا قوة متماسكة، تقضي على كلّ محاولة ضد الإسلام لينتشر العدل، وتجفّ الأرض من الدموع والدماء، ويصبح الناس إخواناً وليس في قلوبهم غلّ، ولا أثر للأثرة، ولا مكان للاستغلال في المجتمع.

إنّ تلك الرواسب التي خلفتها عصور التطاحن يجب أن يخلو الطريق منها، ونزعات يجب أن تقبر، وهياكل وهمية يجب أن تزول. وقد نسبوا إلى الشيعة آراء في الفقه ليست هي آراءهم، ولا يقول بها أحد أبداً، وإن وجدوا قولاً شاذاً لواحد ينسب إليهم جعلوها للمجموع وادعوا عليه الإجماع، وإذا نسب لفرد رأي في عقيدة كان ذلك الرأي للجماعة كأنّ الجماعة هي الفرد، والفرد هو الجماعة.

كلّ ذلك مبعثه التعصّب الذي ضرب ستاراً بين الواقع وبين ما يقولون، وقد مرّت الإشارة لبعض ذلك، ومن المؤسف والمؤلم أن يمضي الكثير على ما اختلقه طغاة الأمس وبغاة الماضي ويبقوا غشاوة التحامل على عيونهم فيحكموا مقلدين بدون دليل ويهجروا ما في أيدي الشيعة من فقه وعلم وأدب، وسنشير لبعض الآراء الفقهية أو الفتاوى الشاذة التي نسبت إلى الشيعة ولا قائل منهم في ذلك. وقد لعبت الدعايات الكاذبة دورها في الأفكار واتجاه الجماعات حتى أصبح الرجل يهون عليه أن يتهم بالزندقة والإلحاد ولا يتّهم بالتشيّع. واشتهر قول بعض من ينسب الى العلم: آكل ذبيحة اليهودي والنصراني ولا آكل ذبيحة الشيعي أو الرافضي.

وما أكثر الأقوال في ذلك ولا ذنب للشيعة من حيث الواقع! ولكنها السياسة التي أعلن الشيعة الانفصال عنها، واستقلوا بتعاليمهم من دون مؤثرات على نهج تعاليمهم، ونفضوا أيديهم من غبار أطماعها، فانفصلت مدرستهم انفصالا تامّاً في جميع الأدوار، فلا مدارس تشاد لهم من قبل الحكومات، ولا وظائف تدريس، ولا رواتب لطلاب، ولا تشجيع لهم من جميع الجهات التي لها اتصال بتلك السياسة الجائرة.

نعم كانت هناك مراقبة ومعارضات، ومقاومة شديدة، تحاول القضاء عليهم. وقد اجتازت مدرستهم في أدقّ المراحل وأقسى الظروف خطوات واسعة، وعقبات شديدة، ودكّت صروحاً، وأحرزت النصر، فكان لهم أثر عظيم في خدمة الإسلام، وانتشار علومه، ونموّ فقهه وباب الاجتهاد مفتوح عندهم.

وإنّ ما خلّفته أقلام أعلام الشيعة من تراث علمي في جميع المجالات شيء يبعث على الفخر ويفوق حدّ الحصر، وإنّ مؤلفاتهم التي نشرت والتي لم تنشر هي من الكثرة بمكان، وهذه المؤلفات الموجودة هي بقية التلف إذ صارت مؤلفات الشيعة وقوداً للحمامات، وطعمة للأنهار، في أيام تحكّم الطائفية وانتشار التعصّب المذهبي، الذي لعب دوراً في التأريخ.

والشيء الذي تجدر الإشارة إليه ـ لأهميته ـ هو ما بلغت إليه الحالة من جراء التعصّب واشتباك عوامل الخلافات، أنّ بعضهم قد التزم مخالفة الشيعة فيما يفتون به مع وضوح الدليل، وقوة المأخذ، وهو يرى أنّ ذلك أولى من القول بما تقوله الشيعة، ويظهر أثر ذلك في كثير من المستحبات والواجبات.

يقول ابن تيمية في منهاجه ـ عند بيان التشبه بالشيعة ـ : ومن هنا ذهب من ذهب منالفقهاء الىترك بعضالمستحبات، إذ صارت شعاراً لهم ـ أي للشيعة ـ فإنّه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم، فلا يتميز السني من الرافضي، ومصلحة التمييز عنهم لأجل هجرانهم، ومخالفتهم أعظم من مصلحة ذلك المستحب. ([298])

وقال مؤلّف كتاب الهداية: إنّ المشروع التختم باليمين، ولكن لما اتخذته الرافضة ـ أي الشيعة ـ جعلناه في اليسار.([299])

وقال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية في صفة عمامة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما روى الإمام علي(عليه السلام) في إسدالها على منكبه حين عمّمه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ الحافظ العراقي قال: إنّ ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإمامية فينبغي تجنّبه لترك التشبّه بهم.([300])

وقال الشيخ محمد بن عبد الرحمن في كتاب رحمة الاُمة: السنّة في القبر التسطيح وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي، وقال أبو حنيفة وأحمد: التسنيم أولى لأنّ التسطيح صار شعاراً للشيعة. ([301])

وقال الغزالي: إنّ تسطيح القبور هو المشروع، ولكن لمّا جعلته الرافضة شعاراً عدلنا عنه إلى التسنيم. ([302])

وغير ذلك ممّا ستقف عليه في هذا الموضوع في كثير من المسائل الفقهية.

وإنّ موضوع البحث عن آراء رؤساء المذاهب وأتباعهم أمر ليس من السهل الإحاطة فيه، لأنّا نجد أنّ أقوال صاحب المذهب مختلفة، كما أنّ أصحابه الذين عليهم المعول في أخذ الأحكام ونشر المذهب تختلف أقوالهم; فمرّة يوافقونه ومرّة يخالفونه. وهناك آراء فردية يذهب إليها البعض.

فالحنفية يوردون في كتبهم أقوال أئمتهم الأربعة: أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسن، وزفر، فربما يكون فيمسألة واحدة أربعة أقوال، لكلّ واحد منهم قول يخالف فيه الآخر، حسب ما يظهر لهم من الآثار والمعاني. ويأتي المتأخرون بآراء يخالفون بها سلفهم.

وقد حاول بعض الحنفية أن يجعل أقوالهم المختلفة أقوالاً لأبي حنيفة رجع عنها، والواقع إنا نجد هؤلاء يخالفون أبا حنيفة عن أدلة واستنتاج، وهم غير مقلّدين له في ذلك.

كما أنّ الشافعي له أقوال مختلفة وفقهه يعرف بالقديم والجديد، أي أنّ له فقهاً رجع عنه فسمي بالقديم، وقد نهى عن العمل به([303]).

وكذلك جميع أئمة المذاهب لاتتفق أقوالهم، وكثير من أصحابهم يخالفونهم في كثير من المسائل، وهذا أمر مجهد لا يمكن استقصاؤه، ونحن نحاول قدر الاستطاعة أن نتعرض لأشهر الأقوال عندهم.

وناحية اُخرى، وهي اختلاف المذاهب فيما بينها، كما أن كثيراً من العلماء ألّفوا كتباً للردّ على رؤساء المذاهب بما خالفوا فيه الكتاب والسنة، وأوّل من كتب في هذا الليث بن سعد أحد رؤساء المذاهب البائدة في رسالته للإمام مالك يرد عليه.

وقد ذكر يحيى بن سلام، قال: سمعت عبدالله بن غانم فيمجلس إبراهيم بن الأغلب يحدّث عن اللّيث بن سعد أنّه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلّها مخالفة لسنّة النبي(صلى الله عليه وآله) ممّا قال مالك فيها برأيه.

والشافعي وضع كتباً في الرد على مالك ومعارضة أقواله، وكان يقول: قدمت مصر ولا أعرف أن مالكاً يخالف من أحاديثه إلاّ ستة عشر حديثاً، فنظرته وإذا به يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل.

وتعرّض الشافعي في ردّه على مالك للمسائل التي ترك فيها الأخبار الصحيحة بقول واحد من الصحابة، أو بقول واحد من التابعين، أو لرأي نفسه([304]).

ولعلّ هذا هو الذي حمل أكثر المالكية في وضع الكتب في الرد على الشافعي فيما خالف الكتاب والسنة، وقد ألّف جماعة منهم في ذلك: كأحمدبن مروان المتوفى سنة (289 هـ)، وأحمد بن يعلى المتوفى سنة (399 هـ) وحماد بن إسحاق المتوفى سنة (269 هـ) وأبو عمر يوسف بن يحيى المتوفى سنة (288 هـ)، ويحيى بن عمر بن يوسف الكناني المتوفى سنة (289 هـ).

ولإسماعيل بن إسحاق القاضي كتاب الرد على الشافعي، وكتاب الرد على أبي حنيفة([305])، وغير ذلك مما يمثل الصعاب التي تواجه الباحث عن الفقه الإسلامي واختلاف الآراء في كثير من مسائله، ومنشأه الاختلاف في الاُصول والمباني العامة التي يعتمدون عليها في استنباطهم. واختلافهم في مدى انطباق القاعدة أو النص أو الاُصول التي يتخذونها طريقاً للاستدلال.اختلاف الفقهاء في الفتوى

ونظراً للاختلاف الحاصل من تفهّم أدلة الاستنباط، فقد انفرد رؤساء المذاهب بمسائل لا يقول بها صاحب المذهب الآخر، كما انفرد بعض أعيان المذاهب بأقوال لا يقول بها رئيس مذهبه ولا غيره، وهذا شيء كثير يمكن حصره من تتبع الأقوال المختلفة.

وقد حاول بعضهم حصر تلك الأقوال المنفردة، ولكن التتبع يضيف إلى ذلك كثيراً منها. وقد نقل صاحب كتاب الفوائد العديدة عن كتاب الإفصاح للوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، ما انفرد كلّ مذهب فيه عن سائر المذاهب، ونظراً لما في ذلك من الفائدة والإيضاح ننقل هنا تلك الأقوال التي اختص بها كلّ واحد عن غيره، بدون تعليق على ذلك أو بيان لما يحتاج إلىبيان.أبو حنيفة

قال في الإفصاح: اعلم أنّ الإمام أبا حنيفة تفرد بخمس عشرة مسألة:

1 ـ العفو عن مقدار الدرهم من النجاسات، والأئمة يوافقونه في الدم.

