بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الشـكمن تيقن الطهارة وشك في الحدث بني على طهارته، ولا يجب عليه الوضوء، ومن تيقّن الحدث وشك في الطهارة تطهر عملاً باليقين، وإلغاء الشك بدون خلاف بين الشيعة.قال الإمام الصادق(عليه السلام) لبكير: إذا استيقنت أنّك توضأت، فإياك أن تحدث وضوءاً أبداً، حتى تستيقن، أنك قد أحدثت([459]).وقال عبد الرحمن بن الحجاج سألت أبا عبدالله الصادق(عليه السلام): أجد الريح في بطني حتى أظنّ أنّها قد خرجت.فقال(عليه السلام): ليس عليك وضوء، حتى تسمع الصوت أو تجد الريح([460]).وعن زرارة عن أبي جعفر الباقر(عليه السلام): لا ينقض اليقين أبداً بالشكّ، ولكن ينقضه بيقينآخر([461]).ويظهر أنّه لا خلاف بين المسلمين: أنّ من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة، وحصوله خارج الصلاة.وعن مالك روايتان: إحداهما أنّه يلزمه الوضوء إن كان شكّه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والثانية يلزمه بكلّ حال، والذي يظهر من عبارة الشيخ عبد الباري المالكي: أنّ الشك في الطهارة ناقض للوضوء عندالمالكية([462]).وقد فصّل القاضي أبو الوليد المالكي الأقوال في هذه المسألة واختلاف الروايات عن مالك، ومنها ما هو موافق لمذهب الشيعة ([463]).أمّا الشافعية فالظاهر إجماعهم على ذلك كما ذكر النووي بقوله: إنّ من تيقن الطهارة وشك في الحدث حكم ببقائه على الطهارة، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة، وحصوله خارج الصلاة، هذا مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء من السلف([464]).وقال أبو إسحاق الشيرازي: ومن تيقن الطهارة وشكّ في الحدث بنى على يقين الطهارة، لأنّ الطهارة يقين فلا يزول ذلك بالشك، وإن تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على يقين الحدث...الخ([465])، من حيث أثرها في النقضوعدمه.السنن أو المستحبّاتونرى من اللازم ذكر السنن أو المستحبات للوضوء، عند المذاهب الخمسة، إتماماً للفائدة وبياناً لبعض الاختلافات في ذلك.الشيعةيستحب عندهم للوضوء أشياء منها:1 ـ السواك وهو دلك الأسنان بعود، وأفضله الغصن الأخضر، وأكمله الأراك، وهو سنة مطلقاً، ولكنه يتأكد في الوضوء.2 ـ وضع الإناء الذي يغترف منه على اليمين.3 ـ التسمية وصورتها: بسم الله وبالله. ويستحب إتّباعها بقوله: اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين.4 ـ غسل اليدين من الزندين قبل ادخالهما الإناء الذي يغترف منه لحدث البول مرة، وللغائط مرتين.5 ـ المضمضة والاستنشاق وتثليثهما، وتقديم المضمضة.6 ـ تثنية الغسلات.7 ـ بدأة الرجل بظاهر ذراعيه، والمرأة تبدأ بالباطن([466]).الحنفيةسنن الوضوء أو مستحباته عندهم أشياء منها:1 ـ غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ثلاثاً إلى الرسغ([467]).2 ـ السواك، وعند فقده يستاك بالإصبع.3 ـ المضمضة والاستنشاق.4 ـ النية إذ هي ليست بواجبة عندهم، وكذلك الترتيب والموالاة كما تقدّم.5 ـ تكرار الغسل إلى الثلاث.6 ـ استيعاب المسح للرأس.7 ـ التسمية ([468]).المالكية1 ـ التسمية.2 ـ غسل اليدين ثلاثاً.3 ـ المضمضة والاستنشاق.4 ـ تثليث الغسلات وتكره الرابعة.5 ـ السواك ولو بإصبع.6 ـ الابتداء بالميامن.7 ـ مسح وجهي كل اُذن، وتجديد مائهما ([469]).الشافعية1 ـ السواك عرضاً بكلّ خشن لا أصبعه.2 ـ التسمية في أوله فإنّ ترك ففي أثنائه.3 ـ غسل كفيه فإن لم يتيقن طهرهما كره غمسهما في الإناء.4 ـ المضمضة والاستنشاق.5 ـ تثليث الغسل. والمسح المفروض، والمندوب.6 ـ مسح كلّ رأسه، ثم اُذنيه ظاهرهما وباطنهما. بماء جديد، ولا يسن مسح الرقبة فإنّه بدعة.7 ـ تخليل اللحية الكثة من كلّ الشعر ويكتفي بغسل ظاهره، وتخليل أصابعه.8 ـ غسل الزائد على الواجب من جميع جوانبه، وكذلك اليدين والرجلين.9 ـ الموالاة وهي التتابع، وفي قول الشافعي القديم: إنّها واجبة.10 ـ ترك الاستعانة بصبّ الماء عليه من غير عذر.11 ـ الدعاء بعد الوضوء([470]).الحنابلة1 ـ استقبال القبلة.2 ـ السواك.3 ـ غسل اليدين لحدث النوم، والمبالغة في المضمضة والاستنشاق.فـرع من كان على بعض أعضاء وضوءه جبيرة، فإن تمكّن من غسل ما تحتها بنزعها أو بغمسها بالماء وجب، وإن لم يتمكن لخوف الضرر، أو لعدم إمكان إزالة النجاسة، أو لعدم إمكان ايصال الماء تحت الجبيرة اجتزأ بالمسح عليها وصلى، ولا إعادة لقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)([471]).وفي الصحيح عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه سئل عن الرجل تكون به القرحة في ذراعه، أو نحو ذلك من مواضع الوضوء فيعصبها بالخرقة ويتوضأ ويمسح عليها إذا توضأ؟فقال(عليه السلام): إن كان يؤذيه الماء فليمسح على الخرقة، وان كان لا يؤذيه الماء فلينزع الخرقة ثم ليغسلها([472]).وعن الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً أنّه قال له عبد الأعلى مولى آل سام: عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟فقال(عليه السلام): يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله. قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَج) إمسح عليه.([473])وليس عليه إعادة الصلاة، إذ لا دليل عليه، والأصل براءة الذمة... وقالت الحنفية: ويجوز المسح على الجبائر وإن شدّها على غير وضوء،فإن سقطت عن غير برء لم يبطل المسح، وإن سقطت عن برء بطل المسح; لزوال العذر.([474])وقال السرخسي: وإن كانت الجبائر في موضع الوضوء مسح عليها، والأصل فيه ما روي أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) شج وجهه يوم أحد فداواه بعظم بال، وعصب عليه، فكان يمسح على العصابة، ولما كسرت إحدى زندي علي رضي الله تعالى عنه يوم حنين حتى سقط اللواء من يده، قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): اجعلوها في يساره، فإنّه صاحب لوائي في الدنيا والآخرة.فقال (علي): ماذا أصنع بجبائري؟قال: إمسح عليها ([475]).وأجاز ذلك الحنابلة، قال ابن قدامة: يجوز المسح على الجبيرة إذا لم يتعد بشدّها موضع الحاجة إلى أن يحلّها([476]).والشافعية يرون لزوم التيمم مع المسح، قال ابن القاسم في شرحه لغاية الاختصار: وصاحب الجبائر جمع جبيرة بفتح الجيم، وهي أخشاب أو قصب تسوّى وتشدّ على موضع الكسر ليلتحم يمسح عليها بالماء إن لم يمكنه نزعها لخوف ضرر مما سبق ويتيمم صاحب الجبائر في وجهه ويديه([477]).الغسل والتيمّم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَتَقْرَبُواْ الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَاتَقُولُونَ وَلاَجُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيل حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَر أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)([478]).اتفّق المسلمون على أنّ الغسل منه واجب، ومنه مستحب، ولا خلاف بينهم في وجوب غسل الجنابة، والحيض، والنفاس، والأموات.واختلفوا فيما عدا هذه الأربعة، فأوجب الشيعة غسل مس الأموات وغسل الاستحاضة كما يأتي بيان ذلك.وأوجب الحنابلة والمالكية غسل الكافر، وذهب الشافعية إلى استحباب ذلك، والحنفية يوجبون الغسل للكافر إن أسلم جنباً أو أسلمت الكافرة حائضاً، وقيل يجب غسل النفاس عليها أيضاً.والكلام هنا يقع في غسل الجنابة، وموجباته، وشرائطه، ومستحباته.الجنابةلا خلاف في وجوب الغسل لحدث الجنابة لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ)([479]) وقوله تعالى:(إِلاَّ عَابِرِي سَبِيل حَتَّى تَغْتَسِلُواْ).والغسل اسم لإجراء الماء على المحل، وهو بفتح الغين مصدر غسل، واسم مصدر لاغتسل، وبضمها مشترك بينها وبين الماء الذي يغتسل به، وبكسر الغين اسم لما يغسل به الرأس من سدر و نحوه.والجنابة دالة على البعد ومنه قوله تعالى:(وَالْجَارِ الْجُنُبِ)([480]) أي البعيد في نسبه وإن كان قريباً في داره.وعن الشافعي أنّه قال: إنّما سمي جنباً من المخالطة. ومن كلام العرب: أجنب الرجل إذا خالط امرأته([481]).وكيف كان فإن موجبها عند الشيعة أمران: الأول خروج المني. والثاني: الجماع ولو لم ينزل، فإذا تحقق ذلك وجب الغسل للفاعل والمفعول.لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): إذا التقى الختانان وجب الغسل([482]).واجباته1ـ النية، ولا بد من استدامتها إلى آخر الغسل. 2ـ غسل ظاهر البشرة على وجه يتحقق به مسمّى الغسل، ولا بد من تخليل ما يمنع وصول الماء إليها.3 ـ أن يبدأ أولاً بغسل الرأس والرقبة، ثم يغسل الجانب الأيمن، ثم الجانب الأيسر، ويسقط الترتيب بالارتماس.ويشترط فيه إطلاق الماء وطهارته وإباحته، وإباحة الآنية والمصب، وأن يباشر الغسل بنفسه إلاّ في حالة الاضطرار، وأن لا يكون هناك مانع من استعمال الماء لمرض ونحوه، وأن يكون العضو طاهراً.ويستحب فيه غسل اليدين من الزندين، وقيل من المرفقين ثلاثاً، والمضمضة ثم الاستنشاق ثلاثاً ثلاثاً، والاستبراء بالبول قبل الغسل، وفائدته أنّ البلل المشتبه لا يحكم بأنه مني، لعدم بقاء شيء منه في المجرى بعد الاستبراء.هذا موجز ما عليه مذهب الشيعة في موجبات غسل الجنابة، وواجباته بدون إطاله وتفصيل، وذلك مذكور في كتبهم الفقهية المتكفّلة لبسط الكلام وذكر الأقوال والآراء من حيث الأدلة والتفريع، وجميع ما يتعلق به من الكلياتوالجزئيات([483]).وكيف كان فإنّ أكثر المذاهب تتفق مع الشيعة في كثير من الاُمور المذكورة، وتختلف عنها في بعضها، كما تختلف بعضها عن بعض في ذلك.وقد اتفق الجميع على إيجاب الغسل بمجرد الإدخال، وعقد الإجماع على ذلك، ولم يشترطوا إنزال المني.واتفقوا على أنّ خروج المني بشهوة يوجب الغسل، ولكنهم اختلفوا في انفصال المني عن شهوة، وخروجه لا عن شهوة، فأبو حنيفة يوجب الغسل، ووافقه صاحبه محمد بن الحسن، وخالفه أبو يوسف في ذلك إذ لم يوجب الغسلفيه([484]).والحنابلة يختلفون لاختلاف الروايات عن أحمد في إيجاب الغسل وعدمه، وكذلك المالكية، لاختلاف الروايات عن مالك ([485]).أما إذا انفصل المني لا عن شهوة، فالشافعية يوافقون الشيعة في إيجاب الغسل، وخالفهم الحنفية، والمالكية في ذلك، لأنّهم يشترطون اقتران الشهوة في إيجاب الغسل.وذهب الحنفية إلى عدم إيجاب الغسل بإدخال الذكر في الفرج ملفوفاً بخرقة، كما ذكره ابن عابدين في حاشيته وغيره; كما لا يوجبون الغسل بمجرد الإدخال في الميتة والبهيمة، وربما وافقهم الحنابلة في مسألة الخرقة، كما هو ظاهر عبارة الروض الندي([486]).ومن الشافعية من يذهب إلى ذلك، فلا يوجب الغسل ولا الحدّ على من لفّ ذكره بحريرة وأولجه في فرج ولم ينزل([487])، وسيأتي الكلام حول هذا المسألة في باب النكاح إن شاء الله.الغسل اتفق الجميع على وجوب النية في الغسل إلاّ الحنفية ([488])، فلم يوجبوا النيّة كما تقدّم في الوضوء، وقال بعضهم: لو احتاج إلى نيّة لاحتاجت النية إلى نية وهكذا.وهذا القول مردود بالتزامهم وجوب النية للتيمم. وللصلاة، فما هو الفارق؟وجميع المذاهب يوافقون الشيعة في وجوب النية لغسل الجنابة، وأنّها شرط في صحة الغسل كما هو مفصل في محله.أما الترتيب: فقد أوجبه الشيعة وهو الابتداء بغسل الرأس، ثم الجانب الأيمن، ثم الجانب الأيسر، لأنّه الثابت من فعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تدل عليه الأخبار الصحيحة، وقد خالف الحنفية فذهبوا إلى عدم الوجوب، مع أن الثابت عندهم أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)كان يفعل ذلك([489]) وقد جعلوه من السنن لا من الفروض.واختلفت أقوالهم في الابتداء، وأنّه بالجانب الأيمن مرة، وبالرأس مرة أخرى، وهو الأصح عندهم([490]).وقسّم الحنابلة الغسل إلى قسمين: كامل ومجزي: فالكامل: هو ما يحصل به الترتيب كما ذهب إليه الشيعة، والمجزي: هو أن ينوي، وسمّي، ويعم بالماء بدنه([491]) وقالوا إنّ الغسل الكامل: هو أن يأتي بالنية والتسمية، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى ويحثي على رأسه ثلاثاً، ويفيض الماء على سائر جسده، ويبدأ بشقه الأيمن... وهذا هو الغسل الأكمل والأفضل.أما إذا غسل مرة، وعم بالماء رأسه وجسده، ولم يتوضأ أجزأه بعدأن يتمضمض ويستنشق وينوي به الغسل، وكان تاركاً للاختيار([492]).وقال المالكية: باستحباب الترتيب، للأخبار الواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في غسله بتقديم الرأس وبدئه بالميامن، ومع ثبوت ذلك فالترتيب عندهم غيرواجب([493]).وقال الشافعية: باستحباب الترتيب، وتقديم الشق الأيمن على الأيسر([494])، وأنّ ذلك هو الغسل الكامل كما قال النووي في شرح صحيح مسلم([495]).أما وجوب الدلك فلم يقل به إلاّ مالك بن أنس والمزني من أصحاب الشافعي، وذهب الجميع إلى استحبابه، وكذلك الوضوء في غسل الجنابة، فلم يوجبه أحد من أئمة المذاهب إلاّ داود الظاهري، فإنه أوجبه، ومن سواه يقولون هو سُنة، فلو أفاض الماء على جميع بدنه من غير وضوء صح غسله.واستباح به الصلاة، وغيرها، ولكن الأفضل عندهم أن يتوضّأ، وتحصل الفضيلة بالوضوء قبل الغسل أو بعده([496]).وعلى هذا فإن غسل الجنابة لا يحتاج معه إلى وضوء للصلاة، وهو مذهب الشيعة.هذا في الغسل الترتيبي، وأما الارتماس فالظاهر أنّه لا خلاف بين الجميع بالاكتفاء به إذا استوعب جميع البدن ونوى الغسل.الأحكاميحرم عند الشيعة على الجنب اُمور:1 ـ الصلاة مطلقاً عدا صلاة الجنائز لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ)وذلك بعد قوله تعالى:(يَـا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)([497]). وعلى هذا إجماع المسلمين.2 ـ اللبث في المساجد بل مطلق الدخول فيها، إلاّ اجتيازاً بحيث يدخل من باب، ويخرج من آخر، أو لأخذ شيء منها بدون مكث، إلاّ المسجدين الشريفين في مكة والمدينة، فإنّه لا يجوز الاجتياز بهما ولاالمكث.وذهب الحنفية إلى عدم الدخول إلى المساجد، ولكنه إذا احتاج إلى ذلك يتيمّم سواء كان لقصد المكث أو للاجتياز([498]).وقال الشافعي يجوز له الدخول بدون تيمّم إذا كان مجتازاً. لقوله تعالى: (وَلاَجُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيل حَتَّى تَغْتَسِلُواْ)([499]) والمراد من الصلاة في الآية مكانها، وهو المسجد كما روي عن ابن مسعود([500]).وأجاز أحمد بن حنبل المكث للجنب في المسجد بشرط أن يتوضّأ، ولو كان الغسل يمكنه بدون مشقة([501]) وإذا احتاج إلى اللبث جاز عندهم بدون تيمم([502]).وذهب مالك إلى عدم جواز المرور في المسجد، ولكنه إذا اضطر إليه وجب التيمم([503]).3 ـ يحرم مسّ كتابة القرآن، أو شيء عليه اسم الله تعالى، تعظيماً له وإجلالا حتى الدراهم التي عليها اسمه تعالى، قال الإمام الصادق(عليه السلام): لا يمس الجنب درهماً ولا ديناراً عليه اسم الله([504]).4 ـ يحرم قراءة سور العزائم. وهي: الم السجدة، وحم السجدة، والنجم، والعلق حتى البسملة منها، وقيل إنّما يحرم قراءة آية السجدة فقط.ويكره قراءة غيرها من القرآن.والقول بالكراهة مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين للأصل، ولقوله تعالى: (فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)([505]). وكان ابن عباس لم ير في القراءة للجنب بأساً.وفي الباب أخبار تدلّ على الحرمة مطلقاً، ولكنّها أخبار لم تسلم من خدشة وطعن في السند، كحديث ابن عمر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئاً من القرآن([506]).وقد تكلّم العلماء في هذا الحديث لأنّ في رواته من ليس بثقة، وفيه إسماعيل بن عياش، ورواياته عن الحجازيين ضعيفة.وقال أبو حاتم: إن هذا ليس بحديث ولكنه من كلام ابن عمر.وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث باطل أنكره على إسماعيل بن عياش، وأمّا ما يروى عن علي(عليه السلام) أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة([507])، فقد قال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه.وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث. وقال الشوكاني: إنّ هذا الحديث ليس فيه ما يدل على التحريم، لأنّ غايته أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القراءة حال الجنابة، ومثله لا يصلح مستمسكاً للكراهة فكيف يستدل به على التحريم؟([508]).وكيف كان فإنّ الشيعة يذهبون إلى كراهة قراءة ما زاد على سبع آيات، ويحرمون قراءة سور العزائم،([509]) وغيرهم من المذاهب لم يفرقوا بين العزائم وغيرها.وذهب الحنفية إلى منع الجنب من القراءة، وأجاز أبو يوسف كتابة القرآن للجنب، وذهب محمد بن الحسن الشيباني إلى الكراهة، لأنّ الكتابة تجري مجرى القراءة. وزاد بعضهم تحريم مس التوراة، والإنجيل، وسائر الكتب الشرعية ([510]).ومنع الشافعي القراءة مطلقاً، إذا كان بقصد التلاوة، أما إذا قصد الذكر لا التلاوة فيجوز له ذلك، ويظهر من الحنابلة موافقتهم له.أما مالك فقد منع ذلك إلاّ المتيمم، فيجوز له أن يقرأ حزبه من القرآن، ويتنفل ما لم يجد ماء ([511]).5 ـ يحرم على الجنب تعمد البقاء على الجنابة لمن وجب عليه الصوم، كما يأتي تفصيل ذلك في محله، وكذلك الطواف الواجب إن شاء الله.وأما ما يكره للجنب فهي أشياء منها الأكل والشرب والنوم، ما لم يتوضأ، وتفصيل ذلك في الرسائل العملية لعلماء الشيعة وغيرها من كتبهم الاستدلالية ليس هذا محل ذكرها ([512]).