اهل البیت (ع) و مصلحة الاسلام العلیا نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

اهل البیت (ع) و مصلحة الاسلام العلیا - نسخه متنی

مقدادی فؤاد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الامام الحسين(عليه السلام)ومصلحة الاسلام العليا

إن للحسين(عليه السلام) موقعاً رسالياً تميّز به عن سائر أئمة اهل البيت(عليهم السلام)، وجعل منه رمزاً خالداً لكل مظلوم يصحر بظلامته عبر التاريخ، وصرخة حق تدوّي في وجه الظالمين إلى يوم الدين. وليس جزافاً قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في حقه(عليه السلام) إن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، فعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: كان النبي(صلى الله عليه وآله) في بيت أم سلمة فقال لها: لا يدخل عليَّ أحد، فجاء الحسين(عليه السلام) وهو طفل، فما ملكت معه شيئاً حتى دخل على النبي، فدخلت أم سلمة على إثره فإذا الحسين على صدره ، وإذا النبي يبكي، وإذا في يده شيء يقلّبه. فقال النبي: يا أُم سلمة، إن هذا جبرئيل يخبرني أن هذا مقتول، وهذه التربة التي يقتل عليها فضعيه عندك، فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي، فقالت أم سلمة: يا رسول اللّه، سل اللّه أن يدفع ذلك عنه؟ قال: قد فعلت فأوحى اللّه عزوجل إليّ أن له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين، وأن له شيعة يشفعون فيشفَّعون، وأن المهدي من ولده، فطوبى لمن كان من أولياء الحسين وشيعته، هم واللّه الفائزون يوم القيامة ([324])

وهو الذي نزل الوحي بتسميته حسيناً، فقد روي أنه عندما زُفت البشرى لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بولادة الامام الحسين(عليه السلام)، في اليوم الثالث من شهر شعبان المبارك في السنة الرابعة من الهجرة، أسرع(صلى الله عليه وآله) إلى دار الزهراء(عليها السلام)فقال لأسماء بنت عميس: يا أسماء، هاتي ابني، فحملته إليه، وقد لُفّ في خرقة بيضاء، فاستبشر(صلى الله عليه وآله)وضمَّه إليه وأذَّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ثم وضعه في حِجرهِ وبكى، فقالت أسماء: فداك أبي وأُمي، ممَّ بكاؤك؟ قال(صلى الله عليه وآله): من ابني هذا. قالت: إنه ولد الساعة. قال(صلى الله عليه وآله): يا أسماء، تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم اللّه شفاعتي. ثم قال: يا أسماء، لا تخبري فاطمة فإنها حديثة عهد بولادته

ثم قال(صلى الله عليه وآله) لعلي(عليه السلام): أي شيء سميت ابني؟ فأجابه علي(عليه السلام): ماكنت لأسبقك باسمه يا رسول اللّه. فنزل جبرئيل(عليه السلام)على رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)حاملاً اسم الوليد المبارك، قال لعلي(عليه السلام): سمه حسيناً ([325]).

وتتوالى بيانات رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) في وصف مقام الامام الحسين(عليه السلام)، وموقعه الرفيع من الرسالة والرسول، منها:

عن يعلى بن مرة، قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): حسين مني وأنا من حسين، احب اللّه من احب حسيناً، حسينٌ سبط من الأسباط ([326]).

وعن سلمان الفارسي، قال: سمعت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يقول: الحسن والحسين ابناي، من أحبّهما أحبّني، ومن أحبّني أحبّه اللّه، ومن أحبّه اللّه أدخله الجنة، ومن أبغضهما أبغضني، ومن أبغضني أبغضه اللّه، ومن أبغضه اللّه أدخله النار على وجهه ([327]).

وعن البراء بن عازب، قال: رأيت رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) حاملاً الحسين بن علي على عاتقه وهو يقول: اللّهم إني أحبه فأحبه ([328]).

وعن أبي جعفر(عليه السلام) قال: كان رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) إذا دخل الحسين(عليه السلام)اجتذبهإليه، ثم يقول لأمير المؤمنين(عليه السلام): أمسكه، ثم يقع عليه فيقبّله ويبكي، فيقول: يا أبه، لم تبكي؟ فيقول: يا بنيَّ، اُقّبل موضع السيوف منك وأبكي. قال: يا أبه، وأُقتل؟ قال: إي واللّه، وأبوك وأخوك وأنت. قال: يا أبه، فمصارعنا شتى؟ قال: نعم، يا بني. قال: فمن يزورنا من أُمتك؟ قال: لا يزورني ويزور أباك وأخاك وأنت إلاّ الصديقون من أُمتي ([329]).

وعن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: كان الحسين مع أُمه تحمله، فأخذه النبي(صلى الله عليه وآله)وقال: لعن اللّه قاتلك، ولعن اللّه سالبك، وأهلك اللّه المتوازرين عليك، وحكم اللّه بيني وبين من أعان عليك. قالت فاطمة الزهراء: يا أبت، أي شيء تقول؟ قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء، يتهادون إلى القتل، وكأني أنظر إلى معسكرهم، وإلى موضع رحالهم وتربتهم. قالت: يا أبه، وأين هذا الموضع الذي تصف؟ قال: موضع يقال له كربلا، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأُمة، يخرج عليهم شرار أُمتي، لو أن أحدهم شُفع له في السموات والارضين ما شفّعوا فيه، وهم المخلدون في النار. قالت: يا أبه، فيقتل؟ قال: نعم يا بنتاه، وما قُتل قتلته أحد كان قبله، ويبكيه السماوات والارضون، والملائكة، والوحش، والنباتات، والبحار، والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الارض متنفس، ويأتيه قوم من محبينا ليس في الارض أعلم باللّه، ولا أقوم بحقنا منهم، وليس على ظهر الارض أحد يلتفت إليه غيرهم، اولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء، وهم واردون حوضي غداً، أعرفهم إذا وردوا عليَّ بسيماهم، وكل أهل دين يطلبون أئمتهم، وهم يطلبوننا لا يطلبون غيرنا، وهم قوَّام الارض، وبهم ينزل الغيث. فقالت الزهراء(عليها السلام): يا أبه، إنا للّه، وبكت، فقال لها: يا بنتاه، إن أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا، بذلوا انفسهم واموالهم بأن لهم الجنّة، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتُلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً، فما عند اللّه خير من الدنيا وما فيها، قتلة أهون من ميتة، ومن كتب عليه القتل، خرج إلى مضجعه، ومن لم يقتل فسوف يموت. يا فاطمة بنت محمد، أما تحبين أن تأمرين غداً بأمر فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة ؟ أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه؟ أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار؟ يأمر النار فتطيعه، يخرج منها من يشاء ويترك من يشاء. أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به، وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند اللّه؟ فما ترين اللّه صانع بقاتل ولدك وقاتليك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجته على الخلائق، وأُمرت النار أن تطيعه؟. أما ترضين أن يكون الملائكة تبكي لابنك، وتأسف عليه كل شيء؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائراً في ضمان اللّه، ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت اللّه واعتمر، ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيداً، وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي، ولم يزل في حفظ اللّه وأمنه حتى يفارق الدنيا؟ قالت: يا أبه، سلّمت، ورضيت، وتوكلت على اللّه، فمسح على قلبها ومسح عينيها، وقال: إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقرُّ عيناك، ويفرح قلبك ([330]).

وعن ابن عباس قال: لما اشتد برسول اللّه(صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات فيه، ضم الحسين(عليه السلام) إلى صدره يسيل من عرقه عليه، وهو يجود بنفسه، ويقول: مالي وليزيد لا بارك اللّه فيه؟ اللّهم العن يزيد. ثم غُشي عليه طويلاً، وأفاق وجعل يقبل الحسين وعيناه تذرفان، ويقول: أما إنَّ لي ولقاتلك مقاماً بين يدي اللّه عزوجل ([331]).

