اهل البیت (ع) و مصلحة الاسلام العلیا نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اهل البیت (ع) و مصلحة الاسلام العلیا - نسخه متنی

مقدادی فؤاد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

حقيقة الاجتهاد في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)

إن أكثر ما يُعانيه المسلمون اليوم على الصعيد الفكري والنظري هو فهم الاسلام في أطروحته الحضارية وموقفه الشرعي، ومنهجه العملي من القضايا المتجدّدة في الواقع الانساني، خصوصاً تلك التي تتميّز بطابعها الاجتماعي، بما فيها من جوانب فكرية وسياسية واقتصادية تتحرك في دائرة المجتمعات الاقليمية الخاصة أو الدولية العامة. ولا ينحصر ذلك في جانب البناء الذاتي لتلك المجتمعات الاسلامية وسدّ حاجاتها الخاصة في عملية البناء والتكامل، سواء تمّ ذلك في إطار حركات ومنظمات تعمل في وسط الأمة، أو في إطار دولة إسلامية تهدف إلى تمكين وتطبيق النظام الاسلامي في تشكيلاتها الاداريّة والوظيفية وقيادتها لشعبها إسلامياً، بل إنه يمتدّ الى جميع أبعاد وآفاق المجتمع الدولي أفراداً ومنظمات ودولاً، انطلاقاً من الرسالية العالمية للاسلام، وما تقتضيه الضرورة العقلائية والملازمة العملية لحركة الأمة الإسلامية، وقياداتها السياسية في وسط المجتمع الدولي العام. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى دائرة مواجهة الغزو الثقافي المضاد الذي بدأ يلوح في الافق، والموجَّه ـ بتقنية علمية عالية ـ أولاً وبالذات الى الطبقات المثقفة من المجتمعات الاسلامية، التي تتميز عادةً بمشاعر الرفض لصيغ الظلم الاجتماعي والدجل الفكري والسلوكي، والتطلع نحو رؤية صادقة للحق والعدل، والتوق الشديد إلى بناء إنسان العدل ومجتمع العدل ودولة العدل في الواقع الانساني.

وفي خضم هذه المعاناة، ومن بين ثنايا الصراع المتواصل لتفجير المكنون الرسالي والحضاري للاسلام، واحتواء تطلّعات البشرية المترقبة للخلاص، وتقديم الاطروحة المنقذة لها من معاناتها، تظهر دعوات وتعلو أصوات لا يظهر منها إلاّ إدراك تلك الحاجة الملحّة، جامعها المعبّر عنها هو مقولة : إن الاجتهاد ببعده الحقيقي وشموليته الواقعية قضية حياة أو موت للمسلمين في مواجهة تحديات العصر.. .

وهنا لا بد لنا من رفع الغموض والتشويش الذي يمكن أن يعتري تصورات البعض عن الاجتهاد، والتجديد المقصود والتفقه المطلوب في مرحلتنا الراهنة، واستجلاء حقيقته التي لا تنفك عن ذلك الاجتهاد والتفقّه بمعناه الاسلامي الاصيل، الذي نادى به وعمل على أساسه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وتربّت عليه أجيال العلماء والفقهاء المعاصرين لهم والتابعين لمدرستهم من بعدهم.

فالاجتهاد والتفقّه في الشريعة الاسلامية المقصود لمدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، ليس هو القاعدة التي دعا إليها مَن فارقَ مدرستهم من أن : الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدلّ عليه في الكتاب أو السنّة رجع الى الاجتهاد بدلاً عن النص . وهل هذا إلاّ إطلاق العنان للتفكير الشخصي في الأحكام الإلهيّة، واعتباره مصدراً من مصادر التشريع الاسلامي كالكتاب والسنة ؟ فالفقيه ـ وفق هذا المنهج ـ يرجع الى تفكيره الخاص حيث لا يجد النص ، ويستلهمه ويبني على ما يرجح في فكره الشخصي من تشريع، ولهذا أُطلق على هذا النهج اسم ( مدرسة الرأي )، وقد تصدّى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لهذا النهج في الاجتهاد والتفقّه ـ كما اسلفنا ـ، وشنّوا حملة شديدة عليه، وحرّموا العمل به لخطره على سلامة التشريع الاسلامي وأصالته، ومآله الى تحريف أحكام الله وإدخال ما ليس من الدين فيه.

وعليه يجب أن نحدّد مفهوم الاجتهاد والتجديد من وجهة نظر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، الذي يسوّغ لنا اسناده الى الشريعة الاسلامية دون تحميل أو تزوير، لئلاّ نقع في حبال دعوتين تستبطنان باطلاً : إحداهما : من داخل البيت الاسلامي المتفقّه، وهي الدعوة الى الاجتهاد والتجديد بإعمال الرأي الشخصي للفقيه المتخصص في استنباط الحكم الشرعي، عند إعواز النصوص أو في مقابلها دون أساس من كتاب أو سنّة، والتي أشرنا إليها بمصطلح ( مدرسة الرأي). والأخرى: من خارج البيت الاسلامي المتفقّه، وبالتحديد من الأوساط المثقّفة المترصّدة للفكر الديني الاسلامي ونظرياته وتشريعاته، وهي الدعوة الأخطر من حيث إن طارحيها هم العلمانيون المتدينون ـ كما يسمّون أنفسهم اليوم ـ تحت عنوان الحرية الفكرية وضرورة الابداع، الذي يعني في منطقهم إعادة النظر في الكثير من ثوابت الاسلام وتشريعاته الاجتماعية، والذي نلمسه طافحاً على أغلب موضوعات مجلاّتهم وكتبهم الحديثة، كمجلة الناقد([195]) وكتبها، وهي في الواقع تحديث للفكر الغربي الغابر الذي غزا الشرق الاسلامي في عصر الاستعمار العسكري المباشر، والذي نظّر له المستشرقون، وربّوا رجالاته الاوائل الذين حكموا بلدان الشرق، وساقوا شعوبها نحو الثقافة الغربية ومنهجها في الحياة الاجتماعية، ووضعوها قسراً في ركاب الغرب ومصالحه.

وكما أسلفنا فإن المدرسة الاسلامية لأهل البيت (عليهم السلام) ـ في الوقت الذي تقرر فيه أن الاجتهاد الذي يسوّغ إسناده الى الشريعة الاسلامية، هو عبارة عن عملية استنباط الحكم الشرعي من مصدريه الأساسيين : الكتاب الكريم والسنّة الشريفة ـ تؤكد ضرورة أن يتمّ الاستنباط وفق القواعد الأصولية المقرّرة شرعاً وعقلاً في مظانّها، والتي تستلزم مستوىً تخصصياً عالياً في مجال الفن الأصولي من جهة، وسعة الاطلاع والتمرّس في فهم النصوص الشريفة للكتاب الكريم والسنّة المعصومة من جهة أخرى، وأن الدعوة للاجتهاد والتجديد في إطار الشريعة الاسلامية المقدسة لا بد أن تنضبط بهذه الضوابط، وتسير وفق هذا المنهج الذي يحمل دليل إثباته الشرعي من النصوص الاسلامية المقدسة، وقيمة آثاره وعظمة ثماره من خلال التجربة الطويلة لتطبيقه في إطار هذه المدرسة الالهية المباركة عبر قرون متمادية والى وقتنا الحاضر. وتشهد لذلك عشرات الآلاف من المؤلّفات والمصنّفات العلمية لكبار فقهاء وعلماء هذه المدرسة، التي استوعبت عبر حركة الاجتهاد والتجديد المستمرة كل مسائل ومستجدات العصور التي مرّت بها، وفي مختلف أبواب المعرفة الاسلامية فقهاً وأصولاً وعقائد وأخلاقاً وفلسفة وحديثاً وغيرها من العلوم والاختصاصات الاسلامية.

وثمّة حقيقة أخرى تمليها علينا طبيعة التطور الكبير في المجتمع الانساني المعاصر يجب أن نضيفها هنا، وهي ضرورة توفير شروط التجدد والحيوية في الاجتهاد مناهج وموضوعات بما يتناسب وهذا التطور الهائل، والتي من أبرزها هو عنصر التخصص العلمي، خصوصاً في مجال تنقيح الموضوعات ولحاظ الزمان والمكان عند استنباط وتحديد الحكم الإلهي في الواقعة المعينة، أو بلورة الرؤية الاسلامية في مسألة من المسائل الأساسية، والتي تستلزم عادةً تطوراً في أساليب العمل العلمي، كإنشاء اللجان التخصصية والمجامع العلمية من مجموعة العلماء والفقهاء المتخصصين، كما لا بدّ من بسط وتوسعة عملية التجديد في الاجتهاد والتفقّه العلمي لتشمل كافة أبواب المعرفة الاسلامية واختصاصاتها، وذلك لاتّساع دائرة المواجهة والتحدّي المعاصر للاطروحة الاسلامية بمفرداتها الموضوعية والمنهجية، خصوصاً بعد انتصار الثورة الاسلامية وقيام دولة تدعو لخوض تجربة الاسلام الحضاري في المجتمع الانساني، وبروز ظاهرة التطلّع نحو الاسلام فكراً رائداً، ونظرية حياة حضارية للانسان التائه الممزّق في عصر أفول الحضارات الماديّة وانهيارها.

ونحن حين نؤكّد على التزام نهج مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) في الاجتهاد والتجديد، نرى فيه السبيل الامثل بل الوحيد الذي يمكنه أن يحقق الاهداف الاساسية التالية :

الأول : الاستيعاب المستمر لكل القضايا المتجددة في الواقع الانساني أو ما يسمى بمنطقة الفراغ المتغيّرة، واستنباط الحكم الاسلامي الخاص بها دون الانزلاق في مخاطر البدعة في الدين، أو الوقوع في متاهات التحريف لثوابته وضروراته.

الثاني : إبراز القيمة الحضارية والبعد الانساني الشامل للاطروحة الاسلامية في الوسط العالمي، بشكل حقيقي مستوعب تختفي فيه صور المفارقة الصارخة في الآراء والنظريات بين الاتجاهات والمدارس الاسلامية، التي كانت ولا تزال منقصة كبيرة ومأخذاً أساسياً يضرب أعداء الاسلام ـ وخصوصاً المستشرقين منهم والجهلاء من صنائعهم ـ على وتره ; للاجهاز على أصالة هذه الامة والقضاء على دينها الذي هو سرّ عظمتها وعامل وحدتها ونهضتها المرتقبة.

الثالث : توحيد الأمة الاسلامية داخلياً على مستوى الرؤية الاساسية والاتجاه الشرعي في حركتها الذاتية، الذي يعني بعبارة أخرى التقريب بين المذاهب الاسلامية، ومن ثم توحيد الموقف السياسي والأساسي للمسلمين من مختلف القضايا والمسائل، التي تمثل مفاصل حركتها وسيرها نحو الهدف الذي اراده الله لها وخاطبها به في محكم كتابه الكريم : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أمّة أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللهِ )([196]).

ورائعٌ ما حدده رائد التجديد المعاصر للاطروحة الاسلامية آية الله العظمى الشهيد السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في جوابه عن سؤال : ما هو الهدف من حركة الاجتهاد ؟ حيث قال : وأظن أننا متّفقون على خط عريض للهدف الذي تتوخّاه حركة الاجتهاد وتتأثّر به، وهو تمكين المسلمين من تطبيق النظرية الاسلامية للحياة ; لأن التطبيق لا يمكن أن يتحقق ما لم تحدد حركة الاجتهاد معالم النظرية وتفاصيلها ([197]).

ويبقى الاساس الذي يجب أن يَحكم الاجتهاد ويُحكمه ويقرّر ضرورته ويضبطه هو قوله تعالى في محكم كتابه المجيد : ( وَلَوْ رَدّوهُ إلى الرّسُولِ وَإلى أولي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إلاّ قَليلاً )([198]).

الأصل الثاني : حفظ مصلحة الإسلام العليا

درس الكثيرون سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وتأريخهم المشرق بالفضائل والفواضل والكمالات والكرامات، وأبدعوا في إبراز دورهم الرائد في العلم والبناء والتضحية والفداء، ووقفوا كثيراً أمام حقيقة الأهداف وسرّ التنوّع في الأدوار التي اضطلع بها أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، إلاّ أنّ القليل منهم وضع يده على السرّ الأساسي والحقيقة الجوهريّة المعبّرة عن قاسم أعظم وخطّ مشترك بين جميع هذه الأدوار، وما زخرت به من مواقف إسلاميّة كبرى، على اختلاف صورها وأشكالها، سواء أكانت في حرب أم في سلم، وسواء أكانت قولاً أم فعلاً، سلباً أم إيجاباً، صريحة كانت أم تقيّة، ألا وهي مصلحة الإسلام العليا. وهذا القليل لم يتناول من هذا السرّ وتلك الحقيقة سوى مفردات جزئيّة متفرّقة لا تعطي للصورة عظمتها وكمالها، الذي لا يتمّ إلاّ بالنظرة الشموليّة المترابطة والرؤية العميقة الكاشفة. ولعلّ من أبرز هذه المحاولات النادرة، التي مهّدت وشرّعت منهج الدراسة الشموليّة التكامليّة، هي مجموعة محاضرات ومقالات الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمّد باقر الصدر (قدس سره) عن أدوار ومواقف أهل البيت (عليهم السلام)، التي لم يكتب لها الدوام حتّى أشواطها الأخيرة وغايتها الكبرى، فقد أبت هذه الشخصيّة الإسلاميّة الفذّة إلاّ أن تترجم هذا السرّ المذكور والجوهر المزبور في مسيرة أهل البيت (عليهم السلام) الرائدة، بالصراع مع الطاغوت والنصرة لله عزّوجلّ، من خلال التضحية بنفسها الزكيّة، من أجل مصلحة الإسلام العليا، وصلاً بتلك المسيرة العظمى والسيرة الشريفة.

ونريد هنا أن نسلّط ضوءاً كلّيّاً عامّاً على هذا القاسم الأعظم والخطّ المشترك في مواقف وأدوار أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) على مدى التأريخ والعصور التي اكتنفتهم، ذلك هو لحاظهم أوّلاً وآخراً، وقبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء،مصلحة الإسلام العليا، فدونها أرواحهم الطاهرة وأهل بيتهم الكرام، وأموالهم ما كثرت، وجهادهم وجهودهم ما عظمت، وهجرتهم في سبيل الله في أكناف الأرض وتخومها ما وسعت، وكظمهم الغيض وصبرهم الجميل حتّى يتبيّن الحقّ من الباطل.

ان من الاهداف الاساسية والمرامي الرسالية لسبر سيرة أهل البيت (عليهم السلام)، واستجلاء هذا الاصل العظيم فيها، هو اعطاء مقياس مطلق في واقعه التطبيقي الامثل ; ليكون نبراساً ونهجاً مستقيماً لكل المسلمين الرساليين، علماء وقادة وأمة تستهديه في توحيد مواقفها، والتقريب بين مذاهبها ومشاربها، في العمل على تقوية شوكة المسلمين، واعلاء كلمة الله، وبناء أمة الاسلام الواحدة، ويتحقق فيها مصداق قوله تعالى : ( كنتم خير امة اُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )([199]).

ولنستعرض بشكل اجمالي نماذج بارزة من مواقف بعض ائمة أهل البيت (عليهم السلام)، تحكي لنا هذا الاصل في سيرتهم المباركة، تاركين لمحبيهم وطلاب معرفتهم الخوض في لججهم الغامرة، والنظر في آفاقهم الواسعة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً :

نماذج كبرى:الإمام علي (عليه السلام)ومصلحة الإسلام العليا

إن أولى نماذج السيرة الطاهرة لأهل البيت(عليهم السلام) هي سيرة الامام علي(عليه السلام)التي تحكي بكل وضوح وجلاء اصل حفظ مصلحة الاسلام العليا في كل مفرداتها واطوارها ومراحلها نتناولها منتخبين صوراً معبرةً منها تاركين للمحبين وطلاب المعرفة والسائرين على طريقه الالهي المستقيم النظر في الآفاق الواسعة لصورها التفصيلية الاخرى.

وهذه الصور المنتخبة متوزعة على ثلاث مراحل: الاولى في حياة الرسول(صلى الله عليه وآله)، والثانية في زمن الخلافة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، والثالثة في زمن خلافته وحكومته(عليه السلام).أولاً: في حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله)

أ ـ فداء نفسه لرسول الله(صلى الله عليه وآله) بمبيته على فراشه:

عندما رأى امير المؤمنين وامام المتقين علي بن أبي طالب(عليه السلام) أن مصلحة الاسلام العليا تتجسّد بحياة النبي(صلى الله عليه وآله) وانّ في سلامته سلامة الرسالة، فداه بنفسه ووضعها في موضع التضحية في سبيل تلك المصلحة العليا، وهو مطمئنّ برضا الله وقضائه، فبات في فراش الرسول عندما علم أنّ مشركي قريش قد بيّتوا قتله(صلى الله عليه وآله).

وممّا ورد في ذلك انّ جبرئيل(عليه السلام) نزل بالآية الكريمة: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)([200]) واخبر رسول الله(صلى الله عليه وآله) بتفاصيل المؤامرة وأبلغه بأمر الله تعالى له بالهجرة إلى المدينة المنورة وبجعل أخيه وابن عمّه علي بن أبي طالب(عليه السلام)مكانه، ومبيته على فراشه.

فأرسل(صلى الله عليه وآله) إلى علي(عليه السلام) يخبره بتفاصيل المؤامرة، وهبوط الأمين جبرائيل بالآية ، قائلاً له: يا علي ! انّ الروح الأمين هبط عليّ الساعة يخبرني انّ قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي، وأوحى إليَّ عن ربي أن اهجر دار قومي وأن انطلق إلى غار حراء في جبل ثور، تحت ليلتي هذه، وقد أمرني أن آمرك بالمبيت على فراشي وفي مضجعي، لتخفي بمبيتك عليهم اثري، فما أنت قائل ؟فقال علي(عليه السلام): أوتسلمنّ بمبيتي يا رسول الله ؟ قال(صلى الله عليه وآله): نعم، فتبسّم ضاحكاً، واهوى إلى الأرض ساجداً شاكراً لله. وقال: فداك سمعي وبصري، مُرني بما شئت تجدني مطيعاً منفذاً، فقال(صلى الله عليه وآله): فارقد على فراشي، واشتمل ببردي الحضرمي، ثم انّي اخبرك يا علي، ان الله تبارك وتعالى يمتحن اولياءه على قدر ايمانهم ومنازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاءً الانبياء، ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يا ابن أمّ وامتحنني فيك، بمثل ما امتحن به خليله ابراهيم(عليه السلام)، والذبيح اسماعيل(عليه السلام)، فصبراً صبراً، فانّ رحمة الله قريب من المحسنين.

ثم ضمّه إلى صدره صلوات الله عليه وآله وبكى إليه وجداً به، وفرقاً عليه، وبكى عليٌ(عليه السلام) جزعاً على فراقه.

وحين انتشر الظلام، أسرع المتآمرون لتطويق بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله)للحيلولة دون خروجه، وخرج الرسول(صلى الله عليه وآله) من بين اعداء الله وهو يتلو قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لا يبصرون)([201]) فلم يشاهده أحد من المشركين، وعند طلوع الفجر اقتحم المتآمرون دار رسول الله(صلى الله عليه وآله) لقتله واتّجهوا لغرفته، فوثب علي(عليه السلام) في وجوههم فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: أين محمّد ؟ قال: اجعلتموني عليه رقيباً ؟ ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم([202]). وفي ذلك نزلت الآية الكريمة: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد)([203]) التي اشتهر بين المفسّرين وأصحاب الحديث من مختلف الفرق الاسلامية أنها نزلت في علي بن أبي طالب(عليه السلام) ليلة مبيته على فراش الرسول(صلى الله عليه وآله)([204]).