2 ـ عدم النية في الوضوء والطهارة.

3 ـ جواز التوضؤ بالمائعات.

4 ـ الخروج من الصلاة بما ليس منها.

5 ـ عدم الطمأنينة فيها، إلاّ ما رواه أبو يوسف.

6 ـ كل إهاب يطهر بالدباغ عنده.

7 ـ جواز الربا في دار الحرب.

8 ـ إن للمرأة ولاية النكاح.

9 ـ قتل النفس بالنفس مطلقاً.

10 ـ عدم جواز الوقف في المنقول.

11 ـ عدم القضاء على الغائب.

12 ـ ميراث الذين عقدت أيمانكم.

13 ـ طهارة الخمر بالمعالجة.

14 ـ عدم جواز الجمع إلاّ في عرفة ومزدلفة.

15 ـ ثبوت الربا في الجص، والنورة، والزرنيخ. ([306])مالك بن أنس

وأما ما اختص به الإمام مالك:

1 ـ الإرسال في الصلاة (أي إرسال اليدين).

2 ـ طهارة الكلب.

3 ـ جواز القراءة للحائض خوف النسيان.

4 ـ عدم التوقيت للمسح على الخفين.

5 ـ قتل المرتد من غير استتابة.

6 ـ وجوب الغسل للجمعة.

8 ـ تفضيل المدينة على مكة.

9 ـ تجاوز الميقات بلا إحرام، إذا مر عليه ولم يكن له.([307])الإمام الشافعي

وأما ما اختص به الإمام الشافعي:

1 ـ وجوب قراءة الفاتحة على المأموم.

2 ـ وجوب التشهد الأخير.

3 ـ زواج البنت من الزنا.

4 ـ اتخاذ أواني الذهب والفضة من غير استعمال.

5 ـ لعب الشطرنج.

6 ـ نجاسة الأوراق مطلقاً. ([308])أحمـد

وأما ما اختص به الإمام أحمد:

1 ـ وجوب المضمضة والاستنشاق.

2 ـ وجوب غسل اليدين عند القيام من النوم.

3 ـ الاقتصار على المفصل في اليد في مسح التيمم قياساً على السرقة.

4 ـ مؤاخذة المقر بإقراره، وإن استثنى أنّه أعطى فلا يقبل منه وإن كانت البينة.([309])ما انفرد به ابن تيمية

1 ـ القول في قصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً طويلا كان أو قصيراً، وهو مذهب الظاهرية.

2 ـ إنّ البكر لا تستبرئ وإن كانت كبيرة، وهو قول ابن عمر واختاره البخاري.

3 ـ إنّ سجود التلاوة لا يشترط له وضوء، وهو مذهب ابن عمر واختاره البخاري.

4 ـ القول بأن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنّه ليل، فبان نهاراً لا قضاء عليه، كما هو الصحيح عن عمر، وذهب إليه بعض الفقهاء والتابعين.

5 ـ إنّ المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كالقارن والمفرد وهو قول ابن عباس ورواية عن أحمد.

6 ـ جواز المسابقة بلا محلل.

7 ـ القول باستبراء المختلعة بحيضة، وكذلك الموطوءة بشبهة، والمطلقة آخر ثلاث تطليقات.

8 ـ إباحة وطء الوثنيات بملك اليمين.

9 ـ جواز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية.

10 ـ جواز طواف الحائض ولا شيء عليها إذا لم يمكنها أن تطوف طاهرة.

11 ـ القول بجواز بيع الأصل بعصيره كالزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج.

12 ـ جواز الوضوء بكلّ ما يسمى ماء مطلقاً كان أو مقيداً.

13 ـ جواز بيع ما يتخذ من الفضة للتحلي وغيره بالفضة متفاضلا وجعل الزيادة في الثمن في مقابلة الصنعة.

14 ـ المائع لا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلاّ أن يتغير قليلا كان أو كثيراً.

15 ـ جواز التيمم لمن خاف فوات العيد والجمعة باستعمال الماء.

16 ـ جواز التيمم في مواضع معروفة.

17 ـ الجمع بين الصلاتين في أماكن مشهورة.

18 ـ وكان يميل أخيراً إلى القول بتوريث المسلم من الكافر.

19 ـ ومن أقواله المشهورة التي جرى بسببها والإفتاء بها محن: قوله بالتكفير بالحلف، وإن الطلاق لا يقع إلاّ واحدة، وإن الطلاق المحرم لا يقع وإنّ جميع أيمان المسلمين مكفر ([310]).الخلاف بين المذاهب

وإذا أردنا أن نتابع للوقوف على الأقوال التي ربّما يقال: إنّ أصحابها انفردوا عن مذاهبهم بالذهاب إليها، فإنّ طول المسافة يبعدنا عن الهدف المقصود. كما أنّ الخلاف بين المذاهب بعضهم مع بعض شيء لا يمكن إنكاره لكثرته . وقد اُحصي الخلاف بين مذهب أحمد بن حنبل ومذهب الشافعي فكانت المسائل المختلف فيها أكثر من عشرة آلاف مسألة.

وصنّف القاضي عز الدين الحنبلي في المفردات المخالف للمذاهب الثلاثة كتاباً ذكر فيه أكثر من ثلاثة آلاف مسألة.([311])

وذكر صاحب الفواكه العديدة: أنّ مذهب الإمام أحمد وسط بين المذاهب في كثير من المسائل ممّا تدعو حاجة الناس إليه من مذهب الإمام أحمد; منها:

1 ـ القول بطهارة بول جميع الحيوانات المأكولة اللحم، وروثها كالغنم، والبقر، والخيل، والدجاج، والإبل، والأوز، وغير ذلك.

2 ـ إن مني الآدمي ومني ما يؤكل لحمه طاهر وهذا أيضاً فيه رخصة.

3 ـ جواز المسح على العمامة والجورب وفيه أيضاً رخصة.

4 ـ صوم رمضان بالغيم والقتر ليلة الثلاثين من شعبان.

5 ـ صحة البيع بالمعاطاة.

6 ـ للوالد أن يتملك من مال ولده ما شاء.

7 ـ إن الخلع فسخ لا ينقص به عدد الطلاق.

8 ـ عدم وقوع الطلاق من السكران.

9 ـ الرد في باب الفرائض وتوريث ذوي الأرحام.

10 ـ إن الكافر إذا مات حكم بإسلام من لم يبلغ من ولده.

11 ـ جواز الاستمناء([312]) باليد ونحوها لمن خاف العنت وهي رخصة عظيمة وكذلك المرأة بشيء.

12 ـ جواز الوقف في إحدى الروايتين عن أحمد.

13 ـ جواز بيع الوقف والمناقلة إذا تعطلت منافعه وبيع المسجد ونقله إذا تعطل نفعه أو لم ينتفع به.

14 ـ فسخ النكاح لعدم النفقة والوطء.

15 ـ الحكم بالشهادة على الخط وغير ذلك.

وعلى أيّ حال: فإنّ الاختلاف بين المذاهب في الفقه أمر لا يمكن حصره، ونحن بهذا العرض نحاول إعطاء صورة عن البعض من ذلك، وقد ألّف علماؤنا الأعلام كتباً في الخلافات الفقهية بين السنة والشيعة،([313]) وبين المذاهب السنية أنفسها.

ولمّا كان هذا الموضوع من أهم الاُمور التي يلزمنا البحث فيها، رأينا أن نختصر البحث، فيها، رأينا أن نختصر البحث، ونقتصر على ما يتعلق بالصلاة ومقدماتها، وأفعالها، ونذكر طرفاً من مسائل الطهارة في هذا الجزء، وأفعال الصلاة في الجزء السادس، ونستدرك بقيّة المباحث الفقهية في كتاب مستقل يرتبط بهذه السلسلة كمستدرك لها، وإنّي لا أضمن لنفسي السلامة من الخطأ، فربما يكون هناك شيء لم أتعمده، وأمر لم أقصده، ومن الله أطلب التسديد وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل.

الطهارةالوضوء والغسل والتيمم

(يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَايُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَج وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَـلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )المائدة: 6

أجمع المسلمون على وجوب الطهارة للصلاة

وهي في اللغة ([314]) النظافة والنزاهة من الأدناس، وفي الشرع: اسم للوضوء، أو الغسل أو التيمم، على وجه له تأثير باستباحة الصلاة.

وعرّفها الشهيد الأول: بأنّها استعمال طهور مشروط بالنية، والطهور هو الماء والتراب ([315]).

وقال في التذكرة: إنّها وضوء وغسل، وتيمم يستباح به عبادة شرعية. ([316])

وقال القرطبي: الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف: وضوء، وغسل، وبدل منهما، وهو التيمم. وقال ابن حمدان الحنبلي: الطهارة تحصل عند وجود سببها قصداً واتفاقاً. ([317])

وقال الشوكاني: إنّها صفة حكمية تثبت لموصوفها جواز الصلاة به أو فيهأوله.([318])

وقال في الروض الندي: هي ارتفاع حدث وما في معناه، وزوال خبث أو ارتفاع حكم ذلك. ([319])

وقال في شرح مراقي الفلاح: حكم يظهر بالمحل الذي تتعلّق به الصلاة لاستعمال المطهر. ([320])

والطهور اسم للماء والتراب لقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَآءً طَهُورًا)

وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): جُعلَت لِي الأرضُ مَسجِداً وَطَهُوراً وسيأتي بيان ذلك.

ومهما يكن من اختلاف في تعبير الفقهاء في تعريف الطهارة، فلا خلاف بينهم في وجوبها للصلاة، وأنّها اسم للوضوء، والغسل، والتيمم، وإنّ الصلاة تتوقف على إزالة الحدث في ذلك.