ومن هنا ندرك كيف أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) كان يهيئ ولده الحسين(عليه السلام)لدور رسالي فريد، ويوصي به ويؤكده، ليحفظ له رسالته من الانحراف والضياع ; لذا نجد أن سيرة سيد الشهداء الامام الحسين(عليه السلام)، هي من أبرز مصاديق وحدة الهدف في تحقيق وحفظ مصلحة الاسلام العليا، التي اتسمت بها ادوار ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، على رغم تنوّعها في الطريقة وتباينها الظاهري في المواقف، وقد تمثل في سيرة الامام الحسين(عليه السلام)مبدأ حفظ مصلحة الاسلام العليا في اربعة مواقف كبرى، شملت عهد إمامة أبيه(عليه السلام)وعهد إمامة أخيه الحسن(عليه السلام) وعهد إمامته(عليه السلام).1 ـ في عهد إمامة أبيه امير المؤمنين(عليه السلام):

وقد جسّد الامام الحسين(عليه السلام) فيه الطاعة التامّة والامتثال الكامل لاوامر امامه امير المؤمنين(عليه السلام)، في الموقف من الخلافة بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وخصوصاً ايام الفتنة الطخياء على عهد عثمان بن عفان، التي انتهت بقتله، وكذلك في خوضه حروب الدفاع عن دولة الاسلام وخلافة امير المؤمنين(عليه السلام)، التي كان ابرزها حرب الناكثين المعروفة بحرب الجمل، وحرب القاسطين المعروفة بحرب صفين، وحرب المارقين المعروفة بحرب النهروان. وقد اشرنا إلى ذلك سابقاً عند بياننا لمواقف امير المؤمنين(عليه السلام) والامام الحسن(عليه السلام) في حفظ مصلحة الاسلام العليا.2 - في عهد إمامة أخيه الحسن بن علي(عليه السلام):

كان الامام الحسين(عليه السلام) ظهير أخيه الامام الحسن(عليه السلام) الأمين وساعده الأيمن في مواجهة الباغية معاوية بن أبي سفيان، ثم كان شريكه في دفع الفتنة الكبرى التي وقع فيها اصحابه واتباعه بسبب الصلح، أملته الضرورة فأوقعه مع معاوية حقناً لدماء اهل البيت(عليهم السلام)، ودماء اصحابهم واتباعهم التي مثّلت في حينها سناء مصلحة الاسلام في بقاء من يصدع بحق الثقلين، ويذبّ عن اهل بيت النبوة والعصمة، ويدفع عن الاسلام غائلة التحريف والتزوير. وقد أشرنا أيضاً إلى ذلك فيما سلف من ذكر المواقف الكبرى للامام الحسن(عليه السلام) لحفظ مصلحة الاسلام العليا.3 ـ في عهد إمامته(عليه السلام):

وفي هذا العهد ضرب الامام الحسين(عليه السلام) المثل الاعلى في تجسيد روح الثبات والقدم الراسخة على مبادئ الاسلام ومصلحته العليا، حيث كان له سلام اللّه عليه موقفان متواليان، قد يلحظان متخالفين ظاهرياً، من الحكم الأموي منذ اليوم الأول لصيرورة الامامة إليه بعد استشهاد أخيه الامام الحسن(عليه السلام) ; الأول من معاوية بن أبي سفيان، والثاني من يزيد بن معاوية:

أ ـ موقفه من معاوية بن أبي سفيان:

وله في موقفه هذا من معاوية صورتان تكامليتان، كلاهما تحكيان مبدأيته العصماء في لحاظ مصلحة الاسلام العليا:

الصورة الاولى: التزامه(عليه السلام) بعهد أخيه الامام الحسن(عليه السلام)، ووفاؤه ببنود صلح أخيه المبرم مع معاوية بن أبي سفيان ; لاعتقاده بأنّ المصلحة الاسلامية لا زالت في ذلك، ولأن مبادئ الاسلام واحكامه تأبى عليه نقض العهود والتحلل من الوفاء بالعقود إلاّ إذا أُخلّ بشروطه أو انتهت مدته، لقول اللّه تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود)([332]) وقوله أيضاً: (وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً)([333]). فممّا رواه الكلبي والمدائني وغيرهما من اصحاب السير قالوا: لمّا مات الحسن بن علي(عليهما السلام) تحركت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين(عليه السلام)في خلع معاوية والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لا يجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإن مات معاوية نظر في ذلك ([334]).

الصورة الثانية: وفيها سلك الامام الحسين(عليه السلام) مسلكاً تكاملياً في مقابل التزامه بما تمليه عليه الحكمة الالهية والمصلحة الاسلامية للصلح الذي عقده الامام الحسن(عليه السلام) مع معاوية والتي من ابرزها كشف حقيقة هذا الاخير وحقيقة حكومة بني أمية للمسلمين، فانطلق الامام(عليه السلام) من نفس هذه الحكمة الالهية والمصلحة الاسلامية وعمل جهده لكشف هذه الحقيقة.

وهنا يتبين لنا السر في عدم التخالف بين موقفه في الصورة الاولى وموقفه في هذه الصورة الثانية، فهما صورتان لموقف تكاملي هادف يحفظ في الاولى حدود الصلح المعلنة ويسعى في الثانية لتكميل تحقيق الاهداف المنشودة لهذا الصلح وذلك عن طريق إظهار الحق وإعلانه في وجه معاوية بن أبي سفيان، والتصدّي له بالحجّة البالغة، وتعرية انحرافه عن كتاب اللّه وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله)، ودرء البدع التي احدثها في الدين، واستنكار الظلم والجور الذي أوقعه على صفوة الاصحاب والتابعين من شيعة اهل البيت(عليهم السلام)، وسفك دمائهم الطاهرة خلافاً لبنود الصلح المبرم مع الامام الحسن(عليه السلام). وممّا روي في ذلك:

1 ـ تصديه(عليه السلام) لأمر معاوية وولاته وعمّاله بلعن امير المؤمنين(عليه السلام) على المنابر واضطهاد شيعته، وقتل من يروي شيئاً من فضائله، فعن سليم بن قيس قال: نادى منادي معاوية أن قد برئت الذمّة ممّن يروي حديثاً من مناقب علي وفضل اهل بيته، وكان أشدّ الناس بليّة اهل الكوفة، لكثرة من بها من الشيعة، فاستعمل زياد بن أبيه، وضمّ إليه العراقين الكوفة والبصرة، فجعل يتتبع الشيعة وهو بهم عارف. يقتلهم تحت كل حجر ومدر، واخافهم، وقطع الايدي والأرجل، وصلبهم في جذوع النخل، وسمل اعينهم وطردهم وشردهم، حتى نفوا عن العراق فلم يبق بها أحد معروف مشهور; فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو طريد أو شريد. وكتب معاوية إلى جميع عمّاله في جميع الامصار أن لا تجيزوا لأحد من شيعة عليّ واهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ومحبي اهل بيته واهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه، فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته، ففعلوا حتى كثرت الرواية في عثمان، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصِّلات والخلع والقطائع من العرب والموالي، وكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في الأموال والدنيا، فليس أحد يجيء من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلاّ كتب اسمه وأُجيز، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثم كتب إلى عمّاله أنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه، فإن ذلك أحبّ إلينا وأقرّ لأعيننا، وأدحض لحجّة اهل البيت وأشدّ عليهم، فقرأ كلّ امير وقاض كتابه على الناس. فأخذ الرواة في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة وكل مسجد زوراً، وألقوا ذلك إلى معلمي الكتاتيب، فعلّموا ذلك صبيانهم كما يعلمونهم القرآن، حتى علّموه بناتهم ونساءهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

وكتب زياد بن أبيه إليه في حقّ الحضرميين أنهم على دين علي وعلى رأيه، فكتب إليه معاوية أن اقتل كلّ من كان على دين عليّ ورأيه، فقتلهم ومثّل بهم.

وكتب كتاباً آخر: انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهمتموه بحبه فاقتلوه، وإن لم تقم عليه البينة، فاقتلوه على التهمة والظنة والشبهة تحت كل حجر حتى إن الرجل لتسقط منه كلمة فتضرب عنقه، في حين كان الرجل يرمى بالزندقة والكفر فلا يتعرّض له بمكروه بل يكرّم ويعظم، وكان الرجل من الشيعة لا يأمن على نفسه في بلد من البلدان، لا سيما الكوفة والبصرة، حتى لو أن احداً منهم أراد أن يلقي سرّاً إلى من يثق به خاف خادمه ومملوكه، فلا يحدثه إلاّ بعد أن يأخذ عليه الأيمان المغلظة أن يكتم عليه، حتى كثرت أحاديثهم الكاذبة، ونشأ عليها الصبيان.

وكان اشدّ الناس في ذلك القرّاء المراؤون المتصنّعون، الذين يظهرون الخشوع والورع، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولّدوها، فحظوا بذلك عند الولاة والقضاة وادنوا مجالسهم، وأصابوا الأموال والقطائع والمنازل، حتى صارت احاديثهم ورواياتهم عندهم حقّاً وصدقاً، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلّموها، وأحبّوا عليها وابغضوا من ردها أو شكّ فيها، فاجتمعت على ذلك جماعتهم، وصارت في يد المتنسّكين والمتدينين منهم، فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا بطلانها وتيقّنوا أنها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها ولم يدينوا بها، ولم يبغضوا من خالفها، فصار الحقّ في ذلك الزمان عندهم باطلاً، والباطل عندهم حقّاً، والكذب صدقاً، والصدق كذباً.