ولم يكتف اميرالمؤمنين(عليه السلام) بفداء نفسه لرسول الله(صلى الله عليه وآله) في مبيته على فراشه بل صبر على البقاء في مكة لينفذ وصية رسول الله بحفظ ذمّته وأداء أمانته، وكانت قريش تدعو محمداً(صلى الله عليه وآله) في الجاهلية الأمين وتودعه أموالها، وكذلك من يقدم مكة من العرب في الموسم وجاءته النبوة والأمر كذلك، فأمر علياً أن يقيم منادياً بالأبطح غداة وعشية: ألا من كانت له قبل محمد أمانة فليأتلتؤدى اليه أمانته، وقال: انهم لن يصلوا إليك بما تكرهه حتى تقدم عليّ ، فأدِّ أمانتي على أعين الناس ظاهراً، واني مستخلفك على فاطمة ابنتي ومستخلف ربي عليكما. وأمره أن يبتاع رواحل له وللفواطم ومن أراد الهجرة معه من بني هاشم وغيرهم، وقال له: إذا قضيت ما أمرتك فكن على اُهبة الهجرة إلى الله ورسوله، وانتظر قدوم كتابي اليك ولا تلبث بعده.

ثم كتب رسول الله(صلى الله عليه وآله) إلى علي(عليه السلام) مع أبي واقد الليثي يأمره بالمسير اليه، وكان قد ادّى أماناته وفعل ما أوصاه به، فلما أتاه الكتاب ابتاع ركائب وتهيّأ للخروج، وأمر من كان معه من ضعفاء المؤمنين أن يتسللوا ليلاً إلى ذي طوى، وخرج علي(عليه السلام) بالفواطم; فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله) واُمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم وفاطمة بنت حمزة وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب وتبعهم أيمن ابن اُم أيمن مولى رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وأبو واقد الليثي، فجعل أبو واقد يسوق الرواحل سوقاً حثيثاً، فقال علي(عليه السلام): ارفق بالنسوة يا أبا واقد، انهن من الضعائف، ثم جعل علي يسوقهن سوقاً رفيقاً.

فلمّا قـارب ضجنان ادركه الطلب ; وهم ثمانية فـرسان ملثمون معهم مولى لحرب بن امية اسمه جناح، فقال علي(عليه السلام) لأيمن وأبي واقد: أنيخا الإبل واعقلاها، وتقدم فأنزل النسوة، ودنا القوم، فاستقبلهم علي(عليه السلام) منتضياً سيفه، فقالوا: ظننت انك يا غدار ناج بالنسوة، ارجع لا أباً لك. قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعنّ راغماً أو لنرجعن بأكثرك شَعراً، وأهون بك من هالك، ودنَوْا من المطايا ليثوروها، فحال علي(عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى له جناح بسيفه، فراغ عن ضربته، وضرب جناحاً على عاتقه فقده نصفين حتى وصل السيف إلى كتف فرسه والظاهر ان جناحاً لما اهوى له بالسيف انحنى، لأن الفارس لا يمكنه أن يضرب الراجل إلاّ وهو منحن، فضربه عليّ وهو منحن على عاتقه، ولو لم يكن منحياً لم تصل ضربته إلى عاتقه، وشدّ على أصحابه وهو على قدميه شدة ضيغم وهو يقول:خلوا سبيل الجاهد المجاهد***آليت لا اعبد غير الواحد

فتفرق القوم عنه، وقالوا: احبس نفسك عنّا يابن ابي طالب، قال: فإني منطلق إلى أخي وابن عمي رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فمن سره أن أفري لحمه واُريق دمه فليدنُ مني، ثم أقبل على أيمن وأبي واقد وقال لهما: أطلقا مطاياكما، ثم سار ظافراً قاهراً حتى نزل ضجنان، فلبث بها يومه وليلته، والحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين منهم أم أيمن مولاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) وبات ليلته تلك هو والفواطم طوراً يصلّون وطوراً يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلى بهم صلاة الفجر، ثم سار لا يفتر عن ذكر الله هو ومن معه حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار)(فاستجاب لهم ربهم اني لا أُضيع عمل عامل منكم من ذكر أو اُنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واُخرجوا من ديارهم واُوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأُكفرنّ عنهم سيّئاتهم ولاُدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله والله عنده حسن الثواب([205]))([206]).

ب ـ ذبّه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) في الحروب والمعارك:

كان شأن اميرالمؤمنين(عليه السلام) وديدنه حماية الرسول(صلى الله عليه وآله) عند الحروب والمعارك التي خاضها تحت قيادته، فكان ظلاًّ له لا يفارقه فيها ولا يألو جهداً في القتال دونه والذّب عنه مهما كانت العواقب واشتدَّت الفتن، حتى قالت فاطمة الزهراء(عليها السلام) في حقّه: وبعد أن مني ببُهَمِ الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلّما أوقدوا ناراً للحرب اطفأها الله، أو نجم قرن للشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه (علي بن أبي طالب(عليه السلام)) في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في اولياء الله، مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم....

ففي معركة بدر كان عدد المسلمين يساوي ثلث جيش عدوّهم ولم تكن العدة لدى المسلمين ذات بال، ولم يكن منهم فارس غير المقداد بن الأسود الكندي، وكانت أسلحة بعضهم من جريد النخل ونحوه.

حتى إذا اضطرمت نار الفتنة تقدم علي(عليه السلام) وكان يحمل لواء الرسول(صلى الله عليه وآله)([207]) فخاض غمار معركة حامية غير متكافئة، كان المسلمون خلالها يستغيثون ربّهم طلباً للنصر، فاستجاب لهم وأمدّهم بالملائكة، وقد انتهت المعركة بمقتل سبعين رجلاً من المشركين كان مقتل نحو نصف عددهم بسيف علي(عليه السلام)([208]).

وفي معركة اُحد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد أعطى لواء المهاجرين لعلي(عليه السلام)ولمّا اشتبك الطرفان كان النصر ابتداءً للمسلمين، بيد أن حماة جبل اُحد الذين أمرهم الرسول بعدم مفارقته تركوا اماكنهم بعد فرار المشركين طمعاً في الغنائم والمتاع، فصعدت احدى فرق المشركين بقيادة خالد بن الوليد الجبل فتغيّر الموقف لصالح المشركين وسقط الكثير من المسلمين شهداء واُصيب الرسول(صلى الله عليه وآله) بجروح في وجهه الكريم وكسرت رباعيته، وحيث لم يبق مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) في ذلك الموقف الرهيب بعد فرار المسلمين غير علي(عليه السلام) وأبي دجانة وسهل بن حنيف، استبسل علي(عليه السلام)كعادته في الدفاع عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)وبيضة الاسلام، وقتل حملة اللواء من المشركين واحداً بعد آخر، وكانوا تسعة رجال، ثمانية من بني عبد الدار وتاسعهم عبدهم([209]) فرعب الأعداء وولّوا هاربين.

وفي غزوة الأحزاب طوّقت المدينة بعشرة آلاف من المشركين بشتى فصائلهم، ونقض بنو قريظة صلحهم مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) وانضموا إلى صفوف الغزاة، فتغير ميزان القوى لصالح العدو، وبلغ الذعر في نفوس المسلمين أي مبلغ، وقد وصف القرآن الكريم هذه الحالة في قوله: (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذْ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا)([210]).

وبدأ العدو هجومه بعبور عمرو بن عبد ودّ العامري ـ أحد ابطال المشركين ـ الخندق الذي حفره المسلمون مع بعض رجاله فهددوا المسلمين في داخل المدينة بل في داخل تحصيناتهم، وراح ابن عبد ودّ يصول ويجول، ويتوعّد المسلمين ويتفاخر عليهم ببطولته، ويستعلي وينادي: هل من مبارز؟ فقام علي(عليه السلام)وقال: أنا له يا رسول الله. قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): اجلس انه عمرو! وكرر ابن عبد ود النداء وجعل يوبّخ المسلمين، ويسخر منهم ويقول: أين جنتكم التي تزعمون أنّ من قتل منكم يدخلها، أفلا تبرزون لي رجلاً ؟

ولمّا لم يجبه أحد من المسلمين، كرر علي(عليه السلام) طلبه: أنا له يا رسول الله، فقال(صلى الله عليه وآله): اجلس انه عمرو! فأبدى عليّ عدم اكتراثه بعمرو وغيره، قائلاً: وإن كان عمراً!! فأذِن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام)، وأعطاه سيفه ذا الفقار، وألبسه درعه، وعممه بعمامته، ثم قال(صلى الله عليه وآله): اللّهم هذا أخي وابن عمي، فلا تذرني فرداً، وأنت خير الوارثين([211]).

ومضى علي(عليه السلام) إلى الميدان. وخاطب ابن عبد ود بقوله: يا عمرو انك كنت عاهدت الله، أن لا يدعوك رجل من قريش إلى احدى خلّتين إلاّ قبلتها. قال عمرو: أجل. فقال علي(عليه السلام): فاني ادعوك إلى الله وإلى رسوله(صلى الله عليه وآله) وإلى الاسلام. فقال: لا حاجة لي بذلك. قال له الامام: فإني ادعوك إلى البراز، فقال عمرو: اني اكره أن اهريق دمك، أن أباك كان صديقاً لي.

فردّ عليه الامام(عليه السلام) قائلاً: لكني ـ والله ـ اُحبّ أن اقتلك، فغضب عمرو، وبدأ الهجوم على علي(عليه السلام) فصده الامام برباطة جأشه المعتادة، وأرداه قتيلاً، فعلا التكبير والتهليل في صفوف المسلمين([212]). ولما عاد الامام(عليه السلام) ظافراً استقبله رسول الله(صلى الله عليه وآله) وهو يقول:

لَمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق افضل من أعمالاُمتي إلى يوم القيامة([213]).

وبعد مقتل ابن عبد ود، بادر علي(عليه السلام) إلى سد الثغرة التي عبر منها عمرو ورجاله ورابط عندها([214]) مزمعاً القضاء على كل من تسوّل له نفسه التسلّل من المشركين، ولولا ذلك الموقف البطولي لاقتحم جيش المشركين المدينة على المسلمين، بذلك العدد الهائل.

وهكذا كان عليّ(عليه السلام) في غزوة الأحزاب أهم عناصر حفظ بيضة الاسلام وتحقيق النصر للمعسكر الاسلامي، وانهزام المشركين.

وفي غزوة خيبر عجز عليّة القوم عن الثبات امام اليهود، ولمّا بان ضعف الجميع عن اقتحام حصون خيبر حتى تأخر فتحها أياماً، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب اللّهَ ورسوله ويحبه اللّهُ ورسوله، كراراً غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه([215]).

ولمّا كان الغد أعطاها رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّاً فاقتحم حصون خيبر ودخلها عليهم عنوة، وقتل بطلهم مرحباً، ثم فتح الحصون جميعاً.

وفي غزوة حنين فرّ المسلمون فلم يبق مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) غير علي(عليه السلام)والعباس وبعض بني هاشم([216]) فكان النصر، بعد عودة المسلمين إلى ميدان القتال لمّا سمعوا نداء الرسول(صلى الله عليه وآله) ونداء العباس بن عبد المطلب، وكان الظفر.

هذه نماذج من المواقف التي سجّلها الامام علي(عليه السلام) بين يدي قائده رسول الله(صلى الله عليه وآله) في أدق الساعات واكثرها حرجاً([217])، كانت تحكي تضحيته وتفانيه بلا حدود في سبيل حفظ بيضة الاسلام وتحقيق مصلحته العليا. وممّا يؤكد ذلك أن عليّاً(عليه السلام) كان قد اشترك في حروب رسول الله جميعاً غير تبوك([218])، وكان ذلك بأمر خاصّ من رسول الله(صلى الله عليه وآله) لمصلحة اسلامية كان يراها تمثلت في التحرز من خطر كان يخشاه من المنافقين الذين تخلّفوا في المدينة.

وممّا ورد في ذلك ان الله أوحى إلى نبيه(صلى الله عليه وآله) أن يسير إلى غزوة تبوك بنفسه ويستنفر الناس للخروج معه، ويختبرهم ليتميزوا بذلك، وتظهر به سرائرهم.

فاستنفرهم النبي(صلى الله عليه وآله) إلى بلاد الروم، وقد أينعت ثمارهم، واشتدّ القيظ عليهم، فأبطأ اكثرهم عن طاعته رغبةً في العاجل، وحرصاً على المعيشة وإصلاحها، وخوفاً من شدّة القيظ وبُعْد المسافة، ولقاء العدوّ، ثم نهض بعضهم على استثقال للنهوض، وتخلّف آخرون.

ولمّا أراد النبي(صلى الله عليه وآله) الخروج استخلف اميرالمؤمنين في أهله وولده وأزواجه ومهاجره، وقال له: يا عليّ! انّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك.

وذلك أنه(صلى الله عليه وآله) علم خبث نيّات الأعراب وكثير من أهل مكة ومن حولها ممن غزاهم وسفك دماءهم، فأشفق ان يطلبوا المدينة عند نأيه عنها في بلاد الروم أو نحوها، فمتى لم يكن فيها من يقوم مقامه، لم يؤمن من معرّتهم، وايقاع الفساد في دار الهجرة، والتخطي إلى ما يشين أهله ومخلّفيه.

وعلم(صلى الله عليه وآله) أنه لا يقوم مقامه في ارهاب العدوّ، وحراسة دار الهجرة، وحياطة من فيها إلاّ امير المؤمنين(عليه السلام) فاستخلفه استخلافاً ظاهراً، ونصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً.

وذلك فيما تأكد من الرواية انّ أهل النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول الله(صلى الله عليه وآله)عليّاً(عليه السلام) على المدينة حسدوه لذلك، وعظم عليهم مقامه فيها بعد خروجه، وعلموا انّها تتحصن به، ولا يكون فيها للعدو مطمع، فساءهم ذلك، وكانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد والاختلاط عند نأي رسول الله(صلى الله عليه وآله) عن المدينة، وخلوّها من مرهوب مخوف يحرسها، وغبطوه(عليه السلام)على الرفاهية والدعة بمقامه في أهله، وتكلّف من خرج منهم المشاقّ بالسفر والخطر.

فأرجفوا به(عليه السلام) وقالوا: لم يستخلفه رسول الله إكراماً له، وإجلالاً ومودّة، وإنّما خلفه استثقالاً له. فبهتوا بهذا الارجاف كبهت قريش للنبي(صلى الله عليه وآله) بالجِنّة تارة، وبالشِّعر أُخرى، وبالسحر مرّة، وبالكهانة أُخرى. وهم يعلمون ضدّ ذلك ونقيضه، كما علم المنافقون ضدّ ما أرجفوا به على امير المؤمنين(عليه السلام) وخلافه، وأن النبي(صلى الله عليه وآله)كان أخصّ الناس بأمير المؤمنين(عليه السلام)، وكان هو أحبَّ الناس اليه، وأسعدهم عنده، وأفضلهم لديه.

فلمّا بلغ اميرالمؤمنين(عليه السلام) إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم وإظهار فضيحتهم، فلحق بالنبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، ان المنافقين يزعمون انّك خلفتني استثقالاً ومقتاً! فقال له النبي(صلى الله عليه وآله): ارجع يا أخي إلى مكانك، فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، فأنت خليفتي في أهل بيتي، ودار هجرتي، وقومي; أما ترضى ان تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ انّه لا نبيّ بعدي([219])ثانياً: في زمن الخلافة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله)

لما توفيّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) بدأت الفتن تظهر كقطع الليل المظلم كما تنبّأ بها(صلى الله عليه وآله)في قوله عند مرضه الذي قضى به: ... أقبلت الفتن كقطع الليل المظلميتبع أولها آخرُها...([220]) انشغل علي وأهل بيته(عليهم السلام) بتجهيز النبي الكريم(صلى الله عليه وآله) حيث بقي جثمانه الطاهر ثلاثة أيّام دون دفن ليتسنى للمسلمين توديعه والصلاة عليه([221]).

ولقد استجدّت أمور وأحداث خطيرة بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله) تهدد بيضة الاسلام وأمّته بالفناء; فقد ظهر المتنبئون وقوي أمرهم واشتد خطرهم في الجزيرة العربية من أمثال: مسيلمة الكذاب، وطلحة بن خويلد الأفّاك، وسجاح بنت الحرث الدجّالة، وغيرهم، وصار وجودهم يشكل خطراً حقيقيّاً على الدولة الاسلامية.

واشتدّ ساعد المنافقين وقويت شوكتهم في داخل المدينة وكان الرومان والفرس للمسلمين بالمرصاد([222])، كما ظهرت على السطح الاجتماعي تكتّلات وتحزّبات بين المسلمين. وبرغم أن اميرالمؤمنين(عليه السلام)، في ظاهره اعتزل الناس وما هم فيه ستة شهور، ولم يسمع له صوت في حروب الردة ولا سواها([223])، إلاّ أنه(عليه السلام)كان يرقب ما يحدث ويترصّد الاوضاع بكلّ دقّة ويرسم موقفه الرسالي المطلوب على ضوء ما تقتضيه مصلحة الاسلام العليا، ومن أهم مواقفه التي جسّدت ذلك في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الاسلام وامته الفتية هي:

1 ـ موقفه من حقه في الخلافة بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، حيث وجد أن مصلحة الاسلام العليا تقتضي تقديم الأهم الممكن على غيره، حفظاً للاسلام وحمايةً لدعوته واُمّته من التمزّق والضياع أمام قوى الكفر والشرك والنفاق التي علا لها صوت وتربّصت الدوائر بالاسلام ـ كما ذكرنا ـ في داخل الجزيرة العربية وخارجها ، ولقد أبلغ الامام علي(عليه السلام) في بيان هذا الموقف قائلاً: فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام، يدعون إلى محق دين محمد(صلى الله عليه وآله)، فخشيت ان لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم التي انما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه([224]).

2 ـ العمل فوراً بوصية رسول الله(صلى الله عليه وآله) في حفظ القرآن الكريم بجمعه وتدوينه كما أنزله الله تعالى، فما برح عاكفاً على ذلك حتى انتهى من جمع القرآن الكريم وتدوينه في صحائف من الجلد.

ففي أخبار أبي رافع: ان النبي قال في مرضه الذي توفّي فيه لعلي: يا علي! هذا كتاب الله خذه إليك، فجمعه عليّ في ثوب، فمضى إلى منزله، فلمّا قبض النبي(صلى الله عليه وآله) جلس عليّ فألّفه كما أنزله الله، وكان به عالم([225]).

وذكر أبو نعيم في الحلية والخطيب في الأربعين بالإسناد عن السدي عن عبد خير عن علي(عليه السلام) قال: لمّا قبض رسول الله أقسمتُ ( أو حلفت ) ألاّ أضعردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللّوحين، فما وضعت رداي حتّى جمعت القرآن

([226]).

وفي أخبار أهل البيت(عليهم السلام) أن علي(عليه السلام) آلى ألاّ يضع رداءه على عاتقه إلاّ للصلاة حتى يؤلف القرآن ويجمعه. فانقطع عنهم مدّة إلى أن جمعه، ثم خرج اليهم به في ازار يحمله وهم مجتمعون في المسجد، فأنكروا مصيره بعد انقطاع... فقالوا: الأمر ما جاء به أبو الحسن، فلمّا توسطهم وضع الكتاب بينهم.