وقد وقع الخلاف في هذه الأشياء لا من حيث وجوبها، بل من حيث موجبها وواجباتها وسننها وشرائطها.الوضوء

لا خلاف بين جميع المسلمين في وجوب الوضوء للصلاة لقوله تعالى:

(إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ).([321]) ولقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. ([322])

كما لا خلاف بينهم في أنّ أعضاء الوضوء مغسولة وممسوحة، وإنّما الخلاف في الرجلين، كما سيأتي.

وللوضوء فروض، وسنن، وشروط وقد وقع الخلاف في ذلك بين جميع المذاهب.فروضـه

فروض الوضوء عند الشيعة خمسة:1 ـ النية: وهي الإرادة، أو القصد إلى الفعل; على أن يكون الباعث إليه أمر الله تعالى، ولابدّ فيها من الإخلاص، فلو لم يكن مخلصاً لا يصحّ على تفصيل يذكره الفقهاء في باب النية بداعي امتثال أمر الله، وإطاعته.

2 ـ غسل الوجه: وهو ما دارت عليه الإبهام، والوسطى عرضاً، وما بين قصاص الشعر إلى طرف الذقن طولا، ويجب الابتداء بأعلى الوجه إلى الأسفل.

3 ـ غسل اليدين من المرفقين إلى أطراف الأصابع، والمرفق مجمع عظمي الذراع والعضد ويجب غسله مع اليد.

4 ـ مسح مقدم الرأس ويكفي فيه المسمّى، ولو قدر أصبع إلى ثلاثة أصابع.

5 ـ مسح الرجلين من أطراف الأصابع إلى الكعبين، وهما قبتا القدم.

وشرائط الوضوء طهارة الماء وإطلاقه، وعدم استعماله في التطهير من الخبث، وطهارة أعضاء الوضوء، وعدم المانع من استعمال الماء لمرض أو عطش، والموالاة والترتيب كما سيأتي بيانه.

هذه هي فروض الوضوء عند الشيعة كما دلّت عليه الأدلة من الكتاب والسنة النبوية بما هو مذكور في محله من كتب الفقه([323])، فهم يتفقون مع المذاهب في اُمور ويفترقون عنها في اُمور، فلننظر في ذلك لنرى مدى الاتفاق والافتراق بينهم وبين غيرهم من المذاهب، كما ننظر إلى الاتفاق والافتراق بين المذاهب الأربعة نفسها.

اتفق جميع العلماء على اشتراط النية في الوضوء وغيره من أنواع الطهارة من الحدث، وإنّها فرض كما تقول به الشيعة، إلاّ أبا حنيفة فإنّه لم يشترط النية في الوضوء والغسل واشترطها في التيمم.([324])

وحجته أنّ المكلف إنّما أمر بغسل جسمه أو غسل هذه الأعضاء، ولو غسلهما للتبرد أو التنظيف فقد فعل ما أمر به، وقاس ذلك على إزالة النجاسة، فإنّها تجزي بلا نية عند الجميع.

وقال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، والليث بن سعد: بوجوب النية.

وعقد الإجماع على اشتراط النية لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما الأعمال بالنيّات ولكلّ امرئً مانوى.([325])غسل الوجه

لا خلاف بين جميع المسلمين في وجوب غسل الوجه مرّةً واحدة وقد اختلفوا في تحديده.

فمذهب الشيعة: أنّ حدّه من قصاص الشعر إلى منتهى الذقن طولاً، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضاً.

ومذهب مالك أنّ البياض الذي بين العذار والأذن ليس من الوجه، وبهذا يتفق مع الشيعة، ولكنّه فرّق بين الأمرد والملتحي، كما هو مذكور في محله([326]).

وذهب أبو حنيفة، والشافعي ([327])، وأحمد إلى أنّ البياض الذي بين العذار والاُذن من الوجه فيجب غسله ([328]).

وكذلك اختلفوا فيما تحت الذقن، فالمشهور عن الشافعي أنّه يوجب غسل ما تحت الذقن، وعند الحنفية أنّ حدّ الوجه ما بين قصاص الشعر وأسفل الذقن طولاً وشحمتي الاُذنين([329]) عرضاً.

وسبب هذا الاختلاف هو خفاء تناول إسم الوجه لهذه المواضع.غسل اليدين

اتفق المسلمون على أنّ غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء، واختلفوا في موضعين:الأوّل: في إدخال المرافق فيهما، فذهب الجمهور، ومالك، والشافعي، وأبو حنيفة([330]) وأحمد بن حنبل([331])، إلى وجوب إدخالهما في الغسل، وهو مذهب الشيعة وذهب بعض أهل الظاهر; وبعض متأخري أصحاب مالك، وزفر بن الهذيل ـ من أصحاب أبي حنيفة ـ والطبري إلى أنّه لا يجب ادخالهما في الغسل.([332])الثاني: كيفية الغسل، فمذهب الشيعة أنّ الابتداء بالغسل من المرافق إلى أطراف الأصابع، ولا يجوز غسلها من الأصابع إلى المرافق، لأن إلى في الآية الكريمة بمعنى مع كقوله تعالى: (وَلاَتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ )([333])وقوله تعالى: (قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ)([334]) وأراد بذلك مع.

وإنّها لبيان المغسول لا لكيفية الغسل ويحتاج ذلك إلى بيان، وقد ثبت عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من طريق أهل البيت أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) غسل من المرافق إلى أطراف الأصابع.([335])مسح الرأس

أجمع المسلمون على وجوب مسح الرأس للآية الشريفة ولفعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في ذلك، ولكنّهم اختلفوا في مقدار المسح فهل يمسح كلّه أو بعضه؟.

فالإمامية أوجبوا مسح البعض من مقدم الرأس وقالوا: يجزي ما يسمّى مسحاً، ويشترطون أن يكون ذلك بنداوة الوضوء، فلو استأنف ماءً جديداً بطل الوضوء. واحتجوا بقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ)([336]) والباء للتبعيض.

ولأنّ ذلك من المعروف من فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما رواه المغيرة بن شعبة أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) توضّأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح على ناصيته ([337]).

وروي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال: يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع([338]).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال :إمسح على مقدم الرأس وامسح على القدمين وابدأ بالشقّ الأيمن ([339])

ووافقهم الشافعية في ذلك، إذ الواجب عندهم ما يقع عليه اسم المسح وإنقلّ.

قال أبو العباس بن القاص، أقلّه ثلاث شعرات; كما نقول في الحلق في الإحرام.

وقال في المهذّب: إنّه لا يتقدر لأنّ الله أمر بالمسح وذلك يقع على القليل والكثير والمستحب أن يمسح جميع الرأس ([340]).

أمّا الحنفية فاختلفوا في المقدار، فعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنّ المفروض ربع الرأس، وعن محمد بن الحسن أنّ المفروض ثلاثة أصابع إذا اعتبر الممسوح به عشرة أصابع، وربعها إصبعان ونصف، إلاّ أنّ الإصبع الواحد لا يتجزأ فجعل المفروض ثلاثة أصابع ([341]).

وقال زفر: يجوز أن يمسح بإصبع واحد مقدار ربع الرأس ([342]).

وذهب مالك إلى أنّ الواجب مسح الرأس كلّه، وخالفه بعض أصحابه وجعل فرض المسح بعض الرأس، ومن أصحاب مالك من حدّ هذا البعض بالثلث وبعضهم بالثلثين ([343]).

وأوجب الحنابلة مسح جميع الرأس، ويكره غسله بدلاً من المسح إن أمرّ يديه([344]). وفي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل أنّه اكتفى بمقدم الرأس([345]).

قال النووي في شرح مسلم: وأجمعوا على وجوب مسح الرأس واختلفوا في قدر الواجب فيه، فذهب الشافعي في جماعة إلى أنّ الواجب ما يطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة، وذهب مالك وأحمد إلى وجوب استيعابه، وقال أبو حنيفة في رواية الواجب ربعه ([346]).

وكذلك وقع الاختلاف في عدد المسح، فقال الشافعي وجماعة أنّ المستحب ثلاث مرات، وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى أنّ السنة مرّة واحدة ولا يزاد عليها.([347])

وقال الإمامية: لاتكرار في المسح. ([348])الأرجل

اختلف علماء الإسلام في نوع طهارة الأرجل من أعضاء الوضوء، فذهب الكثيرون منهم إلى وجوب الغسل، ومنهم الأئمة الأربعة، إلاّ ما ينقل عن أحمدبن حنبل في إحدى الروايات، بأنّه جوّز المسح ([349]).

وعند الأوزاعي، والثوري، وابن جرير، والجبائي، والحسن البصري أنّ الإنسان مخيّر بين الغسل وبين المسح([350]) وقال بعض علماء أهل الظاهر بوجوب المسح والغسل ([351]).

وأجمعت الشيعة تبعاً لأهل البيت على وجوب المسح، ودليلهم على ذلك كتاب الله وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما روي عن الأئمة(عليهم السلام) في بيان كيفية وضوء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه مسح على رجليه،([352]) كما يأتي.

أما الكتاب فقوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قرئ بنصب أرجل وخفضها، أمّا قراءة الخفض فهي الحجة، وأمّا النصب فكذلك منصوبة إمّا على إسقاط الخافض أو أنّها بفعل محذوف.

فأوجب سبحانه وتعالى على الوجوه بظاهر اللفظ الغسل، ثم عطف الأيدي على الوجوه، وأوجب لها بالعطف مثل حكمها وهو الغسل، فكأنه قال: اغسلوا وجوهكم واغسلوا أيديكم، ثم أوجب مسح الرؤوس بصريح اللفظ، كما أوجب غسل الوجوه كذلك، ثم عطف الأرجل على الرؤوس، فوجب أن يكون لها حكم الرؤوس وهو المسح بمقتضى العطف، ولو جاز أن يخالف في الحكم المذكور الرؤوس الأرجل جاز أن يخالف حكم الأيدي في الغسل الوجوه.