فلمّا مات الحسن بن علي(عليه السلام) ازداد البلاء والفتنة، فلم يبق للّه ولي إلاّ هو خائف على نفسه، أو مقتول أو طريد أو شريد، فلمّا كان قبل موت معاوية بسنتين، حجّ الحسين بن علي(عليه السلام) وعبد اللّه بن جعفر وعبد اللّه بن عباس معه. وقد جمع الحسين بن علي(عليه السلام) بني هاشم; رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم، مَنْ حج منهم ومَنْ لم يحج، ومن الانصار ممّن يعرفونه واهل بيته، ثم لم يدع احداً من اصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ جمعهم، فاجتمع عليه بمنى اكثر من ألف رجل عامتهم التابعون وأبناء الصحابة، والحسين(عليه السلام) في سرادقه، فقام(عليه السلام) فيهم خطيباً، فحمد اللّه واثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن ّ الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإنّي أريد أن أسألكم عن اشياء، فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبوني. اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى امصاركم وقبائلكم من امنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإني اخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، واللّه متمّ نوره ولو كره الكافرون

فما ترك الحسين(عليه السلام) شيئاً انزل اللّه فيهم (اهل البيت(عليهم السلام)) من القرآن إلاّ قاله وفسّره، ولا شيئاً قاله الرسول في أبيه وأمّه واهل بيته إلاّ رواه وفي كل ذلك يقول الصحابة: اللّهم نعم، قد سمعناه وشهدناه ويقول التابعون: اللّهم قد حدثنا من نصدقه ونأتمنه ، حتى لم يترك شيئاً إلاّ قاله، ثم قال: أنشدكم باللّه إلاّ رجعتم وحدّثتم به من تثقون به ثم نزل وتفرق الناس على ذلك([335]).

2 ـ استنكاره(عليه السلام) على معاوية قتله لصفوة من صحابة رسول اللّه وتابعيهم من شيعة اهل البيت ; لقد روى صالح بن كيسان قال: لما قَتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حجّ ذلك العام، فلقي الحسين بن علي(عليه السلام)فقال: يا أبا عبد اللّه، هل بلغك ما صنعنا بحجر واصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال(عليه السلام): وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفّناهم، وصلّينا عليهم. فضحك الحسين(عليه السلام) ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكننا لو قتلنا شيعتك ما كفّناهم ولا صلّينا عليهم ولا قبرناهم. ولقد بلغني وقيعتك في علي وقيامك ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك، ثم سلها الحق عليها ولها، فإن لهم تجدها اعظم عيباً فما اصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترنّ غير قوسك ولا ترمينّ غير غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب، فإنّك واللّه لقد أطعت فينا رجلاً ما قدم إسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك، فانظر لنفسك أو دع ـ يعني عمرو بن العاص ـ ([336]).

وجاء في سيرة اهل البيت لأبي علم: إن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية، وكان عامله على المدينة، أمّا بعد، فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجالاً من اهل العراق ووجوه اهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي(عليه السلام)، وأنه لا يؤمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه يريد الخلاف يومه هذا، فاكتب إليّ برأيك. فكتب إليه معاوية: بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين، فإيّاك أن تتعرض له بشيء، واترك حسيناً ما تركك، فإنّا لا نريد أن نتعرض له ما وفى ببيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فأمسك عنه ما لم يبدِ لك صفحته .

وكتب إلى الحسين(عليه السلام): أمّا بعد، فقد انتهت إليّ أمور عنك إن كانت حقاً فإني ارغب بك عنها، ولعمر اللّه إن من أعطى اللّه عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، وإن أحق الناس بالوفاء من هو مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي انزلك اللّه بها، فاذكر، وبعهد اللّه أوفِ، فإنك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتق شقّ عصا هذه الأمة، وأن يردهم اللّه على يديك في فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأُمة جدك، ولا يستخفنّك السفهاء الذين لا يوقنون .

فكتب إليه الحسين(عليه السلام) في جوابه: أما بعد، فقد بلغني كتابك أنه بلغك عني أمور أن بي عنها غنىً ; زعمت أني راغب فيها، وأنا بغيرها عنك جدير، أمّا ما رقي اليك عني، فإنه رقّاه إليك الملاّقون المشاءون بالنمائم، المفرقون بين الجمع، كذب الساعون الواشون، ما أردت حربك ولا خلافاً عليك. وايمُ اللّه إني لأخاف اللّه عزّ ذكره في ترك ذلك، وما أظنّ اللّه تبارك وتعالى براض عني بتركه، ولا عاذري بدون الاعتذار إليه فيك وفي اولئك القاسطين الملبين حزب الظالمين، بل اولياء الشيطان الرجيم.

ألست قاتل حجر بن عدي أخي كندة واصحابه الصالحين المطيعين العابدين ; كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون المنكر والبدع ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في اللّه لومة لائم، فقتلتهم ظلماً وعدواناً بعد ما كنت اعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في صدرك عليهم!.

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفرت لونه، ونحلت جسمه، بعد أن أمنته وأعطيته من عهود اللّه عزوجل وميثاقه ما لو أعطيته العُصم ففهمته لنزلت إليك من شغف الجبال، ثم قتلته جرأة على اللّه عزوجل واستخفافاً بذلك العهد ؟!.

أولست المدعي زياد بن سمية، المولود على فراش عبيد عبد ثقيف، فزعمت أنه ابن أبيك؟ وقد قال رسول اللّه: الولد للفراش وللعاهر الحجر ، فتركت سنة رسول اللّه واتبعت هواك بغير هدىً من اللّه، ثم سلّطته على اهل العراق فقطع ايدي المسلمين وارجلهم وسمل اعينهم، وصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك.

أولست صاحب الحضرميين الذين كتب إليك فيهم ابن سمية أنهم على دين عليّ ورأيه، فكتبت إليه اقتل كلّ من كان على دين علي(عليه السلام) ورأيه، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك؟ ودين عليّ ـ واللّه ـ وابن عليّ للذي كان يضرب عليه أباك، وهو أجلسك بمجلسك الذي انت فيه، ولولا ذلك لكان افضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرّحلتين اللتين بنا منّ اللّه عليكم فوضعهما عنكم. وقلت فيما تقول: انظر نفسك ولدينك ولأمة محمد(صلى الله عليه وآله)وإتقِ شقّ عصا هذه الأمة وأن تردهم في فتنة. فلا اعرف فتنة اعظم من ولايتك عليها، ولا اعلم نظراً لنفسي وولدي وأمّة جدي افضل من جهادك، فإن فعلته فهو قربة إلى اللّه عزوجل، وإن تركته فأستغفر اللّه لذنبي واسأله توفيقي لإرشاد أُموري.

وقلت فيما تقول: إن أنكرك تنكرني، وإن أكدك تكدني. وهل رأيك إلاّ كيد الصالحين منذ خلقت؟ فكدني ما بدا لك إن شئت، فإني أرجو ألاّ يضرّني كيدك، وألاّ يكون على أحد أضرّ منه على نفسك، على أنك تكيد فتوقظ عدوك وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء الذين قتلتهم ومثّلت بهم بعد الصلح والايمان والعهد والميثاق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قتلوا إلاّ لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقّنا بما به شرفت وعرفت، مخافة امر لعلك لو لم تقتلهم متّ قبل أن يفعلوا. أو ماتوا قبل أن يدركوا.

أبشر يا معاوية بقصاص، واستعد للحساب ، واعلم أنّ للّه عزوجل كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، وليس اللّه تبارك وتعالى بناس أخذك بالظنة وقتلك أولياءه بالتهمة، ونفيك إيّاهم من دار الهجرة إلى الغربة والوحشة، واخذك الناس ببيعة ابنك غلام من الغلمان، يشرب الشراب، ويلعب بالكعاب. لا أعلمك إلاّ قد خمرت نفسك، وشريت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت أمانتك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت التقي الورع الحليم.

قال: فلمّا قرأ معاوية كتاب الحسين(عليه السلام) قال: لقد كان في نفسه غضب عليّ ما كنت أشعر به، فقال ابنه يزيد، وعبد بن أبي عمير بن جعفر: أجبه جواباً شديداً تصغر إليه نفسه، وتذكر أباه بأسوأ فعله وآثاره. فقال: كلاّ، أرأيتما لو أنّي أردت أن أعيب عليّاً محقّاً ما عسيت أن أقول؟ إن مثلي لا يحسن به أن يعيب بالباطل وما لا يعرف الناس، ومتى عبت رجلاً بما لا يعرف لم يحفل به صاحبه ولم يره شيئاً ، وما عسيت أن أعيب حسيناً وما أرى للعيب فيه موضعاً، إلاّ أني قد أردت أن أكتب إليه وأتوعّده وأهدده وأجهله ثم رأيت ألا أفعل ([337]).