وأمّا السنن عند المذاهب الاُخرى لغسل الجنابة فهي كثيرة لا مجال لذكرها، إذ الخلاف في ذلك غير مهم والله الموفق للصواب.غسل الحيضوهو واجب عند الجميع وكيفيته كغسل الجنابة، وهو في اللغة السيل، تقول العرب: حاضت الشجرة إذا سالت رطوبتها، وحاض الوادي إذا سال، وفي الشرع هو الدم الذي له تعلق بانقضاء العدة، إما بظهوره أو انقطاعه، وقيل: إنّه اسم لدم مخصوص من موضع مخصوص. كما عرفه السرخسي. وله تعاريف اُخرى لا حاجة لبيانها.والكلام هنا يقع بما وقع الخلاف فيه، وهو تحديد مدّته وزمانه والأحكام المتعلقة به على وجه الإجمال.مدّتهاختلف العلماء في مدة الحيض، فقال الإمامية: بأن أقل مدة الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. وما نقص عن الثلاثة أو زاد عن العشرة فليس بحيض إجماعاً،([513]) ووافقهم الحنفية في ذلك.وكان أبو حنيفة يقول: إنّ أقل الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشريوماً ثم رجع([514]) إلى ما قلناه من موافقة ما يقوله الشيعة، بأنّ أقلّه ثلاثة أيام، وأكثره عشرة.وقال الشافعي: إنّ أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوماً، وقيل: يوماً واحداً وقال أصحابه: هما قولان له ومنهم من قال: هو قول واحد لدخول الليلة في اليوم([515]).وقال مالك: إنّه بقدر ما يوجد ولو ساعة، لأنّه حدث لا يتقدر أقلّه بسائر الأحداث([516]) ويروى عنه أنه قال: لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيره.وحكى عبد الرحمن بن المهدي عنه بأنّه كان يرى أنّ أكثر الحيض خمسة عشر يوماً ([517]).وقال أحمد بن حنبل: انّ أقلّ الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً، وقال الخلال: إنّ مذهب أحمد لا اختلاف فيه، أن أقل الحيض يوم وأكثره خمسة عشر يوماً([518]).وقيل عنه: إن أكثره سبعة عشر يوماً([519]) وبهذا القول يخالف ما ذهب إليهالشافعي.أيام الطهرقال الشيعة بأن أقل الطهر عشرة أيام، فإذا رأت دم الحيض وانقطع مدة عشرة أيام، فالثاني حيض مستقل، وليس لأكثره حد ([520]).وقال أبو حنيفة: أقل الطهر خمسة عشر يوماً. وبه قال الشافعي([521]).وقال مالك بن أنس: بعدم التوقيت. وفي روايه عبدالملك بن حبيب عنه أنّ الطهر لا يكون أقل من خمسة عشر يوماً([522]).وعند الحنابلة: أنّ أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، لأنّ كلام أحمد لا يختلف أنّ العدة تصحّ أن تنقضي في شهر واحد إذا قامت به البينة([523])، وقال إسحاق بن راهويه: وتوقيت هؤلاء بالخمسة عشر باطل([524]).سن الحائضوهو الزمان الذي يحكم على الدم الخارج من المرأة بصفات الحيض أنّه حيض، فقد اتفق المسلمون على أنّ ما تراه الاُنثى قبل بلوغها تسع سنين لا يكون حيضاً، وكذا ما تراه بعد اليأس.ومن الحنفية من قدر سن الحائض بسبع سنين، مستدلاً بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً، والأمر حقيقة للوجوب، وذلك بعد البلوغ.وسئل أبو نصر عن ابنة ست سنين: إذا رأت الدم هل يكون حيضاً؟فقال: نعم إذا تمادى بها مدة الحيض([525]).أما سن اليأس: فقد وقع الخلاف فيه بين المسلمين:فذهب الشيعة: إلى أنّ الحد الذي يتحقق فيه اليأس هو بلوغ سن المرأة خمسين سنة، إن لم تكن قرشية، وهو المروي عن أبي عبدالله الصادق(عليه السلام) أنّه قال: حدّ التي تيأس من الحيض خمسون ([526]).وعنه أيضاً: المرأة التي تيأس من الحيض حدّها خمسون سنة([527]).وقال(عليه السلام): إذا بلغت المرأة خمسين سنة لم تر حمرة إلاّ أن تكون امرأة من قريش([528])وذهب الحنفية إلى أنّ حدّ اليأس خمس وخمسون سنة، وفي رواية عن أبي حنيفة: أنّ اليأس لا يحدّ بحد، بل هو أن تبلغ من السن ما لا تحيض مثلها([529]).وقال محمد بن الحسن الشيباني: إنّ العجوز الكبيرة إذا رأت الدم مدة الحيض كان حيضاً. وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: هذا إذا لم يحكم بأياسها، أمّا إذا انقطع الدم زماناً حتى حكم بأياسها، وكانت بنت تسعين سنة أو نحو ذلك فرأت الدم بعد ذلك لم يكن حيضاً([530]).وذهب الشافعية إلى أنّ حدّ اليأس إثنتان وستون سنة، ويلغى هذا التحديد إن رأت دماً فيحكم بكونه حيضاً([531]).وعند المالكية أنّ حد اليأس سبعون سنة قطعاً، وإن بلغت الخمسين ورأت دماً يسأل عنه النساء، فإن جزمن بأنه حيض أو شككن فهو حيض، وإلاّ فلا، أمّا إذا بلغت السبعين فليس بحيض قطعاً([532]).واختلفت الروايات عن أحمد بن حنبل فمنها: أنّ المرأة لا تيأس من الحيض يقيناً إلى ستين سنة، وما تراه فيما بين الخمسين والستين مشكوك فيه لا تترك له الصلاة ولا الصوم، لأنّ وجوبهما متيقن فلا يسقط بالشك.ومنها: أنّه جعل الحدّ خمسين سنة، لأن المرأة بعد الخمسين لا تحيض، وبهذا قال إسحاق بن راهويه: بأنّه لا يكون حيضاً بعد الخمسين، ويكون حكمها فيما تراه من الدم حكم المستحاضة، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: إذا بلغت خمسين سنة خرجت من حدّ الحيض([533]).والذي يظهر أنّ العمل عندهم على رواية الخمسين لإطلاق بعضهم ذلك بدون ذكر لمورد الشك، قال موفق الدين بن قدامة: كلّ دم تراه الاُنثى قبل تسع سنين وبعد الخمسين فليس بحيض([534])، وكذلك قال صاحب الروض الندي ولم يقيّد بالشك([535]).وعلى كلّ حال فهم يوافقون ما عليه المشهور عند الشيعة من تحديد اليأس بالخمسين في غير القرشية.أما في القرشية فقد قال في المغني: إنّ نساء الأعاجم ييأسن من المحيض في خمسين، ونساء بني هاشم وغيرهم من العرب إلى ستين سنة، وهو قول أهل المدينة، لما روى الزبير بن بكار في كتاب النسب، عن بعضهم أنّه قال: لا تلد لخمسين سنة إلاّ العربيه، ولا تلد لستين إلاّ قرشية.وقال أحمد في امرأة من العرب رأت الدم بعد الخمسين: إن عاودها مرتين أو ثلاثاً فهو حيض، وذلك لأنّ المرجع في هذا إلى الوجود، وقد وجد حيض من نساء ثقات اخبرن به عن أنفسهن بعد الخمسين، فوجب الاعتقاد بكونه حيضاً، كما قبل الخمسين([536]).والمشهور عند الشيعة في القرشية أنّها لا تيأس، إلاّ إذا بلغت ستين، وقد وردت بذلك عن أهل البيت(عليهم السلام) أخبار كما تقدم.الأحكامأجمع المسلمون على أنّ الحائض يحرم عليها العبادة المشروطة بالطهارة، كالصلاة، والصوم، والطواف.كما أجمعوا على أنّها تقضي الصوم دون الصلاة، والخوارج يخالفون المسلمين بوجوب قضاء الصلاة عليها.وكيف كان فإنّ العلماء اتفقوا على تحريم اُمور على الحائض كمس كتابة القرآن، واللبث في المساجد، وغير ذلك.أمّا قراءة القرآن فقد حرّم الشيعة سور العزائم أو آيات السجدات فقط، كما تقدّم في الوضوء، أما قراءة غيرها على كراهية، وأجاز مالك بن أنس قراءة القرآن للحائض دون الجنب، لأنّ الجنب قادر على تحصيل صفة الطهارة بالاغتسال، فيلزمه تقديمه على القراءة، والحائض عاجزة عن ذلك، فكان لها أن تقرأ، وقد تقدّم الكلام في بحث الجنابة، وإنّ عمدة ما يستدل به المانعون هو حديث ابن عمر، وقد ذكرنا ما فيه من عدم صلاحيته للاستدلال، وكلّ حكم بلا دليل إنّما هو تحكّم.ولا حاجة إلى بسط القول في الموضوع. بقي الكلام في حرمة وطء الحائض ووجوب الكفارة في ذلك.حرمة الوطءاتفق المسلمون على حرمة وطء الحائض، واختلفوا في جواز الاستمتاع فيها بما دون ذلك. كما اختلفوا في جواز الوطء بعد انقضاء الحيض وقبل الغسل.أما حرمة وطئها. فمجمع عليه، لأنّ الله تعالى أمر باعتزال النساء بقوله عزّ اسمه: (قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ)([537]) قيل المراد: أنّ الأذى يكون في موضع الدم، وهو منهي عنه، ومأمور بالاعتزال منه، أما سائر جسدها فغير مشمول. وقيل بالعموم إلاّ ما خصصته السنة كما سيأتي.وكيف كان فإن من وطأ زوجته في زمان الحيض عالماً بالحكم والموضوع، فإنّ عليه الكفارة، وهي دينار في أوله، ونصف دينار في وسطه، وربع دينار في آخره، يتصدّق به عيناً أو قيمة. هذا هو المشهور عند الشيعة([538]).أما الحنفية فالمروي عن أبي حنيفة أنّه قال لا كفارة، وذهب أكثر علماء الحنفية إلى استحباب التصدق بدينار أو نصفه، ويتوب ويستغفر.وصرّح بعض الحنفية بكفر مستحل الوطء في الحيض، وقيل لا يكفر; وعليه العمل عندهم.وقال الحصكفي في شرح التنوير: ويندب تصدقه بدينار، أو نصفه، ومصرفه كالزكاة. وهل على المرأة تصدق؟ قال في الضياء: لا ([539]).وعند المالكية: أنّ الوطء ممنوع، فمن فعل ذلك أثم، ولا غرم عليه، ودليلهم من جهة القياس أنّ هذا محرم لا لحرمة عبادة، فلم تجب فيه كفارة كالزنا([540]).وللشافعي قولان: أحدهما ليس عليه كفارة، والآخر أنّ عليه كفارة وهي دينار، يتصدق به، إن كان في أوله، وإن كان في آخره يتصدق بنصف دينار، لما روي عن ابن عباس أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: في الذي يأتي امرأته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار([541]).وبهذا قال أحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه، لما رواه النسائي وأبو داود في ذلك ([542]).قال ابن قدامة: وفي قدر الكفارة روايتان:إحداهما أنّها دينار أو نصف دينار، على سبيل التخيير أيّهما أخرج اجزأ. روي ذلك عن ابن عباس.والثانية: أنّ الدم إن كان أحمر فهي دينار، وإن كان أصفر فنصف دينار وهو قول إسحاق.وقال النخعي إن كان في فور الدم فدينار، وإن كان في آخره فنصف دينار، لما روى ابن عباس عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: إن كان دماً أحمر فدينار، وإن كان دماً أصفر فنصف دينار، رواه الترمذي ([543])قبل الاغتسالواختلف الفقهاء في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال،فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز، إذا طهرت لأكثر أمد الحيض، وهو عنده عشرة أيام وبه قال الأوزاعي([544]).وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى عدم الجواز حتى تغتسل وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى: (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَــاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)([545]) فهل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء؟ثم إن كان الطهر بالماء فهل المراد طهر جميع الجسد أم طهر الفرج. كما ذهب إليه الأوزاعي؟ لأنّ الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه المعاني الثلاثة.وقد رجّح المانعون بأن صيغة التفعل إنّما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين لا على ما يكون من فعل غيرهم، فيكون قوله تعالى: فإذا تطهرن أظهرفي معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم، والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه ([546]).وغسل الحيض كغسل الجنابة في الكيفية من الارتماس والترتيب، نعم المشهور عندالشيعة أنّه لا يجزي عن الوضوء ([547]).الاستحاضةاختلف المسلمون في وجوب غسل الاستحاضة، فمنهم من أوجبه لكلّ صلاة، ومنهم من لم يوجبه، ومنهم من أوجب عليها طهراً واحداً في اليوم والليلة، ومنهم من أوجب عليها ثلاثة أطهار: للصبح غسل، ولصلاة الظهر والعصر غسل، ولصلاة المغرب والعشاء غسل، وبهذا قال الشيعة وأو جبوه في الاستحاضة الكثيرة ([548]).أمّا المتوسطة فعليها مع الوضوء غسل واحد لصلاة الصبح فقط، والقليلة منها ليس عليها شيء إلاّ الوضوء لكل صلاة، فريضة كانت أو نافلة، كما هو مذكور مفصل في محله من كتب الفقه.وكيف كان فإنّ الشيعة يذهبون لوجوب غسل الاستحاضة إن كانت متوسطة أو كثيرة مع الوضوء، وإن كانت قليلة فلا يجب إلاّ الوضوء كما تقدم.وقال بوجوب الغسل جماعة من السلف كابن الزبير وعطاء بن أبي رباح وعائشة، وهو المروي عن علي(عليه السلام)([549]).وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري: بوجوب الغسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر([550]).وفي الباب أحاديث صحيحة تدل على وجوب الغسل، ولكنّهم حملوها على الاستحباب، منها حديث عائشة أنّها قالت: استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): اغتسلي لكلّ صلاة([551]) فكانت عائشة تذهب إلى وجوب الاغتسال كما في بعض الروايات عنها.ومنها حديث أسماء بنت عميس: أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر فاطمة بنت أبي حبيش أن تغتسل للظهر وللعصر غسلا واحداً، وتغتسل للمغرب والعشاء غسلاً واحداً، وتغتسل للفجر غسلاً واحداً([552]) أخرجه أبو داود.ومنها حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش أنّها استحاضت فأمرها رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن تغتسل لكلّ صلاة([553]).ومنها حديث عائشة أيضاً قالت: استحيضت امرأة على عهد رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)فأمرت أن تعجل العصر، وتؤخر الظهر حتى تغتسل لهما غسلا، وأن تؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل لهما غسلا، وتغتسل لصلاة الصبح غسلا([554]).ومثله حديث سهلة بنت سهيل أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح ([555]).فإنّ هذه الأحاديث وغيرها تدل بمجموعها على التفصيل الذي ذهبت إليه الشيعة، مضافاً لما وردعن أهل البيت(عليهم السلام) بالطرق الصحيحة، من حيث وجوب الغسل على المستحاضة كما ذهب إليه كثير من علماء السلف.قال ابن رشد القرطبي: فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح، ومذهب الجمع، ومذهب البناء، والفرق بين الجمع والبناء: أنّ الباني ليس يرى أن هناك تعارضاً فيجمع بين الحديثين، وأمّا الجامع فهو يرى أنّ هنالك تعارضاً في الظاهر...الخ([556]).وقال ابن دقيق العيد: وذهب قوم إلى أن المستحاضة تغتسل لكلّ صلاة، وقد ورد الأمر بالغسل لكل صلاة في رواية ابن إسحاق خارج الصحيح، والذين لم يوجبوا الغسل لكلّ صلاة حملوا ذلك ـ أي الأخبار الدالة على الوجوب ـ على مستحاضة ناسية للوقت والعدد، يجوز في مثلها أن ينقطع الدم عنها في وقت كلّصلاة([557]).وعلى كلّ حال فإنّ التفصيل الذي ذهب إليه الشيعة في الاستحاضة، ووجوب الغسل عليها لم يذهب إليه أحد من أئمة المذاهب، وحملوا أخبار الوجوب على الاستحباب، أو أنّهم ذهبوا إلى الترجيح، وأنّ الأصل عدم الوجوب.قال النووي: واعلم أنّه لايجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلاة، ولا في وقت من الأوقات، إلاّ مرّة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مروي عن علي وابن مسعود، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنهم، وهو قول عروة بن الزبير، وأبي سلمة ومالك وأبي حنيفة وأحمد ([558]).وروي عن ابن عمر، وابن الزبير، وعطاء بن أبي رباح أنّهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل لكلّ صلاة، وروي هذا أيضاً عن علي وابن عباس.وروي عن عائشة أنّها قالت: تغتسل كلّ يوم غسلا واحداً، وعن المسيب والحسن قالا: تغتسل من صلاة الظهر دائماً ([559]).وقال ابن حزم بعد أن أورد الأخبار الدالة على وجوب الغسل: هذه آثار في غاية الصحة، رواها عن رسول الله أربع صواحب: عائشة اُم المؤمنين، وزينب بنت اُم سلمة، وأسماء بنت عميس واُم حبيبة بنت جحش، ورواها عن كلّ واحدة من عائشة واُم حبيبة: عروة، وأبو سلمة، ورواه أبو سلمة عن زينب بنت اُمسلمة، ورواه عروة عن أسماء، وهذا نقل تواتر يوجب العلم.وبعد أن ذكر الأخبار التي تدل على ما أفتى به بعض الصحابة في وجوب الغسل، كعليّ(عليه السلام) وابن عباس، واُم حبيبة، وابن الزبير، وابن عمر.ثم قال: فهؤلاء من الصحابة: اُم حبيبة وعلي بن أبي طالب وابن عباس، وابن عمر، لا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم، إلاّ رواية عائشة أنّها تغتسل كلّ يوم عند صلاة الظهر، ورويناه هكذا من طريق معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مبيّناً: كلّ يوم عند صلاة الظهر.ومن التابعين عطاء، وسعيد بن المسيب والنخعي وغيرهم، كل ذلك بأسانيد في غاية الصحة.ثم أخذ ابن حزم في الرد على من يترك الأخذ بالسنة الصحيحة تقليداً لإمامه، وتوجيهاً لموافقة آرائه، وبيّن في ردّه فساد أدلّتهم على عدم الوجوب ([560]).وعلى كلّ حال: فإنّ مسألة وجوب غسل الاستحاضة قد وردت فيه نصوص صريحة تقول بالوجوب كما مرّ بيانه، والقول بأنّ الأصل عدم الوجوب لعدم ورود أمر من الشارع في ذلك مردود بالسنة الصحيحة، والمسألة تحتاج إلى مزيد بيان لايسمح به الوقت ولا يتسع له المجال.النفاسقال الجرجاني: هو دم يعقب الولادة، وقيل: إنّه مشتق من تنفس الرحم به، وقيل هو النفس الذي هو عبارة عن الدم، وقيل هو من النفس التي هي الولد، فخروجه لا ينفكّ عن دم يتعقبه، وقيل: إنّه دم حيض مجتمع يخرج بعد فراغ جميع الرحم. وقيل: غير ذلك ([561]).اتفق الجميع على وجوب غسل النفاس، واختلفوا في تحديده قلة وكثرة، فالشيعة يقولون: لاحدّ لقليله، وحد كثيره عشرة أيام من حين الولادة لا قبلها،وإذا رأته بعد العشرة لم يكن نفاساً، وكذا إن لم تر دماً أصلا ([562]).هذا هو المشهور عند الشيعة، ووافقهم الشافعية، والمالكية، والحنابلة.أما الحنفية فقد نقل عن أبي حنيفة أنّه قال: إنّ أقل مدة النفاس خمسة وعشرون يوماً، ونقل عن أبي يوسف أنّه قال: إنّ أقله أحد عشر يوماً، ذكر ذلك أبو موسى في مختصره، وابن رشد في بداية المجتهد([563]).