3 ـ قيامه بدور المرشد والمشير في مسائل الحكم الاسلامي إبّان خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وذلك تحقيقاً لمصلحة الاسلام العليا في تقويم مسيرته ودفعاً للخطر والتحريف عنه وعن أُمّته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وقد استثمر(عليه السلام)حاجة الخلفاء الثلاثة للمشورة في ملتبسات الاُمور.

ومن نماذج هذا الدور الرسالي الكبير الذي اضطلع به اميرالمؤمنين(عليه السلام)التي نقلتها لنا كتب السيرة والتاريخ ما يلي:

أ ـ عندما فكّر أبو بكر بغزو الروم فاستشار جماعة من الصحابة فقدموا وأخّروا، ولم يقطعوا برأي، فاستشار عليّاً(عليه السلام) في الأمر فقال: إن فعلتَ ظفرت. فقال أبو بكر: بشرت بخير. وأمر أبو بكر الناس بالخروج بعد أن أمّر عليهم خالد ابن سعيد([227]).

ب ـ وعندما أراد أبو بكر أن يقيم الحد على شارب خمر. فقال الرجل: إني شربتها ولا علم لي بتحريمها، فأرسل إلى الامام يسأله عن ذلك فقال(عليه السلام): مُر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على مجالس المهاجرين والأنصار وينشدانهم هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم أو أخبره بذلك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فان شهد بذلك رجلان منهم فأقم الحد عليه، وإن لم يشهد أحد بذلك، فاستتبه وخلِّ سبيله. وكان الرجل صادقاً في مقاله فخلّى سبيله([228]).

ج ـ وعندما قدم جاثليق النصارى يصحبه مائة من قومه، فسأل أبا بكر اسئلة، فدعا عليّاً(عليه السلام) فأجابه عنها، ونكتفي منها نموذجاً بسؤال واحد من اسئلة الجاثليق: أخبرني عن وجه الرب تبارك وتعالى.

فدعا علي(عليه السلام) بنار وحطب، واضرمه، فلما اشتعلت قال: أين وجه هذه النار؟ قال الجاثليق: هي وجه من جميع حدودها، فقال علي(عليه السلام): هذه النار مدبرة مصنوعة، لا يعرف وجهها، وخالقها لا يشبهها، ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله لا تخفى على ربنا خافية([229])

د ـ وعندما أرسل ملك الروم رسولاً إلى أبي بكر يسأله عن رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار، ولا يخاف الله ولا يركع ولا يسجد، ويأكل الميتة والدم، ويشهد بما لايرى، ويحب الفتنة ويبغض الحق، فأخبر بذلك عليّاً(عليه السلام)فقال: هذا رجل من أولياء الله: لا يرجو الجنة ولا يخاف النار، ولكن يخاف الله ولا يخاف من ظلمه، وانما يخاف من عدله، ولا يركع ولا يسجد في صلاة الجنازة، ويأكل الجراد والسمك، ويأكل الكبد، ويحب المال والولد (إنما أموالكم وأولادكم فتنة)ويشهد بالجنة والنار وهو لم يرهما، ويكره الموت وهو حق([230])

هـ ـ وحين أراد عمر بن الخطاب أن يغزو الروم راجع الامام(عليه السلام) في الأمر، فنصحه الامام بأنْ لا يقود الجيش بنفسه مبيناً علّة ذلك قائلاً:

فابعث اليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فان اظهره الله فذاك ما تحب، وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس، ومثابة للمسلمين([231])

و ـ وعندما ورد إلى بيت مال المسلمين مال كثير ـ من البحرين ـ فقسمه عمر بين المسلمين، ففضل منه شيء، فجمع عمر المهاجرين والانصار واستفتاهم بأمره قائلاً : ما ترون في فضل، فضل عندنا من هذا المال ؟ قالوا: يا اميرالمؤمنين انا شغلناك بولاية امورنا من أهلك وتجارتك، وضيعتك، فهو لك. فالتفت عمر إلى علي قائلاً: ما تقول أنت ؟ قال الامام(عليه السلام): قد اشاروا عليك. قال الخليفة: فقل أنت. قال(عليه السلام): لِمَ تجعل يقينك ظناً؟ ثم حدثه بواقعة مشابهة في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله). واخيراً اشار عليه الامام(عليه السلام) توزيعه على الفقراء، قائلاً: أشير عليك ألاّ تأخذ من هذا الفضل وأن تفضّه على فقراء المسلمين. فقال عمر: صدقت والله([232]).

ز ـ وعن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ان ترك هذا المال في جوف الكعبة لآخذه وأقسمه في سبيل الله وفي سبيل الخير، وعلي بن أبي طالب يسمع ما يقول، فقال عمر: ما تقول يا ابن أبي طالب؟ بالله لئن شجعتني عليه لأفعلنّ. فقال علي: أتجعله فينا، وصاحبه رجل يأتي في آخر الزمان([233]). فاقتنع عمر بضرورة عدم التصرف بحلي الكعبة.

ح ـ وورد أن عمر بن الخطاب رأى ليلةً رجلاً وامرأة على فاحشة، فلما أصبح قال للناس: أرأيتم ان إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة. فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين ؟ قالوا: انما أنت إمام.

فقال علي بن أبي طالب: ليس ذلك لك، اذن يقام عليك الحد، ان الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهداء ثم أن عمر ترك الناس ما شاء الله، ثم سألهم: فقال القوم مثل مقالتهم الأولى، وقال علي(عليه السلام) مثل مقالته، فأخذ عمر بقول الامام([234]).

ط ـ وبعد أن فتح المسلمون الشام جمع أبو عبيدة بن الجراح المسلمين واستشارهم بالمسير إلى بيت المقدس أو إلى قيسارية، فقال له معاذ بن جبل: اكتب إلى اميرالمؤمنين عمر، فحيث أمرك فامتثله، فكتب ابن الجراح إلى عمر بالأمر. فلما قرأ الكتاب، استشار المسلمين بالأمر.

فقال علي(عليه السلام): مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس، فاذا فتح الله بيت المقدس، صرف وجهه إلى قيسارية، فانها تفتح بعدها ان شاء الله تعالى، كذا اخبرنا رسول الله(صلى الله عليه وآله).

قال عمر: صدق المصطفى(صلى الله عليه وآله)، وصدقت أنت يا أبا الحسن، ثم كتب إلى أبي عبيدة بالذي أشار به علي(عليه السلام)([235]).

ي ـ وبعد انتصار المسلمين على الفرس في خلافة عمر، شاور ابن الخطاب اصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله) في سواد الكوفة. فقال بعضهم: تقسمها بيننا، ثم شاور عليّاً(عليه السلام) في الأمر، فقال(عليه السلام): ان قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء، ولكن تقرها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال عمر لعلي: وفقك الله، هذا الرأي([236]).

ك ـ وعن الطبري في تاريخه عن سعيد بن المسيب: قال: جمع عمر بن الخطاب الناس فسألهم، من أي يوم نكتب التاريخ؟

فقال علي(عليه السلام): من يوم هاجر رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وترك أرض الشرك، ففعله عمر([237]). وهكذا وجد التاريخ الهجري ليؤرخ به المسلمون.

هذه بعض ملامح دور الامام علي(عليه السلام) الرسالي في خلافة عمر بن الخطاب.

ل ـ وعندما أُتي إلى عثمان بامرأة قد ولدت لستة أشهر، فهمّ برجمها، فقال علي(عليه السلام): إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك ان الله تعالى يقول: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ثم قال: (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) ; فحولين مدة الرضاع، وستة أشهر مدة الحمل. فقال عثمان: ردّوها ـ أي لا ترجموها([238]) ـ.ثالثاً: في مرحلة خلافته وحكومته للمسلمين

تواصل نهج اميرالمؤمنين(عليه السلام) في حفظ مصلحة الاسلام العليا بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان وتوليه خلافة المسلمين، ولم تزده المتغيرات الحادّة في الوضع السياسي والفتن والحروب التي استعر أُوارُها في زمن خلافته إلاّ ثباتاً ورسوخاً في التزام هذا الأصل الاسلامي الذي عاهد الله ورسوله على حفظه والدفاع عنه مهما كانت المحن والفتن، ومن ابرز مصاديق هذا النهج النماذج التالية:

أ ـ عندما اجمعت الأمة على بيعة اميرالمؤمنين(عليه السلام) خليفةً للمسلمين، لم يندفع معهم في ذلك وقال لهم: دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول. وإن الآفاق قد أغامت والمحجة قد تنكَّرت... وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعليّ اسمعكم واطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم مني أمير([239]). لانه رأى ان المصلحة الاسلامية العليا تقتضي أن يجعل بيعة الامة له عن وعي كامل وارادة حقيقية لا عن عاطفة وانسياق مع ردود الفعل والجو الجمعي الذي تمثل بالنقمة على عثمان وانتهى بقتله، والذي لا يلبث عادةً أن ينحسر ويتراجع، خصوصاً وأنه(عليه السلام)لا يرى لنفسه غير خلافة رسالية يقيم فيها الحق ويبطل الباطل، ولقد قالها لابن عباس عندما دخل عليه بذي قار وهو يخصف نعله: ما قيمة هذا النعل؟ فقال له ابن عباس: لا قيمة لها! فقال(عليه السلام): والله لهي أحَبّ إليّ من امرتكم، إلاّ أن اُقيم حقّاً، أو أدفع باطل([240]). وعند اصرار الاُمة على بيعته اعلن شرطه لقبول الخلافة في قوله(عليه السلام): واعلموا أني ان اجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم اصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب([241])

ب ـ كانت أُولى خطوات اميرالمؤمنين(عليه السلام) على هذا النهج بعد توليه خلافة المسلمين هي ترسيخ مبادئ التنزيل وبيان تأويله وحفظ سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فأعلن ابتداءً عن المواصفات الاسلامية المطلوبة في ولاة الامور والعمال في قوله(عليه السلام): ... أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والاحكام وامامة المسلمين البخيل، فتكون في اموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطّل للسُّنة فيهلك الاُمّة([242]).

وبذلك ثبّت امير المؤمنين(عليه السلام) الاُسس الاسلامية الخالدة في بناء جهاز الحكومة الاسلامية وفق شروط العلم والعدالة والكفاءة، لتكون قانوناً رائداً وشرعةً دائمة للمسلمين، بل لكل الانسانية التوّاقة إلى اقامة العدل والقسط في الحياة. ولم يتوانَ عن تطبيق هذه الاسس في تعيين ولاته وعمّاله، فعمد إلى عزل من لا تتوفر فيهم هذه الشروط وإحلال من يتّصف بها محلّهم، ولم تثنه عن عزمه هذا كل محاولات الضغط والصد ; وقد كان من ابرزها ما روي عن ابن عباس أنه قال: أتيتُ عليّاً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدتُ المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرته هذه: ان لك حقّ الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وان الضياع اليوم يضيع به ما في غد، اقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيتُ عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا اعطي الدنيّة في أمري. قال: فان كنت أبيت عليّ فانزع من شئت واترك معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يُستمع منه، ولك حجة في اثباته، فقلت: لا والله لا استعمل معاوية يومين! ثم انصرف من عندي وأنا اعرف فيه أنه يودّ أني مخطئ، ثمّ عاد إليّ الآن فقال: اني اشرت عليك أول مرة بالذي اشرتُ وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى اللّهُ وهم أهون شوكة مما كان...

قال ابن عباس: فقلت لعليّ: يا اميرالمؤمنين أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: الحرب خدعة؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله لئن اطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك، فقال: يا ابن عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء. قال ابن عباس: فقلت له: اطعني والحق بما لك بينبع واغلق بابك عليك، فان العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فانك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحمِّلنك الناس دم عثمان غداً. فأبى علي فقال: تشير عليَّ وأرى، فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: افعل، ان أيسر ما لك عندي الطاعة. فقال له عليّ: تسير إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني اميّة... ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وان ادنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم عليّ لقرابتي منك، وإن كل ما حُمل عليك حمل عليَّ، ولكن اكتب إلى معاوية فمنّه وعده، فقال: لا والله، لا كان هذا أبداً!([243]).

ج ـ وهكذا كانت مصلحة الاسلام العليا هي المعيار الحاسم في ادارته لبيت مال المسلمين وتحقيق العدل والمساواة في العطاء ومراقبة ولاته وعمّاله وتوجيههم في طريقة ادائهم لوظائفهم الرسالية المناطة بهم، ولم تأخذه في الله لومة لائم وهو يحق الحق ويدفع الباطل في ذلك.

ومن أول وابرز خطواته لحفظ مصلحة الاسلام العليا في بيت مال المسلمين هو اعادة حق الله وحقوق المسلمين التي كانت قد اُخذت جوراً أو اغتُصبت ظلماً إلى بيت المال. وقد حاول المتضررون بذلك أن يثنوا اميرالمؤمنين(عليه السلام) عن خطواته هذه فأرسلوا اليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط مندوباً عنهم للتفاوض معه(عليه السلام)، فجاء اليه وقال: يا أبا الحسن انك قد وترتنا جميعاً،... ونحن اخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما اصبناه من المال،... وانا ان خفناك تركناك فالتحقنا بالشام.

فردّ عليهم: أما ما ذكرتم من وتري اياكم، فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما اصبتم، فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم([244]).

وعندما بادر اميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى رد ما اقتُطع على المسلمين قطع القوم املهم في ابقاء ما كان بحوزتهم من أموال المسلمين خصوصاً عندما أعلن الامام(عليه السلام)قراره الشهير الذي قال فيه: والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الاماء، لرددته، فان في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه اضيق([245])

ومن النماذج الرائعة في تحقيق العدل والمساواة في العطاء ما رواه ابراهيم الثقفي قائلاً:انّ طائفة من اصحاب علي(عليه السلام) مشوا اليه فقالوا: يا اميرالمؤمنين ! اعط هذه الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف خلافه من الناس وفراره.

فقال: أتأمروني أن اطلب النصر بالجور ؟ والله لا أفعل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، فكيف وانّما هي أموالهم.([246])

وقال أيضاً:إن امرأتين أتتا عليّاً(عليه السلام) عند القسمة ; احداهما من العرب والأخرى من الموالي، فأعطى كل واحدة خمسة وعشرين درهماً وكرّاً من الطعام، فقالت العربية: يا اميرالمؤمنين، اني امرأة من العرب، وهذه امرأة من العجم! فقال علي(عليه السلام): إني والله لا أجد لبني اسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بني اسحاق([247]).

ولم يستثن(عليه السلام) في العدل أحداً حتى من كان ذا فاقة من أهل بيته، فقد روى مسلم صاحب الحنا قائلاً: لما فرغ علي(عليه السلام) من أهل الجمل أتى الكوفة، ودخل بيت المال، ثم قال: يا مال غرَّ غيري. ثم قسّمه بيننا، ثم جاءت ابنة للحسن أو للحسين(عليهما السلام) فتناولت منه شيئاً، فسعى وراءها ففك يدها ونزعه منها، فقلنا: يا اميرالمؤمنين ان لها فيه حقاً، قال(عليه السلام): إذا أخذ أبوها حقه فليعطها ما شاء([248]).

وروى هارون بن سعيد انّ عبد الله بن جعفر بن ابي طالب قد قال له: يا اميرالمؤمنين، لو أمرت لي بمعونة أو نفقة، فو الله ما لي نفقة إلاّ أن أبيع دابّتي !! فقال الامام(عليه السلام): لا والله ما اجد لك شيئاً إلاّ أن تأمر عمّك أن يسرق فيعطيك([249]).

وروي أيضاً أن أخاه عقيلاً ـ وكان ضريراً ـ جاءه يوماً يطلب صاعاً من القمح من بيت مال المسلمين ـ زيادة على حقّه ـ وظل يكرر طلبه على علي(عليه السلام)، فما كان من الامام اميرالمؤمنين إلاّ وأحمى له حديدة على النار وأدناها منه، ففزع منها عقيل، ثم وعظه: يا عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى([250]).

أما النماذج الفريدة في مراقبة ولاته وعمّاله وقادة جيوشه وردعهم عن الباطل وارشادهم وتوجيههم نحو الحق والعدل والصواب ; فمنها ما روي أنه(عليه السلام)بلغه أن عثمان بن حنيف واليه على البصرة كان قد دُعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى اليها، فأرسل اليه اميرالمؤمنين كتاباً تأديبياً جاء فيه: أما بعد، يا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل اليك الجفان. وما ظننت انك تجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ، وغنيهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما ايقنت بطيب وجوهه فنل منه.

ألا وإن لكل مأموم اماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وانكم لا تقدرون على ذلك، ولكن اعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد([251]).

وكتب إلى مصقلة الشيباني عامله على اردشير خرّة مهدداً ومتوعداً ان هو اختار الباطل على الحق قائلاً: بلغني عنك أمر ان كنت فعلته فقد أسخطتإلهك، وعصيت امامك: انك تقسم فَيْءَ المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم، واُريقت عليه دماؤهم، فيمن اعتامك من اعراب قومك. فو الذي فلق الحبّة، وبرأ النسمة، لئن كان ذلك حقاً لتجدن لك عليّ هواناً، ولتخفّنّ عندي ميزاناً، فلا تستهن بحق ربك، ولا تصلح دنياك بمحق دينك، فتكون من الأخسرين اعمال([252]).

وكتب إلى بعض عماله يحاسبه قائلاً: أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد اسخطت ربك، وعصيت امامك، واخزيت امانتك. بلغني انك جرَّدت الأرض فأخذت ما تحت قدميك، وأكلت ما تحت يديك، فارفع اليّ حسابك، واعلم انّ حساب الله أعظم من حساب الناس([253]).

وفي بعض وصاياه(عليه السلام) لجيوشه قال: لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم ـ بحمد الله ـ على حجة، وترككم إيّاهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم. فاذا كانت الهزيمة باذن الله، فلا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً([254])، ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن اعراضكم، وسببن امراءكم([255]).

وكتب إلى امرائه على الجيش قائلاً: مِنْ عبدِ الله عليّ بن ابي طالب امير المؤمنين إلى اصحاب المسالح: أما بعد، فإنّ حقّاً على الوالي ألاّ يغيّره على رعيته فضلٌ ناله، ولا طول خُصّ به، وأن يزيدهُ ما قسم الله له من نعمة دنوّاً من عباده، وعطفاً على اخوانه.

ألا وإنّ لكم عندي ألاّ احتجز دونكم سرّاً إلاّ في حرب، ولا أطوي دونكم امراً إلاّ في حكم، ولا اُؤخر لكم حقّاً عن محلّه، ولا اقف به دون مقطعه، وان تكونوا عندي في الحق سواءً، فإذا فعلت ذلك وجبت لله عليكم النعمة، ولي عليكم الطاعة، وألاّ تنكصوا عن دعوة، ولا تفرِّطوا في صلاح، وان تخوضوا الغمرات إلى الحق، فان أنتم لم تستقيموا لي على ذلك لم يكن أحدٌ أهون عليّ ممّن اعوجّ منكم، ثم أُعظم له العقوبة، ولا يجد عندي فيها رخصة، فخذوا هذا من امرائكم، واعطوهم من أنفسكم ما يصلح الله به أمركم. والسلام([256]).