3 ـ إظهاره وإعلانه لفضائل اهل البيت(عليهم السلام) وحقهم في ولاية المسلمين، فعن موسى بن عقبة أنه قال: لقد قيل لمعاوية إنّ الناس قد رموا أبصارهم إلى الحسين(عليه السلام)، فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب، فإن فيه حصراً أو في لسانه كلالة. فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عظم في اعين الناس وفضحنا، فلم يزالوا به حتى قال للحسين: يا أبا عبد اللّه لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الحسين(عليه السلام) المنبر، فحمد اللّه واثنى عليه وصلّى على النبي(صلى الله عليه وآله)، فسمع رجلاً يقول: من هذا الذي يخطب؟ فقال الحسين(عليه السلام): نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) الأقربون، واهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ثاني كتاب اللّه تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعوّل علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقايقه، فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة، انْ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة. قال اللّه عزوجل: (أطيعوا اللّه واطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول) وقال: (ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل اللّه عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلاً)

وأحذّركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم، فإنّه لكم عدوّ مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم لا غالب لكم اليوم من الناس وإنّي جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم فتلقون للسيوف ضرباً وللرماح ورداً وللعمد حطماً وللسهام غرضاً ، ثم لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً ([338]).

ب ـ موقفه من يزيد بن معاوية:

جسّد الامام الحسين(عليه السلام) في هذا الموقف الرسالي الفريد أحد ابرز مصاديق وحدة الهدف في تحقيق مصلحة الاسلام العليا في ادوار ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، رغم تنوعها وتباينها في الطريقة والاساليب، حين نهض(عليه السلام) في وجه الفاجر يزيد بن معاوية مسترخصاً كل شيء في سبيل مصلحة الاسلام العليا.

إن من ابرز مصاديق الحكمة في نهضة الامام الحسين(عليه السلام) في سبيل تحقيق مصلحة الاسلام العليا هي:

1 ـ أن معاوية في تنصيبه لابنه يزيد من بعده للخلافة قد نقض عهده المبرم في صلحه مع الامام الحسن(عليه السلام)، وبذلك اصبح الامام الحسين(عليه السلام)أمام أمر مستحدث يقتضي منه موقفاً يتناسب وما تمليه مصلحة الاسلام العليا.

2 ـ ان تنصيب يزيد من قبل أبيه معاوية خليفة للمسلمين سيصبح اكبر قضية تهدد اساس العقيدة الاسلامية بالمحق، ويعرضها للزوال، وذلك من خلال الانحراف الخطير الذي سيطرأ على مسألة الحكم الاسلامي وخلافة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فإن تنصيب مثل يزيد للخلافة ـ وهو المتجاهر بالفسق والفجور والزنا وشرب الخمور، وبتلك الطريقة التي سلكها معاوية ، وهي إخراج الخلافة عن اصولها حتى عن مبنى الخلافة الراشدة بعد رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وجعلها وراثية في بني أمية على اسس الجاهلية ومقولاتها ـ يعني على اقل تقدير وقوع الحكم الاسلامي في خطر التحوّل الجذري، والانقلاب الكلّي في الحكم الالهي الذي جاء به رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، وما يقوم على اساسه من عدل وقسط وصلاح، إلى عصبيات الجاهلية القبلية، وحكم الطاغوت الوراثي الذي سيكون للهوى والرأي المستبد الملاك التام والمقياس الفصل في قيامه وحاكميّته على المسلمين.

3 ـ إن مشكلة الانحراف الجذري في مسألة الخلافة آنذاك لم تكن في إدراك مجمل هذه الحقيقة ، فقد كان المسلمون المخلصون حينئذ، وعلى رأسهم كبار الصحابة والتابعين من الموالين لأهل البيت(عليهم السلام)ومحبيهم، مدركين لها ولخطورتها، إلاّ انّ الإرادة العامة للمسلمين لم تكن بمستوى هذا الإدراك، مما دفع الامام الحسين(عليه السلام)لتحمل هذه المسؤولية الكبرى، فانبرى لبذل دمه ودماء اهل بيته واصحابه لتكون وقوداً ساخناً لإلهاب تلك الإرادة الهامدة، وتعرية حقيقة الجاهلية الكامنة في خلافة يزيد بن معاوية، التي استبدل فيها حاكمية كتاب اللّه وسنة نبيه(صلى الله عليه وآله) واهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، بحاكمية الجاهلية وسنة القبيلة والآباء والاجداد من بني أمية وأبي جهل ; وبدأت منذ نهضته وبعد استشهاده(عليه السلام)مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخطّ المنحرف، ليقوم للدين عود ولتستقيم كلمته في العباد.

ولتصديق ذلك لابد لنا من إلقاء نظرة على نماذج من الوقائع الخاصة لنهضة الامام الحسين(عليه السلام)الكبرى، لنتلمس من خلالها المحتوى المبدئي في حفظ مصلحة الاسلام العليا، ورعايتها التي ضحى الامام الحسين(عليه السلام)بنفسه واهل بيته واصحابه من اجلها، منها:

1 ـ لا بيعة ليزيد (شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة والمعلن بالفسق):

فقد جاء في كتب التاريخ أن معاوية لما هلك بدمشق في منتصف رجب سنة ستين هجرية، وكان ابنه يزيد في حوران، قام الضحاك بن قيس بتكفينه ثم صلى عليه ودفنه بمقابر باب الصغير، وأرسل البريد إلى يزيد يعزّيه بأبيه، ويطلب منه الاسراع في القدوم ليأخذ بيعة مجددة من الناس([339])، فسار يزيد إلى دمشق فوصلها بعد ثلاثة ايام من دفن معاوية، واقبل الناس عليه يهنّئونه بالخلافة ويعزونه بوفاة أبيه، فقال يزيد: ... أبشروا يا اهل الشام، فإن الخير لم يزل فيكم ، وستكون بيني وبين اهل العراق ملحمة، وذلك أني رأيت في منامي منذ ثلاث ليال كأن بيني وبين اهل العراق نهراً يطّرد بالدم جرياً شديداً، وجعلت اجهد نفسي لأجوزه فلم أقدر حتى جازه بين يدي عبيد اللّه بن زياد وأنا انظر إليه .

فصاح اهل الشام: امض بنا حيث شئت. معك سيوفنا التي عرفها اهل العراق في صفين ، فجزاهم خيراً وفرّق فيهم أموالاً جزيلة.

وكتب إلى العمال في البلدان يخبرهم بهلاك أبيه وأقرهم على عملهم، وضم العراقين إلى عبيد اللّه بن زياد بعد أن أشار عليه بذلك سرجون مولى معاوية، وكتب إلى الوليد بن عتبة وكان على المدينة: أما بعد، فإن معاوية كان عبداً من عباد اللّه، أكرمه واستخلصه ومكّن له، ثم قبضه إلى روحه وريحانه ورحمته. عاش بقدر ومات بأجل، وقد كان عهد إليّ وأوصاني بالحذر من آل أبي تراب لجرأتهم على سفك الدماء، وقد علمت يا وليد أن اللّه تبارك وتعالى منتقم للمظلوم عثمان من آل أبي سفيان ; لأنهم أنصار الحق وطلاب العدل، فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على اهل المدينة .

ثم أرفق الكتاب بصحيفة صغيرة فيها: خذ الحسين وعبد اللّه بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد اللّه بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً، ومن أبى فاضرب عنقه، وابعث إليّ برأسه ([340]).

وقام العامل بهذه المهمة، فبعث إلى الحسين(عليه السلام) وابن الزبير في منتصف الليل رجاء أن يغتنم الفرصة بمبايعتهما قبل الناس، فوجدهما رسوله عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان بن عفان([341]) في مسجد النبي(صلى الله عليه وآله)، فارتاب ابن الزبير من هذه الدعوة التي لم تكن في الوقت الذي يجلس فيه للناس([342]).

واتضح لابن الزبير ما عزم عليه الحسين من ملاقاة الوالي في ذلك الوقت، فأشار عليه بالترك حذار الغيلة، فعرّفه الحسين(عليه السلام) القدرة على الامتناع([343])، وصار إليه الحسين(عليه السلام) في ثلاثين([344]) من مواليه واهل بيته وشيعته شاكين السلاح، ليكونوا على الباب فيمنعوه إذا علا صوته([345])، وبيده قضيب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، ولما استقر المجلس بأبي عبد اللّه(عليه السلام) نعى الوليد إليه معاوية، ثم عرض عليه البيعة ليزيد، فقال(عليه السلام): مثلي لا يبايع سراً، فإذا دعوت الناس إلى البيعة دعوتنا معهم فكان امراً واحداً ([346]).