ولكن الحنفية اتفقوا على عدم التحديد([564]) وقالوا: إنّ المراد بقول أبي حنيفة إنّ أقله خمسة وعشرون يوماً هو إذا وقعت الحاجة إلى نصب العادة لهذا في النفاس، لا ينقص ذلك من خمس وعشرين يوماً إذا كانت عادتها في الطهر خمسة عشر، لأنّه لو نصب لها دون هذا القدر أدّى إلى نقص العادة...الخ([565]).وبهذا فقد حصل الاتفاق من الجميع على عدم التحديد، لأقلّ مدة النفاس.واختلفوا في أكثره فقال الشيعة: بأنّ أكثره عشرة أيام. وما ذكره صاحب البحر: من أنّ أكثره عند الإمامية نيف وعشرون يوماً([566])، وتبعه الشوكاني في قوله: وقالت الإمامية نيف وعشرون والنص يرد عليهم([567])، فهو غير صحيح إذ المشهور عند الإمامية أنّه أكثر النفاس عشرة أيام، نعم هناك قول متروك ينسب إلى ابن أبي عقيل أنّه قال: إنّ أيّامها أيام حيضها، وأكثره واحد وعشرون يوماً([568]).وإن نسبة ذلك إلى جميع الشيعة، وإنّه مذهبهم فغير صحيح، وأمثال هذه الاُمور التي تنسب إلى الشيعة بدون صحة كثيرة، وسنفرد لها فصلاً خاصاً إن شاء الله تعالى.وكذلك نسب صاحب البحر([569])، وتبعه الشوكاني([570])، إلى الإمام موسى بن جعفر(عليهما السلام) أنّه قال: أكثر النفاس سبعون يوماً. وهو غير صحيح، ولم يثبت عن الإمام موسى ذلك.وذهب الحنفية إلى أنّ أكثر النفاس أربعون يوماً، وما زاد فهو استحاضة على خلاف بين أبي حنيفة وأصحابه في تخلل الطهر الفاصل بين هذهالمدة([571]).وقالوا: إنّ أكثر أيام النفاس أربعة أمثال أكثر الحيض([572])، وهم يقولون بأنّ أكثر أيام الحيض عشرة. ومن يقول بأنّ أكثره خمسة عشر يلزمه القول بأنّ أكثر أيام النفاس ستون.والمالكية عندهم أنّ أكثر مدة النفاس ستون يوماً، وهو أحد أقوال مالك، ومرة يقول: إنّه أربعون، ورجع عن ذلك; وقال: تسأل النساء عن ذلك، وأصحابه ثابتون على القول الأول ([573]) وهو الستون.والشافعية يوافقون المالكية في ذلك، وقال المزني بقول الحنفية إنّه أربعون، وكذلك الحنابلة يقولون: إنّه أربعون يوماً، فإن تجاوز دمها الأربعين وصادف عادة حيضها ولم يزد، أو زاد ولم يجاوز أكثره فحيض، وإلاّ فاستحاضة ([574]).وهذا الاختلاف حاصل لعدم ورود حديث صحيح عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك، وما روي عن اُم سلمة أنّها قالت: كانت النفساء تجلس على عهد رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)أربعين يوماً، وكنّا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف.رواه الخمسة إلاّ النسائي فقد ناقش الحفاظ هذا الحديث وضعّفوه، لأنّ فيه من هو ضعيف الرواية، ومنهم مجهول الحال ([575]).وروي من طريق آخر كما أخرجه ابن ماجة من طريق سلام عن حميد عن أنس وسلام هذا ضعيف، كذّبه ابن معين ([576]).وفي الباب عن أبي الدرداء وأبي هريرة قالا: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): تنتظر النفساء أربعين يوماً. وفيه العلاء ابن كثير وهو ضعيف جداً ([577])، وبهذا لا يصح أن يقال بورود أثر صحيح.قال ابن رشد: وسبب الخلاف عسر الوقوف على ذلك بالتجربة، لاختلاف أحوال النساء في ذلك، ولأنّه ليس هناك سُنّة يُعمل عليها، كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر ([578]).وقال ابن حزم: فأمّا من حد ستين يوماً فما نعلم لهم حجة: وأمّا من قال: أربعين يوماً فإنّهم ذكروا روايات عن اُم سلمة من طريق مسة الأزدية، وهي مجهولة...الخ.وقال: فلما لم يأت في مدة النفاس نصّ قرآن، ولاسُنة، وكان الله تعالى قد فرض عليها الصلاة والصيام بيقين، وأباح وطأها لزوجها لم يجز لها أن تمتنع من ذلك، إلاّ حيث يمتنع بدم الحيض، لأنّه حيض ([579]).وعلى أيّ حال: فإنّ القول بالتحديد المذكور إمّا على القياس وهو باطل، أو اعتماد على أثر وهو غير صحيح.أما الشيعة فقد صح عندهم ما روي عن أهل البيت صلوات الله عليهم.قال شيخنا المحقق في المعتبر: لنا مقتضى الدليل لزوم العبادة وترك العمل به في العشرة إجماعاً فيما زاد، ولأنّ النفاس حيضة حبسها الاحتياج إلى غذاء الولد، فانطلاقها باستغنائه عنها، وأقصى الحيضة عشرة ([580]). ويؤيّد ذلك المستفيض عن أهل البيت: منه ما رواه الفضيل عن أحدهما ـ الباقر أو الصادق(عليها السلام) ـ قال: النفساء تكف أيام أقرائها التي كانت تمكث فيها، ثم تغتسل، وتعمل ما تعمله المستحاضة([581])والخلاصة أنّ المشهور عند الشيعة أن أكثره عشرة أيام لورود النصوص المستفيضة عن أهل البيت، وإن كان هناك ما يدلّ على الأكثر فلم يشتهر بهاالعمل.والنفساء بحكم الحائض، فيحرم عليها ما يحرم على الحائض، ويكره لها ما يكره للحائض، وتقضي الصوم دون الصلاة، ولا يصح طلاقها الى غير ذلك من أحكام الحائض.غسل الأمواتاتفق الجميع على وجوب غسل الميت المسلم، ما عدا الشهيد المقتول في المعركة في حفظ بيضة الإسلام، واتفقوا على أنّ غير المسلم لا يجوز تغسيله، وأجاز الشافعية ذلك ([582]).واختلفوا في نزع قميص الميت هل ينزع إذا غسل، أم يغسل في قميصه؟فقال الشيعة: ينزع قميصه من طرف رجليه، وإن استلزم فتقه، بشرط إذن الوارث، وتستر عورته.وقال مالك: تنزع ثيابه وتستر عورته، وبه قال أبو حنيفة. أمّا الشافعي فقال: يغسل الميت في قميصه([583]).وقال الحنابلة: باستحباب تجريده من ثيابه، وستر ما بين سرته وركبته، وستره عن العيون تحت ستر أو سقف([584]).وكيف كان فالكلام هنا يقع في أمرين وقع الاختلاف فيهما بين الشيعة وغيرهم من المذاهب وهما: كيفية غسل الميت، ووجوب الغسل على من مسّميتاً.1 ـ كيفية الغسلأمّا كيفيّة الغسل ففيه واجب ومستحب: أمّا الواجب عند الشيعة فهو إزالة النجاسة عن جميع بدن الميت قبل الشروع، كما يجب فيه طهارة الماء وإباحته، وإباحة السدر والكافور. بل الفضاء الذي يشغله الغسل.وأن يغسل ثلاث مرات: الأولى بماء السدر، والثانية بماء الكافور ويعتبر في كل من السدر والكافور ألا يكون كثيراً بمقدار يوجب خروج الماء عن الإطلاق إلى الإضافة، ولا قليلاً بحيث لا يصدق أنّه مخلوط بالسدر والكافور.والثالثة بماء القراح، ويشترط فيه الترتيب: بأن يغسل في كل مرّة رأسه ثمّ الجانب الأيمن، ثم الجانب الأيسر، ولا بدّ فيه من النيّة.ويستحب أن يغسل رأسه برغوة السدر وأن يبدأ بغسل يديه إلى نصف الذراع، وأن يقف الغاسل على الجانب الأيمن من الميت،وغير ذلك مما ذكره العلماء.ويكره إقعاده حال الغسل وترجيل شعره، وقصّ أظافره، وحلق عانته، وقصّ شاربه، وغسله بالماء الساخن، وجعله بين رجلي الغاسل.أمّا المذاهب الاُخرى فلم يوجبوا شيئاً من ذلك، وإنّما هي اُمور مستحبة، لأنّ الأكثر منهم لا يرون وجوب كيفية خاصة لغسل الميت، بل المطلوب هو تطهيره بالماء([585]).وما ذهبوا إليه من الغسل بالسدر والكافور، فهو عل جهة الاستحباب، والحنفية يوجبون النية لإسقاط الفرض عن الجميع; لأنّه واجب كفائي، وإذا وجد غريق فإنّه يجزي في غسله عندهم أن يحرك في الماء بنية الغسل ([586]).وقال في مراقي الفلاح: والنية في تغسيله لاسقاط الفرض عنا، حتى إذا وجدغريقاً يحرك في الماء بنية غسله ([587]).وعلى قول أبي يوسف أنّه يحرّك ثلاثاً كما في الفتح، وعن محمد الشيباني أنّه إن نوي الغسل عند الإخراج من الماء يغسل مرّة على وجه السنّة، والفرض قد سقط بالنية عند الإخراج ([588]).وقال الكاساني: الواجب هو الغسل مرّة واحدة، والتكرار سنة، وليس بواجب حتى لو اكتفي بغسلة واحدة، أو غسلة واحدة في ماء حار، لأنّ الغسل إن وجب لإزالة الحدث ـ كما ذهب إليه بعضهم ـ فقد حصل بالمرّة الواحدة كما في غسل الجنابة، وإن وجب لإزالة النجاسة المتسرّبة كرامة له على ما ذهب إليه العامة، فالحكم بالزوال بالغسل مرّة واحدة أقرب إلى معنى الكرامة، ولو أصابه المطر لا يجزي عن الغسل، لأنّ الواجب فعل الغسل، ولم يوجد ولو غرق في الماء فاُخرج إن كان المخرج حركه كما يحرك الشيء بقصد التطهير سقط الغسل، وإلاّ فلا...([589]).والشافعية لا يوجبون النية في غسل الميت في قول، لأنّ القصد منه التنظيف فلم تجب فيه النية كإزالة النجاسة. وقول: بأنّها تجب، لأنّه تطهير لا يتعلق بإزالة عين، فوجبت فيه النية كغسل الجنابة ([590]).ولهذا اختلفوا في الغريق فقول: بأنّه لا يغسل، وغرقه يكفي عن غسله، إذ النية ليست بشرط. وقول آخر أنّه يجب غسل الغريق([591]).والغسل الأكمل عندهم أن يغسل بسدر وكافور بماء بارد، خلافاً للحنفية إذ قالوا باستحبابه واستحباب الترتيب في الغسل، وتنظيف أسنانه ومنخريه إلى آخر ما ذكروه من المستحبات.المالكيةقال مالك: ليس لغسل الميت عندنا شيء موصوف، ولا لذلك صفة معلومة ولكن يغسل ويطهر.قال القاضي أبو الوليد الباجي: هذا ـ كما قال مالك : إنّه ليس لغسل الميت صفة لا يجوز أن تتعدى فتكون شرطاً في صحة غسله، لكن الغرض من ذلك تطهيره، ويستحب أن يبدأ في المرة الأولى من غسله فيصبّ عليه الماء، ويبدأ بغسل رأسه ولحيته، ثم بجسده يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر([592]).وعلى هذا فالغسل عند المالكية هو تطهير جسد الميت بالماء كيف اتفق، وليس له صفة مخصوصة.والحنابلة يشترطون النية في الغسل كبقية المذاهب في الاكتفاء بمجرد الغسل بالماء، ولا يجب فيه فعل مخصوص، فلو ترك الميت تحت ميزاب ونحوه وحضر من يصلح لغسله، ونوى ومضى زمن يمكن غسله فيه صح ([593]).وعلى هذا فإنّ كلّ ما يجرونه في غسل الميت هو على طريق الاستحباب لا الوجوب، كغسله بماء السدر والكافور عند الجميع، والترتيب فيه، أمّا بقية الاُمور من تقليم الأظفار وتسخين الماء عند الحنابلة والحنفية، فقد كرهها المالكية والشافعية إلى غير ذلك من الاُمور الاستحسانية في زيادة تطهيره.فتبين مما ذكرناه أنّ الشيعة لا تتفق مع جميع المذاهب في حكم غسل الميت، في أنّ المطلوب هو تطهيره بدون صفة خاصة، كما تطهر الأشياء النجسة بأي كيفية اتفق مع اشتراط النية من المطهر عند بعضهم، بل الواجب عند الشيعة تطهير الميت بصفة خاصة، بيّنها الشارع المقدس فوجب اتباعه.أخرج مسلم في صحيحه بسند عن اُم عطية الأنصارية قالت: دخل علينا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن نغسل ابنته ـ زينب ـ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم):اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر ـ إن رأيتن ذلك ـ بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور...الحديث([594]).ومثله عن يحيى بن يحيى، عن حفصة بنت سيرين، وبهذا اللفظ أخرجه مسلم أيضاً عن أيوب، عن محمد، عن اُم عطية، وبه في حديث ابن علية([595]).وأخرجه الجماعة بهذا اللفظ، وفي رواية لهم: ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها.([596])وبهذا استدل جماعة على وجوب غسل الميت بالسدر والكافور، كما هو ظاهر الأمر على ذلك.قال ابن دقيق العيد: والاستدلال بصيغة هذا الأمر على الوجوب عندي يتوقف على مقدمة اُصولية، وهي جواز إرادة المعنيين المختلفين بلفظة واحدة من حيث إنّ قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثاً غير مستقل بنفسه، فلا بد أن يكون داخلاً تحت صيغة الأمر، فتكون محمولة فيه على الاستحباب، وفي أصل الغسل على الوجوب، فيراد بلفظ الأمر على الوجوب بالنسبة إلى أصل الغسل، والندب بالنسبة إلى الإيثار([597]).وقال الأمير الصنعاني في تعليقته: أنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قيد بقوله اغسلنها فهو داخل تحت الأمر، أي مأمور به ([598]).وقال الزين بن المنير في هذا الحديث: ظاهره أنّ السدر يخلط في كل مرّة من مرات الغسل، لأنّ قوله بماء وسدر يتعلّق بقوله اغسلنها. قال وهو مشعر بأن غسل الميت للتنظيف لا للتطهير، لأنّ الماء المضاف لا يتطهر به.وتعقبه الحافظ بمنع لزوم مصير الماء بذلك، لاحتمال أن لا يغير السدر وصف الماء بأن يمعك بالسدر ثم يغسل بالماء في كلّ مرة، فإنّ لفظ الخبر لايأباه([599]).وأخرج أحمد عن ابن عباس قال: بينما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته فوقصته ـ أي صرعته فكسرت عنقه ـ فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): اغسلوه بماء وسدر وكفّنوه في ثوبيه ولا تحنّطوه([600])وفي هذا دليل على وجوب الغسل بالماء والسدر، وأنّ المحرم لا يحنّط كما هو مذهب الشيعة، ووافقهم الشافعي لأنّ عنده المحرم إذا مات يبقى في حقّه حكم الإحرام، وخالف في ذلك مالك، وأبو حنيفة، وهو مقتضى القياس عندهم لانقطاع العبادة بزوال محل التكليف، وهو الحياة، ولكن الشافعي اتبع الحديث، وهو مقدم على القياس عنده. وبذلك قالت الحنابلة ([601]).والخلاصة أنّ الأثر الوارد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر في غسل الميت، هو بالكيفية التي عليها مذهب الشيعة مضافاً إلى ما استفاض عن أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)في ذلك.قال الإمام الصادق(عليه السلام) في كيفية غسل الميت: اغسله بماء وسدر، ثم اغسله على أثر ذلك مرّةً اُخرى بماء وكافور، وذريرة إن كانت، واغسله الثالثة بماء قراح ثلاث غسلات لجسده([602])وقال(عليه السلام): يغسل الميت ثلاث غسلات، مرّة بالسدر ومرّة بالماء يطرح فيه الكافور ومرّة اُخرى بالماء القراح([603])هذا ما يتعلّق بالأمر الأول ممّا اختلف فيه، ذكرناه بصورة موجزة، أما الأمر الثاني فهو غسل المس.2 ـ غسل المسأوجب الشيعة الغسل على من مسّ ميتاً من الناس بعد برده وقبل تطهيره،([604]) وذهب بقيّة المذاهب إلى الاستحباب، وقال الشافعي في الجديد: الغسل من غسل الميت آكد من غسل الجمعة، لأنّ غسل الجمعة غير واجب، والغسل من غسل الميت متردد بين الوجوب وغيره.وقال البويطي: إن صح الحديث قلت بوجوبه ([605]) وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: من غسّل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ، أخرجه الجماعة، ولم يذكر ابن ماجة الوضوء([606]).وقد وقع الاختلاف في صحة هذا الحديث، فحسنه الترمذي، والحافظ بن حجر، وقال الذهبي: هو أقوى من عدة أحاديث احتج بها الفقهاء، وذكر الماوردي: أنّ بعض أصحاب الحديث خرّج لهذا الحديث مائة وعشرين طريقاً([607]).والحديث يدل على وجوب الغسل. وفي الباب عن علي(عليه السلام) عند أحمد أنّه قال: من غسل ميتاً فليغتسل. ورواه أبو داود، والنسائي، وأبو يعلى والبزار، والبيهقي([608]).وعن مكحول أنّ حذيفة سأله رجل مات أبوه. فقال حذيفة اغسله، فإذا فرغت فاغتسل([609]).وعن عائشة عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يغتسل من أربع: من الجمعة، والجنابة والحجامة، وغسل الميت ([610])وقد ورد عن أهل البيت ذلك، قال الإمام الصادق(عليه السلام): من غسّل ميتاً فليغتسل. فقال له حريز، فمن مسه؟ قال(عليه السلام): فليغتسل ([611]).وقال(عليه السلام): من مسّه ـ أي ميت الإنسان ـ وهو سخن فلا غسل عليه، فإذا برد عليه الغسل. إلى غير ذلك من النصوص المتواترة في وجوب الغسل على من مس ميتاً، وهو المشهور عند الشيعة، بل قيل إنّه إجماع. إلاّ ما ذهب إليه السيد المرتضى من القول بالاستحباب ([612]).ولا يعارض هذه الأدلة ما ورد عن أسماء بنت عميس أنّها غسلت أبا بكر; فلما فرغت قالت لمن حضرها من المهاجرين: إنّي صائمة، وإنّ هذا يوم شديد البرد. فهل عليّ من غسل؟ قالوا: لا،([613]) وغير ذلك مما يمكن أن يتمسك به المانعون.فإنّ حديث أسماء بعد التسليم بأنّها تولت غسل الخليفة دون غيرها من المهاجرين والأنصار، وأقربائه من الصحابة، فإنّ ذلك لا يثبت للمانعين به شيئاً، لأنّ الراوي له هو القاضي عبدالله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ولا يصح ذلك عنه; لأنه ولد سنة (65) من الهجرة، وكانت هذه القضية سنة (13) من الهجرة أي سنة وفاة أبي بكر فكيف تصح روايته عن أسماء بنت عميس وهو من لم يولد بعد! والقضية قبل ولادته باثنتين وخمسين سنة.وحديث أسماء هو عمدة ما في الباب، وهو كما ترى من عدم الصحة على ما فيه من موهنات اُخرى.والحاصل أنّ بعضهم حمل أحاديث الباب على المعنى المجازي، لما فيه من الجمع بين الأدلة بوجه مستحسن عندهم، وهو الاستحباب، وبه قال مالك وأصحاب الشافعي، ([614]) والحنابلة.وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنّه لا يجب ولا يستحب، لحديث: لا غسل عليكم من غسل الميت. كما أخرجه البيهقي عن ابن عباس ([615]) ولم يرفعه إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ولا حجة في ذلك، ولا يصلح لصرف تلك الأحاديث الصحيحة عن معناها الحقيقي، وهو الوجوب، ولو حملها على الاستحباب كغيره لكان أليق.وعلى كل حال: فإنّ مس ميتة الإنسان توجب الغسل على الماس، اختياراً كان المس أم لا، وسواء كان صغيراً أم كبيراً، وكذلك يجب الغسل بمس القطعة المبانة من الحي أو الميت، إذا كانت مشتملة على العظم دون الخالية منه، ودون العظم المجرّد من الحي هذا هو المشهور عند الشيعة ([616]).وهم يعتبرون مسّ الميت كحكم الحدث الأصغر، فيمنع من الأعمال التي يشترط فيها الوضوء فقط، فيجوز لمن عليه غسل المس دخول المساجد، والمكث فيها، وقراءة العزائم، ولا يجوز مسّ كتابة القرآن ونحوها، مما لا يجوز للمحدث.الصّـلاةأمّا الصّلاة على الميت فقد وقع الخلاف بين الشيعة وغيرهم من المذاهب في عدد التكبيرات، إذ الشيعة يوجبون خمس تكبيرات ([617]). وغيرهم يراها أربعاً([618])، كما اختلفت المذاهب فيما بينها في قراءة الفاتحة في الأولى، كما ذهب الشافعي([619]) لذلك، وبه قالت الحنابلة([620]).