وهكذا امتلأت سيرة اميرالمؤمنين(عليه السلام) بمثل هذه المواقف الرائدة التي تحكي لنا اتخاذه مصلحة الاسلام العليا فيصلاً في خلافته وشؤونه الرسالية.

فاطمة الزهراء(عليها السلام) ومصلحة الاسلام العليا

إن ثاني نماذج السيرة الطاهرة لأهل البيت(عليهم السلام)، التي تكشف لنا اللحاظ الامثل لمصلحة الاسلام العليا، هو سيرة فاطمة الزهراء(عليها السلام) بنت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وزوجة وصيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، التي حكت هذا الاصل بكل وضوح وجلاء في كل مفردات حياتها، ومراحل واطوار سيرتها المباركة، وقد مهّد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)لها الارضية المناسبة لذلك، من خلال التعريف بمقامها، وبيان موقعها الفريد منه(صلى الله عليه وآله)، وتوجيه الامة نحوها، والوصية بحفظ مكانتها والتصديق بها ; لأنها الصادقة المحدّثة، وخفض الجناح لها، ورعاية شأنها، ووردت روايات كثيرة من الفريقين تكشف لنا عن كل ذلك باعلى مستويات الخطاب ودرجات البيان، منها :

عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : وإنما سماها فاطمة لأن اللّه فطمها ومحبيها عن النار ([257]).

قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : فاطمة بضعة مني ; من سرَّها فقد سرَّني، ومن ساءها فقد ساءني. فاطمة أعز الناس عليَّ ([258]).

قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : أول شخص يدخل الجنّة فاطمة ([259]).

كما أن امتثال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لامر اللّه تعالى في تزويجها من امير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)، جاء ليؤكد المقام الرفيع لها(عليها السلام)، والدور الرسالي العظيم الذي ينتظرها إلى جوار علي(عليه السلام). ذلك الدور الذي مثّل بحق تفانياً كاملاً في مصلحة الاسلام العليا، وتضحية وعطاءً لا حد له في سبيل الحفاظ على تلك المصلحة، ودرء الخطر والانحراف عن رسالة أبيها محمد(صلى الله عليه وآله).

ومما جاء في شأن اختيارها زوجة لامير المؤمنين علي(عليه السلام) ما عن علي(عليه السلام)قال : قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : أتاني ملك فقال : يا محمد، إن اللّه يقرأ عليك السلام ويقول لك : إني قد زوّجت فاطمة ابنتك من علي بن أبي طالب في الملأ الاعلى، فزوّجها منه في الارض ([260]).

وقول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : إن اللّه أمرني أن ازوّج فاطمة من علي ([261]).

وعن امير المؤمنين(عليه السلام) قال : إن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال : يا علي، إن اللّه أمرني أن اتخذك صهراً ([262]).

وقال الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) : إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها ([263]).

وقوله(صلى الله عليه وآله) : فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني ([264]).

وقوله(صلى الله عليه وآله) : يا علي، إن فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني وثمرة فؤادي، يسوؤني ما ساءها، ويسرني ما سرّها، وإنها أوّل من يلحقني من اهل بيتي فأحسن إليها بعدي ([265]).

وروي عن عائشة أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال ـ وهو في مرضه الذي توفي فيه ـ : يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين ؟ ([266]).

وعن يونس بن ظبيان قال : قال أبو عبد اللّه(عليه السلام) : لفاطمة(عليها السلام) تسعة اسماء عند اللّه عزوجل : فاطمة، والصديقة، والمباركة، والطاهرة، والزكية، والراضية، والمرضية، والمحدَّثة، والزهراء. ثم قال(عليه السلام) : أتدري أي شيء تفسير فاطمة؟ قلت : أخـبرني يا سيدي. قال : فطـمت من الشر. قال : ثم قال : لولا أن أمير المؤمنين(عليه السلام)تزوّجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الارض آدم فمن دونه ([267]).

وهي التي لعظمتها ومقامها الفريد لقّبها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بسيدة نساء العالمين ، فقد روي أن النبي(صلى الله عليه وآله)عاد فاطمة(عليها السلام) وهي مريضة، فقال لها : كيف تجدينك يا بنية ؟ قالت : إني لوجعة، وإنه ليزيدني أني مالي طعام آكله ، قال: يابنية، أما ترضين أنك سيدة نساء العالمين ؟ ([268]).

ومن النماذج التي ينقلها لنا التاريخ وأصحاب السيرة عن تفانيها سلام اللّه عليها في حفظ مصلحة الاسلام العليا، وتحمل كل المصائب والمحن والظلم في سبيل ذلك ما يلي :

أ ـ أنها كانت في المقدمة فيمن يواسي أباها ويشاركه في الشدّة والمحن، وتضميد جراحاته في الحروب وجراحات المؤمنين المقاتلين تحت لوائه ; ففي معركة أحد ـ وقد كانت تسند المسلمين وتضمد جراحات المقاتلين ـ شاهدت أباها وقد جرح وكسرت رباعيته، وخذله المنافقون، وشاهدت أيضاً عمّ ابيها حمزة شهيداً مع نخبة من المؤمنين على أرض المعركة، فأتت أباها وهي تبكي على عمها، وتحاول تضميد جرح رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وقطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف الطاهر، فكان زوجها علي(عليه السلام) يصب الماء على جرح رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وهي تغسله، ولما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعة صوف فأحرقتها، حتى صارت رماداً، فذرّته على الجرح حتى انقطع دمه.

ويقول الواقدي وهو يتحدّث عن رجوع النبي(صلى الله عليه وآله) من معركة اُحد : وكنّ جئن اربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، يحملن الطعام والشراب على ظهورهن، ويسقين الجرحى ويداوينهم ([269]).

ب ـ كان كل همّ الزهراء(عليها السلام) بعد وفاة ابيها هو اسناد امير المؤمنين والذبّ عنه، وإعانته على تجاوز المحن ورد المؤامرات والفتن التي يثيرها تجاههم القوم من اعدائهم، وهو دور لابدّ لها منه ; لمعرفتها أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قد اوصى امير المؤمنين بأن مصلحة الاسلام العليا بعد وفاته تكمن في حقن دماء المسلمين، ووقايتهم من عوامل الردة عن الاسلام، حتى وإن غصب حقه الالهي في الخلافة ; لأن اكثريتهم حديثو عهد به، فقد جاء عن امير المؤمنين(عليه السلام) أنه قال : إن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن، إنّ الامة ستغدر بك من بعدي ، وتنقض فيك عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى، وإن الامة من بعدي كهارون ومن اتبعه والسامري ومن اتبعه، فقلت : يا رسول اللّه، فما تعهد إليّ إذا كان كذلك ؟ فقال : إذا وجدت اعواناً فبادر إليهم وجاهدهم، وإن لم تجد اعواناً فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوماً.

فلما توفي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) اشتغلتُ بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه، ثم آليت على نفسي يميناً ألاّ أرتدي برداء إلاّ للصلاة حتى أجمع القرآن، ففعلت ثم اخذت بيد فاطمة وابنيَّ الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة، فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي، فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط : سلمان، وعمار، وأبو ذر، والمقداد، ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي، فأبوا عليَّ إلاّ السكوت، لما علموا من وغارة صدور القوم وبغضهم للّه ورسله ولأهل بيت نبيه ([270]).

وروي أن عليّاً(عليه السلام) لما رأى خذلان الناس له وتركهم نصرته لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلّفه ويجمعه، فلم يخرج حتى جمعه كلّه، فكتبه على تنزيله والناسخ والمنسوخ، فبعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع، فبعث إليه إني مشغول، فقد آليت بيمين ألاّ ارتدي برداء إلاّ للصلاة حتى أؤلّف القرآن وأجمعه، فجمعه في ثوب وختمه ثم خرج إلى الناس، وهم مجتمعون مع ابي بكر في مسجد الرسول(صلى الله عليه وآله)فنادى(عليه السلام)بأعلى صوته : أيها الناس، إني لم ازل منذ قبض رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مشغولاً بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب، فلم ينزل اللّه على نبيه آية من القرآن إلاّ وقد جمعتها كلّها في هذا الثوب، ليست منه آية إلاّ وقد اقرأنيها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وعلمني تأويلها، فقالوا : لا حاجة لنا به. عندنا مثله.

ثم دخل بيته فقال عمر لأبي بكر : أرسل إلى علي فليبايع، فإنّا لسنا في شيء حتى يبايع، ولو قد بايع أمنّاه وعائلته، فأرسل أبو بكر رسولاً أن أجب خليفة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، فأتاه الرسول فأخبره بذلك، فقال علي(عليه السلام) : ما اسرع ما كذبتم على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ! إنه ليعلم ويعلم الذين حوله أنّ اللّه ورسوله لم يستخلفا غيري، فذهب الرسول فأخبره بما قاله فقال : اذهب فقل أجب أمير المؤمنين أبا بكر، فأتاه فأخبره بذلك، فقال علي(عليه السلام) : سبحان اللّه ! واللّه ما طال العهد بالنبي منّي، وإنه ليعلم أنّ هذا الاسم لا يصلح إلاّ لي، وقد أمره رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)سابع سبعة فسلّموا علي بإمرة المؤمنين، فاستفهمه هو وصاحبه عمر من بين السبعة فقالا : أمر من اللّه ورسوله ؟ فقال لهما رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : نعم حقّاً من اللّه ورسوله إنه امير المؤمنين وسيد المسلمين وصاحب لواء الغرّ المحجلين، يعقده اللّه يوم القيامة على الصراط فيُدخِل اولياءه الجنة واعداءه النار.

قال : فانطلق الرسول إلى أبي بكر فأخبره بما قال، فكفّوا عنه يومئذ.

ثم ارسلا إليه بعد ذلك قنفذاً ـ وكان رجلاً فظّاً غليظاً جافياً من الطلقاء احد بني تيم ـ وارسلا معه اعواناً، فانطلق فاستأذن فأبى علي(عليه السلام) أن يأذن له، فرجع اصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا : لم يأذن لنا، فقال عمر : هو إن أذن لكم، وإلاّ فادخلوا عليه بغير إذنه.

فانطلقوا فاستأذنوا فقالت فاطمة(عليها السلام) : احرّج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير اذن، فرجعوا وثبت قنفذ فقالوا : إنّ فاطمة قالت كذا وكذا فحرّجتنا أن ندخل عليها البيت بغير إذن منها، فغضب عمر وقال : مالنا وللنساء ؟ ثم أمر أُناساً حوله فحملوا حطباً وحمل معهم فجعلوه حول منزله، وفيه علي وفاطمة وابناهما(عليهم السلام)، ثم نادى عمر حتى أسمع عليّاً(عليه السلام) : واللّه لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول اللّه، أو لأضرمنّ عليك بيتك ناراً، ثم رجع فقعد إلى أبي بكر وهو يخاف أن يخرج عليّ بسيفه لما قد عرف من بأسه وشدّته، ثم قال لقنفذ : إن خرج وإلاّ فاقتحم عليه، فإن امتنع فأضرم عليهم بيتهم ناراً.

فانطلق قنفذ فاقتحم هو واصحابه بغير إذن... وحالت فاطمة(عليها السلام) بين زوجها وبينهم عند باب البيت، فضربها قنفذ بالسوط على عضدها، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج من ضرب قنفذ إياها... ثم الجأها إلى عضادة بيتها، فدفعها فكسر ضلعاً من جنبها وألقت جنيناً من بطنها...([271]).

وروي عن الصادق(عليه السلام) أنه قال : لمّا استخرج امير المؤمنين(عليه السلام) من منزله خرجت فاطمة صلوات اللّه عليها خلفه، فما بقيت امرأة هاشمية إلاّ خرجت معها حتى انتهت قريباً من العتبة فقالت لهم : خلّوا عن ابن عمّي، فو الذي بعث محمداً أبي(صلى الله عليه وآله)بالحق إن لم تخلّوا عنه... لأضعنّ قميص رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) على رأسي ولأصرخنَّ إلى اللّه تبارك وتعالى، فما صالح بأكرم على اللّه من أبي، ولا الناقة بأكرم منّي، ولا الفصيل بأكرم على اللّه من ولديّ ([272]).

ج ـ عندما وجدت الزهراء(عليها السلام) أن وصية رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بالولاية والخلافة لعلي(عليه السلام) من بعده قد نقضت، وانقلب القوم على اعقابهم وارتدوا عنها، انطلقت من مبدأ المصلحة الاسلامية العليا وانبرت لأداء دورها الرسالي في هذا السبيل، موطّنة نفسها على كل المحن والمصائب والظلم التي ستحلّ بها ; فاستثمرت مسألة غصب فدك، وهي نحلة أبيها إليها، لتكون مدخلاً وطريقاً لإظهار الحقائق وتمييز الحق عن الباطل للأمة والأجيال اللاحقة، وإلقاءً للحجة التامة على القوم. وكان لهذا الأسلوب الإيجابي في المواجهة أثره البليغ في توجيه وعي الأمة، لتدرك الحق وتعلم من أهدره. وقد ظلّ هذا الدور حيّاً في ضمير الأمة ووجدانها، بالرغم من عدم تسنّم امير المؤمنين(عليه السلام)الخلافة، وعدم استرداد الزهراء حقّها في فدك آنذاك، وبقي ذلك علامة صارخة معبّرة عن مدى الظلم الذي لحق بأهل بيت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، والانحراف الذي وقع بعده. ولم يستطع اعداء اهل البيت(عليهم السلام)، وعلى رأسهم بني أمية، محو هذا الدور الرسالي الرائد للزهراء(عليها السلام) من صفحات التاريخ ومرويات رجاله، حتى لقد طفحت بها كتب أهل السنة كما طفحت بها كتب الشيعة.

ولنتصفح بعض مفردات ما ورد في بيان هذا الدور الفريد للزهراء(عليها السلام)، فقد ذكر المؤرخون أن فدك قرية من قرى الحجاز، بينها وبين المدينة مسيرة يومين أو ثلاثة أيام على ابعد التقادير، وتقع إلى جوار خيبر التي كانت من اكبر القرى اليهودية وأمنعها حصوناً، وبعد أن تغلب المسلمون على خيبر، بعد تلك المعارك الضارية بينهم وبين يهودها، واستولى عليها المسلمون، تركهم النبي(صلى الله عليه وآله) يعملون في الارض بنصف ناتجها والنصف الآخر للفاتحين، ولما انتهى النبي منها ضاق الأمر بسكان فدك، وأيقنوا أن النبي سوف يتجه إليهم، فاستولى عليهم الخوف وارسلوا إليه أنهم على استعداد لأن يسلموه الأرض وجميع ما يملكون، على أن يتركهم يعملون فيها بنصف الناتج كما صنع مع يهود خيبر، فوافق على ذلك فصالحهم على نصف ناتجها، وبذلك كانت خيبر ملكاً للمسلمين ; لأنهم استولوا عليها بالحرب، وفدك ملكاً للنبي(صلى الله عليه وآله) ; لأنه لم يوجف عليها بخيل أو ركاب، وقد وهبها النبي(صلى الله عليه وآله)لفاطمة الزهراء، وتركتها في يد النبي يتصرف بناتجها كما تريد، وتأخذ منه ما يكفيها وولدها، كما تجمع على ذلك المصادر الشيعية وبعض المصادر السنية.

عن حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال : لما بويع أبو بكر واستقام له الامر على جميع المهاجرين والانصار، بعث إلى فدك من أخرج وكيل فاطمة(عليها السلام)بنت رسول اللّه منها، فجاءت فاطمة الزهراء(عليها السلام)إلى أبي بكر ثم قالت : لِمَ تمنعني ميراثي من أبي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، واخرجت وكيلي من فدك وقد جعلها لي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بأمر اللّه تعالى ؟

فقال : هاتي على ذلك بشهود، فجاءت بأم أيمن، فقالت له أم أيمن : لا أشهد يا أبا بكر حتى احتج عليك بما قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، انشدك باللّه ألست تعلم أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)قال : أم أيمن امرأة من أهل الجنة ؟ فقال : بلى، قالت : فأشهد أن اللّه عزوجل أوحى إلى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : (وآت ذا القربى حقه) فجعل فدكاً لها طعمة بأمر اللّه، فجاء علي(عليه السلام) فشهد بمثل ذلك، فكتب لها كتاباً ودفعه إليها، فدخل عمر فقال : ما هذا الكتاب ؟ فقال : إن فاطمة(عليها السلام) ادّعت في فدك، وشهدت لها أم أيمن وعلي(عليه السلام)، فكتبته لها، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فتفل فيه ومزَّقه فخرجت فاطمة(عليها السلام) تبكي... ([273]).

وجاء في الدر المنثور للسيوطي عن البزاز وأبي يعلي وابن حاتم وابن مردويه عن سعيد الخدري أنه قال : لما نزلت الآية : (وآت ذا القربى حقه)دعا رسول اللّه فاطمة الزهراء واعطاها فدكاً كما روى ذلك جماعة عن ابن عباس وغيره.

كما جاء في شرح النهج عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بعد أن استولى على فدك، وهبها لفاطمة وظلت في يدها إلى أن توفي، وبعد وفاته انتزعها أبو بكر وضمها إلى اموال المسلمين([274]).

وجاء أيضاً أن فاطمة(عليها السلام) لما انصرفت من عند أبي بكر، أقبلت على امير المؤمنين(عليه السلام) فقالت له : يابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل (أضرعت خدّك يوم اضعت حدّك، افترست الذئاب وافترشت التراب، ماكففت قائلاً، ولا أغنيت باطلاً) هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نحيلة أبي، وبليغة ابنىّ ! واللّه لقد أجهر في خصامي وألفيته ألدّ في كلامي، حتى منعتني القيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع و لا مانع. خرجت كاظمة، وعدت راغمة، ولا خيار لي. ليتني متّ قبل هنيئتي، ودون ذلّتي، عذيري اللّه منه عادياً، ومنك حامياً، ويلاي في كل شارق ! ويلاي في كل غارب ! مات العمد، ووهن العضد، شكواي إلى أبي، وعدواي إلى ربي. اللّهم انك أشد منهم قوة وحولاً.