فاقتنع الوليد بكلامه، ولكن مروان ابتدر قائلاً: إنْ فارقك الساعة ولم يبايع لم تقدر منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم، ولكن احبس الرجل حتى يبايع أو تضرب عنقه. فقال الحسين: يابن الزرقاء([347])، أنت تقتلني أم هو؟ كذبت وأثمت ([348])

ثم أقبل على الوليد وقال: أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، بنا فتح اللّه وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحرمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أَيُّنا أحق بالخلافة ([349]).

فأغلظ الوليد في كلامه وارتفعت الاصوات، فهجم تسعة عشر رجلا قد انتضوا خناجرهم وأخرجوا الحسين(عليه السلام) إلى منزله قهراً([350])، فقال مروان للوليد: عصيتني! فو اللّه لا يمكنك على مثلها. قال الوليد: (ويح غيرك) يا مروان! اخترت لي ما فيه هلاك ديني. أقتل حسيناً أن قال لا ابايع؟! واللّه لا أظن امرئً يحاسب بدم الحسين إلاّ خفيف الميزان يوم القيامة([351])، ولا ينظر اللّه إليه ولا يزكّيه وله عذاب أليم ([352]).

2 ـ الخلافة محرمة على آل أبي سفيان:

وفيها دلالة على حرمة الخلافة على أساس قبلي جاهلي، فقد نقلت كتب التاريخ أن الامام الحسين(عليه السلام)بعد أن رفض بيعة يزيد، لقيه مروان عند صباح اليوم الثاني، فدار بينهما كلام نصح فيه مروان الامام(عليه السلام)ببيعة يزيد، فاسترجع الحسين(عليه السلام) وقال: على الاسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد، ولقد سمعت جدي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان([353])، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه، وقد رآه اهل المدينة على المنبر فلم يبقروا ، فابتلاهم اللّه بيزيد الفاسق وطال الحديث بينهما حتى انصرف مروان مغضباً([354]).

3 ـ لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد:

فقد جاء أن محمّد بن الحنفية قال للامام الحسين(عليه السلام): يا أخي، أنت أحب الناس إليّ وأعزهم عليّ، ولست أدّخر النصيحة لأحد من الخلق إلاّ لك، وأنت أحق بها. تنحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الامصار ما استطعت، ثم ابعث برسلك إلى الناس، فإن بايعوك حمدت اللّه على ذلك، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك ولا عقلك، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك. وإني اخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الامصار فيختلف الناس بينهم، فطائفة معك وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلّها أهلاً. فقال الحسين: فأين اذهب؟ قال: تنزل مكة، فإن اطمأنّت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى آخر حتى تنظر ما يصير إليه أمر الناس، فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الامور استقبالاً، ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها استدباراً([355]). فقال الحسين: يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأولا مأوىً لما بايعت يزيد بن معاوية. فقطع محمد كلامه بالبكاء. فقال الحسين: يا أخي، جزاك اللّه خيراً. لقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي، أمرهم أمري ورأيهم رأيي. وأما أنت فلا عليك أن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم، لا تخفي عني شيئاً من أمورهم ([356]).

4 ـ إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّد(صلى الله عليه وآله):

كتب الحسين(عليه السلام)قبل خروجه من المدينة وصيّة قال فيها: بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به الحسين بن علي(عليهما السلام) إلى أخيه محمد بن الحنفية، أن الحسين يشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأن الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور.

وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى اللّه عليه وآله. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فاللّه أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين.

وهذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت وإليه انيب. ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمد([357]).

5 ـ ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب والآخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات اللّه:

فقد ذكر المؤرخون أن الحسين(عليه السلام) وافته في مكة كتب اهل الكوفة، من الرجل والاثنين والثلاثة والأربعة، يسألونه القدوم عليهم لأنهم بغير إمام، ولم يجتمعوا مع النعمان بن بشير في جمعة ولا جماعة، وكثرت لديه الكتب، حتى ورد عليه في يوم واحد ستمئة كتاب، واجتمع عنده من نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب، وفي كل ذلك يؤكدون الطلب وهو لا يجيبهم. وآخر كتاب ورد عليه من شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن عمير بن عطارد، وفيه: إن الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يابن رسول اللّه، فقد اخضرّ الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الارض وأورقت الاشجار، فاقدم إذا شئت، فإنما تقدم على جند لك مجنّدة ([358]).

ولما اجتمع عند الحسين ما ملأ خرجين كتب إليهم كتاباً واحداً دفعه إلى هانئ بن هانئ السَبُعي، وسعيد بن عبد اللّه الحنفي، وكانا آخر الرسل. وصورته: بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد، فإن هانئاً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى والحق، وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء اللّه. فلعمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات اللّه. والسلام ([359]).

6 ـ رضا اللّه رضانا اهل البيت:

فقد ورد أن الحسين(عليه السلام) لما بلغه أن يزيد انفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين(عليه السلام)أينما وجد([360])، عزم على الخروج من مكة قبل إتمام الحج، واقتصر على العمرة كراهية أن تستباح به حرمة البيت([361]).

وقبل أن يخرج قام خطيباً فقال: الحمد للّه، وما شاء اللّه، ولا قوة إلاّ باللّه، وصلى اللّه على رسوله. خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف! وخير لي مصرع أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربة سغباً. لا محيص عن يوم خطّ بالقلم. رضا اللّه رضانا اهل البيت. نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين. لن تشذ عن رسول اللّه لحمته، بل هي مجموعة له في حضيرة القدس، تقرّ بهم عينه وينجز بهم وعده. ألا ومن كان فينا باذلاً مهجته موطّناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً إن شاء اللّه تعالى ([362]).

وكان خروجه(عليه السلام) من مكة لثمان مضين من ذي الحجة، ومعه اهل بيته ومواليه وشيعته من اهل الحجاز والبصرة والكوفة، الذين انضموا إليه ايام إقامته بمكة، وأعطى كل واحد منهم عشرة دنانير وجملاً يحمل عليه زاده([363]).

7 ـ نحن اهل بيت محمد(صلى الله عليه وآله) أولى بولاية هذا الأمر:

فقد جاء أن الحسين(عليه السلام)بعد خروجه من مكة سار حتى نزل في شراف، وعند السحر أمر فتيانه أن يستقوا من الماء ويكثروا، وفي نصف النهار سمع رجلاً من اصحابه يكبر، فقال الحسين: لم كبرت؟ قال: رأيت النخل، فأنكر من معه أن يكون بهذا الموضع نخل وإنما هو أسنّة الرماح وآذان الخيل، فقال الحسين: وأنا أراه ذلك ثم سألهم عن ملجأ يلجأون إليه، فقالوا: هذا ذو حسم([364]) عن يسارك فهو كما تريد فسبق إليه الحسين وضرب أبنيته. وطلع عليهم الحر الرياحي([365]) مع ألف فارس، بعثه ابن زياد ليحبس الحسين(عليه السلام) عن الرجوع إلى المدينة أينما يجده، أو يقدم به الكوفة، فلما رأى سيد الشهداء(عليه السلام) ما بالقوم من العطش، أمر اصحابه أن يسقوهم ويرشفوا الخيل، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم .

وكان علي بن الطعان المحاربي مع الحر، فجاء آخرهم وقد أضرّ به العطش، فقال له الحسين(عليه السلام): أنخ الراوية وهي الجمل بلغة الحجاز فلم يفهم مراده فقال له: أنخ الجمل ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء، فقال له ريحانة الرسول: اخنث السقاء فلم يدر ما يصنع لشدة العطش، فقام(عليه السلام)بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه.

ثم إن الحسين استقبلهم فحمد اللّه وأثنى عليه وقال: إنها معذرة إلى اللّه عزوجل وإليكم، وإني لم آتكم حتى اتتني كتبكم، وقدمت بها عليّ رسلكم أن اقدم علينا فإنه ليس لنا إمام، ولعل اللّه أن يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم، وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه إليكم

فسكتوا جميعاً. وأذّن الحجاج بن مسروق الجعفي لصلاة الظهر، فقال الحسين للحر: أتصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل نصلي جميعاً بصلاتك فصلى بهم الحسين(عليه السلام).

وبعد أن فرغ من الصلاة أقبل عليهم فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلى على النبي محمد(صلى الله عليه وآله) وقال: أيها الناس، إنكم إن تتقوا اللّه وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى للّه، ونحن أهل بيت محمد(صلى الله عليه وآله)، أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان، وإن أبيتم إلاّ الكراهية لنا والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم، انصرفت عنكم. فقال الحر: ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها، فأمر الحسين عقبة بن سمعان فأخرج خرجين مملوّين كتباً. قال الحر: إني لست من هؤلاء، وإني أُمرت ألاّ افارقك إذا لقيتك حتى أُقدمك الكوفة على ابن زياد. فقال الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، وأمر أصحابه بالركوب، وركبت النساء فحال بينهم وبين الانصراف إلى المدينة ([366]).