أما المالكية([621]) والحنفية([622]) فهم يتفقون مع الشيعة في عدم وجوب قراءة الفاتحة، إذ لم يثبت ذلك بأثر صحيح.أما التكبيرات فإنّ الشيعة يخالفون جميع المذاهب في وجوب الخَمس، لأن ذلك هو الثابت من فعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأهل بيته، وكثير من أصحابه، كابن عباس، وأبي ذر، وزيد بن أرقم، وحذيفة اليماني وغيرهم ([623]).وكبّر زيد بن أرقم على جنازة خمس تكبيرات، فسألوه فقال: كان رسول الله يكبرها. رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي ([624]).وصلّى حذيفة على جنازة فكبّر خمساً، ثم التفت فقال: ما نسيت، ولا وهمت، ولكن كبرت كما كبّر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، صلّى على جنازة فكبر خمساً. رواه أحمد([625]).وروى ابن المنذر عن ابن مسعود: أنّه صلّى على جنازة رجل من بني أسد، فكبّر خمساً ([626]).وغير ذلك من الآثار الدالة على تعيّن الخمس، مضافاً لما روي عن أهلالبيت(عليهم السلام) في ذلك ([627]).وأمّا ما يروى من أن عمر بن الخطاب هو الذي جمع الناس على أربع تكبيرات، لاختلاف الناس في ذلك، كما رواه الطحاوي في معاني الآثار ([628])، فهذا شيء لا يمكن الركون إليه، لعدم الثقة بالراوي وجهله أولا، وبتنزيه عمر عن إحداث فريضة لم تكن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ ليس له حقّ التشريع، ولو فعل فلا يجب اتّباعه، لأنّ ذلك من وظيفة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فنحن نتبع ماورد عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، دون سواه.ولم يرد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك وسيأتي تفصيل صلاة الميت في كتاب الصلاة.ونلفت أنظار القراء الكرام إلى ما افتراه بعض الكتاب على الشيعة، بأنّ صلاة الميت عندهم تختلف عدد ركعاتها عليه، تبعاً لمكانته، وهذا شيء لم يقل به أحد منهم، وإجماعهم على وجوب خمس تكبيرات، كما ذكرنا وما يأتي تفصيله.وإنّما اختلاف عدد الركعات عند غيرهم، ولكن اُولئك الكتاب لم يراعوا الصدق، ولم يحتفظوا بأمانة التاريخ، فويل لهم ممّا كسبت أيديهم من افتراء في القول، وكذب في النقل، وويل لهم مما يكتبون، بدون تثبت وعن غير دراية، وقد أشرنا لهذا القول من قبل.أما الصّلاة على الغائب فذهب الشيعة إلى عدم جوازها([629])، ووافقهم الحنفية والمالكية ([630])، وستأتي الإشاره لذلك إن شاء الله تعالى. هذا ما يتعلق به الكلام في هذا الباب، وقد أعرضنا عن كثير من المسائل خشية الإطالة إذ الاستقصاء ليس من شرط هذا الكتاب.التيمّموهو في اللغة القصد، يقال يَممت فلاناً أي قصدته ([631]). ومنه قول الشاعر: تيممتكم لما فقدت أولي النهي *** ومن لم يجد ماء يتيمم بالترب وفي الشرع: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة، لإزالة الحدث، أو أنّه: مسح الوجه واليدين بالصعيد، وقيل: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بشرائط مخصوصة، وقيل غير ذلك.وقد أجمع المسلمون على مشروعية التيمم في الجملة. لقوله تعالى: (فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا)([632]).واختلفوا في مسوغاته وكيفيته، هل هو بدل عن الطهارة الكبرى والصغرى أم عن الصغرى فقط؟ وهل يصح قبل دخول الوقت أم لا؟ وهل هو رافع أم مبيح؟ إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام فيه ونقتصر هنا على بيان مسوغاته وكيفيته.مسوغاتهاتفقت المذاهب الإسلامية على أنّ عدم وجدان الماء، أو عدم التمكن من الوصول إليه، أو حصول الضرر في تحصيله أو استعماله مسوّغ للتيمّم.واختلفوا في وجوب الطلب لفاقد الماء، فمنهم من لم يحدد مقداره، فذهب مالك أنّه لا يحدّ بحدّ. وقال: إنّه كلّ ما يشقّ على المسافر طلبه، والخروج إليه وإن خرج فاته أصحابه، والمشهور من مذهبه أن طلب الماء شرط في صحة التيمّم، وبه قال أبو حنيفة ([633]).وقال الشافعي: يجب الطلب للماء بعد دخول الوقت، سواء في رحله أو مع رفقته، فيسأل رفيقه عن الماء، فان بذله لزمه قبوله فإنّه لا منة عليه، وكيفية الطلب أن ينظر عن يمينه، وشماله، وأمامه، ووراءه فإن كان بين يديه حائل من جبل أو غيره صعده([634]).وقال الحنفية: بوجوب الطلب على فاقد الماء في المصر مطلقاً. ظنّ قربه أو لم يظن، أما إذا كان مسافراً فإن ظنّ قربه منه بمسافة أقلّ من ميل وجب عليه.وقال الكاساني: والأصح أنّه قدر ما لا يضر بنفسه ورفقته بالانتظار.ونقل عن أبي يوسف أنّه قال: إن كان الماء بحيث لو ذهب إليه لا تنقطع عنه جلبة العير، ويحس بأصواتهم وأصوات الدواب، إلى آخر ما هنالك من الاختلاف عند الحنفية في تحديد الطلب ([635]).والحنابلة يذهبون إلى وجوب مطلق الطلب، وهو شرط في جواز التيمّم، فلا يجوز التيمم حتى يطلب الماء في رحله ورفقته، وما قرب منه، فإن بذل له أو بيع بزيادة يسيرة على مثله لا يجحف بماله لزمه قبوله، وإن علم بماء لزمه قصده، ما لم يخف على نفسه وماله، ولم يفت الوقت ([636]) وخالفهم الشافعي فقال: لا يلزمه شراؤه بزيادة يسيرة ولا كثيرة لذلك ([637]).وبهذا يظهر أنّ المذاهب تتفق مع الشيعة في وجوب الطلب، وهو الفحص عن الماء إلى اليأس أو ضيق الوقت، وإذا كان في مفازة فيكفي الطلب عندهم مقدار غلوة سهم في الأرض الحزنة، وغلوة سهمين في الأرض السهلة، في الجوانب الأربعة، بشرط وجود الماء في الجميع، والا اختص الطلب بما يحصل الرجاء به، وبشرط عدم الخوف في الطلب، على النفس، أو العرض، أو المال.وذهب الشيعة أيضاً إلى أنّ وجدان المقدار من الماء غير الكافي للغسل أو الوضوء كعدمه، فيجب التيمم، ووافقهم الحنفية والمالكية في ذلك.([638])وذهبت الشافعية والحنابلة إلى وجوب استعمال ما تيسر له منه، في بعض أعضاء طهارته، ثم يتيمم عن الباقي.والحنابلة والشافعية يتفقون مع الشيعة بأن حصول المنّة والهوان في استيهاب الماء مسوغ للتيمّم ([639]).واتفقوا على أن خوف الضرر من استعمال الماء مسوغ للتيمّم كمن يخاف حدوث المرض أو بطء البرء من استعماله.وكيف كان فإنّ مسوغات التيمّم عند الشيعة سبعة، وهي: عدم ما يكفيه من الماء لوضوئه أو غسله، وعدم التمكن من الوصول إلى الماء لعجز أو خوف على نفسه أو ماله أو عرضه، ومنه ما لو كان الماء في إناء مغصوب، وأن يكون هناك واجب يتعين صرف الماء فيه على نحو لا يقوم غير الماء مقامه، مثل إزالة الخبث، وضيق الوقت عن تحصيل الماء أو عن استعماله بحيث يلزم من الوضوء وقوع الصلاة أو بعضها خارج الوقت، وتحصيل الماء على الاستيهاب الموجب للذلة والهوان، أو شرائه بثمن يضر بحاله، وخوف الضرر من استعمال الماء بحدوث مرض أو زيادته أو بطئه، وخوف العطش على نفسه أو على نفس محترمة.وإذا لخصنا موارد الخلاف فإنّا نجد أنّ المذاهب تتفق كلّها في بعض المسوغات وتختلف في البعض الآخر، وكذلك خلافهم مع الشيعة مرّة واتفاقهم اُخرى، لاختلاف الآثار الواردة والمباني العامة.كيفيتهاتفّق المسلمون على أنّ الواجب في التيمّم هو مسح الوجه واليدين، ولكنّهم اختلفوا في كيفية المسح، هل يمسح الوجه كلّه أم بعضه؟ وهل تمسح اليدان كلّها إلى المرافق كما في الوضوء، أم يكفي مسح الكف؟ كما أنهم اختلفوا في عدد الضربات; هل تكفي الواحدة أم الإثنتان أو الثلاث؟ولا بد لنا هنا من الوقوف على كيفية التيمم عند المذاهب، لنعرف مدى الخلاف بينهم.الشيعةقالوا: بأنّ كيفية التيمم: أن يضرب بيديه على الأرض دفعة واحدة، وأن يكون بباطنهما، ثم يمسح بهما جميعاً تمام جبهته، وجبينه من قصاص الشعر إلى الحاجبين، وإلى طرف الانف الأعلى المتصل بالجبهة، ثم مسح تمام ظاهر الكف اليمنى من الزند إلى أطراف الأصابع، ثم مسح تمام ظاهر الكف اليسرى كذلك بباطن الكف اليمنى ([640]).الحنفيةوعند الحنفية: وضع اليدين على الأرض ثم يرفعهما وينفضهما، ويمسح بهما وجهه، ثم يضع يديه ثانية على الأرض، ثم يرفعهما فينفضهما ثم يمسح بهما كفيه وذراعيه من المرفقين ([641]).المالكيةوعند المالكية: أنّ التيمّم ضربة للوجه، وضربة لليدين، يمسحهما إلى المرفقين، وفي رواية أن فرض اليدين مسحهما إلى الكوعين ([642]) وهما طرف الزندين ممايلي الإبهام، وفسره في العشماوية: بأنه مفصل الكف من الساعد.الشافعيةوعند الشافعية: التيمم مسح الوجه واليدين مع المرفقين بضربتين أو بأكثر. قال الشيرازي: والدليل عليه حديث أبي اُمامة وابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: التيمم ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين.وحكى بعض أصحابنا عن الشافعي رحمه الله قال في القديم: التيمّم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين ([643]).وفي المنهاج أنّ الضرب مستحب، بل يكفي عندهم نقل التراب معالنية([644]).وقال النووي عن الشافعي: أنه يكفي مسح اليدين إلى الكوعين، وهما طرف الزندين، ورجّحه في شرح المهذب، والتنقيح، وقال في الكفاية: إنّه الذي يتعين ترجيحه ([645]).الحنابلةوعند الحنابلة: التيمّم مسح الوجه واللحية، حتى مسترسلها، لا ما تحت الشعر ومسح يديه إلى كوعيه ([646]).وقال الخرقي: والتيمّم ضربة واحدة، يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب، فيمسح بهما وجهه وكفيه.وقال ابن قدامة: ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق.أومأ أحمد إلى هذا لما سئل عن التيمّم، فأومأ إلى كفه ولم يجاوزه، وقال: قال الله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) من أين تقطع يد السارق أليس من ههنا؟ وأشار إلى الرسغ ([647]).والجميع يشترطون فيه النية، حتى الحنفية الذين لم يقولوا بوجوبها للوضوء والغسل، ولم يخالف منهم إلاّ زفر، فإنّه ذهب إلى أنّ النية ليست بشرط، والشيعة يشترطون الترتيب والموالاة ووافقهم المالكية، فإنهم يشترطونهما ([648]).والشافعية يقولون بالموالاة للضرورة فتجب على صاحب الضرورة، وتندب لغيره، وفي قول للشافعي: إنّها تجب، أما الترتيب فيوجبونه بين الوجه واليدين، فيلزم تقديم الوجه، وأمااليدان فيستحب أن يقدم اليمنى على اليسرى([649]).والحنابلة يشترطون الترتيب والموالاة ([650]). أمّا الحنفية فإنّ الترتيب والموالاة عندهم من السنن لا الواجبات ([651]).الاتفاق والافتراق بين المذاهبرأينا فيما سبق من عرض صور كيفية التيمم أنّ الأكثر يتفق مع مذهب الشيعة فيه، فالمالكية لهم قول في الاكتفاء بمسح الكفين، وكذلك الشافعية على قول للشافعي، وأما الحنابلة فلا خلاف عندهم في وجوب مسح الكفين كما هو مذهب الشيعة.نعم الحنفية يرون لزوم مسح اليدين إلى المرفقين، ولهم قول بالاكتفاء بمسح أكثر الوجه واليدين، وصحح هذا القول عندهم، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن مسح الكفين إلى الرسغين، وروى الحسن أيضاً عن أبي حنيفة: أن الاستيعاب ليس بواجب، حتى لو ترك شيئاً أقل من الربع من الوجه أو اليدين ـ الواجب مسحهما في التيمم ـ يجزيه ([652]).وقد احتج القائلون بمسح اليد إلى المرفقين بالآية، وبالقياس على الوضوء بأن المرفقين ممسوحين في التيمم فكان في الوضوء كغسله، ولأنّ الله تعالى أمر بمسح الأيدي فلا يجوز التقيد بالرسغ ـ وهو ما بين الساعد والكف ـ إلاّ بدليل، وقد قام دليل التقيد بالمرفق، ويعنون بالدليل المقيّد بالمرفقين ما روي عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين.وقد تكلم الحفاظ فيه، وطعنوا في إسناده، لأنّ فيه علي بن ضبيان. وقال أبو زرعة: حديث باطل. وقال أحمد بن حنبل: ليس بصحيح عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هو عن ابن عمر. وهو عندهم حديث منكر.وقال الخطابي: ـ هذا الحديث ـ يرويه محمد بن ثابت، وهو ضعيف. وقال ابن عبد البر لم يروه غير محمد بن ثابت وبه يعرف، ومن أجله ضعف عندهم، وهو عندهم حديث منكر ([653]).وكل ما ورد عن ابن عمر وغيره بتعين المسح إلى المرفقين، فهو غير صحيح كما نصّ عليه كثير من الحفاظ، وقد ناقش ابن حزم جميع الأحاديث التي احتجّ بها القائلون بالمسح إلى المرفقين ([654]) بما لا حاجة إلى التعرض لذكرها.وقال الحافظ بن حجر في الفتح: لم يصح في التيمّم سوى حديث أبي جهم وحديث عمار، فحديث أبي جهم ورد مجملا، وحديث عمار يذكر الكفين في الصحيحين ([655]).وقال الشافعي: وممّا يقوي الاقتصار على الوجه والكفين أنّ عماراً ما كان يفتي بعد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ بالوجه والكفين ضربة واحدة، وراوي الحديث أعرف بالمراد به من غيره، ولا سيما الصحابي المجتهد ([656]).وباختصار أنّ عمدة ما يستدل به القائلون بوجوب المسح إلى المرافق، هو القياس على الأمر بالوضوء، وحديث ابن عمر وحديث أبي اُمامة. وحديث الأسلع بأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: في المسح إلى المرفقين.وكل هذا لا حجة فيه: أمّا حديث ابن عمر فقد مرّت مناقشته، وأمّا حديث أبي اُمامة الباهلي يرويه جعفر بن الزبير عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبياُمامة، فإنّ جعفر بن الزبير ضعيف الحديث، بل وضاع كما قال ابن حيان: أنّه يروي عن القاسم وغيره أشياء موضوعة، وروى عن القاسم عن أبي اُمامة نسخة موضوعة، وقال شعبة: إنّه وضع على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أربعمائة حديثكذب([657]).وكذلك أن بين الراوي جعفربن الزبير وبين محمد بن عمر اليافعي رجل مجهول لم يسمه الراوي، بل قال: عن رجل عن جعفر بن الزبير.وأمّا حديث الأسلع ـ أو الأشلع ـ كما في مبسوط السرخسي فهو حديث لا يصحّ الاحتجاج به، لأنّ سنده مظلم، وكلّهم لا يعتمد عليهم، ولأنّ اسلع شخصية يصعب إثباتها، إذ لم يعرفه حفاظ الحديث، ولم يرو عنه أحد إلاّ هذا الحديث رواه البيهقي، ومثل هذا لا يصح أن يعتمد عليه، ولا تصلح هذه الأحاديث الواهية لمعارضة حديث عمار بن ياسر رضوان الله عليه، الذي نصّ الحفاظ على أنّه أصح حديث في هذا الباب، أخرجه أصحاب الصحاح، وفيه أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)قال له في صفة التيمّم: إنّما يكفيك هكذا وضرب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بكفّه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بهما وجهه وكفيه([658]).وفي لفظ: إنّما يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفّيك إلى الرسغين. رواه الدار قطني بهذا اللفظ.وقد أجاب الحنابلة على تلك الأحاديث التي جاء فيها ذكر المسح إلى المرفقين كما أشرنا لبعضه; وقال الخلال: الأحاديث في ذلك ضعيفة جداً لم يروِ منها أصحاب السنن إلاّ حديث ابن عمر.وأجاب ابن قدامة عن الاحتجاج بالقياس بقوله: وقياسهم ينتقض بالتيمّم عن الغسل الواجب، فإنّه ينقص عن المبدل،وكذلك في الوضوء فإن فيه أربعة أعضاء والتيمم في عضوين، وكذا نقول في الوجه فإنّه لا يجب مسح ما تحت الشعور الخفيفة، ولا المضمضة والاستنشاق ([659]).وأمّا إستيعاب الوجه في المسح كما ذهب إليه الشافعية، والحنابلة، والمالكية([660]) فإنّهم وإن قالوا بوجوب مسح الوجه كلّه، إلاّ أنّهم لا يوجبون تتبع غضون الوجه، والحنفية يجوزون الإخلال ببعض الوجه، وكل ذلك لا يتفق مع مذهب الشيعة، فإنّهم أوجبوا مسح الجبين واستدلوا بالآية الكريمة (فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ) وإن الباء للتبعيض، ولو لم تكن للتبعيض لبطلت فائدتها، إذ لا وجه للزيادة; إذ الزيادة لها لغو، وإلغاؤها خلاف الأصل، وأنّها استعملت مع الفعل المتعدي للتبعيض، فيكون حقيقة فيه دفعاً للمجاز كما في قوله تعالى (وامسحوا برؤوسكم)([661]) في آية الوضوء، والكل قائل بأنّ الواجب في المسح هو البعض، كما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ودلت الأخبار الواردة عن أهل البيت في ذلك; روي عن الإمام الباقر والصادق(عليها السلام)رواه الصدوق وغيره، في بيان كيفية التيمّم، وفيه مسح الجبهة، كما هو منصوص عليه ممّا يطول بيانه ([662]).مع أنّ أخبار التيمّم لا تعين كيفية مسح الوجه هل كلّه أو بعضه؟ والآية دالة على التبعيض، وإنكار ورود الباء للتبعيض غير مسموع بشهادة أكثر اللغويين.وقد قال الإمام الباقر(عليه السلام): إنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وصف التيمم لعمار بقوله: أفلا صنعت كذا؟ ثم أهوى بيديه إلى الأرض، فوضعهما على الصعيد، ثم مسح جبينيه بأصابعه، وكفّيه إحداهما بالاُخرى ([663]).وعن زرارة أنّه سأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن التيمم; فضرب(عليه السلام) بيديه الأرض، ثم رفعهما، ومسح بهما جبهته مرة واحدة ([664]).كما أنّ العرف يقضي بأنّ اطلاق الوجه على الجبهة مستعمل كما يقال: سجد وجهي، وضرب وجهه.وقال بعض الصحابة لرجل رآه ساجداً وقد جعل بينه وبين التراب وقاية: ترب وجهك ([665]). ولا يريد منه إلاّ وضع الجبهة على الأرض.والخلاصة أنّ الخلاف في أنّ مطلق الوجه واليدين هل يدل على مجموع العضو فيلزم تعميمه بالمسح؟ وإذا كان كذلك لزم مسح اليد إلى الإبط كما ذهب إليه الزهري، ويلزم مسح الوجه حتى مواضع التحذيف، وهم لم يلتزموا بذلك; لأن اليد عند الإطلاق تحمل على الكفين، كما في آية السرقة، وقيل إن اليد حقيقة في الكف وفيما فوقها مجاز([666])، وقياس التيمم باطل كما تقدم، وقد ذهب الظاهرية إلى مسح الجبهة في التيمم، وما روي عن علي أنّه كان يرى مسح الذراعين في التيمم فذلك غير صحيح.