فأجابها أمير المؤمنين : لا ويل لك، بل الويل لشانئك، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة، وبقيّة النبوة، فما دنيت عن ديني، ولا اخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين البلغة، فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون. ما اعدّ لك خير ممّا قطع عنك، فاحتسبي اللّه. فقالت : حسبي اللّه ونعم الوكيل ([275])

وعندما وجدت الزهراء(عليها السلام) أن الاجواء قد تهيأت، والمقدمات قد حصلت ، قامت بدورها الاساسي الذي خططت له ببراعة في بيان الحقائق بالحجة الدامغة، وإظهار الحق الالهي لعلي(عليه السلام) بالخلافة وغصب القوم له ظلماً وجوراً ; فقد جاء في الروايات وكتب التاريخ الموثوقة أن الزهراء(عليها السلام)لمّا رأت اصرارهم على موقفهم، ارادت أن تعلن رأيها وظلامتها على اكبر جمهور من المسلمين، حتى لا تترك عذراً لمعتذر، واستغلت اجتماع المسلمين في مسجد ابيها في يوم من ايام الجمعة، فلاثت خمارها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، حتى دخلت على أبي بكر وعنده حشد كبير من المهاجرين والانصار في المسجد، وقيل في بيته كما جاء في رواية أخرى، وقد وصف حفيدها عبد اللّه بن الحسين بن الحسن السبط موقفها هذا فقال : لما دخلت عليهم ضرب أبو بكر بينهم وبينها ربطة بيضاء أو قبطية، ثم أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء، فأمهلتهم طويلاً حتى سكتوا، ثم قالت : ابتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد. الحمد للّه على ما أنعم به، وله الشكر بما الهم ومضت تعدد نعم اللّه على عباده ومواقف ابيها وتضحياته في سبيل الدعوة، حتى انقذهم من الضلال وعبادة الأوثان والاصنام، ثم توجهت إلى ذلك الحشد وقالت : أنتم عباد اللّه نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وامناء اللّه على انفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم، وزعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب اللّه الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بيّنة بصائره منكشفة سرائره، متجلية ظواهره، قائد إلى الرضوان اتباعه، مؤدٍّ إلى النجاة استماعه، به تنال حجج اللّه المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيّناته الجالية ومضت في خطبتها تقول: لقد جعل اللّه الايمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للاخلاص، والحج تشييداً للدين وظلّت تتحدث عن الفوائد التي يجنيها المسلم من فروع الاسلام واصوله، حتى خلصت إلى القول:

(لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)فإن تعزوه وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى([276])إليه، فبلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، مائلاً عن مدرجة المشركين، ضارباً ثبجهم، آخذاً بأكظامهم، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يكسر الاصنام، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر، وتفرّى الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين، وطاح وشيظ النفاق، وانحلت عقدة الكفر والشقاق، وفُهتُم بكلمة الاخلاص، وكنتم على شفا حفرة من النار مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الاقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القد، أذلّة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم اللّه بأبي محمد بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال، وذُؤبان العرب ، ومردة أهل الكتاب كلما اوقدوا ناراً للحرب اطفأها اللّه، أو نجم قرن للشيطان، وفغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات اللّه، مجتهداً في أمر اللّه، قريباً من رسول اللّه سيد أولياء اللّه، مشمراً ناصحاً مجدّاً كادحاً لا تأخذه في اللّه لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون، تتربصون بنا الدوائر، وتتوكّفون الاخبار، وتنكصون عند النزال، وتفرّون عند القتال. فلما اختار اللّه لنبيه دار انبيائه ومأوى اصفيائه، ظهرت فيكم حسكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم بدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم حفافاً وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب، والكَلْم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر، ابتداراً زعمتم خوف الفتنة (ألاَ في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنّى تؤفكون ؟ وكتاب اللّه بين أظهركم ، اُموره ظاهرة، واحكامه زاهرة، وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، واوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم . أرغبة عنه تريدون ؟ أم بغيره تحكمون، ؟ بئس للظالمين بدلاً (ومن يبتغِ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) ثم لم تلبثوا إلاّ ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها، ثم اخذتم تورون وقدتها، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، واطفاء أنوار الدين الجلي، واهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسواً في ارتغاء، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء، ويصير منكم على مثل حز المدى، ووخز السنان في الحشا، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من اللّه حكماً لقوم يوقنون)أفلا تعلمون ؟ بل قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته .

ثم التفتت إلى أبي بكر وقالت : أأغلب على إرثي يابن أبي قحافة ؟ أفي كتاب اللّه ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً ! أفعلى عمد تركتم كتاب اللّه ونبذتموه وراء ظهوركم ؟ إذ يقول : (وورث سليمان داود)([277])وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : (فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب)([278])وقال : (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه)([279])وقال : (يوصيكم اللّه في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين)([280])وقال (إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين)([281])وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي ولا رحم بيننا، أفخصكم اللّه بآية اخرج أبي منها ؟ أم هل تقولون : إنَّ أهل ملّتين لا يتوارثان ؟ أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة ؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي ؟ فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم اللّه، والزعيم محمّد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم .

ولم ير الناس اكثر باك ولا باكية منهم يومئذ. ثم رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت : يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الاسلام، ماهذه الغميزة في حقي والسِنة عن ظلامتي ؟ أما كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أبي يقول : المرء يحفظ في ولده ؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة ولكم طاقة بما احاول، وقوّة على ما اطلب وازاول. أتقولون مات محمّد(صلى الله عليه وآله) ؟ فخطب جليل استوسع وهنه، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه، واظلمت الأرض لغيبته،و كسفت الشمس والقمر وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت الآمال، وخشعت الجبال، واضيع الحريم، وازيلت الحرمة عند مماته، فتلك واللّه النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة عاجلة، أعلن بها كتاب اللّه جل ثناؤه، في افنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في افنيتكم هتافاً، وصراخاً، وتلاوة، وألحاناً، ولقبله ما حل بأنبياء اللّه ورسله، حكم فصل وقضاء حتم: (وما محمّد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشاكرين)([282])إيهاً بني قيلة ! أأُهضم تراث أبي ؟ وأنتم بمرأىً مني ومسمع، ومنتدىً ومجمع، تلبسكم الدعوة وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة. توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب، وتحمّلتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم البهم، لا نبرح أو تبرحون نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الاسلام، ودرّ حلب الايام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين فأنّى حزتم بعد البيان ؟ واسررتم بعد الاعلان ؟ ونكصتم بعد الاقدام ؟ وأشركتم بعد الايمان ؟ بؤساً لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وهموا باخراج الرسول، وهم بدءوكم أول مرة، أتخشونهم فاللّه أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.

ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض وابعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ووسعتم الذي تسوغتم. فإن تكفروا أنتم ومن في الارض جميعاً فإنّ اللّه لغني حميد .

ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنّها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة، وبثة الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظهر، نقبة الخف، باقية العار ، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فبعين اللّه ما تفعلون، (وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون)وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون ([283]).

ويبدو أن خطابها هذا في المسجد، وحديثها مع الأنصار قد احدثا جوّاً مشحوناً بالقلق، وظهرت على الكثير من المسلمين بوادر الندم، وأخذوا يتحدثون بظلامتها، وموقفهم المتخاذل منها ومن حق علي في الخلافة([284]).

د ـ لم تكتف الزهراء(عليها السلام) بهذا الاسلوب في المواجهة، وأداء دورها الرسالي المطلوب في احقاق مصلحة الاسلام العليا، بإظهار الحق وبيانه، وردع الباطل وإزهاقه، بل نهجت سبيلاً آخر يتكامل به دورها المعبر عن عقيدتها الراسخة، وحسّها المرهف، وإرادتها المتفانية في اللّه سبحانه، إدراكاً منها لضرورة إبقاء جذوة الحق ساخنة في ضمير الأمة ووجدانها، ولتنتقل صرختها وأنّاتها إلى الأجيال المتعاقبة بأن حق رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وأهل بيته(عليهم السلام) قد غُصب، وأنهم ظُلموا واضطهدوا ; لوقوفهم في وجه الانحراف الذي بدأ يدبّ في طريق الاسلام وسيرة رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله)، متخذاً نهجاً خطيراً لو استمر فإنه سيهدد اصول الاسلام وأركانه. وكان اسلوبها هذه المرة ذا طابع سلبي، تمثل بالمقاطعة المقرونة بالدموع والأنّات المفعمة ببيانات التظلم مما لحق بها وبأمير المؤمنين(عليه السلام)، وتنكّر القوم لهما ولوصية رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بهما، وبوجوب حبّهما واتّباعهما، وأنهما وابناءهما المعصومين الثقل الآخر بعد كتاب اللّه العزيز، وهما حبلان ممدودان إلى السماء لن ينقطعا حتى يردا عليه الحوض، وعلى ذلك اخذ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) البيعة والعهود منهم ومن عموم المسلمين.

وممّا ورد في ذلك بطرق مختلفة، ما عن سويد بن غفلة قال : لما مرضت فاطمة(عليها السلام) المرضة التي توفيت فيها، اجتمع إليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها ، فقلن لها : كيف اصبحت من علّتك يا ابنة رسول اللّه ؟ فحمدت اللّه وصلّت على أبيها(صلى الله عليه وآله) ثم قالت : اصبحت واللّه عائفة لدنياكنّ، قالية لرجالكنّ، لفظتهم بعد أن عجمتهم، وسئمتهم بعد أن سبرتهم، فقبحاً لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وقرع الصفاة، وصدع القناة، وخطل الآراء، وزلل الأهواء، وبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه عليهم وفي العذاب هم خالدون، لا جرم لقد قلدتهم ربقتها، وحملتهم أوقتها، وشننت عليهم غاراتها، فجدعاً، وعقراً، وبعداً للقوم الظالمين.

ويحهم أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الامين، والطبين([285])بأُمور الدنيا والدين. ألا ذلك هو الخسران المبين.

وما الذي نقموا من أبي الحسن ؟ نقموا منه واللّه نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات اللّه.

وتاللّه لو مالوا عن المحجّة اللائحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها، وحملهم عليها، ولسار بهم سيراً سجحاً لا يكلم حشاشه، ولا يكلّ سائره، ولا يملّ راكبه، ولأوردهم منهلاً نميراً صافياً رويّاً تطفح ضفتاه، ولا يترنّق جانباه، ولأصدرهم بطاناً، ونصح لهم سرّاً وإعلاناً، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ريّ الناهل، وشبعة الكافل، ولَبان لهم الزاهد من الراغب، والصادق من الكاذب (ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون)، (والّذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيّئات ما كسبوا وما هم بمعجزين) أَلا هلمّ فاسمع وما عشت اراك الدهر عجباً، وإن تعجب فعجب قولهم ليت شعري إلى أيّ سناد استندوا ؟! وإلى أي عماد اعتمدوا ؟! وبأية عروة تمسكوا ؟! وعلى أيّة ذرية أقدموا واحتنكوا، لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلاً، استبدلوا واللّه الذنابى بالقوادم، والعجز بالكاهل، فرغماً لمعاطس قوم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعاً (ألا إنّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)ويحهم (أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أم من لا يهِدّي إلاّ أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون) !.

أما لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملء القعب دماً عبيطاً، وذعافاً مبيداً. هنالك يخسر المبطلون، ويعرف الباطلون، غبّ ما أسس الاولون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفاً، واطمئنوا للفتنة جأشاً، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين، يدع فيئكم زهيداً، وجمعكم حصيداً، فيا حسرة لكم ! وأنّى بكم وقد عميت عليكم ؟ (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون)

قال سويد بن غفلة فأعادت النساء قولها(عليها السلام) على رجالهنّ، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والانصار معتذرين، وقالوا : يا سيدة النساء، لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن يبرم العهد، ويحكم العقد، لما عدلنا عنه إلى غيره، فقالت(عليها السلام) : إليكم عنّي، فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم ([286]).

هـ ـ ولعل من أبلغ ما عبّرت به فاطمة الزهراء(عليها السلام) في لحاظها لمصلحة الاسلام العليا، وحفظ بيضته وسلامته، واشهار مسألة غصب الولاية، والتنكر لعهد ووصية رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بها، هو وصيتها لعلي(عليه السلام)قبل موتها بأن يدفنها ليلاً ويخفي قبرها، ولا يُعلم بذلك احداً إلاّ خلّص اصحابه ; ليبقى ذلك علامة صارخة، وشاهداً بيّناً، ودليلاً دامغاً لاجيال المسلمين اللاحقة، على سخطها وغضبها من اولئك الذين نكثوا عهدهم مع رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في غدير خم، وغصبوا الخلافة من وصيه علي(عليه السلام) الذي نص عليه في آخر حجة الوداع، ومنعوها حقها في إرثها لفدك من أبيها، واهدروا كرامتها ولم يحفظوها أمانةً اوصاهم بها وبحفظ ذمارها ومقامها العظيم، الذي طالما أكد عليه الرسول(صلى الله عليه وآله) في كل موضع ومناسبة.

ومما ورد في ذلك أن فاطمة(عليها السلام) مرضت مرضاً شديداً، ومكثت اربعين ليلة في مرضها إلى أن توفّيت صلوات اللّه عليها، فلما نعيت إليها نفسها دعت أُم ايمن واسماء بنت عميس، ووجهت خلف علي واحضرته، فقالت : يابن عمّ، إنه قد نعيت إليّ نفسي، وإنني لا أرى مابي إلاّ أنني لاحقة بأبي الساعة أو بعد ساعة، وأنا أُوصيك بأشياء في قلبي .

قال لها علي(عليه السلام) : أوصيني بما أحببت يا بنت رسول اللّه فجلس عند رأسها، وأخرج من كان في البيت، ثم قالت : يابن عمّ، ما عهدتني كاذبة ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني فقال(عليه السلام) : معاذ اللّه ! أنت أعلم باللّه وأبرّ وأتقى وأكرم، وأشد خوفاً من اللّه من أن أُوبخك بمخالفتي. قد عزّ عليّ مفارقتك ... إلاّ أنّه أمر لابد منه. واللّه جدّدت عليّ مصيبة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا للّه وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها ! هذه واللّه مصيبة لا عزاء لها، ورزية لا خلف لها .

ثم بكيا جميعاً ساعة، وأخذ عليّ رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال : أوصيني بما شئت، فإنك تجديني فيها أمضي كما أمرتني به، وأختار أمرك على أمري ... ثم قالت : أوصيك يابن عمّ أن تتخذ لي نعشاً، فقد رأيت الملائكة صوّروا صورته فقال لها : صفيه لي فوصفته فاتخذه لها، فأول نعش عمل على وجه الارض ذاك.

ثم قالت : أوصيك ألاّ يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني واخذوا حقي، فإنهم عدوّي وعدوّ رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، ولا تترك أن يصلّي عليَّ أحد منهم، ولا من اتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون، ونامت الابصار ثم توفّيت صلوات اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها. فصاح أهل المدينة صيحة واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها، فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهن وهن يقلن : يا سيدتاه ! يا بنت رسول اللّه ! وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي(عليه السلام)، وهو جالس والحسن والحسين(عليهما السلام)بين يديه يبكيان، فبكى الناس لبكائهما.

وخرجت أم كلثوم وعليها برقعة، تجر ذيلها متجللة برداء عليها وهي تقول : يا ابتاه ! يا رسول اللّه ! الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء بعده ابداً .

واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون، وينتظرون أن تخرج الجنازة فيصلّون عليها، وخرج أبو ذر وقال : انصرفوا ; فإن ابنة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قد أُخّر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا.

فلما أن هدأت العيون، ومضى شطر من الليل، أخرجها علي، والحسن، والحسين(عليهم السلام)، وعمار، والمقداد، وعقيل، والزبير، وأبو ذر، وسلمان، وبريدة، ونفر من بني هاشم وخواصه، فصلوا عليها، ودفنوها في جوف الليل، وسوّى علي(عليه السلام)حواليها قبوراً مزوّرة مقدار سبعة ; حتى لا يعرف قبرها([287]).

فعندما تقلب اجيال المسلمين المتوالية بعدها صفحات تاريخها، ستجده مليئاً بالشواهد القطعية، والادلة الواضحة على أن الخلافة التي قامت بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) هي خلافة الرأي في مقابل نص رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وعهده لعلي(عليه السلام) بالامامة من بعده. وعليه فقد كان هناك خطان، هما خط الخلافة الحاكم الذي بدأ بشورى السقيفة، وتحول إلى الوراثة الملكية على عهد بني أمية، وخط الامامة لاهل البيت(عليهم السلام) بنص رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، الذي أُبعد عن مقامه الالهي، وواصل مسيرته في الأمة يحفظ الاسلام فيها من الانحراف، ويقي بيضته الخطر، ويسير بها على اساس من مصلحة الاسلام العليا.