8 ـ من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام اللّه ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالاثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله:

فقد ورد أن الامام الحسين(عليه السلام) خطب في اصحاب الحر في البيضة([367])، فقال بعد الحمد للّه والثناء عليه: أيها الناس، إن رسول اللّه قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرام اللّه ناكثاً عهده مخالفاً لسنة رسول اللّه يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام اللّه وحرموا حلاله، وأنا أحقّ من غيَّر، وقد اتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول اللّه، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، فالمغرور من اغترّ بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني اللّه عنكم، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته ([368]).

9 ـ إني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً:

لقد كان نزول الامام الحسين(عليه السلام) في كربلاء في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين([369])، فجمع ولده وإخوته وأهل بيته، ونظر إليهم وبكى وقال: اللّهم إنا عترة نبيك محمد، قد أُخرجنا وطُردنا وأُزعجنا عن حرم جدنا، وتعدّت بنو أمية علينا. اللّهم فخذ لنا بحقنا، وانصرنا على القوم الظالمين

وأقبل على اصحابه فقال: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحصّوا بالبلاء قلّ الديّانون ([370]).

ثم حمد اللّه وأثنى عليه وصلى على محمد وآله وقال: أما بعد فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلاّ صُبابة كصُبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل. ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه، فإني لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً ([371]).

10 ـ لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق:

عندما بعث الحر بن يزيد الرياحي إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين(عليه السلام)في كربلاء، كتب ابن زياد إلى الحسين(عليه السلام): أما بعد يا حسين، فقد بلغني نزولك كربلاء، وقد كتب إليَّ امير المؤمنين يزيد ألاّ اتوسّد الوثير ولا أشبع من الخمير أو ألحقك باللطيف الخبير، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد. والسلام .

ولما قرأ الحسين(عليه السلام) الكتاب رماه من يده وقال: لا أفلح قوم اشتروا مرضاة المخلوق بسخط الخالق. وطالبه الرسول بالجواب فقال: ما له عندي جواب، لأنّه حقت عليه كلمة العذاب

وأخبر الرسول ابن زياد بما قاله أبو عبد اللّه(عليه السلام)، فاشتد غضبه([372]) وأمر عمر ابن سعد بالخروج إلى كربلاء لقتال الامام الحسين(عليه السلام).

11 ـ لا واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد:

عندما أقبل عمر بن سعد نحو الحسين(عليه السلام) في ثلاثين ألفاً، دعا الامام الحسين(عليه السلام)براحلته فركبها، ونادى بصوت عال سمعه جلهم: أيها الناس، اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر ولم تعطوا النصف من أنفسكم: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون). (إن وليّي اللّه الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين)

ثم قال: الحمد للّه الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته، والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيّب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد اسخطتم اللّه فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحلّ بكم نقمته، وجنّبكم رحمته، فنعم الربّ ربنا وبئس العبيد أنتم! أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمد(صلى الله عليه وآله)، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استخوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر اللّه العظيم، فتباً لكم ولما تريدون! إنا للّه وإنا إليه راجعون. هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعداً للقوم الظالمين([373])

أيها الناس انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه وأول المؤمنين باللّه، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار عمي؟ أولم يبلغكم قول رسول اللّه لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ فإن صدقتموني بما أقول ـ وهو الحق ـ فو اللّه ما تعمدت الكذب منذ علمت أن اللّه يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّه الانصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس ابن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّه لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!

ثم قال الحسين(عليه السلام): فإن كنتم في شك من هذا القول، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم؟ فو اللّه ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص جراحة؟ فأخذوا لا يكلمونه، فنادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن ابجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجنّدة؟ فقالوا: لم نفعل.

قال: سبحان اللّه! بلى واللّه لقد فعلتم. ثم قال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الارض، فقال له قيس بن الاشعث: أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسين(عليه السلام): أنت أخو أخيك. أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا واللّه، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد. عباد اللّه، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون. أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب

ثم أناخ راحلته وأمر عقبة بن سمعان فعقلها([374]).

12 ـ هيهات منّا الذلّة يأبى اللّه لنا ذلك ورسوله والمؤمنون:

وخطب الامام الحسين(عليه السلام) خطبته الثانية فيمن جاء لقتاله، حيث ركب فرسه واخذ مصحفاً ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال: يا قوم، إن بيني وبينكم كتاب اللّه وسنة جدي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ([375]).

ثم استشهدهم على نفسه المقدسة وما عليه من سيف النبي(صلى الله عليه وآله) ودرعه وعمامته، فأجابوه بالتصديق، فسألهم عما أقدمهم على قتله، فقالوا: طاعة للأمير عبيد اللّه بن زياد فقال(عليه السلام): تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوكم؟ فأصبحتم ألباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات! تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبى، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش ثم نقضتموها، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الإثم ، ونفثة الشيطان ومطفئي السنن ! ويحكم! أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟ أجل واللّه، غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم، وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجىً للناظر، وأكلة للغاصب.

ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى اللّه لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر.

أما واللّه لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور. عهد عهده إليّ أبي عن جدي رسول اللّه (فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون). (إني توكّلت على اللّه ربي وربكم ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم) ([376]) .

ثم رفع يديه نحو السماء وقال: اللّهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مُصبِرة، فإنهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليك توكّلنا وإليك المصير([377]).

واللّه لا يدع أحداً منهم إلاّ أنتقم لي منه، قتلة بقتلة، وضربة بضربة، وإنه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي ([378]).

13 ـ يا أمة السوء، بئسما خلفتم محمداً في عترته:

فقد روي أن الامام الحسين(عليه السلام) عندما ودّع عياله أمرهم بالصبر ولبس الأُزر، وقال: استعدّوا للبلاء، واعلموا أن اللّه تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب عدوّكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكّوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم ([379]).

ثم صاح في القوم بصوت عال: يا أمة السوء، بئسما خلفتم محمداً في عترته! أما إنكم لا تقتلون رجلاً بعدي فتهابون قتله، بل يهون عليكم ذلك عند قتلكم إياي. وايم اللّه، إني لأرجو أن يكرمني اللّه بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. فقال الحصين: وبماذا ينتقم لك منا يابن فاطمة؟ قال: يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم، ثم يصبّ عليكم العذاب صبّاً ([380])

14 ـ اللهم احكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا ونحن عترة نبيك(صلى الله عليه وآله):

وحتى اللحظات الاخيرة التي كان الامام الحسين(عليه السلام)يجود فيها بنفسه، وهو مضمخ بدمه على ارض كربلاء، لم يغفل أبداً عن مبدأيته الرسالية، فكانت آهاته وآلامه، وهو في تلك الحالة، هي تسليم لأمر اللّه، ونظرٌ إلى مستقبل الرسالة والأمة، وبيان لحقيقة موقفه وموقعه من الرسالة التي حملها، والدور الذي اضطلع به، فمما روي أن هلال بن نافع قال: كنت واقفاً نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فو اللّه ما رأيت قتيلاً قط مضمخاً بدمه أحسن منه وجهاً، ولا أنور، ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله، فاستقى في هذه الحال ماء فأبوا أن يسقوه، وقال له رجل: لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها، فقال ((عليه السلام)): أنا أرد الحامية؟ وإنما أرد على جدي رسول اللّه، وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشكو إليه ما ارتكبتم مني وفعلتم بي، فغضبوا بأجمعهم حتى كأن اللّه لم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئاً ([381]).

ولما اشتد به الحال رفع طرفه إلى السماء وقال: اللّهم متعال المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غنيّ عن الخلايق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت، ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً. اللّهم احكم بيننا وبين قومنا، فإنهم غرّونا وخذلونا وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيك، وولد حبيبك محمد(صلى الله عليه وآله)، الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين([382])

صبراً على قضائك يا رب لا إله سواك يا غياث المستغيثين([383])، مالي رب سواك ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك يا غياث من لا غياث له، يا دائماً لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كل نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين ([384]).

المأساوية المروعة لواقعة كربلاء عنصر أساسي في تحقيق مصلحة الاسلام العليا:

لقد كان للصورة المأساوية التي تميّزت بها واقعة الطف الدامية في كل وقائعها ومفرداتها، دور مرسوم وأثر بليغ شاءه اللّه سبحانه لتتحقق للامام الحسين(عليه السلام)أهدافه الالهية من خلال نهضته الكبرى. والمتصفح لكتب التاريخ التي تسرد تفاصيل واقعة الطف الأليمة سيهتز ضميره ويعتريه الحزن والألم الشديد، بل تجري دمعته مع كل مفردة من مفردات الواقعة المأساوية، منذ حركة الامام الحسين(عليه السلام) بأهل بيته وأصحابه من مكة المكرمة، حتى استشهاده على أرض كربلاء وسبي نسائه وأطفاله فيما بعد، وفي الوقت نفسه يستعر غضباً وغيضاً على الطاغية يزيد وابن زياد وعمّالهم من قتلة الامام الحسين(عليه السلام); لشدة قسوتهم وظلمهم الذي لا حدّ له في طريقة مواجهة الامام(عليه السلام)، وقتله وقتل أهل بيته وأصحابه وسبي نساء عترة الرسول(صلى الله عليه وآله) وأطفالهم.