ما يصحّ التيمم بهاتفقت المذاهب الإسلامية على أنّ التيمّم لا يصح إلاّ بالصعيد، للآية الكريمة، والصعيد هو التراب أو وجه الأرض، لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): جُعِلَت لِي الأرضُ مَسجِداً وَطهُوراً([667]).وقد وقع الخلاف بينهم في مصداق اسم الأرض، هل هو التراب فقط؟ أم هو ما تصاعد عليها حتى الثلج والمعادن؟أمّا الشيعة فقالوا: إنّه التراب أو ما يصدق عليه اسم الأرض سواء أكان تراباً، أم رملا أم جصّاً، مدراً أم صخراً أملس، وقيل منه أرض الجصّ والنورة قبل الاحراق. ولا يجوز التيمّم بما لا يصدق عليه اسم الأرض، وإن كان منها كالرماد والنبات، والمعادن كالعقيق والفيروزج ونحوهما. ممّا لا يُسمّى أرضاً ويشترط فيما يتيمّم به أن يكون طاهراً، ومباحاً، إذ لا يصحّ بالنجس ولا بالمغصوب ([668]).أمّا الحنفية فجوزوا التيمّم بكلّ جنس الأرض: كالتراب والرمل والزرنيخ والنورة والمغرة ـ وهي الطين الأحمر ـ والكحل والكبريت، والفيروزج والعقيق وسائر أحجار المعادن، والملح الجبلي([669]) على خلاف من أبي يوسف، فإنّه لايجوز إلاّ بالتراب والرمل. ثم رجع ([670]) إلى قول الشافعي بأنّه لا يجوز إلاّ بالتراب.وأجاز أبو حنيفة التيمّم على حجر الجدران، وإن لم يكن فيها غبار، ولصاحبه محمد قولان: الجواز وعدمه.أمّا المالكية فيجوزونه على التراب والرمل والحجارة، وكلّ ما تصاعد من الأرض من ثلج أو سبخة، أو خضخاض ـ وهو المكان المترب تبله الأمطار ـ وبكل معدن غير نقد وجوهر، إلاّ أن لا يجد غيرهما وأدركته الصلاة، وهو بأرض ذهب وفضة أو جوهر فيتيمّم عليها ([671]).وذهب مالك إلى أنّ العادم للماء والتراب كالمريض والمربوط لا تجب عليه الصلاة، لأنّه محدث لا يقدر على رفع الحدث، ولا استباحة الصلاة بالتيمّم، فلم تكن عليه صلاة كالحائض ([672]).والشافعية يجوزونه بكلّ تراب طاهر حتى ما يداوى به ـ كالأرمي والسبخ الذي لا ينبت ـ وبالرمل إن كان فيه غبار ولا يصح عندهم بالمعدن، ولا بسحاقة الخزف، ولا المختلط بدقيق ونحوه، وقيل: إن قل الخليط جاز([673]).والحنابلة يوافقون الشافعية في اشتراط التراب، ويجوزونه في الرمل على رواية عن أحمد، ورواية اُخرى أنّه جوز التيمّم في السبخة والرمل، وإذا اضطر يجوز له في النورة والجص ([674]).وقال ابن قدامة: فإن ضرب بيده على لبد أو ثوب أو جوالق، أو برذعة، أو في شعير فعلق يده غبار فتيمّم به جاز. نص على ذلك أحمد ([675]).وانفرد أحمد بن حنبل بأنّ المكلف إذا كانت على بدنه نجاسة وعجز عن غسلها لعدم الماء تيمّم لها وصلّى، إذ هو بمنزلة الجنب عنده([676]).نواقضهينتقض التيمّم بما ينتقض به الوضوء والغسل من الأحداث، كما أنّه ينتقض بوجدان الماء، أو زوال العذر ([677]).هذا هو المشهور عند الشيعة وادعى عليه الإجماع، وقد اتفقت المذاهب على ذلك، واختلفوا في جواز الجمع بين صلاتين بتيمّم واحد، فأجازه الحنفية ومنعه المالكية، وقال الحنابلة: في جواز الجمع في القضاء لا في الأداء، وزاد بعض الحنابلة: أن التيمّم ينتقض بظن وجود الماء، وقال بعضهم: إنّه لو نزع عمامة، أو خفاً يجوز المسح عليه فإنه يبطل تيمّمه. نصّ على ذلك أحمد، لأنه مبطل للوضوء فأبطل التيمّم كسائر المبطلات([678]).هذا ما يتعلق الكلام به حول التيمّم، وما وقع الاختلاف في بعض مسائله، وما اتفقوا عليه، وقد تركنا كثيراً من ذلك، لضيق المجال والاكتفاء بالبعض عن ذكر الجميع.النجاساتالنجاسة في اللغة اسم لكلّ مستقذر ([679]). وفي الشرع: قذارة خاصة، اقتضت وجوب هجرها في موارد مخصوصة، فكلّ جسم خلي عن تلك القذارة فهو طاهر. وقيل هي الخبث. وهي كلّ عين مستقذرة شرعاً، إلى غير ذلك من التعريفات.والفقهاء يقسّمون النجاسة إلى قسمين: نجاسة حكمية. ونجاسة حقيقية. وكذلك قسموا الطهارة إلى قسمين: طهارة حكمية. وهي الطهارة عن الحدث وقد مر الكلام حولها. والقسم الثاني هي الطهارة الحقيقية، وهي الطهارة عن الخبث.والحنفية قسّموا النجاسة إلى قسمين: غليظة: باعتبار قلة المعفو عنها كالخمر، والدم المسفوح، ولحم الميتة وإهابها قبل دبغه. وخفيفة: باعتبار كثرة المعفو عنه منها بما ليس في المغلظة: كبول الفرس، وبول ما يؤكل لحمه من النعم الأهلية، والوحشية كالغنم، والغزال... الخ.وعلى كلّ حال فإنّ الخلاف بين المذاهب في تعداد النجاسة، وكيفية تطهيرها، وما يتعلق بذلك أمر يطول البحث باستقصائه، وليس من غرضنا ذلك، ولكننا نستعرض المهم في الموضوع من بيان الخلاف بين المذاهب أجمع، بعد أن نعطي صورة موجزة عمّا ذهب إليه الشيعة في تعداد الأعيان النجسة، ثم نستعرض ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه لنعرف مدى الخلاف في ذلك، بدون إطالة واستقصاء.الشيعةقالوا بأنّ عدد الأعيان النجسة إثنا عشر:1 ـ 2: البول والغائط من كلّ حيوان له نفس سائلة محرّم الأكل، بالأصل أو بالعارض كالجلاّل، والموطوء، أما ما لا نفس له سائلة، أو كان محلل الأكل فليس كذلك.3 ـ المني من كلّ حيوان له نفس سائلة، وإن حلّ أكل لحمه.4 ـ الميتة من الحيوان ذي النفس السائلة إنساناً كان أو غيره، حلّ أكله أو حرم، برّياً أم بحرياً، وكذا أجزاؤها المبانة منها.5 ـ الدم من ذي النفس، أما ما لا نفس له سائلة كدم السمك ونحوه فدمه طاهر.6 ـ 7: الكلب، والخنزير البريان، بجميع أجزائهما، وفضلاتهما، ورطوباتهما.8 ـ الخمر بل كل مسكر مائع بالأصالة بجميع أقسامه.9 ـ الفقاع وهو شراب مخصوص متخذ من الشعير.10 ـ الكافر بجميع أقسامه: أصلياً أو مرتداً، فطرياً أو ملياً، حربياً أو ذمياً، كتابياً أو غير كتابي، جاحداً لله تعالى أو لوحدانيته أو لرسالة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).11 ـ 12 ـ عرق الجنب من الحرام، وعرق الإبل الجلاّلة.هذه هي الأعيان النجسة التي يجب الاجتناب عنها، وإزالة ما يتعلق منها في بدن المصلي أو ثيابه أو مكانه، كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وعن الأواني لاستعمالها، فيما يتوقف على طهارتها، وعن المساجد والأماكن المقدّسة والمصاحف المشرفة.كما أنّه عفي عمّا دون الدرهم البغلي، من غير الدماء الثلاثة، كما عفي عن دم الجرح والقرح مع السيلان، دائماً أو في وقت لا يسع زمن فواته الصلاة ([680])، كما سيأتي بيانه.البول والغائطاتفق الجميع على نجاستهما من الآدمي، واختلفوا فيما عداه من الحيوانات، فقال أبو حنفية بنجاسة بول الفرس، وبول ما يؤكل لحمه من النعم الأهلية والوحشية كالغنم الغزال نجاسة مخففة.أما روث الخيل، والبغال، والحمير، وخثى البقر، وبعر الغنم، فإن نجاسته مغلظة عنده، وقد ذهب صاحبه محمد بن الحسن الشيباني إلى خلافه فقال بطهارتها ([681]).وقال زفر: ما يؤكل لحمه طاهر. وهو قول مالك، وقال: إنّه وقود أهل المدينة، يستعملونه استعمال الحطب ([682]).والشافعية يذهبون الى الى ترادف الروث والعذرة، أي نجاسة الروث ولو من طير مأكول اللحم أو ممّا لا نفس له سائلة أو سمك أو جراد([683]).وكيف كان فقد اختلفوا في تطهير الثوب والبدن من البول على مذاهب:1 ـ وجوب غسله عن الثوب والبدن، إلاّ إذا كان بول رضيع ذكراً، أما الاُنثى فلا، فإنّ الأول يكتفى بالنضح عليه، وبه قال عطاء والزهري، وأحمد وإسحاقبن راهويه.2 ـ يكفي النضح فيهما، وهو مذهب الأوزاعي، وحكى ذلك عن مالك والشافعي.3 ـ هما سواء في وجوب الغسل، ولا فرق بين الصبي والجارية، وهو مذهب الحنفية والمالكية.([684])المنـياختلفت فيه أقوال أئمة المذاهب، فأبو حنيفة ومالك يذهبان لنجاسته، إلاّ أنّهما اختلفا في تطهيره، فأبو حنيفة يذهب إلى وجوب غسله، رطباً، وفركه يابساً، وذهب مالك إلى غسله مطلقاً.وقال الشافعي: بطهارة المني مطلقاً، إلاّ من الكلب والخنزير، والأصحّ من مذهب أحمد بن حنبل أنّه طاهر من الآدمي ([685]).وتمسك من ذهب إلى طهارة المني مطلقاً، بل جعله بعضهم هو مثل البصاق بلا فرق، بما روي عن عائشة: أنّها كانت تفرك المني عن ثوب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي خبر آخر أنّها قالت: لقد رأيتني وإني لأحكه عن ثوب رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم)بأظفري، إلى غير ذلك مما هو منقول من فعل عائشة، ([686]) ولا يدل ذلك على الالتزام به، فإنه لم يكن من فعل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، أو تقريره.ونحن ننزّه مقامه(صلى الله عليه وآله وسلم) من ذلك، بأن تبقى قذارة المني في ثوبه حتى تجمد، وهو المنزه، والكامل بكل صفاته وكيف يكون ذلك منه؟ ! وهو(صلى الله عليه وآله وسلم) تنام عيناه ولا ينام قلبه، وقد ورد عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث تنص على نجاسة المني، ووجوبغسله([687]).ومن الافتراء الواضح أيضاً نسبة ذلك للإمام علي(عليه السلام) وأنّه قائل بطهارة المني، كيف وقد استفاض عنه(عليه السلام) وعن أبنائه الطاهرين ما يدلّ على النجاسة للمني؟ وهذا الباب واسع، وقد أفضى الأمر إلى تلفيق حجج واهية، وأقوال فارغة، كتكريم ابن آدم، وبكون الآدمي طاهراً كما يدعي من يقول بالطهارة في محاورة خيالية بين القائل بها وبين المانع كما ذكرها ابن القيم الجوزية([688]).الكلب والخنزيرالكلب نجس عند الشافعي وأحمد، ويغسل الإناء من ولوغه فيه سبعاً لنجاسته.وقال أبو حنيفة بنجاسته ولم يشترط في غسل ما تنجس به بل جعل غسله كغسل سائر النجاسات، فإذا غلب على ظنه زواله ولو بغسله كفى، وإلاّ فلا بدّ من غسله حتى يغلب على ظنه إزالة نجاسته ولو عشرين مرّة.وقال مالك هو لا ينجس ما ولغ فيه لكن يغسل الإناء تعبداً([689]).والخنزير حكمه كالكلب، وذهب الشافعي إلى وجوب غسل ما تنجس به سبعاً، وقال أبو حنيفة: يغسل كسائر النجاسات([690]).قال ابن تيمية: أما الكلب فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة:أحدها: أنّه نجس كلّه حتى شعره كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتينعنه.والثاني: أنّه طاهر حتى ريقه كقول مالك والمشهور عنه.والثالث: أنّ ريقه نجس وأنّ شعره طاهر، وهذا مذهب أبي حنيفة والمشهور عنه ، وهو الرواية الاُخرى عن أحمد، والمشهور عنه وله ـ أي لأحمد ـ في الشعور الثابتة على محل نجس ثلاث روايات أحدها: أنّ جميعها طاهر حتى شعر الكلب والخنزير، وهو اختيار أبي بكر عبدالعزيز، والثانية: أن جميعها نجس كقول الشافعي، والثالثة: أنّ شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة كالشاة، والفأرة، طاهر; وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس كالكلب والخنزير وهي المنصورة عند أكثر أصحابه، والقول الراجح هو طهارة الشعور كلها، الكلب والخنزير وغيرهما، بخلاف الريق، وعلى هذا فإذا كان شعر الكلب رطباً وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه، كما هو مذهب جمهور الفقهاء: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه([691]).أمّا الشيعة فيذهبون إلى أنّ الكلب نجس بالإجماع سواء، أكان شعره أم ريقه، ويوجبون غسل ما ولغ به من الأواني ثلاث مرات، أوّلهن بالتراب، وكذلك الخنزير نجاسته إجماعاً، ويجب غسل الإناء الذي شرب منه بالماء سبعمرات([692]).والشافعي يوافقهم في القول بالنجاسة مطلقاً، وكذلك أحمد في أحدى الروايتين، وكذلك أبو حنيفة إلاّ أنه يختلف في القول بطهارة شعره كما نقلعنه([693]).أمّا مالك فخالف في هذه المسألة جميع فقهاء الإسلام، وذهب إلى أنّ الكلب طاهر كلّه([694])، وسيأتي بقيّة الكلام حول رأيه في الكلب، وحرمة أكله وحلّيته.الميتةنجسة من كلّ ماله نفس سائلة، حلالاً كان أو حراماً، وكذا أجزاؤها المبانة منها، وإن كانت صغاراً، عدا مالا تحلّه الحياة فيها، كالصوف والشعر والوبر والعظم والقرن والمنقار، والمخالب والريش والسن، والبيضة إذا اكتست القشر الأعلى.وهذا الحكم مجمع عليه عند الشيعة، تبعاً لأئمة أهل البيت(عليهم السلام)، فلا يجوز استعمال جلد الميتة ولا يطهرها شيء، والروايات بذلك عنهم(عليهم السلام) كثيرة([695])، وهذا هو رأي عمر بن الخطاب وابنه عبدالله وعائشة، ومن أئمة المذاهب أحمد بن حنبل في أشهر الروايتين عنه، ومالك بن أنس; ونجاسة جلد الميتة وقع فيه الاختلاف والأقوال فيه سبعة([696]).الأوّل: قول الشيعة وهو أن نجاسته عينية لا تطهر([697]).الثاني: أنّ جميع جلود الميتة تطهر بالدباغ ظاهراً وباطناً إلاّ الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما، وهو مذهب الشافعي([698]).الثالث: يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم، ولا يطهر غيره، وهو مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي ثور وإسحاق بن راهويه([699]).الرابع: يطهر جلود جميع الميتات بالدباغ إلاّ الخنزير، وهو مذهب أبي حنيفة، وخالفه أبو يوسف فقال: إنّ جلد الخنزير يطهر بالدباغة ويجوز بيعه، والانتفاع به والصلاة فيه([700]).الخامس: يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة، من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره إلاّ أنه يطهر ظاهره دون باطنه، فلا ينتفع به في المائعات، وهذا محكي عن مالك أيضاً.السادس: يطهر الجميع حتى الكلب والخنزير ظاهراً وباطناً، قال النووي: وهو مذهب داود وأهل الظاهر. وحكي عن أبي يوسف كما تقدم([701]).السابع: أنّه ينتفع بجلود الميتة وإن لم تدبغ. ويجوز استعمالها في المائعات واليابسات قال النووي: وهو مذهب الزهري([702]).أجزاءُ الميتةاختلفوا في أجزاء الميتة ممّا تحلّه الحياة وما لا تحلّه، ومن حيث الطهارة والنجاسة.ذهب الشافعية إلى نجاسة جميع أجزاء الميتة من لحم وعظم وشعر ووبر وغير ذلك، لأنّها تحلّها الحياة عندهم([703]).وخالفهم بقية المذاهب، ولكنهم اختلفوا في تحديد ما لا تحله الحياة.قال الحنفية: إنّ لحم الميتة وجلدها ممّا تحله الحياة فهما نجسان، بخلاف نحو العظم والظفر والمنقار والمخلب، والحافر والقرن والظلف والشعر، إلاّ شعر الخنزير، فإنّها طاهرة لأنّها لا تحلها الحياة، واستدلوا بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) في شاة ميمونة: إنما حرّم أكلها وفي رواية لحمها([704])والمالكية قالوا: إنّ أجزاء الميتة التي تحلها الحياة هي اللحم والجلد والعظم والعصب ونحوها، بخلاف الشعر والصوف والوبر وزغب الريش، فإنها لا تحلها الحياة فليست بنجسة([705]).والحنابلة قالوا: إنّ جميع أجزاء الميتة تحلها الحياة، فهي نجسة إلاّ الصوف والشعر والوبر، فإنّها طاهرة، واستدلوا على طهارتها بعموم قوله تعالى: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين) لأنّ ظاهرها يعمّ حالتي الحياة والموت، وقيس الريش على هذه الثلاثة([706]).الخارج من الميتةواختلفت المذاهب في الخارج من الميتة من لبن وأنفحة وبيض رقيق القشرة أو غليظه، ونحو ذلك مما كان طاهراً في حال الحياة.الحنفية: قالوا بطهارة ذلك، وهو قول أبي حنيفة، وخالفه أبو يوسف ومحمّد فذهبا إلى نجاسة اللبن والأنفحة وقالا: إنّ اللبن وإن كان طاهراً في ذاته لكنه صار نجساً لمجاورة النجس([707]).الشافعية قالوا: بنجاسة اللبن في الضرع، لأنّه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس، وأمّا البيض في الدجاجة الميتة فإن لم يتصلب قشره فهو كاللبن نجس، وإن تصلّب قشره لم ينجس، كما لو وقعت بيضة في شيء نجس ([708]).الـدمقال الشيعة: إنّ الدم من كل نفس سائلة نجس. إنساناً كان أو غيره، كبيراً أو صغيراً، قليلا كان الدم أو كثيراً.وأما دم ما لا نفس له كالسمك والبق والبرغوث، فطاهر، ويستثنى من الحيوان الدم المتخلف في الذبيحة بعد خروج المتعارف، سواء أكان في العروق أم اللحم أو في القلب أو الكبد ([709]).ووافقهم الحنفية في ذلك، إلاّ ما يروى عن أبي يوسف بأنّه قال: بنجاسة دم السمك وبه أخذ الشافعي، اعتباراً بسائر الدماء. وعند أبي حنيفة، ومحمد أنه طاهر لإجماع الاُمة على إباحة تناوله مع دمه، وكذلك الدم الذي يبقى في العروق، واللحم بعد الذبح طاهر عندهما; لأنّه ليس بمسفوح. وقال أبو يوسف: إنّه معفو عنه في الأكل دون الثياب; لتعذر الأحتراز منه في الأكل وإمكانه في الثوب ([710]).واختلفت الروايات عن مالك بن أنس فمنها أنه قال: ما قل من الدم أو كثر يغسل. ومحصلها أنّ الدماء على ثلاثة أضرب: ضرب يسير جداً لا يجب غسله، ولا يمنع الصلاة، كقدر الأنملة والدرهم، وضرب ثالث كثير جداً يجب غسله، ويمنع الصلاة([711]).وعن الشافعي القول بنجاسة الدم مطلقاً، وفي دم السمك وجهان: الطهارة لأنّه ليس أكثر من الميتة، وميتة السمك طاهرة، والقول الثاني أنّه نجسكغيره([712]).وأما الدم الباقي على اللحم وعظامه من المذكاة فنجس. معفو عنه كما قال الحليمي. ومعلوم أن العفو لا ينافي النجاسة([713])، وكذلك الكبد، والطحال طاهران، لأنّهما ليسا بدم مسفوح.والحنابلة يقولون: بنجاسة جميع الدم إلاّ الكبد والطحال ودم السمك، وأما دم البق والبراغيث والذباب ففيها روايتان; والدم المتخلف في اللحم معفو عنه، وإن علت حمرته القدر ([714]).وعلى كلّ حال: فإنّهم اتفقوا على نجاسة دم الحيوان واختلفوا في دم السمك، فمن قائل بطهارته، لأنّه دم غير مسفوح، ولا ميتة داخلة تحت عموم التحريم، جعل دمه كذلك، فأخرجه عن النجاسة كما أخرج الميتة قياساً عليها.