وسواء قرئ بنصب الأرجل أم خفضها فكلا القراءتين يدلان على وجوب المسح، كما ذهب إليه كثير من الصحابة والتابعين([353])، ودلّت عليه الآثار الصحيحة([354]) من صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه مسح على رجليه، كما روى ذلك عنه أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

وأمّا القول بأنّ قراءة الخفض في أرجلكم إنّما كان للمجاورة فهو غير صحيح، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ مع ارتفاع اللبس، فأمّا مع حصوله فلا يجوز([355]).

وأمّا حمل بعضهم الأمر بالمسح هنا على الغسل فهو بعيد جداً وهو تعسف وصرف لظواهر الكتاب عمّا تدل عليه.

وعلى كلّ حال فإن كلا القراءتين يفهم منهما وجوب مسح الرجلين وقد وافقنا على ذلك جماعة من علماء المسلمين ممّن لا يقول به ولنترك الحديث لبعضهم.

قال الفخر الرازي في تفسيره حول الاحتجاج بهذه الآية الكريمة: حجّة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله تعالى وأرجلكم فقرأ ابن كثير، وحمزة، وأبو عمر، وعاصم ـ في رواية أبي بكر ـ بالجر، وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم ـ في رواية حفص عنه ـ بالنصب.

ثم قال: فنقول أمّا القراءة بالجرّ فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس، فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل.

فإن قيل: لم لايجوز أن يقال: هذا كسر على المجاورة كما يقال: جحر ضب خرب؟

قلنا: هذا باطل من وجوه: الأوّل أنّ الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجله لضرورة في الشعر، وكلام الله منزّه عنه.وثانيها: أنّ الكسر على الجوار إنّما يصار حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في قوله: جحر ضبّ خرب، فإنّ من المعلوم بالضرورة، أنّ الخرب لا يكون نعتاً للضبّ بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل.وثالثها: أنّ الكسر بالجوار إنّما يكون بدون حرف العطف، وأمّا مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب.

وأمّا القراءة بالنصب فقالوا أيضاً توجب المسح، وذلك لأنّ قوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ) فرؤوسكم في محل النصب بامسحوا لأنّه المفعول به، ولكنّها مجرورة لفظاً بالباء، فإذا عطفت الأرجل على محل الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفاً على محل الرؤوس، وجاز الجرّ عطفاً على الظاهر.

فإذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وأرجلكم هو قوله: وأمسَحُوا ويجوز أن يكون هو قوله: فاغسلوا لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وأرجلكم هو قوله تعالى: وامسحوا.

فثبت أنّ قراءة وأرجلكم بنصب اللام توجب المسح أيضاً([356]).

هذا ما قرّره عالم من كبار علماء الشافعية، ومن أشهر المفسرين، وهو موافق لما يذهب إليه الشيعة، وما أجمعوا عليه من وجوب المسح للأرجل، كما دلت عليه آية الوضوء، وإن كان هذا العالم ذهب إلى الغسل نظراً لوجود أخبار تدل عليه إذ يقول:

إنّ الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح، ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأنّ غسل الرجل يقوم مقام مسحها([357]).

وأنت ترى ما في هذا الاستدلال من البعد عن الواقع، وهو تمحّل وتكلّف، وستأتي الإشارة إلى الأخبار في هذا الباب.وقال الجصّاص

أحمد بن الرازي الحنفي المتوفى سنة (370 هـ) في كتابه أحكام القرآن:

ولا يختلف أهل اللغة أنّ كلّ واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس، ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول، لأنّ قوله تعالى: وأرجلكم، بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم، ويحتمل أن يكون معطوفاً على الرأس فيراد بها المسح، وإن كانت منصوبة فيكون معطوفاً على المعنى لا على اللفظ، لأن الممسوح مفعول به كقول الشاعر:

معاوي إننا بشر فاسجح *** فلسنا بالجبال ولا الحديدا

فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى.

ويحتمل قراءة الخفض معطوفة فيراد به المسح، ويحتمل عطفه على الغسل، ويكون مخفوضاً بالمجاورة، كقوله تعالى: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ)([358])، ثم قال تعالى: (وَحُور عِين)فخفضهم بالمجاورة.

إلى أن يقول: فثبت بما وصفنا احتمال كلّ واحدة من القراءتين للمسح والغسل([359]).وقال إبراهيم الحلبي

قرأ السبعة بالنصب والجر، والمشهور أنّ النصب بالعطف على وجوهكم والجر على الجوار، والصحيح أنّ الأرجل معطوفة على برؤوسكم في القراءتين، ونصبها على المحل، وجرّها على اللفظ، وذلك لامتناع العطف على المنصوب للفصل بين العاطف والمعطوف بجملة أجنبية، والأصل أن لا يفصل بينهما بمفرد فضلا عن الجملة، ولم يسمع فيالفصيح نحو ضربت زيداً ومررت بعمرو وبكراً، بعطف بكر على زيد، وأما الجرّ على الجوار فإنّما يكون على قلة في النعت كقول بعضهم: هذا جحر ضب خرب، بجر خرب، وفي التأكيد كقول الشاعر:

يا صاح بلغ ذويالزوجات كلّهم *** أن ليس وصل إذا أنحلت عرى الذنب

بجرّ كلّهم على ما حكاه القراء.

وأمّا في عطف النسق فلا يكون، لأنّ العاطف يمنع المجاورة([360]).وقال ابن حزم

وأمّا قولنا في الرجلين فإنّ القرآن نزل بالمسح، قال الله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كلّ حال عطف على الرؤوس: إمّا على اللفظ وإمّا على الموضع لايجوز غير ذلك، لأنّه لايجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة، وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح. يعني في الرجلين في الوضوء([361]).الأخبار

إنّ أخبار الغسل لا يمكن أن يخصص بها الكتاب، إذ هي أخبار آحاد، ومنها مالا دلالة فيه على المدّعي، كخبر عبد اللّه بن عمرو بن العاص في الصحيحين أنّه قال: تخلف عنّا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)الأخبار في سفر سافرنا معه فأدركنا وقد حضرت صلاة العصر، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى ويل للأعقاب من النار([362]).

وهذا الخبر كما ترى يدلّ على مسح الأرجل وشهرته بين المسلمين، ولم يصدر من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إنكار عليه، وإنّما أنكر عليهم قذارة أعقابهم، ولا سيما في السفر، وقد نالها في الطريق أوساخ وقذارات لا يجوز الدخول في الصلاة معها، إذ فيهم أعراب جفاة، لا يتنزّهون عن قذارة.

ويؤيّد هذا ما قاله ابن رشد القرطبي بعد إيراد هذ الحديث، قال: وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدلّ على جوازه منه في منعه، لأنّ الوعيد إنّما تعلّق فيه بترك التعميم، لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازه ووجوب المسح هو أيضاً مروي عن بعض الصحابة والتابعين([363]).

ومنها ما حكاه حمران مولى عثمان بن عفان من وضوء مولاه عثمان، وأنّه غسل كلّ رجل ثلاثاً، ثم قال رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ مثل وضوئي.

ومثله ما روي عن عبدالله بن زيد بن عاصم، وقد قيل له توضأ لنا وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتوضأ ثم غسل رجليه إلى الكعبين، كما روى ذلك مسلم في صحيحه([364]).

والحاصل أنّ عمدة ما في الباب هو هذه الأخبار، والأصل المعتمد عليه هو خبر حمران مولى عثمان بن عفان: وكلّ ذلك لا يصلح أن يكون مقابلا لحكم الآية أو ناسخاً لها.

وعليه فقد صرّح بالمسح جماعة من السلف كابن عباس، وأنس بن مالك والشعبي وعكرمة وغيرهم.

وقد اشتهر عن ابن عباس إنكاره على من يغسل رجليه فكان يقول: الوضوء غسلتان ومسحتان.

وكان يقول: افترض الله غسلتين، ومسحتين، ألا ترى أنّه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين، وترك المسحتين([365])؟

وقال الشعبي: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أن ما كان عليه الغسل جعل عليه التيمم وما كان عليه المسح أهمل؟

وقال عكرمة: ليس في الرجلين غسل، إنّما نزل فيهما المسح([366]).

وقال موسى بن أنس لأنس: يا أبا حمزة، إنّ الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال: اغسلوا حتى ذكر الرجلين وغسل العراقيب.

فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله سبحانه: (فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).

فكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما، وقال نزل القرآن بالمسح. وجاءت السنة بالغسل ([367]).

ونحن لا نستبعد تدخل السلطات في هذه القضية، فالحجاج عندما يأمر الناس بحكم فبدون شك أنّه لا يوجد من يخالف، وكثير من يؤيّده، ومن تكلّم بغير ما يأمر فمصيره إلى الفناء، وليس لمحتج عليه من سبيل، ولا لقائل على خلاف قوله إلاّ أن يكذب، إن كانت له بقيّة من حياة وامتداد في عمر.

وعلى أيّ حال: فإنّ لنا بكتاب الله العزيز، وما ورد عن عترة رسوله العظيم، ما يكفينا عن الاستدلال في الحكم، فإنّ القرآن ناطق بذلك ولا سبيل إلى صرفه إلى غيره ولا تنسخه أخبار آحاد لا تصلح للاستدلال.

وقد أخرج أبو داود من حديث أوس بن أبي الثقفي أنّه قال: رأيت رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم) أتى كِضامة قوم ومسح على نعليه وقدميه([368]).

وجاء من طريق همام عن إسحاق بن أبي عبدالله: حدثنا علي بن خلاد عن أبيه عن عمّه ـ هو رفاعة بن رافع ـ أنّه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّها لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عزّوجلّ: يغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين.

وعن إسحاق بن راهويه: حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد خير عن علي(عليه السلام): كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح، حتى رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح ظاهرهما.([369])

وروى شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن ميسرة أنّ علياً(عليه السلام)صلّى الظهر ثم قعد في الرحبة، فلما حضرت العصر، دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه، وذراعيه، ومسح برأسه ورجليه وقال: هكذا رأيت رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)فعل([370]).