ولقد فعلت هذه المأساة فعلها في تأجيج عواطف المسلمين، خصوصاً أهل الكوفة وغيرها من حواضر العراق والحجاز، وخلقت الأرضية الواسعة لأيّة مبادرة تعبوية لمواجهة الخلافة الاموية، وكسر هيبتها، وفضح تسترها بستار الخلافة الاسلامية، ولهذا نجد أن مرحلة المواجهة والجهاد العنيد لهذا الخط المنحرف قد بدأت منذ أن بدأت النهضة الحسينية الكبرى، واشتدت بعد استشهاده(عليه السلام)، وكلها تنادي بشعار الرضا من آل محمد(صلى الله عليه وآله)، وهو شعار الامام الحسين(عليه السلام) الشهير، الذي أطلقه في نهضته حيث قال: رضا اللّه رضانا أهل البيت

ولم أجد أبلغ من وصف الامام الحسن(عليه السلام) لمأساة الامام الحسين(عليه السلام)، فقد روى أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام)أن الحسين دخل على أخيه الحسن(عليهما السلام)في مرضه الذي استشهد فيه، فلما رأى ما به بكى، فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا عبد اللّه ؟ قال: أبكي لما صنع بك. فقال الحسن(عليه السلام): إن الذي يؤتى إليّ سمٌ يدس إليّ فاقتل به ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّه، يزدلف إليك ثلاثون ألفاً يدّعون أنهم من أمّة جدنا محمد، وينتحلون دين الاسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحل ببني أمية اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كل شيء حتى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار ([385]).

ولم يقف الأثر التعبوي للنهضة الحسينية عند حدّ مقطعي من مسيرة الأمة، بل تواصل بنمو نوعي وكمي مطّرد عبر العصور، حتى إننا نستطيع القول: إن من أبرز الأدلّة الواقعية على الأثر الدائم لهذه النهضة الخالدة في أعماق المسلمين، وتحقيقها للهدف الشامل في تقويم المصلحة الاسلامية العليا على مستوى الرسالة والأمة جمعاء، هو هذا الإجماع المطلق في جميع العصور على تأييدها والتفاعل مع معطياتها، والإدانة المطلقة ليزيد بن معاوية موقفاً ومنهجاً، فهذه كتب الحديث والتاريخ والسير لكل المذاهب والفرق الاسلامية تجمع على ذلك، وهذه كتب المحدثين من اسلاميين وغير اسلاميين، ممن تناول قيام الامام الحسين(عليه السلام) ونهضته بالدرس والتحليل، تجمع على ذلك أيضاً، حتى لقد جاء على لسان أحدهم، وهو الزعيم الهندي المعروف (غاندي) قوله: لقد عرف الحسين كيف يكون مظلوماً فينتصر

حفظ مصلحة الاسلام العليانهج متواصل في سيرة أئمة أهل البيت(عليهم السلام)

ويستمرّ هذا الخطّ المقدّس في تقديم مصلحة الإسلام العليا على أيّة مصلحة أخرى، في مواقف وسيرة أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) بعد الإمام الحسين(عليه السلام) ; فالإمام علي ابن الحسين زين العابدين(عليه السلام) رأى في زمنه أنّ الأزمة الأخلاقيّة في الأمة الإسلاميّة، هي الخطر الأساسي الجديد الذي بدأ يغزو حواضر المسلمين وتجمّعاتهم. فبدلاً من مجالس الذكر الحكيم والحديث الشريف وتداول شؤون الإسلام والمسلمين، بدأت مجالس الشعر الماجن ومحافل الغناء والعزف تنتشر في كلّ مكان، وبرزت طبقة منهم لتتخصّص بهذه المفاسد إمعاناً في سلب الإرادة الإسلاميّة عن الأمّة، وتخديرها تحت سطوة الخلافة الأمويّة الجائرة، فما كان من الإمام زين العابدين(عليه السلام) إلاّ أن ينتهج أسلوباً رائعاً من أساليب التربية الذاتيّة، ألا وهو الدعاء والمناجاة، ونشر مكارم الأخلاق، ونهج المسالك العرفانيّة العالية، التي من شأنها أن تدخل وتتفاعل تلقائيّاً مع كلّ فرد وفي كلّ ظرف، فانحسرت موجة المجون والفواحش لتقبع في سرايا القصور الأمويّة ومجالسها الخاصّة.

وهكذا مهّد الإمام السجّاد(عليه السلام) لحركة الإمامين الباقر والصادق(عليهما السلام) من بعده، لتبدأ أكبر مدرسة تحكي دعوة محمّد بن عبدالله(صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسالة الإسلام الإلهي الأصيل بالبروز والانتشار في أوساط الأمّة، لينشأ جيل من علماء الإسلام الحقيقيّين، ولتبدأ على يدي هذين الإمامين وأيدي الأئمّة من بعدهما معركة الرسالة بكلّ أبعادها، مع رسالة الطاغوت بكلّ أشكاله وألوانه، ترسيخاً وإبعاداً لها عن شوب التحريف والتزوير، ولتنتشر في كلّ أمصار الأرض، وتصل صافية نقيّة إلى كلّ الأجيال المتعاقبة. فخاض الإمام الكاظم(عليه السلام) معركة الحاكميّة الإلهيّة لتثبيت مواصفات الحاكم الإسلامي وواجباته وطبيعة علاقته بالأمّة، وسلك الإمام الرضا والإمام الجواد(عليهما السلام) طريق حماية الإسلام من وافدة أهل الكتاب وشبهاتهم، ومستجدّات الحوادث والقضايا التي ظهرت في زمانهم، إحياءً للدين، وإظهاراً له على الدين كلّه. ولم توقف مسيرتهم الإسلاميّة الكبرى هذه وسائل الإرهاب والبطش والسجن والتشريد والإغراء والإغواء، حتّى استشهدوا جميعاً في سبيل مصلحة الإسلام العليا، واستتر آخرهم تمهيداً وإعداداً للأمّة وللصفوة منها، ليظهر(عليه السلام) بعد انتظار، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، ويكون الدين كلّه لله.

وبين استتاره وظهوره المبارك عجّل الله فرجه يستهدي محبّوه من أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، والصفوة من أبناء مدرستهم الكبرى، نفس المنهج وذات الخط في تقديم مصلحة الإسلام العليا على كلّ المصالح والشؤون، فتجدهم في كلّ قضايا المسلمين وشؤونهم، وما يُعدّ الدفاع عنه دفاعاً عن بيضة الإسلام، هم السبّاقين في البذل والعطاء بالنفس والمال والكلمة الهادفة والموقف المسؤول، فهذه قضيّة فلسطين قضيّة المسلمين الأولى لم يصمد مع أبنائها المجاهدين حقّ الصمود، ويصدع بالحقّ الإسلاميّ فيها، مثلما صمد وصدع أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).

والحكم الإلهي التأريخي للإمام الخميني(قدس سره) بإعدام المرتدّ سلمان رشدي، والإصرار الجازم على تنفيذه مثل بارز آخر على ذلك، فقد تمثّلت فيه كرامة وعزّة وقدسيّة الإسلام أمام الكفر والشرك، والاستخفاف بالمقدّسات الإسلاميّة. ولم يثنِ قادة أتباع أهل البيت(عليهم السلام)، عن استنهاض المسلمين في كلّ مكان لأداء هذا التكليف الإلهي، ما فرضه الاستكبار المحارب من صور الحرب السياسيّة والإعلاميّة، والتضحية بالكثير من المصالح الاقتصاديّة، والتعرّض لمختلف أشكال المؤامرات الشيطانيّة الخبيثة.