ومنهم من قال بنجاسته على أصل الدماء، وهو قول مالك في المدونة([715]).وكذلك اختلفوا في العفو عن قليل الدماء، فمن قائل بالعفو عن القليل، ومن قائل بأنّ الدماء حكمها واحد، لورود تحريم الدم مطلقاً، ولم يفرق بين المسفوح وهو الكثير، وغير المسفوح وهو القليل، ولكل حجته ودليله، ممّا لا حاجة إلى التعرض لها.الخمـروهو نجس بإجماع المسلمين، وإنّ الشيعة زادوا قيداً فقالوا: بنجاسة الخمر بل نجاسة كلّ مسكر مائع بالأصالة، وإن صار جامداً بالعرض فإنّه يبقى على النجاسة، أمّا الجامد؟ وإن غلى وصار مائعاً بالعارض، فهو طاهر وإن كان حراماً([716]). وبهذا قالت الشافعية; وأنّ البنج والأفيون والحشيشة وإن أسكرت فإنّها طاهرة عندهم.قال شهاب الدين المعروف بالشافعي الصغير: وما وقع في بعض شروح الحاوي من نجاسة الحشيشة غلط، وقد صرّح في المجموع: بأن البنج والحشيش طاهران مسكران... ([717]).هذا ما دعت الحاجة إلى عرضه من مسائل الأعيان النجسة باختصار دون استقصاء، أما المطهّرات فهي:المطهراتاتفق المسلمون على وجوب إزالة النجاسة عن الأبدان والثياب والمساجد، كما اتفقوا على أنّ الماء الطاهر يزيل النجاسة، واختلفوا فيما سوى ذلك، كما اختلفوا في كيفية التطهير. أمّا غير الماء من المائعات فاتفقت الشيعة ([718])، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، بأنّها لا تزيل حدثاً ولا خبثاً([719]).وأمّا الحنفية فقال أبو حنيفة: إن المائعات الطاهرة تحصل بها الطهارة الحقيقية. وهي الطهارة من الخبث. ووافقه أبو يوسف، ولكنه فرّق بين الثوب والبدن، فقال: بأنّها تطهر الثوب دون البدن. وخالف في ذلك محمد بن الحسنوزفر.وروي عن أبي يوسف: أنّه لو غسل الدم عن الثوب بدهن أو سمن أو زيت، حتى ذهب أثره جاز.فعلى قول أبي حنيفه وهو القول الأصح عندهم أنّ إزلة النجاسة تحصل بكل مزيل من المائع الطاهر، كالخل، وماء الورد، والمستخرج من البقول.كما عدّوا من المطهرات بغير الماء أن الثدي إذا تنجس بالقيء فطهارته رضاع الولد له ثلاث مرات، وفم شارب الخمر يطهر بترديد ريقه وبلعه، ولحس الاصبع ثلاثاً إذا تنجس ([720]).والخلاصة أنّه لا خلاف في تطهير الماء المطلق للنجاسة، أما المائع فالخلاف فيه من الحنفية، وهم كما ترى في الخلاف حوله. أما بقيّة المطهرات فقد وقع الخلاف بين المذاهب كماً وكيفاً، فلنستعرض لذكر بعضها بموجز من البيان.الشمـستطهّر الأرض وكلّ ما لا ينقل من الأبنية، وما اتصل بها من أخشاب وأعتاب وأبواب وأوتاد، وكذلك الأشجار والثمار والنبات، والخضروات وإن حان قطفها.هذا هو المشهور عند الشيعة بشرط زوال عين النجاسة، وأن يكون المحل رطباً عند إشراق الشمس عليه، فإذا كانت الأرض النجسة جافة واُريد تطهيرها صبّ عليها الماء، فإذا يبس بالشمس عرفاً وإن شاركها غيرها في الجملة من ريح وغيره طهرت الأرض([721]).والحنفية يكتفون بتطهير الأرض بمطلق الجفاف، وذهاب أثر النجاسة عن الأرض بالشمس وغيرها ([722]).ولكن عبارة القدوري تومي إلى اشتراط الجفاف بالشمس إذ يقول: وإذا أصابت الأرض نجاسة فجفّت بالشمس، وذهب أثرها جازت الصلاة على مكانها، ولا يجوز التيمم عليها ([723]).وقال الفرغاني فيالهداية: وإن أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها، جازت الصلاة على مكانها.واستدل بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): زكاة الأرض يبسها. وقال: وإنّما لا يجوز التيمّم بها، لأنّ طهارة الصعيد ثبتت شرطاً بنص الكتاب، فلا تتأدى بما ثبت بالحديث([724])وبهذا يظهر أنّهم يتفقون مع الشيعة في الجملة بتطهير الشمس للأرض النجسة.أما المالكية والشافعية، والحنابلة فإنّهم يخالفون في ذلك([725]).الأرضتطهر باطن القدم وما توقي به كالنعل والخف ونحوهما، بالمسح بها، أو المشي عليها، بشرط زوال عين النجاسة بهما، هذا هو المشهور عند الشيعة، أو المجمع عليه([726]).ووافقهم الحنفية في الجملة، قال الفرغاني: إذا أصاب الخف نجاسة لها جرم كالروث، والعذرة، والدم، والمني فجفّت فدلكه في الأرض جاز، وهذا استحسان، وقال محمد رحمه الله لا يجوز وهو القياس إلاّ في المني... الخ([727]).وأمّا الشافعية فإنّهم يفصلون فيما إذا كانت النجاسة رطبة لم تطهرها الأرض وإن كانت يابسة فللشافعي قولان: ففي الاملاء والقديم أنّ الأرض تطهر أسفل الخف، مستدّلا بما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر نعليه، فإن كان بهما خبث فليمسحه في الأرض. ثم ليصل فيهما([728])، ولأنّه تتكرر فيه النجاسة، فأجزأ فيه المسح كموضع الاستنجاء.أمّا المالكية فقد اختلفت الروايات عن مالك فيالخف. فقال مرّةً إنّه يغسل. وجعله مثل الثوب المتنجس. ومرّةً قال: إنّه لا يغسل، لأنّه لا يمكن حفظ الخف من النجاسات، ويمكن حفظ الثوب، مع أنّ الخفّ يفسده الغسل ([729]).أمّا الحنابلة فعن أحمد روايتان: أحدهما يجب غسل الخف، والثانية يجزي دلكه في الأرض ([730]).الاستحالةذهب الشيعة إلى أنّ الاستحالة إلى جسم آخر هو مطهر، فيطهر الجسم النجس أو المتنجس إذا أحالته النار رماداً، أو دخاناً أو بخاراً ([731])، إلى غير ذلك ممّا ذكر في كتب الفقه. والحنفية([732]) يوافقونهم في كثير من موارد الاستحالة.والشافعية قالوا: لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلاّ شيئان: أحدهما جلد الميتة إذا دبغ، والثاني الخمر إذا استحالت بنفسها خلا فتطهر بذلك([733]).ووافقهم الحنابلة في استحالة الخمر خلاً، لأنّ عندهم لا يطهّر شيء من النجاسات بالاستحالة إلاّ الخمر إذا انقلبت بنفسها، فإن خللت قيل: تطهر وقيل لا تطهر ([734]).والجميع يتفقون مع الشيعة في طهارة الخمر إذا انقلبت خلاً.الدبغومن المطهرات الدبغ، فإذا دبغت جلود الميتة بالدباغة الحقيقية كالعفص، وقشور الرمان، أو بالدباغة الحكمية كالتتريب والتشميس، والإلقاء في الهوا، فهي طاهرة عند الحنفية، وتجوز بها الصلاة إلاّ جلد الخنزير، وجلد الآدمي ([735]).ووافقهم الشافعية في طهارة الدبغ في الجملة إلاّ أنّ لهم شرائط في ذلك، وتطهر الجلود كلّها بالدباغ عندهم إلاّ الكلب والخنزير([736]).واتفقت الشيعة([737])، والحنابلة([738])، والمالكية([739])، على عدم تطهير جلد الميتة بالدباغ، وكذلك الذكاة مطهرة للجلود وإن كانت غير مأكولة اللحم عند الحنفية.أمّا عند مالك أنّ الذكاة تعمل إلاّ في الخنزير.وعنده: إذا ذكي سبع أو كلب فجلده طاهر يجوز بيعه، والوضوء فيه وإن لم يدبغ، أمّا اللحم فعند أبي حنيفة أنّه محرّم وعند مالك أنّه مكروه ([740]).الفرك والمسحذهبت الحنفية إلى نجاسة المني، ولكنّه يطهر الثوب منه بالفرك إن كان يابساً، ويغسل إن كان رطباً.أما إذا كان على البدن فهل يكون حكمه حكم الثوب؟ المروي عن أبي حنيفة أنّه لا يطهر البدن من المني إلاّ بالغسل، وذكر الكرخي أنّه يطهر ([741]).والحنفية لعلّهم ينفردون بهذا الحكم عن جميع المذاهب، فالشيعة يحكمون بنجاسة المني، ولا يطهر إلاّ بالماء ووافقهم المالكية.وأما الشافعية فقالوا: بطهارة مني الآدمي، ووافقهم الظاهرية، والبصاق مثله فلا تجب إزالته ([742]).أما الحنابلة فإنّهم يوافقون الشافعية في طهارة المني، وإن اختلفت الروايات فيه، قال الخرقي: والمني طاهر. وهي الرواية الصحيحة اختارها الوالد السعيد وشيخه، وبها قال الشافعي وداود، لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: سئل النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)عن المني يصيب الثوب؟ فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّما هو بمنزلة البزاق والمخاط، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو أذخرة.ونقل الخرقي رواية اُخرى: إنّه كالدم. وقال أبو بكر في (التنبيه): إن كان رطباً غسل، وإن كان يابساً فرك، فمتى لم يفعل وصلى فيه أعاد الصلاة، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك يغسل المني بكلّ حال ([743]).فالحنابلة تختلف عندهم الروايات في المني،ولكن العمل عندهم على أنّه طاهر، وأمّا الفرك أو الغسل فهو اختيار أبي بكر عبد العزيز غلام الخلال، وقد أخذ بحديث عائشة إذ قالت: أمرني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بغسل المني من الثوب إذا كان رطباً، وبفركه إذا كان يابساً.وهذا الحديث غريب لا أصل له كما نصّ عليه كثير من الحفاظ. وعلى كلّ حال: فإنّ الحنفية ينفردون بالتطهير بالفرك وهو عندهم من المطهرات.وذهب الحنفية إلى أنّ النجاسة إذا أصابت المرآة أو السيف اكتفي بمسحهما([744])، والمروي عن مالك أن السيف يطهر بالمسح ([745]).وقد عدّ بعض الحنفية المطهّرات إلى نيف وثلاثين، وجعلوا منها طهارة القطن بالندف والحنطة المتنجسة بالقسمة، والتصرف والأكل وغير ذلك ([746]).والخلاصة أنّ المذاهب تختلف في تعداد المطهّرات وكيفية التطهير، وعدد الأعيان النجسة، وقد تعرضنا لذكر البعض ولا يتّسع الوقت لبسط الكلام فيها، كما أنّنا لم نتعرض لبقية المطهرات عند الشيعة كالانتقال، والإسلام إذ هو مطهر للكافر; والتبعية كطهارة ولد الكافر لأبيه، واستبراء الحيوان الجلاّل، إذ الإطالة تدعو إلى اتساع الموضوع.وسيأتي في لباس المصلي ما له صلة بالموضوع، من حيث العفو عن قليل النجاسة، دون كثيرها والتفصيل في ذلك.وسنوضّح هناك آراء المذاهب في إزالة النجاسة عن بدن المصلي ومكانه وثوبه، هل هي واجبة أم مستحبة؟. أمّا ما يتعلق بهذا الباب، وما يلحق به من الكلام حول المياه، وأقسامها، والآسار وأحكامها، وغير ذلك فقد تركناهاختصاراً.ولننتقل الآن إلى البحث عن الصلاة، وواجباتها، وشروطها، وأحكامها وما يتعلق بالموضوع من اتفاق، وافتراق بين المذاهب، وسنبذل قدر الاستطاعة جهدنا، في بيان أهم المسائل ومن الله نستمد التوفيق.الصــلاة(فَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـبًا مَّوْقُوتًا) النساء 103(قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّبَيْعٌ فِيهِ وَلاَخِلالٌ) إبراهيم: 31(اُتْلُ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَـابِوَأَقِمِ الصَّلَوةَ إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُيَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)العنكبوت:45تمهيدالصلاة لغة: هي الدعاء والصلاة من الله تعالى الرحمة، وشرعاً: الأعمال المخصوصة بأداء المكتوبة أو الفرض.الصلاة أحبّ الأعمال إلى الله تعالى، وهي أول ما ينظر فيه من عمل ابن آدم، فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها.وقد ورد فى الحثّ عليها والاهتمام بها، وتهويل العقوبة على تركها من الشارع المقدّس أخبار سارت مسار الأمثال، واشتهرت في الاُمة شهرة عظيمة كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): الصلاة عمود الدين إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت رد ما سواها([747])وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): ليس مني من استخفّ بصلاته ([748])وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته([749])وقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تضيعوا صلاتكم فإن من ضيع صلاته حشر مع قارون وهامان، وكان حقاً على الله أن يدخله النار مع المنافقين([750])وكان(صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً فيالمسجد إذ دخل رجل فقام فصلى فلم يتم ركوعه وسجوده فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): نقر كنقر الغراب!؟ لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني([751])إلى كثير من وصاياه(صلى الله عليه وآله وسلم) وهي أكثر من أن تُحصى.ولما دنت الوفاة من الإمام الصادق(عليه السلام) قال: أجمعوا كل من بيني وبينه قرابة، فلما اجتمعوا نظر إليهم وقال: إياكم وظلم من لايجد عليكم ناصراً إلاّ الله، وإن شفاعتنا لا تنال مستخفاً بالصلاة([752])ولا يمكن حصر ما ورد من الحثّ عليها ووجوب المحافظة على إقامتها من الشارع المقدس في الكتاب العزيز وسنة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم).ولم يكن ذلك الاهتمام منه وشدّة تأكيده لإقامة هذا الفرض وأداء هذا الواجب لغرض يعود إليه أو غاية تؤول بالمنفعة عليه، وإنّما هو لما يعلم فيه من ضمان الصالح العام، وحفظ نظام الجامعة البشرية إذ وصفها تعالى: بأنّها تنهى عن الفحشاء والمنكر، إذ هي صلة بين العبد وبين ربه، ومناجاة المخلوق لخالقه، اعترافاً له بالعبودية، وإقراراً له بالوحدانية، وتقرباً إليه تعالى، وطلباً لمرضاته، وخوفاً من سخطه وعقوبته، وكلّ ذلك يمنع الإنسان قوة الإرادة، ورسوخ ملكة ضبط النفس عن الرذائل، وترويضها على الفضائل، وناهيك بما وراء ذلك من النفع العام، وما يؤول إليه من الصلاح بما ينفع المجتمع في النظام، وعدم الجرأة على ارتكاب ما حرّمه تعالى; وكم بها من فوائد وفوائد، فهي سعادة في الدنيا بحصول الكرامة، لأنّها تؤدي إلى التقوى، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)([753]) وسعادة في الاُخرى، لأنها تؤدي إلى دخول الجنة ونعم أجر المتقين.ولا خلاف بين جميع المسلمين في وجوب الصلاة، وإنّ جحودها مخرج عن الإسلام.اختلفوا في حكم تارك الصلاة لا عن إنكار وجحود، بل تهاوناً وكسلاً، فذهب مالك والشافعي، إلى أنّه لا يكفر بل يفسق، فان تاب وإلاّ قتلناه بالسيف حداً، كالزاني المحصن([754]).وذهب جماعة من السلف إلى أنّه يكفر، وهو إحدى الروايتين عنأحمد بن حنبل، وبه قال عبدالله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه([755]).وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، والمزني صاحب الشافعي: إلى أنّه لا يكفر، ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي. ولكلّ منهم دليل لما يذهب إليه في احتجاجه، ولا مجال لذكر ما احتج كلّ طرف لما ذهب إليه; وتجد ذلك مفصلا في محله من كتب الفقه([756]).والشيعة يحكمون بكفر كلّ من أنكر ضرورية من ضروريات الدين، أمّا المتهاون والمتكاسل فقيل يؤدب بما يراه الحاكم الشرعي، فان ارتدع. وإلاّ أدّبه ثانية فإن تاب، وإلاّ أدّبه ثالثاً، وإن استمر قتل في الرابعة ([757]).وقال المحقق الحلي: من ترك الصلاة مستحلا قتل إن كان ولد مسلماً، وأستتيب إن كان أسلم عن كفر، فإن امتنع قتل، فإن ادعى الشبهة المحتملة درئ عند الحد.وإن لم يكن مستحلا عزر، فان عاد ثانية عزر وإن عاد ثالثة قتل، وقيل: بل يقتل في الرابعة([758]).وعلى كل حال: فلا خلاف بين المسلمين في وجوب الصلاة على كلّ مكلف، جامع لشرائط التكليف.كما لا خلاف بينهم في أنّ الصلاة تنقسم إلى واجبة ومندوبة، والصلاة الواجبة أهمّها الفرائض الخمس اليومية، وأنّها أحد الأركان التي بني عليها الإسلام، ولنقتصر هنا على ذكر بعض ما يتعلق بها من شروط ومقدمات، وجملة من أحكامها، مقتصرين على أهمّ المسائل المتعلقة بها، وما وقع فيها من اتفاق وافتراق بين المذهب الشيعي والمذاهب الاُخرى، أو بينها أنفسها، ونحن نحاول الاختصار في الموضوع قدر الاستطاعة إلاّ بما تدعو الحاجة إليه في الإطالة للموضوع، ومن الله نطلب التوفيق، وهو المسدد للصواب.الصلاة اليوميةلا خلاف بين المسلمين بانّ الصلاة اليومية خمس، وعدد ركعاتها سبع عشرة ركعة: الصبح ركعتان، والظهر أربع، والعصر مثلها، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع، وفي السفر والخوف تقصر الرباعية، فتكون ركعتين.هذا ما عليه إجماع المسلمين في عدد الركعات الواجبة، والفرائض الموقتة إلاّ ما يُنقل عن أبي حنيفة، بأنّه يذهب إلى وجوب صلاة الوتر، وهي عنده ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، ووقتها بعد العشاء مرتبة عليها، فلا يجوز إتيانها قبل العشاء وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر، ويجب فيها القنوت، ولا تتعين فيها قراءة، وبهذا تصبح الصلاة اليومية الواجبة عند أبيحنيفة ست صلوات([759]).وقد اختلفت الروايات عنه في ذلك، فروى يوسف بن خالد عن أبي حنيفة أنّه قال: صلاة الوتر واجبة، وروى حماد بن زيد عنه بأنّه قال: إنّ الوتر فرض. وفرّق بين الواجب والفرض عندهم ([760]).وروى نوح بن أبي مريم: أن أبا حنيفة قال: بأنّ الوتر سنّة; وبهذا أخذ أبو يوسف، وقال: إنّ الوتر سنة مؤكدة آكد من سائر السنن الموقتة.وأمّا سقوط الركعتين في السفر فعليه إجماع المسلمين، إلاّ أن الخلاف واقع في كيفية سقوطهما، هل هو على سبيل الوجوب كما تقول به الشيعة ([761])، ووافقهم أبو حنيفة وجميع الكوفيين([762])، أم أنّه غير واجب، بل هو على سبيل الرخصة لا العزيمة كما سنذكره؟.الوقتلا خلاف بين المسلمين بأنّ الصلاة موقتة بأوقات لا يجوز للمكلف تقديمها عليها، أو تأخيرها عنها، وإنّما الخلاف بينهم في تحديد أوقات الصلاة بعد دخولها واختصاص كلّ فريضة بوقتها، واشتراكها مع اللاحقة فيه، وبيان الوقت المختار وغيره.وقد أجمعوا على أنّ أول وقت الظهر إذا زالت الشمس، وأنّها تجب بالزوال وجوباً موسعاً إلى أن يدخل وقت العصر، فيتعين الوقت لها.أمّا أبو حنيفة فإنه قال: بأن وجوب صلاة الظهر متعلق بآخر وقتها، وأن الصلاة في أوله نفل([763]).وكذلك اتفقوا على أنّ وقت المغرب من غروب الشمس، ويدخل وقت العشاء بعد مضي وقت المغرب، على اختلاف في تعيين وقت العصر والعشاء من حيث الاختيار والاضطرار.