وروى الحسن بن علي الطوسي في مجالسه عن أبيه بسند عن أبي إسحاق الهمداني، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) في عهده إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أن قال فيه: وانظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة، تمضمض ثلاث مرات، واستنشق ثلاثاً، واغسل وجهك، ثم يدك اليمنى ثم اليسرى ثم امسح رأسك ورجليك; فإني رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع ذلك، واعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان([371]).

وأمّا ما أخرجه ابن ماجة من طريق أبي إسحاق عن أبي حيّة قال: رأيت علياً(عليه السلام)توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: أردت أن اُريكم طهور نبيّكم([372]). فهو ممّا تفرد به أبو إسحاق، وقد ترك الناس حديثه; لأنّه اختلط ونسي، وأنّ أبا حيّة، وراوي هذا الحديث، نكرة لا يعرف ([373])، ولا ذكر له في رواة الحديث، ولعلّه شخصية وهمية برزت في إطار الخيال لغاية في نفس المصوّر لها.

وروى الكليني بسند عن بكير بن أعين أنّ أبا جعفر الباقر(عليه السلام)قال: ألا اُحكي لكم وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ بكفه اليمنى كفاً من ماء فغسل به وجهه، ثم أخذ بيده اليسرى كفّاً من ماء فغسل به يده اليمنى، ثم أخذ بيده اليمنى كفاً من ماء فغسل به يده اليسرى، ثم مسح بفضل يديه رأسه ورجليه ([374]).

ومثله عن زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام).

وروى الكليني بسند عن حماد بن عثمان قال: كنت قاعداً عند أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) فدعا بماء فملأ به كفّه فعمّ به وجهه، ثم ملأ كفه فعمّ به يده اليمنى، ثم ملأ كفه فعمّ به يده اليسرى، ثم مسح على رأسه ورجليه ([375]).

وفي الخصال للصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام)أنّه قال: هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها وأراد الله هداه: إسباغ الوضوء كما أمر الله في كتابه الناطق، غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، الرأس والقدمين إلى الكعبين مرّةً مرة، ومرتان جائز، ولا ينقض الوضوء إلاّ البول والريح والنوم والغائط والجنابة.

ومن مسح على الخفين فقد خالف الله ورسوله وكتابه، ووضوؤه لم يتم ([376]).المسح على الخفين

هذه المسألة من المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الشيعة وغيرهم من المذاهب، وقد تطوّرت الحالة حتى أصبح المسح على الخفين من علامة السنة، وعدمه من علامات البدعة، وأصبحت هذه المسألة من اُصول الاعتقاد.

ونحن نذكر ذلك بإيجاز.

قالت الشيعة، لا يجوز المسح على الخفين، أو الجورب مطلقاً، سواء في حضر أم سفر، لأنّ ذلك خلاف ما نزل به القرآن في بيان الوضوء، وهو قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) فأوجب تعالى إيقاع الفرض على ما يسمّى رِجلا والخف لا يسمى بذلك، كما أنّ العمامة لاتسمى رأساً.

كما أنّ الأخبار الواردة في ذلك لا تقابل دلالة الآية على وجوب المسح على الرجل، وعمدة ما في الباب هو حديث جرير بن عبدالله:

روى الجماعة أنّ جريراً بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بال ثم توضأ، ومسح خفيه،([377]) وقد أنكر المسح على الخفين جماعة من الصحابة، وكان علي(عليه السلام) يقول: سبق الكتاب المسح على الخفّين([378])

وروى زرارة عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام) قال، سمعته يقول: جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم علي عليه الصلاة والسلام، فقال:ما تقولون في المسح على الخفين؟ فقام المغيرة بن شعبة وقال: رأيت رسول الله يمسح على الخفين. فقال علي(عليه السلام)قبل المائدة أو بعدها؟ فقال المغيرة: لا أدري. فقال علي(عليه السلام): إنما نزلت المائدة قبل أن يقبض النبيّ بشهرين أو ثلاثة ([379]).

وقال أبو الورد: قلت لأبي جعفر الباقر(عليه السلام): إنّ أبا ضبيان حدثني

أنّه رأى علياً(عليه السلام)أراق الماء ثم مسح على الخفين، فقال(عليه السلام): كذب

أبوضبيان... الحديث([380]).

وروى إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق(عليه السلام): النهي عن المسح على الخفين.([381]).

وعن الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن المسح على الخفّين فقال: لا تمسح وقال: إنّ جدي قال: سبق الكتاب([382])

فالشيعة الإمامية يذهبون ـ تبعاً للعترة الطاهرة ـ إلى عدم جواز المسح على الخفّين لما ذكرناه وما سيأتي بعد.

وقد وقع الاختلاف في هذه المسألة على أقوال:

1ـ الجواز مطلقاً سفراً وحضراً.

2ـ الجواز في السفر دون الحضر.

3ـ عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته في الدين، وأنّ القرآن على خلافه، وعلى كل حال فإنّ الاختلاف في هذه المسألة وقع في الصدر الأول، فمنهم من يرى عدم مشروعية المسح على الخفّين، وما يُروى في ذلك معارض لآية الوضوء، وهي متأخرة عمّا يُروى في ذلك، ولم تكن منسوخة إذ المائدة لم تنسخ منها آية واحدة.

وكان في طليعة المنكرين لذلك الإمام(عليه السلام) وكفى بذلك ردّاً للمدّعي، إذ هو باب مدينة علم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو أعرف الناس بما يصدر عن الرسول، لملازمته إياه في حضره وسفره، ولما سئلت عائشة عن المسح على الخفّين قالت: سلوا علياً فإنّه كان أكثر سفراً مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ثبت عن علي (عليه السلام)أنّه كان ينهى عن المسح على الخفّين.([383])

وكذلك حبر الاُمة عبد اللّه بن عباس، فقد ورد عنه أنّه كان يقول: لئن أمسح على جلد حمار أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين.

وكانت عائشة تنكر المسح على الخفّين أشدّ الإنكار وتقول: لئن تقطع قدماي أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين، وفي لفظ: لئن أقطع رجلي أحبّ إليَّ من أن أمسح عليهما([384]).

وكان ابن عمر يخالف الناس في المسح على الخفين، وإن ادعى أنّه رجع عن ذلك قبل موته فهي دعوى لم تثبت.([385])

وسئل ابن عباس: هل مسح رسول اللّه على الخفّين؟ فقال: واللّه ما مسح رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخفّين بعد نزول المائدة، ولئن أمسح على ظهر عير في الفلاة أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفين، وفي رواية: لئن أمسح على جلد حمار أحبّ إليَّ من أن أمسح على الخفّين.([386])

وقد روي عن مالك بن أنس في العتيبية ما ظاهره المنع من المسح على الخفين. وقال الشيخ أبو بكر في شرح المختصر الكبيرإنّه روي عن مالك: لايمسح المسافر ولا المقيم، وكذلك روي عن ابن وهب في النوادر عن مالك أنّه قال: لا مسح في سفر ولا حضر، ويقال إنّ منعه كان على وجه الكراهية لما لم ير أهل المدينة يمسحون، ثم رأى الآثار فأباح المسح على الإطلاق([387]).

وعلى كلّ حال: فإنّ فعل جرير واستنكار الناس عليه عندما مسح على الخفين، يؤيّد أنّ هذا لم يكن معهوداً، ومثله يلزم أن يكون مشهوراً شهرة عظيمة، لا تخفى على الأكثرين.

وإنّ ما ذهبت إليه الشيعة في عدم الجواز مطلقاً هو الموافق لكتاب الله، ومبرئ للذمة، لأنّ المسح على الخفين لايصدق عليه مسحاً على الرجلين لا لغة ولا شرعاً، كما أنّ العمامة لا تسمّى رأساً، والبرقع لا يسمى وجهاً، وما يقال في الاحتجاج بصحة القول: وطأت كذا برجلي. وإن كان لابساً للخفّ فإنّ ذلك مجاز واتساع بلا خلاف. والمجاز لا يحمل عليه الكتاب، إلاّ بدليل ظاهر.

وقد صحّ عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لم يمسح على خفيه، وربّما وقع اشتباه من الراوي في مسحه(صلى الله عليه وآله وسلم) على رجله، وهو لابس للحذاء، الذي لا يمنع من المسح، وإن كان هذا بعيداً، لأنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) مشرّع ووضوؤه لابد أن يأتي بصورة أكمل وبيان أفضل.

ثمّ إنّ الوضوء لم يكن من الأعمال التي يمكن أن تخفى لكثرة تردده واستعماله حتى يختصّ جرير بن عبد الله بهذا الحكم، ويتفرد بهذا البيان كماتقدم.

وعلى كلّ حال فالشيعة لم تنفرد بالمنع، ولم يستدلوا في هذا الحكم بغير الكتاب وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وكفى بذلك أمناً من العقاب وبراءة للذمة.

ومهما يكن من أمر فقد وقع الاختلاف بين القائلين بجواز المسح من حيث توقيته وكيفيته ممّا لا حاجة إلى ذكره.

والشيء الذي نودّ التنبيه عليه هو أنّ مسألة المسح على الخفين أصبح لها أثر في المجتمع الإسلامي، ممّا دعا إلى حجر الأفكار عن الخوض في صحتها، حتى ادعي أنّ روايتها متواترة، وأنّها ناسخة لكتاب الله، مع أنّها متقدمة على نزولالآية.

وكان مالك لا يرى جواز المسح على الخفين ولكنه يجيزه لأصحابه، وقد جعل إنكار المسح طعناً على الصحابة، ونسبتهم إلى الخطأ، ولهذا قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين ([388]).

وأنّ المسح على الخفين من شرائط السنة، وقال أبو حنيفة: من شرائط السنة والجماعة تفضيل الشيخين، ومحبة الختنين، وأن ترى المسح على الخفين، وأن لا تحرّم نبيذ التمر([389]).