اتقِ الله ولا تقس الدين برأيك 69

اتقوا تكذيب الله 58

اجعلتموني عليه رقيب 92

احرّج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير اذن 120

اخلفوني في اهل بيتي 55

إذا أنا دعوت فامّنو 51

إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله 76

إذا حُدِّثتم عني بالحديث فانحلوني أهنأه واسهله وارشده 57

اذكركم الله في اهل بيتي 55

ارأيتك لو حدثتك بحديث العام، ثم جئتني من قابل 78

ارفق بالنسوة يا أبا واقد، انهن من الضعائف 93

اشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له 15

اصبحت واللّه عائفة لدنياكنّ، قالية لرجالكنّ، 130

الإمامة نظام الأمة 39

الحبّ فرع المعرفة 17

الدين هو الحب، والحب هو الدين 17

الراسخون في العلم امير المؤمنين والأئمة من بعده 60

الزموا مودّتنا أهل البيت 8

الصراط ولايتنا أهل البيت 23

الصلاة يا اهل البيت الصلاة 50

الله اكبر على اكمال الدين وإتمام 54

اللهم ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك 25

اللّهم عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف رسولك 27

اللهم هؤلاء اهل بيتي وخاصتي 50

النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، 54

إليكم عنّي، فلا عذر بعد تعذيركم، ولا أمر بعد تقصيركم ، 132

إنّا اهل بيت من علم الله علمنا، ومن حكمه أخذن 59

إنّ اصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس 68

... إنّ الإمامة زمام الدين 39

إن الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن 77

إنّ السنة لا تقاس 68

إنّ السنة لا تقاس، وكيف تقاس السنة 67

إن العلم الذي هبط به آدم وجميع م 61

إن اللّه أمرني أن ازوّج فاطمة من علي 116

إن الله تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء 75

إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمة إل 75

إنّا نجيب الناس على الزّيادة والنقصان 78

إنّ تلك المجالس أُحبّها فأحيوا أمرن 39

إن خاصمتك بكتاب الله خصمتك 106

إن رسول اللّه9 أوعز إليَّ قبل وفاته وقال لي : يا أبا الحسن 118

إن سليمان ورث داود، وإن محمداً ورث سليمان، 23

انظروا اهل بيت نبيكم فألزموا سمتهم 61

انظروا علمكم هذا عمن تأخذونه 60

إنّ على كلّ حق حقيقة، وعلى كلّ صواب نور 80

إن فعلتَ ظفرت 103

ان قسّمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء 106

إن لمحبّينا في السرّ والعلانية 27

إنما مثل اهل بيتي فيكم 54

إنّما مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح 60

إنّي أُوشك أن أُدعى فأجيب 52

إنّي تارك فيكم الثقلين 6

إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله 23

إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله 60

إنّي تارك فيكم أمرين 49

إنّي لأحدث الرجل الحديث، وأنهاه عن الجدال 72

إني والله لا أجد لبني اسماعيل في هذا الفيء 111

إياك وخصلتين فيهما هلك من هلك 71

ايها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة 57

أتاني ملك فقال : يا محمد، إن اللّه يقرأ عليك السلام 116

أتأمروني أن اطلب النصر بالجور 111

أتجعله فينا، وصاحبه رجل يأتي في آخر الزمان 105

أثبتكم على الصراط أشدّكم حباً لأهل بيتي 17

أشير عليك ألاّ تأخذ من هذا الفضل 104

... أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم 100

ألا إن اهل بيتي امانٌ لكم فأحبوهم 60

ألا من كانت له قبل محمد أمانة فليأت 92

ألست أولى بكم من أنفسكم 55

أما إنه ليس عند أحد من الناس حقٌّ 59

أمّا بعد، فإنّه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء 72

أما بعد، فقد بلغني عنك أمر، إن كنت فعلته فقد اسخطت ربك 113

أما بعد، يا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجل 112

أما ما ذكرتم من وتري اياكم 110

... أنا رسول اللّه إلى الناس أجمعين 40

أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة 16

أنتم عباد اللّه نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، 125

أنت منّي بمنزلة هارون 26

أنزِلوا آل محمّد منزلة الرأس من الجسد 60

... أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء 108

أول شخص يدخل الجنّة فاطمة 115

أيّ رجل كان عليّ بن ابي طالب؟ فقد كان عندكم 74

أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم 56

أيها الناس، إنّ الله تبارك وتعالى أرسل اليكم الرسول 76

أيها الناس، إني لم ازل منذ قبض رسول اللّه9 مشغولاً بغسله 119

أيها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قلته 81

بلغني عنك أمر ان كنت فعلته فقد أسخطت 112

بل كلُّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه 77

بُني الاسلام على خمس 39

جعل الله... وطاعتنا نظام 23

حديث فوجدتم له شاهد 81

حديثي حديث ابي، وحديث ابي حديث جدي وحديث جدي 64

دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمر 107

رحم اللّه عبداً أحيا أمرن 39

سبحان اللّه ! واللّه ما طال العهد بالنبي منّي 120

سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن 18

شرقاً وغرباً لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ شيئ 59

علي مع الحق والحق مع علي 24

فابعث اليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء 104

فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني 116

فاطمة بضعة مني ; من سرَّها فقد سرَّني، ومن ساءها فقد ساءني 115

فانهم ]اهل البيت[ عيش العلم، وموت الجهل 56

فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت 37

فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الاسلام 101

فقال: خذوا به حتّى يبلغكم عن الحيّ 79

فقال: يرجئه حتى يلقى من يخبره 78

فلا تَقَدّموهما فتهلكو 18

فيها عشرة من الابل 74

فيهم ]اهل البيت[ كرائم القرآن 56

قال الله جلّ جلاله: ما آمن بي مَن فسَّر برأيه 58

قال في قول الله عزوجلّ: (ومن أضل ممّن اتّبع هواه 71

قد كثرت علي الكذابة وستكثر; فمن كذب علَيَّ 57

كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم 77

كذبوا ليس شيء إلاّ وقد جاء في الكتاب 68

كلّ شيء مردود إلى الكتاب والسنّة 81

كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل 59

كيف تجدينك يا بنية ؟ 117

لا. أما إنك إن اصبت لم تؤجر 68

لا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإنكم 113

لا تقس; فإنّ أول من قاس ابليس 68

لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب اللّهَ ورسوله 97

لا والله ما اجد لك شيئاً إلاّ أن 111

لا. ومالكم والقياس في ذلك 71

لا، وهل هلك من مضى إلاّ بهذا وأشباهه 72

لا يحبّ الله عبدٌ حتى يتولاّه 26

لعن الله اصحاب القياس; فإنهم غيّروا كلام الله 72

لفاطمة3 تسعة اسماء عند اللّه عزوجل : فاطمة، والصديقة، والمباركة 117

لمّا استخرج امير المؤمنين7 من منزله خرجت فاطمة 121

لمّا قبض رسول الله أقسمتُ ( أو حلفت ) ألاّ أضع 102

لَمبارزة علي بن أبي طالب لعمرو بن عبد ود يوم الخندق افضل من أعمال 97

ليس ذلك لك، اذن يقام عليك الحد 105

ما اسرع ما كذبتم على رسول اللّه9 119

ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدُّ كحدّ الدار 75

ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف 81

ما من شيء إلاّ وفيه كتاب أو سنّة 76

مثل أهل بيتي كسفينة نوح 24

مر صاحبك ينزل بجيوش المسلمين إلى بيت المقدس 105

مُر نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به 103

مسّتهم البأساء والضرّاء، وزلزلوا وفتنو 28

من افتى الناس برأيه فقد دان الله 68

من أحبّنا كان معنا يوم القيامة 26

من تحاكم اليهم في حقّ أو باطل 79

من جلس مجلساً يحيي فيه أمرن 41

... من سرّه أن يحيا حياتي 40

مِنْ عبدِ الله عليّ بن ابي طالب امير المؤمنين إلى اصحاب المسالح 113

من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّاً فليكتف بما يعلم منّ 78

من قال عليَّ ما لم أقله فليتبوّأ مقعده من النار 58

نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله 60

نحن الشعار والاصحاب، والخزنة والابواب 61

نحن اهل البيت لا يقاس بنا أحد 55

نحن شجرة النبوّة ومحطّ الرسالة 61

نحن ورثة أُولي العزم من الرسل 23

نحن ]اهل البيت [شجرة النبوة ومحطّ الرسالة 55

واعلموا أني ان اجبتكم ركبت بكم 108

والله لو وجدته قد تزوج به النساء 110

والله لهي أحَبّ إليّ من امرتكم 107

وإنما سماها فاطمة لأن اللّه فطمها ومحبيها عن النار 115

وبعد أن مني ببُهَمِ الرجال وذؤبان العرب 94

وكنّ جئن اربع عشرة امرأة، منهن فاطمة بنت رسول اللّه 118

ولن تضّلوا أبدا 8

هذا رجل من أولياء الله: لا يرجو الجنة 104

هذه النار مدبرة مصنوعة 103

هل الدين إلاّ الحب 17

هيهات لا يخدع الله عن جنته 28

يا ابن عباس لست من هناتك ولا من هنات 109

يابن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين 123

يابن عمّ، إنه قد نعيت إليّ نفسي، وإنني لا أرى مابي إلاّ أنني لاحقة بأبي، 132

يا جابر، لا تذهبنّ بك المذاهب 17

يا زرارة، اياك واصحاب القياس في الدين 71

يا زياد، ما تقول لو أفتينا رجلاً ممّن يتولاّن 78

يا عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه 112

يا علي ! انّ الروح الأمين هبط عليّ 91

يا علي، إن اللّه أمرني أن اتخذك صهراً 116

يا عليّ! انّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك 99

يا علي، إن أول أربعة يدخلون الجنة 28

يا علي، لا يحبّك إلاّ مؤمن 24

يا علي! هذا كتاب الله خذه إليك 102

يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين 117

يا مال غرَّ غيري 111

يا نعمان، ما الذي تعتمد عليه فيم 70

يا يونس! إذا أردت العلم الصحيح فخذ عن اهل البيت 60

الامام الحسن(عليه السلام) ومصلحة الاسلام العليا

إن المقام المقدس الذي حظي به الامام الحسن(عليه السلام) على لسان جده رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، يدفعنا لمزيد من التأمل في سيرته المباركة، بكل ما تحتويه من جوانب عظمة وكمال ذاتية وحكمة وسداد رسالي، والذي نراه ينسجم تماماً مع وصف رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) له وموضعه منه فيما ورد عنه(صلى الله عليه وآله) في حقه(عليه السلام) منها:

عن علي بن الحسين(عليه السلام) قال: لما ولدت فاطمة الحسن(عليه السلام) قالت لعلي(عليه السلام): سمّه، فقال: ما كنت لأسبق باسمه رسول اللّه، فجاء رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال: ألم أنهاكم أن تلفوه في خرقة صفراء؟! ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفّه فيها، ثم قال لعلي(عليه السلام): هل سميته؟ فقال: ما كنت لأسبقك باسمه، فقال(صلى الله عليه وآله) : وما كنت لأسبق باسمه ربي عزَّوجل.

فأوحى اللّه تبارك وتعالى إلى جبرئيل أنه قد ولد لمحمد ابن، فاهبط فأقرئه السلام وهنئه وقل له: إن علياً منك بمنزلة هارون من موسى، فسمّه باسم ابن هارون، فهبط جبرئيل(عليه السلام)فهنأه من اللّه عزَّوجل ثم قال: إن اللّه تبارك وتعالى يأمرك أن تسميه باسم ابن هارون، قال: وما كان اسمه؟ قال: شبَّر، قال: لساني عربي، قال: سمه الحسن، فسمّـاه الحسن ([288]).

وقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، وأبوهما خير منهما ([289]).

وعن زينب بنت أبي رافع عن امها قالت: قالت فاطمة(عليها السلام): يا رسول اللّه، هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي ([290]).

وعن البراء بن عازب قال: رأيت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) واضعاً الحسن على عاتقه فقال: من أحبني فليحبه ([291]).

وقوله(صلى الله عليه وآله): اللهم إني أحبه فأحبه واحب من يحبه قال: وضمّه إلى صدره ([292]).

واجتمع أهل القبلة على أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ([293]).

ولو سبرنا حياة الامام الحسن المجتبى(عليه السلام) لوجدنا ذات الخط الذي نهجه أبوه أمير المؤمنين(عليه السلام) وأمه فاطمة الزهراء(عليها السلام)، يتجسد مرة أخرى في سيرته الرسالية ، حيث لم ير مصلحة فوق مصلحة الاسلام العليا، ولا قيمة لشيء اكبر من قيمتها، بل لقد ارخص سلام اللّه عليه كل شيء في سبيلها، لأنها سبيل اللّه وكلمته العليا.

ولنأخذ من مواقفه الكبرى في هذا السبيل بعض النماذج المتميزة في عهود اساسية ثلاث من سيرته المباركة:

1 ـ في عهد عثمان: ونستلّ من سيرة الامام الحسن المجتبى(عليه السلام)، في هذا العهد مجالين هما:

أ ـ مشاركته في الكثير من حروب الدفاع عن بيضة الاسلام، وفي كثير من الفتوحات الاسلامية أيام خلافة عثمان، منطلقاً من مقولة أبيه امير المؤمنين(عليه السلام) في رعاية مصلحة الاسلام العليا التي كررها في اكثر من موضع: واللّه لأسلِمن ما سلمت اُمور المسلمين، ولم يكن جورٌ إلاّ عليّ خاصّة ([294]).

وقد نقلت لنا كتب التاريخ ومروياته هذه الحقيقة، وممّا جاء فيها: إن الامام أبا محمد الحسن(عليه السلام) كان قد بلغ العشرين عاماً أو تزيد، وقد برز بين اعيان المسلمين في مواهبه العالية وتطلعاته إلى حقائق الأمور ومشكلاتها، ومضى مع أبيه يتجرع مرارة تلك الأحداث القاسية، ويترقب معه الوقائع والاحداث، ويعملان لصالح الاسلام. وانضمّ الحسن إلى جنود المسلمين الذين اتّجهوا إلى إفريقيا بقيادة عبد اللّه بن نافع وأخيه عقبة في جيش بلغ عشرة آلاف مجاهد، كما جاء في العبر لابن خلدون، وتطلع المسلمون إلى النصر والفتح متفائلين بوجود حفيد الرسول وحبيبه يجاهد معهم، وكانت الغزوة ناجحة وموفقة كما يصفها المؤرخون، وعاد الحسن منها إلى مدينة جده وقلبه مفعم بالسرور، وعلامة الارتياح بادية على وجهه الكريم لانتشار الاسلام في تلك البقعة من الارض.

كما جاء في تاريخ الأمم والملوك في حوادث سنة ثلاثين للهجرة أن سعيد بن العاص غزا خراسان، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من اصحاب رسول اللّه والحسن والحسين وعبد اللّه بن عباس، ومضى سعيد ومعه الحسن والحسين إلى جرجان، فصالحوه على مئتي الف، ثم هاجم طمية وهي تابعة لطبرستان ومتاخمة لجرجان، على حد تعبير الطبري، على ساحل البحر، فقاتلهم اهلها قتالاً شديداً وصلى المسلمون صلاة الخوف، واخيراً انتصر المسلمون في تلك المناطق كما نصّ على ذلك ابن خلدون وغيره من المؤرخين.

وجاء في الفتوحات الاسلامية وغيرها أن سعيد بن العاص غزا طبرستان سنة ثلاثين من الهجرة، وكان الاجهيد قد صالح سويد بن مقرن على مال بذله في عهد عمر بن الخطاب، وفي عهد عثمان بعد استيلائه على السلطة بخمس سنوات تقريباً، جهز اليهم جيشاً بقيادة سعيد بن العاص، كان فيه الحسن والحسين وعبد اللّه بن العباس وغيرهم من اعيان المهاجرين والانصار، وتم لهم الاستيلاء على تلك المناطق والتغلب عليها.

وتؤكد اكثر المرويات أن الحسن والحسين قد اشتركا في كثير من الفتوحات الاسلامية، وكان لهما دور بارز في سير تلك المعارك التي كانت تدور رحاها بين المسلمين وغيرهم ([295]).

ب ـ كان موقفه من خلافة عثمان وما آلت إليه هو موقف ابيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، معبراً فيه عن كامل الطاعة والالتزام بأوامره وتوجيهاته في تلك الفترة العصيبة والفتنة العمياء، خصوصاً بعد أن ملّ المسلمون سياسة عثمان وأعوانه وعماله. وتنقل لنا كتب التاريخ وقائع تلك الفترة، ومنها أنه بعد فشل كل المحاولات التي بذلها المسلمون لاصلاح سياسة عثمان وأعوانه وعماله، وخوفهم على دينهم ودنياهم، زحفوا إليه من جميع الاقطار، ودخلوا في مفاوضات معه يطالبونه بإصلاح ما أفسده هو وعماله، أو بالتخلي عن السلطة، وكان أمير المؤمنين(عليه السلام)وولده الحسن وسيطين بين الخليفة ووفود الامصار في محاولة للاصلاح، ووضع حدّ للفساد الذي شمل جميع مرافق الدولة، وكانا كلما أشرفا على النجاح، ووضعا الحلول الكفيلة بالاصلاح وارجاع الثوار إلى بلادهم، جاء مروان ونقض كل ما أُبرم بين الطرفين من حلول واتفاقات، حتى تعقدت الامور اخيراً وهاجمه الثوار بتحريض من عائشة وطلحة والزبير، وقالت لهم عائشة كما تؤكد ذلك اكثر المرويات: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. وأخرجت للمسلمين قميص رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وقالت بصوت سمِعه الجميع: هذا قميص رسول اللّه لم يبل وقد أبلى عثمان سنّته. كما تؤكد المصادر الموثوقة أن طلحة لم يقتصر دوره على التحريض على عثمان، بل اشترك معهم وسهل لهم الوصول إلى داره للقضاء عليه في حين أن أمير المؤمنين ـ كما يدعي الرواة ـ قد ارسل ولديه حسناً وحسيناً ليدفعا عنه الثوار.

وجاء في رواية ابن كثير أن الحسن بن علي قد أُصيب ببعض الجروح وهو يدافع عنه. ومما لا شك فيه أن أمير المؤمنين وولديه الحسن والحسين(عليهم السلام)، كانوا كغيرهم من خيار الصحابة ناقمين على تصرفات عثمان وأنصاره وعماله، ومع ذلك لم يبلغ بأمير المؤمنين(عليه السلام) الحال إلى حدود الرضا بقتله والتحريض عليه، بل وقف منه موقفاً سليماً وشريفاً، أراد من عثمان أن ينتهج سياسة تتفق مع منهج الاسلام، وأن يجعل حدّاً لتصرفات ذويه وعماله الذين أسرفوا في تبذير الاموال واستعمال المنكرات، وأراد من الثائرين عليه أن يقفوا عند حدود المطالبة بالاصلاح الشامل لجميع مرافق الدولة، وألاّ تتخذ ثورتهم طابع العدوان والانتقام، واستطاع في المراحل الأولى من وساطته أن يضع حدّاً للصراع القائم بين الطرفين بما يحفظ لكل منهما حقه، لولا أن مروان بن الحكم قد أفسد كل ما أصلحه الامام(عليه السلام) وظلّ الامام إلى آخر لحظة يتمنى على عثمان أن يتخذ موقفاً سليماً حتى يُتاح له أن يعالج الموقف في حدود ما انزل اللّه([296]).

2 ـ في عهد خلافة ابيه امير المؤمنين(عليه السلام): وفي هذا العهد كان الامام الحسن السبط(عليه السلام) ظلاًّ لأبيه في كل ما تتطلبه مسألة الولاء لامامه خليفة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وجندياً واعياً مطيعاً لكل أوامره. وقد تجلى دوره هذا على طول الأيام الحاسمة، والصراع المرير الذي عاشه والده أمير المؤمنين(عليه السلام). ومن مهماته المشهودة في تلك الفترة:

أ ـ دوره في حرب الناكثين المعروفة بحرب الجمل: وهي الحرب التي استعرت في إثر تمرد طلحة والزبير في البصرة، ورفعهما السلاح بوجه أمير المؤمنين علي(عليه السلام)بقيادة عائشة. وقد تمثل دور الامام الحسن(عليه السلام) فيها بأمرين اساسيين:

أولاً: لما توجه أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى ذي قار ونزلها، أرسل الامام الحسن المجتبى(عليه السلام) إلى الكوفة مع عمار بن ياسر وزيد بن حومان وقيس بن سعد، ليستنفروا اهلها لمساعدته على طلحة والزبير، وكان قد أرسل قبلهم وفداً فعارضهم أبو موسى ولم يستجب لطلب أمير المؤمنين(عليه السلام)، ومضى الحسن بمن معه باتجاه الكوفة، ولمّا دخلوها استقبلهم اهلها فقرأ عليهم كتاب ابيه، ووقف أبو موسى نفس الموقف الذي وقفه مع الوفد الأول، وافتعل حديثاً عن النبي ليثبط الناس عن مساعدة أمير المؤمنين، وادّعى أنه سمعه يقول: ستكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم، والنائم خير من القاعد . فرد عليه عمار بن ياسر وقال: إذا صح أنك سمعت رسول اللّه يقول ذلك فقد عناك وحدك، فالزم بيتك. أمّا أنا فأُشهد اللّه أن رسول اللّه قد امر عليّاً بقتال الناكثين وسمّى لي منهم جماعة، وامره بقتال القاسطين، وإن شئت لأقيمن لك شهوداً أن رسول اللّه قد نهاك وحدك وحذّرك من الدخول في الفتنة .

ووقف الحسن(عليه السلام) يستنفر الناس فحمد اللّه وصلى على رسوله ثم قال: أيها الناس، إنّا جئنا ندعوكم إلى اللّه وكتابه وسنّة رسوله، وإلى افقه من تفقه من المسلمين وأعدل من تعدلون وأفضل من تفضلون وأوفى من تبايعون، مَنْ لم يعبه القرآن ولم تجهله السنّة ولم تقعد به السابقة. ندعوكم إلى من قرّبه اللّه ورسوله قرابتين ; قرابة الدين وقرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى اللّه به رسوله والناس متخاذلون، فقرب منه وهم متباعدون، وصلى معه وهم مشركون، وقاتل معه وهم منهزمون، وبارز معه وهم محجمون، وصدقه وهم يكذبون، وهو سائلكم النصر ويدعوكم إلى الحق ويأمركم بالمسير إليه لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا ببيعة، وقتلوا اهل الصلاح من أصحابه، ومثلوا بعمّاله، ونهبوا بيت ماله. فاشخصوا إليه رحمكم اللّه .