فالشيعة يقولون: وقت الظهرين من الزوال إلى المغرب، ويختصّ الظهر من أوّله بمقدار أدائها. كما يختصّ العصر من آخره كذلك.ووقت العشائين للمختار من المغرب إلى نصف الليل، ويختصّ المغرب من أوله بمقدار أدائها، كما يختصّ العشاء بآخره كذلك، وما بين الزوال والغروب، وبين الغروب ونصف الليل، وقت مشترك.ووقت صلاة الصبح: من طلوع الفجر الصادق، إلى طلوع الشمس.والمراد من اختصاص الظهر والمغرب بأول الوقت، أنّه لو صلى العصر أو العشاء عمداً أو سهواً، بأوّل الوقت فلا تصحّ صلاته، كما أنّه إذا صلى الظهر ولم يبق من الوقت إلاّ مقدار أربع ركعات، فلا تصحّ صلاته، بل يصلّي العصر، ويقضي الظهر. كما أنّه يجب الترتيب بأن يقدّم الظهر على العصر، والمغرب على العشاء ([764]).وبقية المذاهب يتفقون مع الشيعة في كثير من أحكام الوقت، ويختلفون في بعضها، كاتفاقهم واختلافهم بعضهم بعضاً.فالحنفية يرون أن أول وقت الظهر زوال الشمس وآخر وقتها إذا صار ظل كلّ شيء مثليه سوى في الزوال.وخالف أبو يوسف ومحمد فقالا: إذا صار الظل مثله، وأول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر على القولين، وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس، وآخر وقتها ما لم يغب الشفق، واختلف أبو حنيفة وصاحباه في الشفق، فقال أبوحنيفة: إن الشفق هو البياض الذي في الاُفق بعد الحمرة، وقال صاحباه هو الحمرة، وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق، وآخر وقتها ما لم يطلع الفجر([765]).والمالكية والحنابلة يجعلون لكلّ صلاة وقتين: وقت اختيار ووقت اضطرار، على خلاف فيتحقيق الوقت في زيادة الظلّ عند المالكية ([766]).وعند الشافعية أول وقت العصر إذا صار ظل كلّ شيء مثله، وزاد أدنى زيادة، وآخره إذا صار ظل كل شيء مثليه، ثم يذهب وقت الاختيار ويبقى وقت الجواز والأداء إلى غروب الشمس، وقال أبو سعيد الأصطخري: إذا صار ظل كلّ شيء مثليه، فاتت الصلاة، ويكون ما بعده وقت القضاء. وأول وقت المغرب من غروب الشمس بمقدار أدائها. وأول وقت العشاء إذا غاب الشفق وهو الحمرة، وقال المزني: الشفق البياض ([767])، كما أنّه يجوز تأخير الصلاة إلى آخر الوقت.القبلةاستقبال القبلة شرط في صحة الصلاة الواجبة، بإجماع المسلمين، لقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)([768]).والقبلة هي الكعبة ـ زادها الله شرفاً ـ ومن كان قريباً منها، فعين الكعبة قبلته بإجماع المسلمين، أما البعيد عنها فقيل إنّ المسجد الحرام قبلة من في الحرم، والحرم من بعد عن المسجد.والمشهور عند الشيعة أنّ البعيد عن الكعبة فقبلته جهتها لاعينها، لأنّ ذلك متعذر، ووافقهم الحنفية، والمالكية، والحنابلة ([769]).قال في ملتقى الأبحر: وقبلة من بمكة عين الكعبة ومن بعد جهتها، فإن جهلها ولم يجد من يسأله عنها تحرّى وصلّى، فإن علم بخطئه بعدها لا يعيد([770]).وقال فيالجوهرة الزكية: واستقبال القبلة وهي الكعبة البيت الحرام، فيجب استقبال عينها على من بمكة، وجهتها على من كان خارجاً عنها ([771]).وفي عمدة الفقه: أنّ المصلي إن كان قريباً من الكعبة لزمته الصلاة إلى عينها، وإن كان بعيداً فإلى جهتها، وإن خفيت القبلة في الحضر سأل واستدل بمحاريب المسلمين، وإن أخطأ فعليه الإعادة، وإن خفيت في السفر اجتهد وصلّى، ولا إعادة عليه ([772]).أمّا الشافعي فاشترط التوجه إلى عين الكعبة، وأنّ ذلك فرض كما جاء في كتاب الاُم([773]).وقال المزني: إنّ الفرض هو الجهة، لأنّه لو كان الفرض هو العين لما صحّت صلاة الصف الطويل، لأنّ فيهم من يخرج عن العين ([774]).وقال الدمياطي: يجب استقبال عين القبلة، فلا يكفي جهتها خلافاً لأبي حنيفة، إلاّ في حقّ العاجز ([775]).وكيف كان فإنّ المذاهب أكثرها تتفق في استقبال القبلة، ولا خلاف إلاّ من الشافعي، إذ اشترط استقبال العين دون الجهة، وخالفه صاحبه المزني في ذلك.وأجمع العلماء على أنّ من ترك الاستقبال أعاد في الوقت وخارجه، وقال أبو حنيفة: بأن من ترك الاستقبال متعمداً فوافق ذلك الكعبة، فهو كافر بالله تعالى([776]).ستر العورةستر العورة عن العيون واجب بالإجماع، وهو شرط في صحة الصلاة إلاّ عند مالك فإنّه قال: إنّه واجب وليس بشرط في صحة الصلاة.واختلفوا في تحديد العورة من الرجل والمرأة فحدّ العورة من الرجل عند أبي حنيفة ما بين السرّة والركبة ([777]).وعند الشافعي كذلك، إلاّ أن الركبة والسرة ليستا من العورة، ومن أصحابه من ذهب إلى أنّهما من العورة ([778]).وعن مالك وأحمد روايتان: إحداهما ما بين السرة والركبة، والاُخرى أنّهما القبل والدبر.وأمّا عورة المرأة الحرّة، فقال أبو حنيفة: كلّها عورة إلاّ الوجه، والكفين، والقدمين([779]).وقال مالك والشافعي: إنّها كلّها عورة إلاّ وجهها وكفيها([780]).وعند الحنابلة: أنّ الحرّة جميعها عورة إلاّ الوجه وفي الكفين روايتان عن أحمد. وأمّا الأمة فعورتها كعورة الرجل، وعن أحمد رواية أنّها الفرجانفقط([781]).وقال مالك والشافعي: إنّ عورة الأمة كعورة الرجل. وقال بعض أصحاب الشافعي: إنّ الأمة كلّها عورة، إلاّ مواضع التقليب، وهي التي تقلّب فينظرباطنها وظاهرها عند الشراء، والأصح عندهم أنّها ما بين السرة والركبةكعورة الرجل([782]).أمّا عند الشيعة: فعورة الرجل التي يجب سترها في الصلاة هي عورته في حرمة النظر ([783]).أمّا المرأة فكلّها عورة حتى الرأس والشعر فيجب ستره في الصلاة، ما عدا الوجه بالمقدار الذي يغسل في الوضوء، وعدا الكفين إلى الزندين، والقدمين إلى الساقين، ولا بد من ستر شيء ممّا هو خارج عن الحدود من غير فرق بين الحرّة والأمة، نعم لا يجب على الأمة ستر الرأس وشعره والعنق.وستر العورة مع الاختيار واجب في الصلاة وتوابعها من الركعات الاحتياطية والأجزاء المنسية، حتى مع الأمن من الناظر.أمّا لباس المصلي مطلقاً فيشترط فيه اُمور، على خلاف بين المذاهب في ذلك، وشروطه هي:الطهارةاتفقت المذاهب الإسلامية على اشتراط الطهارة في لباس المصلي، فلا تصح الصلاة في النجس أو المتنجس إلاّ ما عفي عنه.وقد اختلفت أقوال العلماء في قليل النجاسات على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال: إنّ قليلها وكثيرها سواء، وبهذا قال الشافعي. وقد فصل الشافعية القول في ذلك، إذ النجاسة لابدّ أن تكون من الدماء أو غيرها، فإن كانت من الدماء فلا يعفى عن قليله وكثيره إلاّ أن يكون دم برغوث وغيره ممّا يشق الاحتراز منه، وأمّا غير الدم: فإن كانت النجاسة بقدر يدركه الطرف لم يعف عنه، وإن كان لا يدركه الطرف ففيه تفصيل في العفو عنه وعدمه ([784]).والقول الثاني: إنّ قليل النجاسات معفوّ عنه، وحدوده بقدر الدرهم البغلي، وبهذا قال أبو حنيفة، وعنده إذا كانت النجاسة بقدر الدرهم، وكانت متراكمة بذلك المقدار بحيث لو بسطت لعمّت جميع الثوب، فإنّه لا يجب غسلها([785]). وقال صاحبه محمد بن الحسن: إذا كانت النجاسة ربع الثوب فما دونه جازت به الصلاة.والقول الثالث: إنّ قليل النجاسة وكثيرها سواء إلاّ الدم، ومذهب الشيعة أنّ ما كان منه أقل من الدرهم البغلي معفو عنه، بشرط أن لا يكون دم نجس العين، أو دم حيض أو استحاضة أو نفاس، كما عفي عندهم عن دم الجروح والقروح مع السيلان، ومع ضيق الوقت، وحصول المشقة بالإزالة أو التبديل، ولا فرق بين أن يكون ذلك في الثوب أو البدن، ووافقهم بعض الشافعية فيذلك([786]).كما عفي عن ثوب المربية للصبي، إذا لم يكن عندها غيره، بشرط غسله في اليوم والليلة، ولا يتعدى العفو عن نجاسة البول إلى غيره، كما أنّه مختصّ بالثوب دون البدن، وكذلك عفي عمّا لا تتم به الصلاة على تفصيل في محله.وأمّا المالكية فمذهب مالك أنّ النجاسات قليلها وكثيرها سواء، إلاّ الدم فإن قليله مخالف لكثيره، والدماء عنده كلّها سواء، دم الحوت وغيره، إلاّ دم الحيضة فاختلفت أقواله: فمرة أنه كسائر الدماء يعفى عن قليله، واُخرى أنّ قليله وكثيره سواء تجب إزالته.وأما مقدار الدم اليسير المعفو عنه عند مالك فقيل: إنّه إذا كان قدر الدرهم فلا تعاد منه الصلاة، وقيل: إنّه يعفى عنه إذا كان بقدر الخنصر ([787]).وروى أبو طاهر عن ابن وهب: أنّ من صلّى بدم حيضة، أو دم ميتة، أو بول أو رجيع، أو احتلام، فإنّه يعيد أبداً([788]).وقد وقع الخلاف عند المالكية في وجوب إزالة النجاسة، هل هي واجبة وجوب الفرائض، ويكون من صلى بها عامداً ذاكراً أعاد; أم أنّها من السنن، فيكون من صلّى بها عامداً أثم ولا إعادة عليه.وعند الحنابلة أنّ الطهارة من النجاسة في بدن المصلي وثوبه وموضع صلاته شرط، إلاّ المعفو عنها كيسير الدم ونحوه، وإن صلى وعليه نجاسة لم يكن يعلم بها، أو علم بها ثم نسيها فصلاته صحيحة، وإن علم بها في الصلاة أزالها وبنى على صلاته([789]).الإباحةأن يكون مباحاً، فلو صلّى في الثوب المغصوب بطلت صلاته عند الشيعة من غير فرق بين الساتر وغيره، وما لا تتم به الصلاة وغيره بشرط العلم بالغصبية، كما لا فرق في الغصب بين أن يكون عين المال مغصوباً أو منفعته أو تعلّق فيه حقّ الغير.أمّا الحنفية فتصحّ عندهم الصلاة في الثوب المغصوب على كراهية ([790]).وعند الشافعية أنّ المصلي لو أخذ الثوب قهراً من مالكه، وإن كان لا يجوز، وصلى به صحّت صلاته مع الحرمة([791]).والحنابلة يتفقون مع الشيعة في بطلان الصلاة بالثوب المغصوب، فإذا صلّى فيه عالماً ذاكراً تجب عليه الإعادة ([792]).والحنابلة يتفقون مع الشيعة في بطلان الصلاة بالثوب المغصوب، فإذا صلى فيه عالماً ذاكراً تجب عليه الإعادة ([793]) وبطلان الصلاة في الثوب المغصوب هي الرواية الصحيحة عن أحمد، واختارها الخلال وقال: إنها صحيحة ([794]).وقال ابن قدامة: ومن صلّى في ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصحّ صلاته([795]) إلاّ أن أحمد أجاز صلاة الجمعة في مواضع الغصب، لأنّها تختصّ بموضع معين، فالمنع من الصلاة فيه إذا كان غصباً يفضي إلى تعطيلها، ولهذا أجاز صلاة الجمعة خلف الخوارج وأهل البدع والفجور([796]).الحريرلا خلاف بين المسلمين في حرمة لبس الحرير للرجال دون النساء، أمّا الصلاة فقد اختلفوا في صحتها.فذهب الشيعة الى الحرمة مطلقاً في الصلاة وغيرها، فلو صلّى الرجل فيه لا تصح صلاته. نعم يباح لهم لبسه في الحرب أو للضرورة، كالبرد والمرض حتّى في الصلاة([797]).ووافقهم الحنابلة في إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل، ونقل صاحب البحر عنه أنّه قال: من لم يجد غير الحرير يصلي عارياً.وقد نصّ صاحب الروض الندي على لزوم إعادة الصلاة في الحرير، أو الذهب، والفضة على الرجال ([798]).وأمّا الحنفية والشافعية: فإنّهم لا يرون بطلان الصلاة فيه، ولكن يكره ذلك، لأن التحريم عندهم لا يختص بالصلاة، ولا النهي يعود إليها، فلم يمنع الصحة، كما لو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب، وكما لو صلى وعليه عمامة مغصوبة([799]).أما مالك فإن الصلاة لا تجزي عنده بالحرير، وتلزم الإعادة في الوقت كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح ([800]).وعلى كلّ حال: فإنّ الأخبار صريحة بحرمة لبس الحرير على الرجال.روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: أحل الذهب والحرير للإناث من اُمتي، وحرّم على ذكورها. رواه أحمد والنسائي والترمذي، وصحّحه وأخرجه أبو داود والحاكم([801]).وذكر ابن حازم الهمداني أخبار جواز لبس الحرير، ثم ذكر الأخبار الناسخة لها، ومنها قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنّه ليس من لباس المتقين ([802])وجاء عن أهل البيت صلوات الله عليهم النهي عن الصلاة في الحرير حتى القلنسوة ([803]).أما لبسه للمرض فاختلفت فيه أقوال العلماء: فعن الشافعية أنّه يجوز إذا كان في السفر، لحديث أنس: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) رخّص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبس الحرير لحكة كانت فيهما، رواه الجماعة، أو للقمل كما عند الترمذي، وأنّ ذلك في غزاة لهما ([804]).ومنع مالك بن أنس ذلك مطلقاً، وعن أحمد روايتان الجواز للمرض([805]).الذهبلا تصح الصلاة في الذهب عند الشيعة لباساً أو لبساً، كالخاتم حلة أو حلية خالصاً أو ممزوجاً، تمت الصلاة به أو لا تتم كالزر ونحوه، فجميع ذلك مبطل لصلاة الرجال دون النساء، وأما لبسه في غير الصلاة حرام يؤثمون عليه ([806]).قال الإمام الصادق(عليه السلام): جعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء فحرم على الرجال لبسه والصلاة فيه ([807])أما بقية المذاهب فلا خلاف عندهم في حرمة لبسه، وإنّما الخلاف في الصلاة فيه، قال ابن قدامة: ولا نعلم في تحريم ذلك على الرجال اختلافاً إلاّ لعارض أو عذر. قال ابن عبد البر: هذا إجماع، فإن صلّى فيه فالحكم فيه كالصلاة في الثوب الغصب([808]).الميتةويشترط في لباس المصلي أن لا يكون من أجزاء الميتة التي تحلّها الحياة، كما مرّ بيان ذلك والخلاف فيه، والشيعة يحكمون ببطلان الصلاة في شيء منها، وكذلك الكلام فيما لا يؤكل لحمه، ولا فرق بين ذي النفس وغيره وبين ما تحله الحياة من أجزائه وغيره([809]).المكانيشترط في مكان المصلي أن يكون مباحاً، فلا تجوز الصلاة في المكان المغصوب، عيناً أو منفعة، للغاصب ولا لغيره، ممّن علم بالغصب، وإن صلّى عامداً عالماً والحال هذه كانت صلاته باطلة ([810]).هذا ما عليه إجماع الشيعة. ووقع الخلاف بين المذاهب في هذه المسألة: فمنهم من قال بالبطلان، ومنهم من قال بالصحة. مع الكراهة وعدمها.وقال في البحر الزخار: الشرط السادس إباحة المكان فيحرم المنزل الغصب إجماعاً، ولا تجزي الغاصب وغيره، إذ المعصية نفس الطاعة، ولا قتضاء النهي الفساد، وعند الفريقين ـ الحنفية والشافعية ـ تجزي من حيث كونها صلاة، ويعاقب للغصب. ثم أجاب عن أدلتهم على الجواز بما لا حاجة إلى ذكره([811]).وقد صرّح الحنفية بالكراهة في الصلاة في أرض الغير بلا رضا، ولو ابتلي بين الصلاة في أرض الغير أو في الطريق، فإن كانت مزروعة أو لكافر فالطريق أولى وإلاّ فهي([812]).وفي خزانة الفتاوى: الصلاة في أرض مغصوبة جائزة، ولكن يعاقب لظلمه، فإن كان بينه وبين الله تعالى يثاب، وما كان بينه وبين العبد يعاقب([813]).وقد خالف بشر بن غياث المريسي أحد أئمة الحنفية، وذهب إلى عدم جواز الصلاة في الأرض المغصوبة، أو في ثوب مغصوب، لأنّ الصلاة عبادة، لا تتأدى بما هو منهي عنه ([814]).والشافعية يوافقون الحنفية في صحة الصلاة في الأرض المغصوبة، وإن كان اللبث فيها يحرم في غير الصلاة ([815]).وقال الرملي المعروف بالشافعي الصغير: الصلاة في الدار المغصوبة مظنة أن يثاب فاعلها وأن لايثاب، إذ يحتمل أن يعاقب على الغصب بحرمان ثواب العبادة، وأن يعاقب بغير الحرمان، فمن أطلق أنه لا يثاب قصد بالاطلاق الورع عن إيقاع الصلاة في المغصوبة، مريداً أنه قد لا يثاب، ومن قال: يثاب أراد أنه لا مقتضى لحرمان الثواب كله بكونه عقوبة الغصب ([816]).وأنت خبير بما في هذا القول من مخالفات للواقع، إذ الصلاة تقرب لله تعالى، وطلب لمرضاته، فكيف يتقرب إليه بما لا يحب، وتطلب مرضاته فيما يغضب على فعله، وهو الغصب، والتصرف في أموال الناس. من دون طيب نفس، ولا يطاع الله من حيث يعصى، والنهي في العبادة يقتضي الفساد؟!.وعند الحنابلة أن الصلاة في الدار المغصوبة لا تصحّ، لأنّ الصلاة قربة وطاعة، وهي منهي عنها على هذا الوجه، فكيف يتقرب بما هو عاص به، أو يؤمر بما هو منهي عنه؟.وعند أحمد روايتان في ذلك: الصحة وعدمها([817]) كما أنه حكمببطلان الصلاة في مواضع ورد النهي عن الصلاة فيها، كالمجزرة،والحمام والمزبلة، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، في رواية عنه، وفيرواية اُخرى أنّه حكم بالكراهة كما تقول به سائر المذاهب الذين حملوا أخبار النهي على الكراهة.مسجد الجبهةأجمع المسلمون على اشتراط الطهارة لموضع الجبهة في السجود، إلاّ ما يروى عن أبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه: أنّه ذهب إلى عدماشتراط ذلك، وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد، وقولهما الأصح فيذلكعند الحنفية([818]).وقد وقع الخلاف فيما يصح السجود عليه، وفي أعضاء السجود هل هي سبعة أم ثمانية، يجعل الأنف واحداً منها؟ وهل السجود على الأنف واجب أم مستحب؟ وعلى القول بالوجوب فهل يجزي السجود عليه دون الجبهة، كما ذهب إليه أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك أم لا يجزي؟ ([819]).إلى كثير من مسائل الخلاف في هذا الموضوع، كالسجود على كور العمامة كما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك، وأحمد في إحدى الروايتين عنه.وذهب الشيعة إلى عدم الجواز، ووافقهم الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، لأنّه لم يثبت عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سجد على كور عمامته، وكان ينهى عن ذلك، نعم روى عبدالله بن محرر عن أبي هريرة: أنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سجد على كور عمامته. وهذا غير صحيح، لأنّ عبدالله متروك الحديث، كما قال ابن حجر وأبو حاتم، والدار قطني، وقال البخاري: إنّه منكر الحديث. وهوأحد قضاة الدولة، ولم يذكر علماء الرجال سماعه من أبي هريرة([820]).