وقال ابن العربي: إذا ثبت وجه التأويل في المسح على الخفين، فإنّهما أصل فيالشريعة، وعلامة مفرقة بين أهل السنة والبدعة ([390]).

وذلك أنّ ابن العربي قد أوّل قراءة الخفض في أرجلكم، وهي قوله تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بكسر لام أرجلكم، إنّ ذلك لبيان أنّ الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل، وهما الخفان بخلاف سائر الأعضاء، فعطف بالنصب مغسولاً على مغسول ـ أي الوجه والأيدي ـ وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح ـ أي الرأس والخفين ـ وصحّ المعنى.

وأنت ترى ما في هذا التأويل من البعد عن الحقّ، فالله سبحانه وتعالى يقول: رؤوسكم وأرجلكم وهم يقولون رؤوسكم ونعالكم.

وإنّ هذه القضية قد ارتكب فيها ما لا يتفق مع الحقيقة والواقع، إذ أصبحت بشكل يدعو إلى الاستغراب والتعجب، حتى ذهب بعضهم إلى لزوم الأخذ والالتزام بما يدل على مسح الخفين مهما كان، هو أفضل لأنّ فيه تأييداً للسنة([391]) وطعناً في البدعة.

قال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل المسح على الخفين أم نزعهما، وغسل القدمين؟ والذي أختاره أنّ المسح أفضل، لأجل من طعن فيه من أهل البدع والروافض، وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه([392]).

فلا نستغرب إذاً عندما يدّعى إجماع الصحابة على جواز المسح من مخالفة أكثرهم، إن لم نقل كلّهم إلاّ فرداً نادراً.

وليس من الغريب على من يجوز نصر السنة ومحاربة البدعة ـ كما يقولون ـ مع مخالفة الواقع أن ينسب جواز المسح للإمام عليّ(عليه السلام) مع أنّ المقطوع به أنّه لايجوِّز ذلك، وكان ينكر على من يقول به.

ومن العجيب ارتكاب أعظم المخالفات في التفسير، لما ورد عن أبي اُمامة في صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أخرجه أبو داود من أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمسح على المأقين، وهما مؤخر العين، ففسروا المأقين بالخفين ([393]) حتى تكون فيه دلالة جواز المسح عليهما وأين المأقين([394]) من الخفين؟

والتحكم ظاهر إن تسامحنا في القول وإلاّ فهو اختلاق تمّ اللجوء إليه لمعالجة وضوح السياق الذي يناقض مدّعاهم. على أن من قلّدهم من الاُمة لم يتخلص من دلالة الصحة في قول من خالفهم، فيروى أنّ أحد علمائهم سئل عن الرجل يرى المسح على الخفين إلاّ أنّه يحتاط وينزع خفّيه عند الوضوء ولا يمسح عليهما؟ فقال: أحبُ إليّ أن يمسح على خفّيه إما لنفي التهمة عن نفسه أن يكون من الروافض، وإمّا لأنّ قوله تعالى: (وأرجُلَكُمْ) قرئ بالخفض والنصب، فينبغي أن يغسل حال عدم اللبس ويمسح على الخفين حال اللبس ليصير عاملاً بالقراءتين([395]).

فانظر كيف تحمل الاُمة على الحرج وتدفع الى المشقة مكابرة وعناداً. وما أولى العلماء برفع الالتباس وبيان الغامض لا خلق الاختلاف والتلبيس وجعل الحرج في الدين والمشقة في أداء الفرائض (َمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج).مسح الأُذنين

اختلف الفقهاء في مسح الاُذنين هل هو سنة أم فريضة؟ وهل يجدد له الماء أم لا؟

ذهب الإمامية إلى أنّه لا يجوز مسح الاُذنين ولا غسلها في الوضوء، لأنّ الآية لم تتعرض لذلك، ولم يثبت من فعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه مسح اُذنيه، ولما ورد عن أهل البيت(عليهم السلام) في ذلك:

روى زرارة، قال سألت أبا جعفر الباقر(عليه السلام): أنّ اُناساً يقولون: إنّ بطن الاُذنين من الوجه وظهرهما من الرأس. فقال(عليه السلام): ليس عليهما غسل ولا مسح ([396]).

وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنّ مسح الاُذنين سُنة إلاّ أنّهما يمسحان مع الرأس بماء واحد([397]). وقد نسب ابن رشد ([398]) إلى أبي حنيفة وأصحابه أنّ مسح الاُذنين فرض والصحيح ما نقلناه.

والحنابلة يوجبون مسح الاُذنين مع الرأس. قال ابن قدامة في صفة الوضوء: ثم يمسح رأسه مع الاُذنين يبدأ بيده من مقدمه، ثم يمرّهما من قفاه، ثم يردهما إلى مقدمه ثم يغسل رجليه... ([399])

والمعروف عن مالك أنّ الاُذنين من الرأس، واختلف أصحابه بين الفرض والسنة ([400]).

قال ابن ماجة بعد أن أورد حديث ابن عباس: ولا يعرف مسح الاُذنين من وجه يثبت إلاّ من هذا الطريق، وقال ابن الصلاح: إنّ الأخبار ضعفها لاينجبر بكثرة الطرق، وقال ابن حزم في المحلّى: وأمّا مسح الاُذنين فليسا هما فرضاً، ولا هما من الرأس، لأنّ الآثار في ذلك كلّها واهية، وقد ذكرنا فسادها في غير هذا المكان.

وقال: فلو كان الاُذنان من الرأس لوجب حلق شعرهما في الحج، وهم لا يقولون هذا، وقد ذكرنا البرهان على صحة الإقتصار على بعض الرأس في الوضوء، فلو كان الاُذنان من الرأس; لأجزأ أن يمسحا بدلاً عن مسح الرأس وهذا لا يقوله أحد.

ويقال لهم: إن كانتا من الرأس فما بالكم تأخذون لهما ماء جديداً، وهما بعض الرأس؟ وأين رأيتم عضواً يجدد لبعضه ماء غير الماء الذي مسح به سائره؟ !([401]).

وقال الشوكاني: قال من أثبت الوجوب: إنّ أحاديث الاُذنين من الرأس يقوي بعضها بعضها، وقد تضمّنت أنّهما من الرأس، فيكون الأمر بمسح الرأس أمراً بمسحهما، فيثبت وجوبه بالنص القرآني.

واُجيب بعدم انتهاض الأحاديث الواردة لذلك، والمتيقن الاستحباب،

فلا يصار إلى الوجوب إلاّ بدليل ناهض، وإلاّ كان من التقوّل على الله

بما لم يقل([402]).

وقال الشافعي: السنّة أن يأخذ لكلّ واحد منهما ماءً جديداً.

وقال الكاساني: وجه قول الشافعي: أنّهما عضوان منفردان وليسا من الرأس حقيقة وحكماً، أمّا الحقيقة فإنّ الرأس منبت الشعر ولا شعر عليهما، وأما الحكم فلأنّ المسح عليهما لا ينوب عن مسح الرأس، ولو كانا في حكم الرأس لناب المسح عليهما عن مسح الرأس كسائر أجزاء الرأس ([403]).

وقال القاضي أبو الوليد المالكي: فهل يمسحان فرضاً أم نفلاً؟ ذهب محمد ابن مسلمة وأبو بكر الأبهري إلى أنّهما يمسحان فرضا. وذهب سائر أصحابنا ـ أي المالكة ـ أنّهما يمسحان نفلاً وهو الظاهر من مذهب مالك([404]).المسح على العمامة

لا يجوز المسح على العمامة والقناع وغير هما من الحائل عند الشيعة إجماعاً; لأنّ الله تعالى أمر بمسح الرؤوس، والعمامة ليست من الرأس. ولأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يمسح على ناصيته، وعلى رأسه العمامة. قال أنس بن مالك: رأيت رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده تحت العمامة، فمسح بمقدم رأسه، ولم ينقض العمامة ([405]).

وسئل جابر بن عبدالله عن المسح على العمامة فقال: لا حتى يمسح الشعر بالماء. أخرجه مالك. ([406])

وسئل الإمام الصادق(عليه السلام): عن رجل توضأ وهم معتم وثقل عليه نزع العمامة، فقال: ليدخل إصبعه ([407]).

وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، ومالك. وجوزه الحنابلة بثلاثة شروط:

أحدها كون العمامة على ذكر. الثاني كونها محنكة ـ أي ذات حنك ـ . الثالث أن تستر غير ما جرت العادة بكشفه ([408]).

وقال ابن قدامة في عمدة الفقه الحنبلي: ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ذات ذوابة ساترة لجميع الرأس، إلاّ ما جرت العادة بكشفه([409]).

فظهر أنّ الخلاف فيهذه المسألة لم يكن إلاّ من الحنابلة، وأمّا بقيّة المذاهب فمتفقة على ما تقول به الشيعة.

قال الكاساني الحنفي: لا يجوز المسح على العمامة، والقلنسوة، لأنهما يمنعان إصابة الماء الشعر ([410]).

وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: وإن كان على رأسه عمامة ـ أي المتوضئ ـ ولم يرد نزعها مسح بناصيته، والمستحب أن يتمم المسح بالعمامة، لما روى المغيرة: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) توضأ ومسح بناصيته، وعلى عمامته، فإن اقتصر على مسح العمامة لم يجزه، لأنّها ليست برأس، ولا تلحق المشقة بإيصال الماء إليه([411]).

وسئل مالك عن المسح على العمامة والخمار فقال: لا ينبغي أن يمسح الرجل ولا المرأة على عمامة، ولا خمار، وليمسحا على رؤوسهما ([412]).

وقال الترمذي ([413]): وقال غير واحد من الصحابة لا يمسح على العمامة، إلاّ أن يمسح على رأسه مع العمامة، وهو قول سفيان الثوري: ومالك بن أنس، وابن المبارك، والشافعي، وإليه أيضاً ذهب أبو حنيفة، واحتجوا بأنّ الله فرض المسح على الرأس، والحديث في العمامة محتمل التأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، والمسح على العمامة ليس بمسح على الرأس.