وفي رواية ثانية عن جابر بن يزيد أنه قال: حدثني تميم بن جذيم التاجي أن الحسن بن علي(عليه السلام)وعمار بن ياسر قدما الكوفة يستنفران الناس إلى علي(عليه السلام)ومعهما كتابه، فلما فرغا من قراءته قام الحسن فرماه الناس بأبصارهم وهم يقولون: اللّهم سدّد منطق ابن بنت نبيّك، فوضع يده على عمود يتساند إليه، وكان عليلاً من شكوى به، فقال: الحمد للّه العزيز الجبار الواحد الأحد القهار الكبير المتعال، سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وساربٌ بالنهار، احمده على حسن البلاء وتظاهر النعماء، وعلى ما احببنا وكرهنا من شدة ورخاء، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمداً عبده ورسوله، امتنّ بنبوته واختصه برسالته وأنزل عليه وحيه واصطفاه على جميع خلقه، وأرسله إلى الإنس والجنّ حين عُبدت الاوثان وأُطيع الشيطان وجُحد الرحمن، فصلى اللّه عليه وعلى آله وجزاه افضل الجزاء، أما بعد فإني لا اقول لكم إلاّ ما تعرفون ; إن امير المؤمنين علي بن ابي طالب أرشد اللّه امره وأعزّ نصره بعثني اليكم يدعوكم إلى الصواب والعمل بالكتاب والجهاد في سبيل اللّه، وإن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فإن في آجله ما تحبّون إن شاء اللّه، ولقد علمتم بأنّ عليّاً صلى مع رسول اللّه وحده، وأنه يوم صدق به لفي عاشرة من عمره، ثم شهد مع رسول اللّه جميع مشاهده، وكان من اجتهاده في مرضاة اللّه وطاعة رسوله وآثاره الحسنة في الاسلام ما قد بلغكم، ولم يزل رسول اللّه راضياً عنه حتى غمضه بيده وغسله وحده والملائكة اعوانه، والفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم ادخله حفرته، وأوصاه بقضاء دينه وعداته وغير ذلك من اموره، كل ذلك من منّ اللّه عليه، ثم ـ واللّه ـ ما دعا إلى نفسه، ولقد تداكّ الناس عليه تداكّ الابل الهيم عند وردها فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث احدثه ولا خلاف أتاه حسداً له وبغياً عليه، فعليكم عبادَ اللّه بتقوى اللّه وطاعته والجدّ والصبر والاستعانة باللّه، والاسراع إلى ما دعاكم إليه. عصمنا اللّه وإيّاكم بما عصم به أولياءه وأهل طاعته، وألهمنا وإيّاكم تقواه وأعاننا وإيّاكم على جهاد اعدائه. واستغفر اللّه لي ولكم

وبعد جدال طويل وحوار بين عمار بن ياسر والحسن بن علي(عليه السلام) من جهة، وبين أبي موسى الأشعري، التفت الحسن(عليه السلام) إلى أبي موسى وقال له: اعتزل عملنا لا أُمّ لك وتنحَّ عن منبرنا وظلّ أبو موسى على موقفه المتصلّب يخذّل الناس ويوحي إليهم بأن رسول اللّه قد أمرهم باعتزال هذه الفتنة، حتى جاء مالك الأشتر ودخل القصر وأخرج منه الحرس، هذا وأبو موسى في جدال مع الحسن(عليه السلام) وعمار، فجاءه الغلمان والحرس يشتدون إليه وأخبروه بما صنع الأشتر، فخرج من المسجد مذموماً مدحوراً، واستجاب الناس لنداء الحسن(عليه السلام)، وخرج معه إلى البصرة اثنا عشر ألفاً، وكان أمير المؤمنين قد اخبر بعددهم وهو في ذي قار كما جاء في رواية الشعبي عن أبي الطفيل، وأضاف إلى ذلك أبو الطفيل يقول: واللّه لقد قعدت على الطريق وأحصيتهم واحداً واحداً فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً ([297]).

ثانياً: شارك الامام الحسن(عليه السلام) في حرب الجمل إلى جنب أمير المؤمنين(عليه السلام)، وحمل رايته وانتصر بها على الناكثين. ومما أجمع عليه المؤرخون في ذلك أنه لمّا زحف أمير المؤمنين في كتيبته الخضراء التي جمعت المهاجرين والأنصار، وحوله أولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وكان قد اعطاه الراية، فحمل بها على أنصار عائشة ومضى يتقدم بها حتى تزعزعت صفوفهم، فقال له الانصار: واللّه يا أمير المؤمنين لولا ما جعل اللّه تعالى للحسن والحسين لما قدّمنا على محمد أحداً من العرب، فقال لهم أمير المؤمنين: اين النجم من الشمس والقمر؟ أما إنه قد أغنى وأبلى وله فضله، ولا ينقص فضل صاحبيه عليه، وحسب صاحبكم ما انتهت به نعمة اللّه تعالى عليه. فقالوا له: يا أمير المؤمنين، إنّا واللّه لا نجعله كالحسن والحسين، ولا نظلمهما له ولا نظلمه لفضلهما عليه حقه. فقال: اين يقع ابني من ابنَيْ بنت رسول اللّه؟ ([298])

ب ـ دوره في حرب القاسطين المعروفة بحرب صفين: وهي حرب البغاة في الشام التي قادها معاوية بن أبي سفيان خروجاً على خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهكذا أيضاً كان دور الامام الحسن(عليه السلام) فيها كدوره في حرب الجمل، بل زاد عليه ; حيث قام بتعبئة المسلمين للجهاد وبذل جهده لإحباط مؤامرة التحكيم والاحتجاج على المنادين به. ونلخص هذا الدور بما يلي:

أولاً: وقف الامام الحسن(عليه السلام) خطيباً يعبّئ المسلمين لجهاد القاسطين البغاة بقيادة معاوية بن أبي سفيان فقال: الحمد للّه لا إله غيره ولا شريك له، وإنه ممّا عظم اللّه عليكم من حقّه وأسبغ عليكم من نعمه مالا يحصى ذكره ولا يؤدى شكره ولا يبلغه قول ولا صفة، ونحن إنّما غضبنا للّه ولكم، وإنه لم يجتمع قوم قطّ على أمر واحد إلاّ اشتدّ امرهم واستحكمت عقدتهم، فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية وجنوده، ولا تتخاذلوا، فإن الخذلان يقطع نياط القلوب، وإن الإقدام على الأسنّة نخوة وعصمة. لم يتمنع قوم قطّ إلاّ رفع اللّه عنهم العلّة، وكفاهم حوائج الذلّة، وهداهم إلى معالم الملّة ثم أنشد:والصلح تأخذ منه ما رضيت به***والحرب يلفيك من أنفاسها جرع([299]) ثانياً: لقد عبّر الامام الحسن(عليه السلام) عن ولائه المطلق لأبيه أمير المؤمنين(عليه السلام)في محنته هذه، مستخفّاً بإغراء البغاة له بالخلافة دون أبيه. فقد روي أن عبيد اللّه بن عمر ارسل إلى الحسن بن علي أن لي حاجة، وكان إلى جانب معاوية بن أبي سفيان، فلقيه الامام أبو محمد الحسن، فقال له عبيد اللّه: إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً، وقد شنئه الناس، فهل لك في خلعه وتتولى أنت هذا الأمر؟ فقال له الحسن(عليه السلام): كلاّ، واللّه لا يكون ذلك أبداً ومضى يقول: يابن الخطّاب، واللّه لَكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك. أما إن الشيطان قد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك متخلّقاً بالخلوق ; ترى نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك اللّه ويبطحك لوجهك قتيلاً .

ثم انصرف كل منهما إلى جهته. ونقل احد الرواة قال: فو اللّه ما كان إلاّ بياض ذلك اليوم، حتى قُتل عبيد اللّه وهو في كتيبة رقطاء تدعى الخضرية، وكان في اربعة آلاف عليهم ثياب خضر، فمرّ الحسن بن علي(عليه السلام)، وإذا برجل متوسّد برجل قتيل قد ركز رمحه في عينه وربط فرسه برجله، فقال الحسن لمن معه: انظروا مَنْ هذا؟ فإذا رجل من همدان، وإذا القتيل عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب قد قتله الهمداني في أول الليل وبات عليه حتى أصبح ([300]).

ثالثاً: كان للامام الحسن(عليه السلام) دور مشهود في الاحتجاج على من نادى بالتحكيم وقبل به، كاشفاً عن حقيقة الموقف وما يكمن وراءه من مؤامرة شيطانية لتفريق جيش أمير المؤمنين(عليه السلام) وتمزيقه داخليّاً. وممّا روي في ذلك أن أمير المؤمنين(عليه السلام) بعد أن أعيته السبل في التحذير من التحكيم وأنه خدعة ومؤامرة، استسلم مكرهاً لرغبة القوم، فكانت مهزلة التحكيم التي انتهت بخذلان أبي موسى الأشعري للامام علي(عليه السلام)، فساد الاضطراب معسكر أمير المؤمنين(عليه السلام)، وبدت ظواهر التمزق والتفرق تسود أوساط جيشه، وأخذ كلّ فريق يتبرّأ من الآخر ويشتمه، فلم يجد الامام علي(عليه السلام) سبيلاً لدرء هذه المفسدة وبيان الحقّ وكشف حقيقة التحكيم وبطلانه، إلاّأن يقدم الامام الحسن المجتبى(عليه السلام) ليقوم بهذه المهمة الرسالية قائلاً له: قم يا بني فقل في هذين الرجلين عبد اللّه بن قيس، وعمرو بن العاص ، فقام الامام السبط خطيباً فقال: أيّها الناس، قد اكثرتم في هذين الرجلين، وإنّما بُعثاليحكما بالكتاب على الهوى، فحكما بالهوى على الكتاب، ومن كان هكذا لم يُسمَّ حكماً ولكنه محكوم عليه، وقد أخطأ عبد اللّه بن قيس إذ جعلها لعبد اللّه بن عمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة أنه خالف أباه إذ لم يرضه لها، ولا جعله في اهل الشورى، وأخرى أنه لم يستأمره في نفسه، وثالثة: أنه لم يجتمع عليه المهاجرون والانصار الذين يعقدون الإمارة ويحكمون بها على الناس، وأمّا الحكومة فقد حكّم النبي(صلى الله عليه وآله)سعد بن معاذ، فحكم بما يرضي اللّه به، ولا شكّ لو خالف لم يرضه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ([301]).

وبذلك أظهر الامام السبط حقيقة الموقف، وكشف عن زيف التحكيم، وخطل رأي أبي موسى الاشعري الذي انتخبته الغوغاء من جيش الامام علي(عليه السلام)ومكنته من الموقف دون رويّة وتدبّر، رغم أنه معروف بسوء سريرته.

وهكذا كان الامام الحسن(عليه السلام) سنداً وظهيراً لأبيه أمير المؤمنين(عليه السلام)إلى آخر لحظة من حياته، وكان يعاني مايعانيه أبوه من اهل العراق ويتألّم لآلامه ومحنه، وهو يرى معاوية يحوك المؤامرة تلو الاخرى، ويبثّ مرتزقته في انحاء العراق لتثبيط المسلمين عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ويغري القادة والزعماء بالأموال والمناصب حتى فرق اكثرهم عنه، وأصبح أمير المؤمنين يتمنى فراقهم بالشهادة في سبيل اللّه، ولطالما بكى وقبض على كريمته وهو يقول: متى يبعث اشقاها فيخضب هذه من هذا؟! ، والحسن(عليه السلام) يرى كل ذلك وتأخذه الحسرة والألم لما يحيط بأبيه من المتاعب والمحن والفتن.

3 ـ في أيام خلافته(عليه السلام): لقد أجمع المؤرخون أن خلافته كانت في صبيحة اليوم الذي دفن فيه أمير المؤمنين(عليه السلام)، وبعد الفراغ من إنزال حكم اللّه بقتل ابن ملجم، فقد ضربه ضربة واحدة قضت عليه كما اوصاه أمير المؤمنين(عليه السلام)، ثم تجمع عند الامام الحسن(عليه السلام) صبيحة ذلك اليوم حشد كبير من اهل الكوفة غصّ بهم الجامع على سعته، فوقف خطيباً حيث كان يقف أمير المؤمنين وحوله من بقي من وجوه المهاجرين والانصار، فابتدأ خطابه في مصابه بأبيه الذي اصيب به جميع المسلمين، وقال بعد أن حمد اللّه وصلى على محمد وآله: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون بعمل. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه، وأينما وجهه رسول اللّه كان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه، ولقد توفي في الليلة التي عرج فيها عيسى بن مريم إلى السماء، وقبض فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف خضراء ولا بيضاء سوى سبعمئة درهم فضلت عن عطائه أراد أن يبتاع فيها خادماً لأهله، وقد أمرني أن أردها إلى بيت المال

ثم تمثل له أبوه وما كابده في حياته من الآلام والمتاعب فاستعبر باكياً، وبكى الناس من حوله حتى ارتفعت الاصوات بالبكاء والنحيب من جميع انحاء الكوفة، وعاد إلى حديثه بعد أن استنصت الناس، وقال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي والوصي، وأنا ابن البشير النذير والداعي إلى اللّه بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من اهل البيت الذين كان جبريل ينزل إلينا ويصعد من عندنا، وأنا من اهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وافترض مودتهم على كل مسلم فقال في كتابه: ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومَنْ يقترفْ حسنة نزدْ له فيها حسناً) فاقتراف الحسنة مودتنا اهل البيت ([302]).

وبعد خطابه هذا أقبل الناس يتسابقون إلى بيعته، وتمّت بيعته في الكوفة والبصرة، كما بايعه اهل الحجاز واليمن وفارس وسائر المناطق التي كانت تدين بالولاء والبيعة لأبيه. ولمّا بلغ نبأ البيعة معاوية اجتمع بكبار اعوانه، وشرعوا بحَبْكِ المؤامرات ورسم الخطط لنقض بيعة الامام الحسن(عليه السلام) وتقويض خلافته. وعندما نستقرئ سيرة الامام الحسن(عليه السلام)ومواقفه إزاء هذه المؤامرات والفتن الطخياء، تتجسد أمامنا قمة الفناء في اللّه سبحانه، واتخاذ مصلحة الاسلام العليا مقياساً حاسماً لمواقفه ومواجهاته مضحياً بكل شيء دون ذلك.

ويمكننا الاشارة إلى ثلاث حالات مثلت كبريات مواقفه الرسالية المشهودة في هذا السبيل:

أ ـ أن الامام الحسن(عليه السلام) رأى ابتداءً أن مصلحة الاسلام العليا تقوم بالتعبئة لحرب الباغية معاوية بن أبي سفيان، وقد اتخذ الامام(عليه السلام) قراره هذا بعد مراسلات متبادلة بينه وبين معاوية أتمّ فيها الحجّة عليه، وردّ عليه محاولاته لإغرائه(عليه السلام)بالأموال والخلافة من بعده قائلاً له: ولك ألاّ تقضى دونك الأمور، ولا تعصى في أمر من الامور أردت بها طاعة اللّه... وكان آخر ما كتبه الامام(عليه السلام) رادّاً عليه: أمّا بعد فقد وصلني كتابك تذكر فيه ما ذكرت، وتركت جوابك خشية البغي عليك وباللّه أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله وعلي إثم أن أقول فاكذب. والسلام

ولمّا وصله كتاب الحسن(عليه السلام) أدرك أن أساليبه ومغرياته لم تغيّر من موقفه شيئاً، فكتب إلى جميع عمّاله في بلاد الشام: أمّا بعد، فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله غيره، والحمد للّه الذي كفاكم مؤنة عدوّكم وقتلة خليفتكم. إن اللّه بلطفه وحسن صنيعه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله وقتله، وترك أصحابه متفرقين مختلفين، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم، فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم وحسن عدتكم، فقد أصبتم ـ بحمد اللّه ـ الثار وبلغتم الأمل، وأهلك اللّه اهل البغي والعدوان. والسلام عليكم ورحمة اللّه .

فاجتمعت إليه الوفود من كل الجهات وسار بهم باتجاه العراق. ويدّعي المؤرخون أنه لمّا بلغ الحسن بن علي خبر مسيره وأنه قد بلغ جسر منبج تحرك عند ذلك، وكتب إلى عمّاله يدعوهم إلى التحرك، ونادى مناديه في الكوفة يدعوهم إلى الاجتماع في المسجد، فأقبل الناس حتى امتلأ بهم، فخرج الامام وصعد المنبر، فأثنى على اللّه وصلى على رسوله، ثم قال: لقد كتب اللّه الجهاد على خلقه وسمّـاه كرهاً، وأوصى المجاهدين بالصبر ووعدهم النصر وجزيل الأجر. ثم قال : أيها الناس، إنكم لستم نائلين ما تحبّونه إلاّ بالصبر على ما تكرهون، وقد بلغني أن معاوية كان قد بلغه أنّا أزمعنا على المسير إليه فتحرك نحونا بجنده، فاخرجوا رحمكم اللّه إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون .

فسكت الناس ولم يتكلم احد منهم بحرف واحد، فلمّا رأى ذلك منهم عدي ابن حاتم قام وقال: أنا ابن حاتم. سبحان اللّه! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم؟، أين خطباء مضر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة؟ فإذا جد الجد فمراوغون كالثعالب. أما تخافون مقت اللّه وعيبها وعارها ؟ ثم استقبل الامام الحسن بوجهه وقال: أصاب اللّه بك المراشد وجنبك المكاره، ووفّقك لما تحمد وروده وصدوره. قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى امرك واطعناك فيما قلت وما رأيت، وهذا وجهي إلى معسكري فمن احب أن يوافيني فليواف ثم مضى لوجهه وخرج من المسجد فركب دابته، وكانت على باب الجامع، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، ومضى هو إلى النخيلة.

ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الانصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فأنّبوا الناس ولاموهم على تخاذلهم وحرضوهم على الخروج، وكلموا الحسن(عليه السلام) بمثل كلام عدي بن حاتم، فقال لهم: صدقتم رحمكم اللّه. مازلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودّة والنصيحة، فجزاكم اللّه خيراً

وخرج الناس إلى النخيلة، فلما تكامل عددهم لحق بهم الحسن، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن عبد المطلب، وأمره بأن يحرك الناس ويحثهم على الخروج والالتحاق بالجيش.

ويروي المؤرخون أنه لما تكامل الجيش خرج به الحسن(عليه السلام)، وقد حدده بعضهم بأربعين ألفاً، وبعضهم بستين وبأكثر من ذلك، ولمّا نزل دير عبد الرحمن أقام به ثلاثة أيام، ودعا عبيد اللّه بن العباس وقال له: يابن العم، إني باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرأ مضر، الرجل منهم يريد الكتيبة، فسر بهم على الشاطئ حتى تقطع الفرات وتنتهي إلى مسكن، وامض منها حتى تستقبل معاوية، فألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك، فإنهم من ثقات أمير المؤمنين، فإن أنت لقيت معاوية فاحبسه حتى آتيك، فإني على إثرك وشيكاً. وليكن خبرك عندي كل يوم .

وأرسل معه قائدين من خيرة المسلمين اخلاصاً وجهاداً ونصيحة في سبيل اللّه، وهما قيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس الهمداني، وأمره ألاّ يقطع أمراً دونهما، وأن يستشيرهما في جميع الأمور، وقال له: إذا أنت لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يكون هو البادئ في القتال، فإن أُصبت فقيس بن سعد على الناس، وإن أُصيب فالقيادة من بعده لسعيد بن قيس .

وسار عبيد اللّه بالناس يقطع الصحاري حتى انتهى إلى الفلّوجة، ومنها إلى مسكن، وكان معاوية قد نزل فيها، فنزل عبيد اللّه بن العباس بإزائه، وفي اليوم الثاني وجه معاوية بخيل أغارت على جيش عبيد اللّه فوقفوا لها وردّوها على أعقابها، وأيقين معاوية تصميم الحسن(عليه السلام) على مواصلة القتال بعد أن رفض العروض المغرية التي قدمها إليه في رسائله([303]).