وقال الحافظ بن حجر: لم يذكر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سجد على كور عمامته، ولم يثبت ذلك عنه في حديث صحيح ولا حسن ([821]).وعلى كل حال: فالخلاف في مسألة السجود في عدة مواضع أهمّها فيما يصح السجود عليه.والشيعة يشترطون في مسجد الجبهة ـ مضافاً إلى طهارته وإباحته ـ أن يكون على الأرض أو ما أنبتته، من غير المأكول والملبوس، ولا يجوز السجود على ما خرج عن اسم الأرض من المعادن، كالذهب، والفضة، ولا على الملبوس من القطن والكتان وغيرهما، مما يكون منه اللبس، والسجود على الأرض أفضل، لأنّه أبلغ في التواضع والخضوع لله عزّوجلّ([822]).الأذان والإقامةاختلف العلماء في الأذان والإقامة، هل هما من الواجبات أم من السنن؟ والمشهور عند الشيعة أنّهما من السنن لا الواجبات، بل مستحبان استحباباً مؤكداً، ومنهم من ذهب إلى الوجوب([823]).ووافقهم بالقول بالأستحباب مالك وأبو حنيفة، والشافعي، فقالوا:بأنهما مستحبان لكلّ صلاة، في الحضر والسفر، للجماعة والمنفرد، لا يجبان بحال([824]).وعن أحمد بن حنبل: أنّهما فرض كفاية، واختار أكثر أصحابه أنّهما من السُنن([825]).وقال بعض أصحاب الشافعي، وأصحاب مالك: بأنّهما فرض كفاية.وعن مالك: إنّما يجبان في مسجد الجماعة([826]).وعن محمد بن الحسن الشيباني القول بالوجوب، وقيل: إنّ المراد من قول أبي حنيفة أنّهما من السنن المؤكدة، أراد بذلك الوجوب. ولكن المشهور عند الحنفية أنّهما من السنن لا الواجبات([827]).ولا فرق عندهم بين الأذان والإقامة من حيث تكرار الألفاظ، وعند المالكية، والحنابلة، والشافعي: أنّ الإقامة بالإفراد إلاّ لفظ قد قامت الصلاة، فقال أحمد، والشافعي: إنّها مرتان ([828]).ألفاظ الأذانلا خلاف بين المسلمين بأنّ للأذان وهو الإعلام بدخول وقت الصلاة، ألفاظاً مخصوصة، ولكنّ الخلاف في لفظتين وهما: حيّ على خير العمل، بعد قول حيّ على الفلاح، كما يذهب إليه الشيعة.والثانية قول: الصلاة خير من النوم بعد قول: حي على الفلاح.وصورة الأذان عند الشيعة بالإجماع: الله أكبر أربع مرات، أشهد أن لا إله إلاّ الله مرتان، وأشهد أن محمداً رسول اللّه مرتان، حيّ على الصلاة مرتان، حي على الفلاح مرتان، ثم حي على خير العمل مرتان، ثم الله أكبر مرتان، ثم لا إله إلاّ الله مرتان.والإقامة كذلك إلاّ أن فصولها مرتان، وقول لا إله إلاّ الله في آخرها مرّة واحدة، ويزاد فيها بعد حي على خير العمل وقبل التكبيرات: قد قامت الصلاةمرتان([829]).ولا خلاف عند جميع المذاهب في ذلك إلاّ في أمرين.1 ـ تكرار الألفاظ في الأذان والإقامة، فمنهم من يوافق الشيعة في ذلك، ومنهم من يقول بأنّ الأذان مرتان، والإقامة مثلها، ومنهم من يقول إنّ الأذان مرتان والإقامة مرّة، وعند المالكية أنّ التكبير الأول في الأذان مرتان.2 ـ كلمة حيّ على خير العمل كما تذهب الشيعة إلى وجوبها وكلمة الصلاة خير من النوم كما تذهب إليه بقيّة المذاهب، ولا بدّ لنا من الإشارة هنا حول ذلك. أمّا كلمة حي على خير العمل، فإنّ الثابت من طريق أهل البيت(عليهم السلام)أنّها جزء من الأذان والإقامة، وقد قال الإمام زين العابدين(عليه السلام) أنّه هوالأذان الأوّل ـ أي على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ كما أخرجه البيهقي فيسننه الكبرى([830]).وقال الإمام الباقر(عليه السلام): وكانت هذه الكلمة حيّ على خير العمل في الأذان، فأمر عمر بن الخطاب أن يكفوا عنها مخافة أن تثبط الناس عن الجهاد، ويتّكلوا على الصلاة([831]).وحكى سعد الدين التفتازاني في حاشيته على شرح العضد: عن عمر أنّه كان يقول: ثلاث كنّ على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنا أحرّمهن وأنهى عنهن: متعة الحج، ومتعة النكاح، وحيّ على خير العمل([832]).وروى البيهقي بسند صحيح عن ابن عمر أنّه كان يؤذن بحيّ على خير العمل.وقال ابن حزم: وقد صح عن ابن عمر وأبي اُمامة أنه كانوا يقولون حيّ على خير العمل ([833]).وروى المحبّ الطبري في أحكامه عن زيد بن أرقم: أنّه أذّن في حيّ على خير العمل ([834]).وقال الشوكاني: نقلا عن كتاب الأحكام: وقد صحّ لنا أنّ حيّ على خير العمل كانت على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يؤذن بها، ولم تطرح إلاّ في زمان عمر. وهكذا قال الحسن بن يحيى([835]).وروى محمد بن منصور في كتابه الجامع عن أبي محذور أحد مؤذني رسولالله(صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال:أمرني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن أقول في الأذان: حيّ على خير العمل([836]).وفي الشفاء عن هذيل بن بلال المدائني قال: سمعت ابن أبي محذور يقول: حيّ على خير العمل ([837]).وفيه أيضاً عن الإمام علي(عليه السلام) أنّه قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنّ خير أعمالكم الصلاة وأمر بلالاً أن يؤذن: حيّ على خير العمل([838]).وقال برهان الدين الشافعي في سيرته: ونقل عن ابن عمر وعن علي بن الحسين أنّهما كانا يقولان: حيّ على خير العمل. بعد حيّ على الفلاح ([839]).والخلاصة أنّ الشيعة قد أجمعوا على لزوم الإتيان بلفظ: حيّ على خير العمل، لأنّها ثابتة على عهد الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد أمر أهل البيت(عليهم السلام)أتباعهم بذلك، فكانت شعارهم في جميع أدوار التاريخ.ولا نودّ أن نطيل الكلام في هذا الموضوع، وقد أشرنا له في الجزء الأول من هذا الكتاب([840]).والأمر الثاني: هو كلمة الصلاة خير من النوم، والشيعة لا يجيزون ذلك([841])، وذهب الشافعي في قوله الجديد إلى الكراهة. إذ من المعلوم أنّ هذه اللفظة لم تكن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأول من جعلها في الأذان عمر بن الخطاب.جاء في موطأ مالك أنّ المؤذن جاء عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً فقال المؤذن: الصلاة خير من النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح ([842]).وقال الإمام علي(عليه السلام) عندما سمع ذلك: لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه([843]). وأمّا ما يُدعى من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بلالا أن يقول: الصلاة خير من النوم في الأذان فهو غير صحيح لا يقرّه التحقيق، لأنّ الذي روى عن بلال ذلك هو عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهذا غير صحيح، لأنّ ولادة عبد الرحمن كانت سنة (17 هـ) ([844]) من الهجرة النبوية، وتوفي سنة (84 هـ) ووفاة بلال سنة (20) من الهجرة، فكيف يصحّ أن يروي عن بلال وعمره ثلاث سنين، هذا شيء غريب؟!وادعي أيضاً أنّ بلالاً أتى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فوجده راقداً، فقال: الصلاة خير من النوم. فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): ما أحسن هذا! اجعله في أذانك، وهذا لا يصحّ أيضاً; لأنّ الراوي هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المتوفى سنة (182 هـ) عن أبيه زيد بن أسلم عن بلال; وعبد الرحمن ضعيف الحديث لا يعتمد عليه، كما نصّ على ذلك أحمد، وابن المديني، والنسائي([845])، وغيرهم.هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ زيداً لم يسمع من بلال، لأنّ ولادة زيد كانت سنة (66 هـ) ووفاته سنة (126 هـ)([846]); فكيف يصح سماعه من بلال، وهو لم يولد إلاّ بعد وفاة بلال بست وأربعين سنة؟وعلى أي حال: فإنّ المقطوع به أن التثويب لم يكن على عهد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)أنّ هذه الكلمة كانت في أيام عمر. وبدون شك أنّ الأذان كان بأمر من الله ووحي أنزله على نبيّه(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمّا ما يُقال في إحداث الأذان بأنه كان لرؤياً رآها عبد الله بن زيد، وعمر بن الخطاب، فأقرّها النبيّ إلى غير ذلك. فهي اُمور بعيدة عن الواقع، ونحن في غنى عن إعطاء صورة لرواة هذه الاُمور لنعرف مقدار الاعتماد عليهم، ومنهم عبدالله بن خالد الواسطي، وقد نصّ الحفاظ على كذبه، وأقلّ صفاته أنّه رجل سوء، كما قال يحيى بن معين([847]).وقد أنكر الحسين بن علي(عليه السلام) عندما سمع الناس يتحدثون عن رؤيا عبد الله ابن زيد في تشريع الأذان فغضب وقال: الوحي ينزل على الرسول، ويزعمون أنه أخذ الأذان عن عبدالله بن زيد؟ والأذان وجه دينكم، ولقد سمعت أبي علي بن أبي طالب يقول: أهبط الله ملكاً عرج برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء... الحديث([848]).وكيف كان فقد اختلفت أقوال أئمة المذاهب في كلمة: الصلاة خير من النوم، هل تقال في جميع الأوقات أم في وقت دون وقت؟ أم تقال للأمير دون غيره؟ ممّا يطول شرحه.وقد أجمع المسلمون على عدم جواز تقديم الأذان على أوقات الصلاة، ولا يكون إلاّ بلفظ العربية، وأجاز المالكية والشافعية الأذان بغير العربية للأعجمي، إذ يجوز له أن يؤذن بلغته لنفسه. ولجماعته الأعاجم.والشيعة لايجوزون الأذان بغير العربية مطلقاً([849]) ووافقهم الحنابلة على ذلك([850]).وللأذان عند المسلمين شروط ومستحبات للأذان وللمؤذن، أعرضنا عن ذكرها اختصاراً.* * *وبهذا ينتهي البحث في هذا الجزء عن الفقه الإسلامي، إذ لم يتسع نطاقه لأكثر من هذا، وسنلتقي بعون الله في الجزء السادس للبحث عن بقيّة ما يتعلق بمسائل العبادات والمعاملات. والله وليّ التوفيق.ولا يفوتني أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى الاُمور التالية:1 ـ إنّ البحث عن المذاهب كما قلت مراراً بحث شائك، ويتصف بصعوبة لا يُستهان بها، وقد واجهت مصاعب لا يعلمها إلاّ الله، وعنده احتسب ذلك بالأخص موضوع فقه المذاهب، إذ ليس من السهل إعطاء صورة واقعية عنه، لأنّ أقوال أئمة المذاهب تختلف، وربّما يكون في المسألة الواحدة أقوال متعددة حسب الرواية عنها، وربما يكون لأعيان المذاهب رأي يخالف فيه إمامه، كما وأن الذين ينقلون رأي صاحب المذهب أو عمل أهله كثيراً ما يخطئون في النقل، لأنّي وقفت حسب تتبعي على كثير منه ممّا دعاني إلى أن أعزو القول المنسوب للمذهب إلى كتبهم الخاصة قدر جهدي واستطاعتي، ولا أضمن لنفسي السلامة من الخطأ في ذلك.أما فقه الشيعة الإمامية فإنّي قد اقتصرت على مسائل منه بدون تفصيل، لأنّه غير مستطاع، لاتساع موضوعه وشدّة اهتمامهم في تدوين الفقه، واستنباط الأحكام، إذ باب الاجتهاد مفتوح عندهم على مصراعيه.وإنّ تعبيري بالشيعة هو أوضح من غيره، وطبعاً، أقصد بهم الإمامية الإثني عشرية، أمّا الفِرق المنحرفة عن مبدأ التشيع إن كان لهم آراء فلا أقصد التعبير عنهم في شيء.2 ـ إنّ كثيراً من كتّاب عصرنا لا زالوا يعيشون بعقلية عصور الظلمة، تلك العصور التي استغل ظروفها المندسون في صفوف المسلمين لنشر المفتريات، وخلق الأكاذيب، ليفرّقوا بين الأخ وأخيه بتوسيع شقّة الخلاف، وقد جرّ ذلك على المسلمين مآسي من جرّاء الانقسام والتفكّك، أشرت له في عدّة مواضع.نعم إنّ اُولئك الكتّاب قد جمدوا على عبارات سلف عاشوا في عصور التطاحن والتشاجر، فقلّدوهم بدون تفكير أو تمييز، حتى أصبحت القضيّة خارجة عن نطاق الأبحاث العلمية، وهي إلى المهاترات أقرب من المناقشات المنطقية.كلّ ذلك من أثر التعصّب المردي والتقليد الأعمى، ولعلّنا قد أوضحنا للقارئ الكريم جانباً كبيراً من تلك الاُمور في هذا الجزء وما سبقه من أجزاء; ليكون على بيّنة من الأمر. ونحن نأمل أن يكون هدف الكتاب أشرف هدف وأنبل غاية، وهو إظهار الحقيقة واستخلاص الحقّ ممّا خالطه به من باطل، وأن يكون الحكم للعلم لا للمغالطات، فحكمه العدل وقوله الفصل.3 ـ ربّما يكون هناك اُناس يؤمنون بصحة قول القائل حول فقه الشيعة وأنه غير فقه المسلمين، وقد أوضحنا هذا الجانب، والحكم للقارئ المتحرر. كما يظهر الجواب على ما ذهب إليه صاحب كشف الظنون من امتزاج المذهب الشيعي والمذهب الشافعي، وأنّ الإمامية يتبعون محمد بن إدريس الشافعي. وقد أوضحت أسباب هذا الاشتباه فيما سبق، كما نبّهت على خطأ بعض الأساتذة في تقليده لصاحب كشف الظنون.وسنوضح فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أخطاء الكثيرين ممّن يسيرون على غير هدى فيما يكتبونه حول الشيعة، سواء في المعتقدات والآراء أو الفقه والأحكام، ممّا يبعث على الأسف لما يتصف به اُولئك الكتاب من التغاضي عن الحقيقة، والتجاهل أمام الواقع.فهم عندما يتناولون موضوع البحث عن الشيعة بالذات، أو بالعرض سواء في المعتقدات أو الآراء الفقهية، أو الحوادث التاريخية، فلا تجد إلاّ ما يخالف الحقيقة، وأكثرهم يكتب بلغة الكذب والافتراء والتهجّم، كلّ ذلك نتيجة للتعصب البغيض الذي أسرّ عقولهم، وحرمهم حرية التفهّم للحوادث طبقاً لواقعها الذي يجب أن يزول عنه قناع التضليل، ويجلي عن جوهره غبار الخداعوالتمويه.ونحن نأمل أن تكون الدراسات للحوادث على نهج التحرر عن قيود التقليد الأعمى، لتبدو الاُمور على ما هي عليه، ولعلّ القارئ الكريم قد وقف على كثير من الاُمور التي سجّلت في تاريخ الشيعة على غير واقعها تجنّياً وافتئاتاً فيما تعرضنا له في أبحاثنا السابقة، ونحن نقول لأولئك المتقوّلين: بأنّ العلم سيخمد أصواتهم، والوعي الإسلامي بوجوب التقارب والتفاهم سيظهر قبح ما انطوت عليه ضمائرهم، من البغض لوحدة المسلمين وتقاربهم، على ضوء الكتاب الكريم وتعاليم الرسول الأعظم.ونحن نسأل الله الهداية للجميع والتوفيق لما يحبّه ويرضاه، كما نسأله تعالى أن يتقبّل أعمالنا ويجعلنا ممّن يدعو للحقّ ويتبعه.والى هنا ينتهي البحث في الجزء الخامس من كتابنا الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، وإلى اللقاء في الجزء السادس إن شاء الله، وأسأله الهداية والسداد إنّه سميع مجيب.الفهرس التفصيليمقدمة المجمع 5تقديم وبيانتقديم 9تمهيد 11بين الواقع والخيال 17آراءُ المستشرقين في التشيّع 22التشيّع والفرس 27الشيعة والمستشرقون 29الدكتور شلبي والشيعة 36مناقشة أخطاء المؤلّفين 39مع كتّاب الفرق 45أهم المصادر 46الإمام الصادق(عليه السلام) تاريخ محنه ومشاكلهالمنصور والإمام الصادق(عليه السلام) 61الإمام الصادق(عليه السلام) لمحات من أخلاقه وآدابهتمهيد 77تعاليمه 77كلماته الحكمية 79صفاته 83من كتاب الإمام الصادق 84الإخلاص 87نفاذ بصيرته وقوّة إدراكه 89حضور بديهته 89جلَدهُ وصبره 90سخـاؤه 92حلمه وسماحه 93شجاعته 94فراسته 95هيبته 96استنتاج وتعقيب 97لقاء مع الاُستاذ (أبو زهرة) في كتابه الإمام الصادق(عليه السلام)/ القسم الأولتمهيد 107كتاب الإمام الصادق لأبي زهرة 112من هنا نبدأ 113المناقشة 115تمهيد الاُستاذ أبي زهرة 121الملاحظة 123بيت الإمام الصادق(عليه السلام) من سنة (80 هـ) إلى سنة( 148 هـ) 127بيته 127هذه القصة 128شيوخه 134المناقشة 135الرواية 137ونعود والعود أحمد 142لولا السنتان لهلك النعمان 143المصدر 144حول الانحراف 149المختار الثقفي 151الكيسانية 155الإمام الصادق وانصرافه إلى العلم 158الفقهاء السبعة 165تنبيهات 168لقاء مع الاُستاذ (أبو زهرة) في كتابه الإمام الصادق(عليه السلام) / القسم الثانيآراءُ الإمام الصادق(عليه السلام) 173حديث الثقلين وأسانيده 177حديث الثقلين في اللغة 185مقاصد المؤلّف من التشكيك بالروايات 186اتّجاه آخر في التشكيك بالروايات 189نص الرواية 190والخلاصة 192حول الصحابة 196رأي الشيعة في الصحابة 198مناقشة أبي زهرة بمسألة الصحابة 203آية الولاية 208فقه الإمام الصادق(عليه السلام) 213سند الرواية 220الخبر الأول 223الخبر الثاني 224الخبر الثالث 224الخبر الرابع 225الفقه الإسلامي بين الشيعة والسنّةاختلاف الفقهاء في الفتوى 239أبو حنيفة 240مالك بن أنس 241الإمام الشافعي 241أحمـد 242ما انفرد به ابن تيمية 242الخلاف بين المذاهب 244الطهارة الوضوء والغسل والتيممأجمع المسلمون على وجوب الطهارة للصلاة 251الوضوء 252فروضـه 253غسل الوجه 254غسل اليدين 255مسح الرأس 256الأرجل 258وقال الجصّاص 262وقال إبراهيم الحلبي 262وقال ابن حزم 263الأخبار 263المسح على الخفين 268مسح الأُذنين 274المسح على العمامة 277مسح العنق 279الموالاة 280الترتيب 281نواقض الوضوء 284النوم 285الشـك 291السنن أو المستحبّات 293الشيعة 293الحنفية 294المالكية 294الشافعية 295الحنابلة 296فـرع 296الغسل والتيمّم 298الجنابة 298واجباته 299الغسل 301الأحكام 303غسل الحيض 307مدّته 307أيام الطهر 308سن الحائض 309الأحكام 312حرمة الوطء 313قبل الاغتسال 315الاستحاضة 316النفاس 320غسل الأموات 3241 ـ كيفية الغسل 325المالكية 3272 ـ غسل المس 331الصّـلاة 334التيمّم 336مسوغاته 337كيفيته 339الشيعة 339الحنفية 340المالكية 340الشافعية 340الحنابلة 341الاتفاق والافتراق بين المذاهب 342ما يصحّ التيمم به 347نواقضه 349النجاسات 350الشيعة 351البول والغائط 352المنـي 353الكلب والخنزير 354الميتة 356أجزاءُ الميتة 357الخارج من الميتة 358الـدم 359الخمـر 361المطهرات 361الشمـس 362الأرض 364الاستحالة 365الدبغ 365الفرك والمسح 366الصــلاةتمهيد 373الصلاة اليومية 376الوقت 377القبلة 379ستر العورة 381الطهارة 383الإباحة 385الحرير 386الذهب 388الميتة 388المكان 389مسجد الجبهة 391الأذان والإقامة 392ألفاظ الأذان 393الفهرس التفصيلي 403