وأما ما ورد من الأخبار في جواز ذلك فهي أخبار آحاد معلولة لا تصلح للاستدلال، كحديث المغيرة بن شعبة الذي أخرجه مسلم في صحيحه، فقد نصّ ابن عبد البر على علته([414]).

وما روي عن سلمان الفارسي في جواز المسح على الخف وعلى العمامة، فهو غير صحيح لأنّ في إسناده أبا شريح، وهو مجهول لا يعرف، كما قال البخاري، وفيه أيضاً أبو مسلم مولى زيد، وهو مجهول كذلك. ([415]).

وأمّا حديث ثوبان الذي رواه أحمد وأبو داود من أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أمرهم أن يمسحوا على العصائب، فإنّه معلول، لأن الراوي عن ثوبان راشد بن سعد، وقد قال فيه أحمد: لا ينبغي أن يكون راشد سمع من ثوبان لأنّه مات قديماً.([416])مسح العنق

وهو المعروف بالتطويق فلم يرد فيه أثر، قال أحمد بن شهاب الرملي المعروف بالشافعي الصغير في شرحه لمنهاج النووي: ولا يسنّ مسح الرقبة، بل قال المصنف إنّه بدعة قال النووي: وأما خبر مسح الرقبة أمان من الغسل فموضوع([417]).

وقال بعض الحنفية: إنّه أدب وليس بسنة. وقال قاضي خان: إنّه ليس بأدب ولا سنة([418]).

وقال ابن تيمية: لم يصح عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه مسح على عنقه في الوضوء، بل ولا رويَ عنه ذلك في حديث صحيح، بل الإحاديث الصحيحة التي فيها صفة وضوء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يمسح على عنقه، ولهذا لم يستحب ذلك جمهور العلماء كمالك والشافعي وأحمد، في ظاهر مذهبهم، ومن استحبّه فاعتمد على أثر يروى عن أبي هريرة، أو حديث يضعف نقله، أنّه مسح رأسه حتى بلغ القذال، ومثل ذلك لا يصلح أن يكون عمدة، ولا يعارض ما دلّت عليه الأحاديث، ومن ترك مسح العنق فوضوؤه صحيح باتفاق العلماء ([419]).

وقال ابن القيم الجوزية: ولم يصح عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) في مسح العنق حديث البتّة. وقال السيد علي زاده من الحنفية: وأما مسح الحلقوم فمكروه. كذا في النقاية، وتحفة الفقهاء، وغنية الفتاوى([420]).الموالاة

وهي التتابع بين الأعضاء في الغسل والمسح بنحو لا يلزم جفاف تمام السابق في الحال المتعارفة، فلا يقدح الجفاف لأجل حرارة الهواء أو البدن الخارجة عن المتعارف وهي واجبة عند الإمامية. ([421])

والحنابلة يوافقونهم في ذلك، قال في غاية المنتهى: وهي ـ أي الموالاة ـ أن لا يؤخر غسل عضو حتى يجفّ ما قبله بزمن معتدل ([422]) ـ أي معتدل الحرارة والبرودة.

وقال فيالعمدة: وترتيب الوضوء على ما ذكرناه أن لا يؤخّر غسل عضو حتى ينشف ما قبله ([423]).

وللشافعي قولان: ففي القديم أنّ عدم الموالاة مبطل للطهارة، لأنّها عبادة يبطلها الحدث، فأبطلها التفريق كالصلاة. وفي الجديد أنّ التفريق غير مبطل، لأنّها عبادة لا يبطلها التفريق القليل، فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقةالزكاة([424]).

وعند الحنفية أنّ الموالاة سنة وليس بفرض ([425]).

وعند مالك هي فرض لا سنة ([426]) وذكر الشيخ خليل أنّ فيها خلافاً بين أصحاب مالك.

فظهر مما ذكرناه أنّ الاتفاق حاصل في وجوب الموالاة في الوضوء إلاّ من الحنفية، فإنّهم يذهبون إلى الاستحباب.الترتيب

وهو البدء بالوجه فاليدين، فالرأس فالرجلين، وقد أجمعت الإمامية على وجوب الترتيب، للآية الكريمة (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)([427]). فبدأ تعالى في إيجاب الطهارة بغسل الوجه، ثم عطف باقي الأعضاء على بعضها بالواو، وكذلك يدلّ عليه فعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء عن آل بيته عليهم السلام فيما روي عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام)أنّه قال لزرارة: ابدأ بالوضوء كما قال الله تعالى.

ثم قال(عليه السلام): ابدأ بالوجه، ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين، ولا تقدمن شيئاً بين يدي شيء تخالف ما أمرت به، فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه، ثم أعد على الذراع، وإن مسحت بالرجل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل، ثم أعد على الرجل ابدأ بما بدأ الله تعالى به ([428]).

والحنفية لم يشترطوا الترتيب في الوضوء فهو سنة لا فرض، واستدلوا بما رواه أبو داود في سننه أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) تيمم فبدأ بذراعيه ثم بوجهه، والخلاف فيهما واحد... إلى آخره. وعندهم أنّ من بدأ بغسل رجليه وختم بوجهه فوضوؤه صحيح([429]).

أما الشافعية فقد ذهبوا إلى أنّ الترتيب واجب. ([430]).

وكذلك الحنابلة وأنّه فرض لا سنة ([431])، وقد خالف أبو الخطاب وهو أحد أعيان المذهب الحنبلي، فذهب إلى عدم وجوب الترتيب، وأنه خرّج رواية عن أحمد في ذلك. ووافقه ابن عقيل واتفقا على تخريجها من رواية سقوط الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وسائر أعضاء الوضوء([432])، ولكن المشهور عندهم خلافه.

وذهب مالك إلى أنّ الترتيب من الشروط. روى علي بن زياد عن مالك أنّ الترتيب شرط في صحة الطهارة، وذهب بعض أصحاب مالك إلى أنّه ليس بشرط في صحة الطهارة، مستدلّين بأنّ العطف بالواو في الآية الكريمة لأعضاء الوضوء بعضها على بعض، لا يدلّ على الترتيب، وأنّها تقتضي الجمع دون الترتيب([433]).

وقد ردّ ابن حزم في المحلّى على المالكية لعدم اشتراطهم الترتيب بقوله: ومن عجب أنّ المالكية أجازوا تنكيس الوضوء الذي لم يأت نص من الله تعالى ولا من رسوله فيه، ثم أتوا ما أجاز الله تنكيسه فمنعوا من ذلك، وهو الرمي والحلق والنحر والطواف والذبح... الخ([434]).

وقال الفخر الرازي في ردّه على الحنفية لعدم اشتراطهم النية والترتيب في الوضوء، للمقارنة بين مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة، وترجيح مذهب الشافعي.

المسألة الثانية: مذهب الشافعي أنّه لايجوز الوضوء إلاّ مع النية والترتيب، وقالوا: ـ أي الحنفية ـ يجوز; ودليلنا أنّ وضوء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كان منوياً مرتباً، فوجب وضوؤنا كذلك.

بيان الأول: أنّه لو كان غير مرتب ولا منوي لوجب علينا كذلك لقوله تعالى: فاتبعوه. وحيث لم يجب ذلك علمنا أنه كان منوياً مرتباً، وإذ ثبت هذا وجب أن يجب علينا لقوله تعالى: فاتبعوه، وأقصى ما في الباب أنّ قوله تعالى: فاتّبعوه عام مخصوص، لكن العام المخصوص حجة في غير محل الخصوص، وإذا ثبت الوجوب ثبت أنّه شرط، لأنّه لا قائل بالفرق. ثم نقول:

سواء صحّ هذا المذهب أو فسد، فإنّ العمل به متروك، فإنّك لا ترى أحداً في الدنيا من العوام فضلا عن العلماء أن يأتي بوضوء خال من النية والترتيب، بل لو رأوا إنساناً يأتي بوضوء منكس لتعجّبوا منه، فكان مذهبه ـ أي أبو حنيفة ـ في هاتين المسألتين متروكاً غير معمول به البتة ([435]).

وقال أيضاً: إنّ الوضوء شطر الإيمان بفتوى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ومعلوم أنّه إنما يكون كذلك إذا كان مقروناً بالنية، لأنّه على هذا التقدير يكون الوضوء عبادة، فيكون جعل الوضوء شطر الإيمان، وعلى هذا التقدير فإنّ إيمان أصحابنا أكمل وعبادتهم أشرف، وإنّ الوضوء العاري عن النية والترتيب والموالاة ليس إلاّ اعمالاً أربعة، ومع هذه الأعمال سبعة والأكثر أشق، والأشق أكثر ثواباً، وإنّ النية عمل بالقلب، وهو أفضل من عمل الجوارح، لقوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)([436]) فكان الإخلاص كالروح لجميع الأعمال، فالوضوء مع النية كالجسد مع الروح، والوضوء بدون النية كالجسد الخالي عن الروح، والعين الخالية عن النور...الخ([437]).نواقض الوضوء

النواقض: جمع ناقض وهو مأخوذ من الإزالة، والنقض إزالة الشيء من أصله، والمراد بها هنا الأسباب الموجبة للوضوء.

وقد وقع الاختلاف فيها بين المسلمين، فمنها ما هو مجمع عليه كالنوم وخروج الريح والبول والغائط مع خلاف بينهم في كيفية النوم الناقض.

والنواقض للوضوء عند الشيعة خمسة:

1 ـ 2 ـ البول والغائط، من الموضع المعتاد بالأصل أو بالعارض.

3 ـ الريح الخارج من مخرج الغائط.

4 ـ النوم الغالب على العقل، ويعرف بغلبته على السمع من غير فرق بين أن يكون قائماً أو قاعداً ومثله كلما غلب على العقل، من جنون أو إغماء، أو سكر أو غير ذلك.

5 ـ الاستحاضة كما يأتي بيانها.النوم

اتفق المسلمون على أنّ النوم ناقض للوضوء في الجملة إلاّ أنّهم اختلفوا في الكيفية الموجبة لنقض الوضوء فيه، وهناك قول شاذّ بعدم ناقضيته مطلقاً.