ب ـ رأى الامام(عليه السلام) أن مدار مصلحة الاسلام العليا بعد خذلان جيشه له وتفرقه عنه، يقوم بعقد معاهدة الصلح مع معاوية بن ابي سفيان ; وفي هذا السياق ينقل لنا المؤرخون أن معاوية لمّا أرسل خيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد اللّه، ردّها اهل العراق على اعقابها، وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد اللّه جاء فيها أن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلم الأمر لي فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً خير لك من أن تكون تابعاً بعد غد، ولك ان اجبتني الآن أن أعطيك الف الف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها، وعندما أدخل الكوفة ادفع لك النصف الثاني.

ويدعي اكثر المؤرخين أن عبيد اللّه انسلّ من قاعدته، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه، فوفى له بما وعده، وانتبه الناس بدخول النهار، فانتظروا عبيد اللّه ليصلي بهم فلم يجدوه، فصلى بهم قيس بن سعد، ولمّا تأكدوا من خبره خطبهم قيس، وذكر عبيد اللّه فنال منه، وأمرهم بالصبر والثبات ، وعرض عليهم الحرب ومناهضة معاوية مهما كان الحال، فأجابوه لذلك، فنزل عن المنبر ومضى بهم لقتال معاوية، فقابلهم جيشه بقيادة بسر بن ارطاة، وبثّ دعاتة بين أصحاب قيس يذيعون أن اميرهم عبيد اللّه مع معاوية في خبائه، والحسن بن علي قد وافق على الصلح فعَلام تقتلون أنفسكم. وهنا يدّعي المؤرخون أن قيساً قال لأهل العراق: اختاروا احدى اثنتين: إما القتال بدون إمام، وإمّا أن تبايعوا بيعة ضلال فقالوا بأجمعهم: بل نقاتل بدون امام ثم اتجهوا نحوهم واشتبك الفريقان في معركة ضارية كانت نتائجها لصالحهم، وتراجع بسر بمن معه إلى معسكراتهم مخذولين مقهورين.

وكان موقف عبيد اللّه من جملة العوامل التي تسببت في تفكك جيش الامام وتخاذله، وفتح ابواب الغدر والخيانة والتسلّل الجماعي، وتذرع ذوي النفوس الضعيفة والقلوب المريضة أن عبيد اللّه ابن عمه واولاهم بمناصرته والتضحية في سبيله.

كما كان لغدر عبيد اللّه بن العباس في نفس الامام(عليه السلام) حزن بالغ وأسى مرير; لأنه فتح الباب لغيره، وتستّر بغدره وخيانته جميع الطامعين والخونة من اهل العراق، ونشط انصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش ، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاّ واستعملوها، واستمالوا اليهم حتى رؤساء ربيعة الذين كانوا حصناً لأمير المؤمنين(عليه السلام)في صفين وغيرها من المواقف ; فلقد راسله خالد بن معمر احد زعمائها البارزين وبايعه عن ربيعة كلّها.

كما راسله وبايعه عثمان بن شرحبيل احد زعماء بني تميم، وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة، وأدرك الامام أبو محمد الحسن(عليه السلام) كل ذلك، وصارحهم بالواقع الذي لم يعد يجوز السكوت عنه، فقال: يا أهل الكوفة ، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثم اختلفتم عليه، وقد أتاني أن اهل الشرف منكم قد اتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغروني في ديني ونفسي

وهنا اطمأن معاوية بأن المعركة لو وقعت بين اهل الشام واهل العراق ستكون لصالحه، وسيكون الحسن بن علي(عليه السلام) والمخلصون له من جنده خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته، وأن السلطة صائرة إليه لا محالة، ولكن استيلاءه عليها بقوة السلاح لا يعطيها الصبغة الشرعية التي كان يحاول التمويه بها على الناس، هذا بالاضافة إلى ما قد يحدث من المضاعفات الخطرة التي ستجعله في ضيق من نتائجها، وذلك لو أُصيب الحسن والحسين خلال المعارك وهما سيدا شباب اهل الجنة، وريحانتا جدهما وأحبّ الخلق إليه بالنصوص المتواترة التي لا يجهلها أحد من المسلمين.

لذلك ولغيره كان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الحسن ابن علي(عليه السلام) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله، وترك له أن يشترط ويطلب مايريد، وراح يردد حديث الصلح في مجالسه وبين انصاره في جيش العراق ويأمرهم بإشاعته، وكاتب القادة والرؤساء به ليصرف انظارهم عن الحرب، ويبثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع.

وكانت فكرة الصلح كما ذكرنا مغلفة بلون ينخدع له الكثيرون من الناس، ويفضلونه على الحرب والقتال ; فلقد عرضها في رسالته الأولى على الحسن(عليه السلام)وأشاعها بين اهل العراق، على ألا يقضي أمراً من الامور بدون رأيه، ولا يعصيه في أمر أُريد به طاعة اللّه ورسوله، وترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد; كل ذلك لعلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطره إلى الصلح لأنه اهون الشرّين، كما التجأ والده من قبل للتحكيم والرضا بالاشعري حكماً لأهل العراق في مقابل ابن العاص، لأنه اقل خطراً وضرراً من المضي في الحرب، مع انحياز القسم الأكبر من الجيش إلى جانب فكرة التحكيم التي وضعها معاوية، بعد أن ضاق عليه امره وكاد أن يقع اسيراً بيد الاشتر ومن معه من الجنود البواسل.

وبالاضافة إلى أن فكرة الصلح بتلك الشروط ستكون سلاحاً بيد الخونة من اهل العراق، ستكون أيضاً عذراً مقبولاً لمعاوية لو كانت الحرب وأُصيب الحسنان وخيار الصحابة عند السواد الاعظم من الناس.

وكان الأمر كما قدر معاوية ; فقد ادّت فكرة الصلح بتلك الصيغة إلى التشويش والاضطراب في صفوف الجيش، وإلى تسلّل عبيد اللّه بن العباس وعدد من القادة وزعماء العشائر إلى معاوية واتّصال بعضهم به عن طريق المراسلة، وكان هو بدوره بما لديه من وسائل الاعلام يرسل إلى الحسن بجميع اخبارهم وتصرفاتهم ليقطع أمله من نتائج الحرب، ولا يبقى له خيار في الصلح، وكان الأمر كذلك.

وقال الشيخ المفيد في ارشاده والطبرسي في اعلام الورى: إن اهل العراق كتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة، واستحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه إذا شاء عند دنوّه من معسكرهم أو الفتك به([304]).

وجاء في علل الشرائع أن معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث ابن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي ووعد من يقتل الحسن بمئة الف وقيادة جند من اجناد الشام وبنت من بناته، ولمّا بلغ الحسن ذلك كان لا يخرج بدون لامة حربه، ولا ينزعها حتى في الصلاة، وقد رماه احدهم بسهم وهو يصلي فلم يثبت فيه.

ولا شك أن معاوية أراد من اغتيال الامام الحسن(عليه السلام) على يد العراقيين أن يسلم له الامر، ويخلو له الجو بدون قتال إذا تعذر الصلح، حتى لا يتحمل مسؤولية قتله وقتل آله وانصاره تجاه الرأي العام الاسلامي، الذي لا يغفر له عملاً من هذا القبيل مهما كانت الظروف.

ولم يكن الامام أبو محمد الحسن(عليه السلام) يفكر بصلح معاوية ولا بمهادنته، غير أنه بعد أن تكدّست لديه الاخبار عن تفكّك جيشه، وانحياز اكثر القادة لجانب معاوية، أراد أن يختبر نواياهم ويمتحن عزيمتهم، فوقف بمن كان معه في ساباط، ولوّح لهم من بعيد بالصلح وجمع الكلمة فقال: فو اللّه إني لأرجو أن أكون انصح خلق اللّه لخلقه، وما اصبحت محتملاً على احد ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة. ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا امري ولا تردّوا عليّ رأيي. غفر اللّه لي ولكم وأرشدني وإيّاكم لما فيه محبته ورضاه ([305]).

وهنا تنقّح لدى الامام(عليه السلام) موضوع مصلحة الاسلام العليا بدفع اعظم الضررين، أولهما: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه وفناء اهل بيته وبقية الصفوة الصالحة من اصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)واصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام)واصحابه هو(عليه السلام)، وهم حفظة القرآن وسنة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، والذابون عن العترة الطاهرة، والدعاة الامناء إلى ولايتهم وقيادتهم، والثانية: القبول بالصلح وحقن دماء اهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم ; ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد(صلى الله عليه وآله)، ويصدعوا بالحق أمام محاولات تضييعه وتحريف وتزوير دين اللّه وسنة رسوله(صلى الله عليه وآله)، ليتّصل حبلهم بحبل الاجيال اللاحقة، ولتصل إليها معالم الدين الحق، ولتدرك حق اهل البيت(عليهم السلام) وباطل اعدائهم.

وهكذا اضطر الامام الحسن(عليه السلام) للصلح، وكانت صورة معاهدة الصلح([306])بينه وبين معاوية بن أبي سفيان كالآتي:

المادة الاولى:

تسليم الامر إلى معاوية، على أن يعمل بكتاب الله وبسنة رسوله([307]) (صلى الله عليه وآله)، وبسيرة الخلفاء الصالحين([308]).

المادة الثانية:

أن يكون الامر للحسن من بعده([309])، فان حدث به حدث فلأخيه الحسين([310])، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد([311]).

المادة الثالثة:

أن يترك سبَّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة([312])، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير([313]).

المادة الرابعة:

استثناء ما في بيت مال الكوفة، وهو خمسة آلاف الف فلا يشمله تسليم الامر. وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسين كل عام الفي الف درهم، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصلاة على بني عبد شمس، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وأولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار ابجرد([314]).

المادة الخامسة:

على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وان يؤمَّن الاسود والاحمر، وان يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع احداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق باحنة ([315]).

وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأن اصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاً، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل إلى كل ذي حق حقه، وعلى ما أصاب اصحاب عليّ حيث كانوا.. ([316]).

وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي، ولا لاخيه الحسين، ولا لاحد من أهل بيت رسول الله، غائلةً، سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم، في أفق من الآفاق ([317]).

قال ابن قتيبة: ثم كتب عبدالله بن عامر ـ يعني رسول معاوية إلى الحسن (عليه السلام) ـ إلى معاوية شروط الحسن كما أملاها عليه، فكتب معاوية جميع ذلك بخطه، وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكدة، والايمان المغلَّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، ووجه به إلى عبدالله بن عامر، فاوصله إلى الحسن ([318]).

وذكر غيره نص الصيغة التي كتبها معاوية في ختام المعاهدة فيما واثق الله عليه من الوفاء بها، بما لفظه بحرفه:

وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك، عهد الله وميثاقه، وما أخذ الله على أحد من خلقه بالوفاء، وبما أعطى الله من نفسه ([319]).

وكان ذلك في النصف من جمادى الاولى سنة 41 ـ على أصح الروايات ـ.

ج ـ وجد الامام(عليه السلام) أن عليه ـ في سبيل بيان الاسباب والعلل التي ألجأته إلى عقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان ـ أن يكشف الحقائق ويظهر الحق لتتمّ الحجة البالغة في إدراك حقيقة المصلحة الاسلامية العليا الكامنة في هذا الصلح. وقد تواصلت بياناته وخطاباته في هذا السبيل إلى آخر لحظة من لحظات حياته الشريفة.

وممّا يروى في ذلك أن سليم بن قيس قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب(عليه السلام) على المنبر حين اجتمع مع معاوية، فحمد اللّه واثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا اولى الناس بالناس في كتاب اللّه وعلى لسان نبيّ اللّه، فأُقسم باللّه لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني، لأعطتهم السماء قطرها والارض بركتها ، ولما طمعتم فيها يا معاوية، ولقد قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو اعلم منه، إلاّ لم يزل امرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ملّة عبدة العجل. وقد ترك بنو اسرائيل هارون واعتكفوا على العجل وهم يعلمون أنّ هارون خليفة موسى، وقد تركت الأمّة عليّاً(عليه السلام) وقد سمعوا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يقول لعلي: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير النبوة، فلا نبي بعدي. وقد هرب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) من قومه وهو يدعوهم إلى اللّه حتى فرّ إلى الغار، ولو وجد عليهم اعواناً ما هرب منهم، ولو وجدت أنا أعواناً ما بايعتك يا معاوية. وقد جعل اللّه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه، ولم يجد عليهم أعواناً. وقد جعل اللّه النبي في سعة حين فرّ من قومه لمّا لم يجد أعواناً عليهم، كذلك أنا وأبي في سعة من اللّه حين تركتنا الأمّة وبايعت غيرنا ولم نجد اعواناً. وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً.

أيها الناس، إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب لم تجدوا رجلاً من ولد النبي غيري وغير أخي

وعن حنان بن سدير عن أبيه سدير عن أبيه عن أبي سعيد عقيصا قال: لما صالح الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، دخل عليه الناس فلامه بعضهم على بيعته، فقال(عليه السلام): ويحكم! ماتدرون ما عملت. واللّه لَلّذي عملت لشيعتي خير ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت. ألا تعلمون أني إمامكم، ومفترض الطاعة عليكم، واحد سيدي شباب اهل الجنة بنصٍّ من رسول اللّه عليّ؟! قالوا: بلى. قال: أما علمتم أنّ الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران(عليه السلام)، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند اللّه تعالى ذكره حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منّا أحد إلاّ يقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلاّ القائم (عج)؟ الذي يصلّي خلفه روح اللّه عيسى بن مريم(عليه السلام)، فإن اللّه عزوجل يخفي ولادته ويغيب شخصه لئلاّ يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج. ذاك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيدة الاماء، يطيل اللّه عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون اربعين سنة، ذلك ليعلم أن اللّه على كل شيء قدير

عن زيد بن وهب الجهني قال: لما طُعن الحسن بن علي(عليه السلام) بالمدائن أتيته وهو متوجّع، فقلت: ما ترى يابن رسول اللّه، فإنّ الناس متحيرون؟ فقال: أرى ـ واللّه ـ أن معاوية خير لي من هؤلاء. يزعمون أنهم لي شيعة. ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي واخذوا مالي. واللّه لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأومن به في اهلي، خير من أن يقتلوني فتضيع اهل بيتي واهلي. واللّه لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً. واللّه لئن أُسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا اسير، أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم آخر الدهر، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحيّ منّا والميت. قال: قلت: تترك يابن رسول اللّه شيعتك كالغنم ليس لها راع؟! قال: وما أصنع يا أخا جهينة؟ إني واللّه اعلم بأمر قد أدّى به إليّ ثقاته ; أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) قال لي ذات يوم وقد رآني فرحاً: يا حسن، أتفرح؟! كيف بك إذا رأيت أباك قتيلاً؟ كيف بك إذا ولي هذا الأمر بنو اُمية؟ وأميرها الرحب البلعوم، الواسع الاعفجاج، يأكل ولا يشبع، يموت وليس له في السماء ناصر ولا في الارض عاذر، ثمّ يستولي على غربها وشرقها، يدين له العباد ويطول ملكه، يستنّ بسنن اهل البدع والضلال، ويُميت الحق وسنّة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، يقسم المال في اهل ولايته، ويمنعه من هو أحق به، ويذلّ في ملكه المؤمن، ويقوى في سلطانه الفاسق، ويجعل المال بين انصاره دولاً، ويتخذ عباد اللّه خولاً، يدرس في سلطانه الحق، ويظهر الباطل، ويقتل من ناواه على الحق، ويدين من والاه على الباطل ([320]).

ويروى أيضاً أنه بعد أن تمّ التوقيع على الصلح، قدم معاوية إلى الكوفة للاجتماع بالامام الحسن(عليه السلام)، حيث ارتقى معاوية المنبر ليعلن ـ متحدياً كل المواثيق والعهود والاعراف ـ أنه يسحق بقدميه كل الشروط التي صالح الحسن عليها، وخاطب الناس المحتشدة في مسجد الكوفة قائلاً: واللّه إني ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني اللّه ذلك، وانتم له كارهون. ألا وإن كلّ دم أصيب في هذه الفتنة فهو مطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين .

وهنا تململ اصحاب الامام الحسن(عليه السلام) وأتباعه، وتجرأوا عليه ووصفوه بمذلّ المؤمنين، فصبر سلام اللّه عليه صبراً جميلاً، وطفق يبيّن لهم الحقائق التي خفيت عنهم في اجواء الانفعال والعاطفة والغضب الذي اعتراهم من تحدي معاوية لهم، ونقضه لوثيقة الصلح وتوهينه للامام الحسن(عليه السلام) واصحابه.

وممّا روي عنه(عليه السلام) أنه قال لبشير الهمداني عندما لامه على الصلح: لستُ مُذلاًّ للمؤمنين، ولكني معزّهم. ما أردتُ لمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل، عندما رأيت تباطؤ اصحابي ونكولهم عن القتال

قال(عليه السلام) ذلك لبشير هذا، لأنه كان أول المرتعدين من القتال. وقال لمالك بن ضمرة عندما كلّمه بشأن الوثيقة: إني خشيت أن يُجتثّ المسلمون عن وجه الارض، فأردت أن يكون للدين داع

وقال مخاطباً أبا سعيد: يا أبا سعيد، علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحةرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني اشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية

وقال له حجر بن عدي، وكان وجهاً من وجوه صحابة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وصحابة علي وابنه الحسن(عليهما السلام)، عندما خاطب الامام الحسن(عليه السلام) بعد أن سمع كلام معاوية على المنبر وهو يتنصّل من كل الشروط التي وقعها مع الامام(عليه السلام): أما واللّه، لقد وددت أنك متّ في ذلك، ومتنا معك، ثم لم نَرَ هذا اليوم، فإنّا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبّوا ، إلاّ أن الامام أرسل إليه بعد انصرافه إلى بيته وقال له: إني قد سمعت كلامك في مجلس معاوية، وليس كل إنسان يحب ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإني لم أفعل ما فعلت إلاّ إبقاءً عليكم ([321])

وعن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: حدثني رجل منّا قال: أتيت الحسن بن علي(عليه السلام) فقلت: يابن رسول اللّه ; أذللت رقابنا، وجعلتنا معشر الشيعة عبيداً. مابقي معك رجل. قال: وممَّ ذلك؟ قال: قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية، قال: واللّه ما سلّمت الأمر إليه إلاّ أني لم أجد انصاراً، ولو وجدت انصاراً لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم اللّه بيني وبينه، ولكنّي عرفت اهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً; إنهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنهم لمختلفون، ويقولون لنا إن قلوبهم معنا، وإنّ سيوفهم لمشهورة علينا. قال: وهو يكلمني إذ تنخع الدم، فدعا بطست فحمل من بين يديه مليء مما خرج من جوفه من الدم. فقلت له: ما هذا يابن رسول اللّه؟ إنّي لأراك وجعاً! قال: أجلْ، دسّ إليّ هذا الطاغية مَن سقاني سمّـاً، فقد وقع على كبدي وهو يخرج قطعاً كما ترى ([322]).

ولقد أشار الامام محمد الباقر(عليه السلام) إلى هذه المصلحة الاسلامية العليا في صلح الامام الحسن(عليه السلام) مع معاوية بن أبي سفيان بقوله: واللّه، لَلّذي صنعه الحسن بن علي(عليه السلام) كان خيراً لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس ([323])

/ 6