ومذهب الشيعة أنّ النوم ناقض مطلقاً، من غير فرق بين الاضطجاع وغيره إجماعاً([438]).

قال الإمام الصادق(عليه السلام): من نام وهو راكع، أو ساجد، أو ماش أو على أيّ الحالات فعليهالوضوء ([439]).

وعن زيد الشحام قال: سألت أبا عبدالله الصادق(عليه السلام) عن الخفقة والخفقتين؟ فقال(عليه السلام): ما أدري ما الخفقة والخفقتين، إنّ الله تعالى يقول: (بل الإنسان على نفسه بصيرة)فإنّ علياً كان يقول من وجد طعم النوم قائماً، أو قاعداً فقد وجب عليه الوضوء([440]).

وقد اختلف العلماء في مسألة ناقضية النوم على مذاهب ثمانية ذكرها النوويفي شرح صحيح مسلم:

1 ـ إنّ النوم لا ينقض الوضوء على أيّ حال كان، وهذا محكي عن

أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وأبي مجلز، وحميد الأعرج، وشعبة.

2 ـ إنّ النوم ينقض الوضوء بكلّ حال، وهو مذهب الحسنالبصري والمزني والقاسم بن سلام، وإسحاق بن راهويه، وهو قول غريب

للشافعي، قال ابن المنذر وبه أقول، وروى معناه عن ابن عباس

وأبي هريرة.

3 ـ إنّ كثير النوم ينقض بكلّ حال وقليله لا ينقض بحال، وهذا

مذهب الزهري، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، وأحمد في إحدى

الروايتين.

4 ـ إنّه إذا نام على هيئة من هيئات المصلين، كالراكع، والساجد، والقائم، والقاعد، لا ينقض وضوؤه، سواء كان في الصلاة أو لم يكن، وإن نام مضطجعاً، أو مستلقياً على قفاه انتقض، وهذا مذهب أبي حنيفة، وداود، وهو قول للشافعي غريب.

5 ـ إنّه لا ينقض إلاّ نوم الراكع والساجد، وروي هذا عن أحمد بن حنبل.

6 ـ إنّه لا ينقض إلاّ نوم الساجد، وروي أيضاً عن أحمد.

7 ـ إنّه لا ينقض النوم في الصلاة بكلّ حال، وينقض خارج الصلاة، وهو قول ضعيف للشافعي.

8 ـ إذا نام جالساً ممكناً مقعدته من الأرض لم ينتقض وإلاّ انتقض، سواء قلّ أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهذا مذهب الشافعي، وعنده أنّ النوم ليس حدثاً في نفسه، وإنّما هو دليل على خروج الريح، فإذا نام غير ممكن المقعدة غلب على الظن خروج الريح فجعل الشرع هذا الغالب كالمحقق، وأما إذا كان ممكناً فلا يغلب على الظن الخروج والأصل بقاء الطهارة([441]).

وقال النووي: واتفقوا على أنّ زوال العقل بالجنون والإغماء والسكر بالخمر أو بالبنج، أو الدواء ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، سواء كان ممكناً المقعدة أو غير ممكنها([442]).

هذا ما ذكره النووي عن مذاهب العلماء في ناقضية الوضوء أوردناه بطوله، لننبه على أمرين:الأوّل: اختلاف أقوال العلماء وموافقة أكثرهم لما تقول به الشيعة، وأنّ في هذه المسألة للشافعي أربعة أقوال ولأحمد قولين.الثاني: إنّ بعضهم نسب إلى الشيعة القول بعدم ناقضية الوضوء مطلقاً، وهو على العكس، فإنّ الشيعة أجمعوا على ناقضية الوضوء كما تقدم.

ومنشأ هذا هو الاشتباه الحاصل ممّا ذكره النووي في بيان المذهب الأول، وهو قوله: إنّ النوم لا ينقض الوضوء على أيّ حال كان، وهذا محكي عن أبي موسى الأشعري، وسعيد الأعرج وأبي مجلز وشعبة.

فاشتبه الأمر على الشوكاني، وجعل اسم شعبة شيعة، فذكر ذلك في كتابه نيل الأوطار، وإليك نصّ قوله في بحث ناقضية النوم للوضوء: وقد اختلف الناس في ذلك على ثمانية مذاهب ذكرها النووي في شرح مسلم ـ الأول: أنّ النوم لا ينقض الوضوء على أيّ حال كان، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وأبي مجلز والشيعة يعني الإمامية، وزاد في البحر عمر بن دينار واستدلوا بحديث أنس ([443]).

فصاحب نيل الأوطار قد اشتبه عليه الأمر بين كلمة الشيعة وكلمة شعبة بن الحجاج العتكي المتوفى سنة (160 هـ) وهو أحد الأعلام المشهورين، فظنّ أنّ هذا القول هو للشيعة، وأضاف منه بأنّهم الإمامية.

كما اشتبه الأمر على صاحب كتاب البحر الزّخار: يحيى بن أحمد الزيدي المتوفى سنة (957 هـ) فإنّه بعد أن ذكر نسبة القول بعدم ناقضية النوم للوضوء إلى أبي موسى، وحميد الأعرج ـ كما ذكره النووي ـ قال: والإمامية([444]) ولم يذكر اسم شعبة بل ذكر مكانه الشيعة الإمامية اشتباهاً منه.

وعلى كلّ حال: فإنّ العلماء قد اختلفوا في ناقضية النوم على أقوال كثيرة، فمنهم من يرى ناقضيته بمجرد حصوله، إذ هو حدث برأسه، كما هو أحد قولي الشافعي، وإذا نام على الأرض فله فيه قولان.

والذي يظهر من الشافعية أنّ النوم لم يكن حدثاً برأسه، بل هو مظنة لخروج الريح من غير شعور به، فإذا نام ممكناً مقعده من الأرض فلا ينتقض وضوؤه([445]). ولهذا ذهب الحنفية بأنّ من نام مضطجعاً انتقض وضوؤه، لأنّ الاضطجاع سبب لارتخاء المفاصل([446]) ، ومنه ذهبوا إلى ناقضية ما يزيل العقل بأنّه ناقض في جميع الحالات، لأنّه في استرخاء المفاصل فوق النوم([447]).

وذهب أبو يوسف إلى أنّ الإنسان إذا نام ساجداً غير متعمد فوضوؤه باق، وإن تعمّد ذلك فوضوؤه غير باق.

وعن أحمد بن حنبل روايات المختار منها: أنّه إذا طال نوم القائم، أو القاعد، والراكع والساجد فعليه الوضوء.

قال الخطابي هذا أصحّ الروايات([448])، وقال الدمشقي في الزوائد: إذا

تغيّر النائم عن هيئته انتقض وضوؤه.([449]) وفي غاية المنتهى: أنّ النوم

اليسير من جالس لا ينقض، وينقض اليسير منه وضوء الراكع، والساجد، أو المضطجع، أو المتكئ([450]).

أما الخارج من السبيلين: فقد أجمع الفقهاء على ناقضيته، إلاّ المني فإنه عند الشافعي غير ناقض، وإن أوجب الغسل.

أما الودي والوذي([451]) فهما غير ناقضين عند الشيعة، ووافقهم مالك في غير المعتاد.

واختلف العلماء في انتقاض الوضوء ممّا يخرج من النجس من غير السبيلين على ثلاثة مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك وحده من أي موضع، وعلى أيّ جهة خرج، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، فإنّهم يوجبون الوضوء من كلّ نجاسة تسيل من الجسد، وتخرج منه، كالدم، والرعاف الكثير والفصد، والحجامة، وخالفهم زفر بن الهذيل، فإنّه ذهب إلى نقض الوضوء بهذه الأشياء سواء سالت أو لم تسل، وكذلك القيء ناقض بمجرد حصوله، وعند أصحابه الثلاثة لا يكون ناقضاً إلاّ إذا ملأ الفم([452]).

وذهب الشافعي وأصحابه إلى عدم اعتبار ما يخرج من غير السبيلين من النجاسة، وغيرها. وكلّ شيء يخرج منهما من دم، أو حصاة، أو بلغم، وعلى أيّ وجه خرج على سبيل الصحة أو على سبيل المرض فهو ناقض ([453]).

وذهب مالك وأصحابه إلى عدم ناقضية الوضوء بالقيء وغيره،

ولا ينقضه خروج نجاسة من غير السبيلين، وقالوا باستحباب المضمضة من القيء([454]).

واعتبر الحنابلة خروج النجاسة من غير السبيلين كما ذهب إليه الحنفية ولم يعتبروا القيء ناقضاً([455]).

وذهب أبو حنيفة إلى ناقضية الوضوء بالقهقهة في الصلاة استحباباً والأثر الوارد في ذلك صحيح، كما ذكر في محله، وقد انفرد بهذا كما انفرد من بين المذاهب بجواز الوضوء بنبيذ التمر، وخالفه أبو يوسف وقال: لا يجوز التوضؤ به، وذكر في الجامع الصغير: أنّ المسافر إذا لم يجد الماء ووجد نبيذ التمر توضأبه([456]).

كما أجاز أبو يوسف أن يتوضأ الإنسان بماء العنب الذي يخرج من دون علاج، وكذلك يجوز عندهم الوضوء بماء خالطه شيء طاهر فغيّر أحد أوصافه، كاللبن، أو الزعفران، أو الصابون، أو الأشنان([457]).

وعلى هذا فلا ينتقل حكم من لم يجد ماء إلى التيمم مع وجود ماء العنب أو نبيذ التمر، أو الماء مع اللبن والزعفران والصابون والأشنان، فإنّه يجوز التوضؤ بهذه الأشياء، ويأتي حكم التيمم بعد ذلك، وهو خلاف ما أمر الله به لقوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا)([458]) فإنّه تعالى نقل الحكم من الماء المطلق إلى التراب، ولا يجوز أن ينقل الحكم من النبيذ أو ماء العنب أو غيرها إلى التراب. وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.

/ 6