وهكذا شأنهم في قضايا الإسلام الأخرى: في مأساة شعب العراق، ومحنة المسلمين في الهند وكشمير، والمذابح الوحشيّة التي طالتهم في البلقان، وفتنتهم الدمويّة في طاجكستان وأذربيجان والصومال، والتنكيل الذي لاحقهم في مصر والجزائر وغيرها من بلاد الإسلام، والنهب الاقتصادي والاستعمار السياسي والحرب الإعلاميّة والثقافيّة التي تشنّها دول الاستكبار الغربي بقيادة الفرعون الأكبر أميركا. في كلّ ذلك وغيره من قضايا الإسلام والمسلمين الكبرى، تجد أتباع أهل البيت(عليهم السلام) في القلب من حركة المسلمين، وعلماءهم الشوكة الدامية في عين الاستكبار وعملائه الطغاة أينما حلّوا أو رحلوا، وليس غريباً أن تقود أميركا وكلّ دول الكفر والشرك في الغرب حملة شيطانيّة مسعورة ; للنيل من دولة أهل البيت(عليهم السلام) في إيران، حركة الإشعاع، والإسناد، وقاعدة الدعوة والجهاد، واصفة إيّاها ببؤرة الإرهاب الدولي والخطر الأكبر على حضارتهم الكافرة وتطلّعاتهم الاستكباريّة، مبرّرة بذلك كلّ المؤامرات التي تحيكها للقضاء على هذه الدولة المباركة لإطفاء نورها الإلهي، ولن يكون لهم هذا ما دام الله تعالى أساس وجودها وأصل حكومتها (يُريدونَ أنْ يُطْفِئوا نُورَ اللهِ بأفْواهِهِمْ وَيَأبى اللهُ إلاّ أنْ يُتِمَ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرونْ)([386]).

الأصل الثالث : حفظ وحدة المسلمينالأسس المبدئية للوحدة الاسلامية في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)

لعلّ من أبرز المسائل التي تعيش أملاً حيّاً في ضمير المسلمين، وهدفاً أكيداً في تطلّعات الاُمة الاسلامية، ورغبة ملحّة لدى رجالها وقادتها المجاهدين، هي مسألة الوحدة بين المسلمين، والتقارب بين مذاهبهم وفرقهم، وردم الهوة الوهمية بينهم تلك التي خلقها الجهل والهوى، وأحكمها كيد حكّام الجور والفساد ، وعمل على اتساعها وتكريس أمرها في مرحلتنا المعاصرة الكفر العالمي ومؤسساته الثقافية والإعلامية الخبيثة، حتى استحكمت وأصبح أمرها يحتاج إلى الهمّة العالية للعلماء المخلصين، والحركة الرائدة للقادة المجاهدين، والإرادة الماضية للاُمة الواعية الراشدة، خصوصاً وأن المشتركات تكاد تجعل، وبنظرة علمية موضوعية ، كل الاختلافات على الهامش فيما تحتفظ بالاصول والاركان واحدةً لا تعدد فيها، متحدةً لا خلاف عليها، سواءً كانت بمنطق صريح مباشر للثوابث والنصوص العقائدية والتشريعية أو بالملازمة العقلية والعقلائية لها.

وتتأكّد هذه الرؤية عند مراجعتنا لتراث السلف الصالح واُطروحاتهم الحديثية والعلمية لمفردات الاسلام في مختلف اُصوله وفروعه، ذلك لأن يد التحريف والتزوير، ومواكبة مصالح الحكّام الفاسدين والسلاطين المنحرفين لم تكن قد توغلت واستقرّت بعد في كثير مما وصلنا من بعدهم، وقد كان لائمة أهل بيت النبوة والعصمة(عليهم السلام) الدور الاساس في ذلك حتى لقد تبلورت منهجية خاصة تميّزوا بها من خلال مدرستهم النبوية الاصيلة، بذلوا لتحقيقها في حياة الامة الاسلامية كل وجودهم وحياتهم ليصدق على واقع هذه الامة الوصف القرآني الكريم في قوله تعالى: (كنتم خير أُمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...)([387]) كما كانت مواجهة الطغاة ومخططاتهم في اجهاض هذا الهدف الرسالي الكبير شرسة لا هوادة فيها.

وليس أدلَّ على ذلك من معاناة أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وأتباعهم من علماء ورواة حديث وما تعرضوا له من اضطهاد وقمع وتشريد وسجن وتعذيب وقتل، منعاً للحق من أن يظهر وتدول دولته، وللاُمة من أن تعي وترشد فتتحد وتردع الباطل وتسقط سلطانه. ولن ينهض بهذا العبء الثقيل ويضطلع بهذه المسؤولية الكبرى إلاّ أهل العلم المخلصين ورجال الاُمة الواعين من أتباع هذه المدرسة الرائدة وسالكي نهجها القويم، الذين يدركون خطورة الأمر وأهميته، ومواطن الصحة من الفساد في المنقول ومنطق الصواب من الخطأ في المعقول، بروح اسلامية مسؤولة تأمل رضا اللّه، وبعقول علميّة متفتحة تفحص عن الحقيقة وتنشد الحق، وبأخلاقية تدعو إلى سبيل ربها بالحكمة والموعظة الحسنة.

وفي دراستنا المختصرة هذه نحاول أن نسلّط الضوء وبنظرة سريعة على الاسس المبدئية للوحدة الاسلامية في مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)لتكون مدخلاً مفهرساً لدراسة أكثر عمقاً وأوسع تفصيلاً في التعرف على معالم هذه المدرسة النبوية الطاهرة في منهجها واساليبها الالهية لبناء الامة الاسلامية الواحدة وتوحيد المسلمين على اسس الاسلام المحمدي الاصيل. وكلّنا أمل ورجاء أن تتحقق بذلك خطوة أساسية، ويشيّد ركن ركين في مسيرة الوحدة الاسلامية المقدسة.

ويمكننا حصر هذه الاُسس من خلال الاستقراء القرآني والسيرة الشريفة في أساسين:

الأساس الأول: وحدة العقيدة الاسلامية.

الأساس الثاني: وحدة التشريع الاجتماعي والسياسي العام.

وسنتناولهما تباعاً ان شاء اللّه تعالى.

الأساس الأول:وحدة العقيدة الاسلامية

وهي المضمون العقائدي لشهادة أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) .

فبقول لا إله إلاّ اللّه تبدأ مسيرة التوحيد نحو الفلاح والصلاح يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا ([388]).

وبالشهادةِ لمحمد بن عبداللّه(صلى الله عليه وآله) بالرسالة الإلهية تنطلق رحلة التسليم والايمان نحو اللّه سبحانه:(فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلّموا تسليماً)([389])

وبهاتين الشهادتين تتحقق وحدة العقيدة الاسلامية في اساسيها الأوليين وهما توحيد اللّه والتسليم للرسول بالرسالة الالهية فتتقوم العلاقة الانسانية على اساس هذه العقيدة في الحقوق والواجبات وحفظ الحرمات، فعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)أنه قال: من شهد أن لا إله إلاّ اللّه واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم ([390])

ويقول(صلى الله عليه وآله) ايضاً: اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه فإذا شهدوا أن لا إله إلاّ اللّه وأن محمداً رسول اللّه واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلّوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها ([391]) .

وبذلك تتم الحجة الشرعية على اسلام قائلهما ويحرم حينئذ نفي اصل الاسلام عنه وتكفيره في العقيدة وان صدر منه ما يخالف احكام الاسلام التفصيلية بعد ذلك لنهي رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) عن ذلك في قوله: كفّوا عن أهل لا إله إلاّ اللّه لا تكفّروهم بذنب فمن كفّر أهل لا إله إلاّ اللّه فهو إلى الكفر أقرب ([392])، وقوله(صلى الله عليه وآله)أيضاً: من قذف مؤمناً بكفر فهو كقاتله ومن قتل نفساً بشيء عذّبه اللّه بما قتل ([393])، وقوله(صلى الله عليه وآله) أيضاً: إذا قال الرجل لأخيه ياكافر فهو كقتله، ولَعْنُ المؤمن كقتله ([394]).

وعليه ففي هذا الأساس مبدءان:

الأوّل: مبدأ التوحيد:

وهو الاُس الأوّل للصراط المستقيم، ومنطق حركة الانسان نحو الكمال الواحد الأحد(واعتصموا بحبلِ اللّهِ جميعاً ولا تَفَرّقوا واذكروا نعمةَ اللّهِ عليكم إذ كنتم أعداءً فألّفَ بينَ قلوبِكم فأصبحتُم بنعمتِه إخواناً وكنتم على شفا حُفرة من النار فأنقذكم منها كذلكَ يبيّنُ اللّهُ لكم آياتِهِ لعلّكم تهتدونَ)([395]).(لا إكراهَ في الدينِ قد تبيّنَ الرشدُ منَ الغيِّ فمنْ يكفرْ بالطاغوتِ ويؤمنْ باللّهِ فقد استمسكَ بالعروةِ الوثقى لا انفصامَ لها واللّهُ سميعٌ عليمٌ)([396])

وبدونه لا يمكن ان تتوحد حركة أيّ انسان مع نظيره مهما كانت المحاولات والنوايا، ومهما توفّرت العوامل المادية لذلك(وإنْ يريدوا أن يخدعوكَ فإنَّ حسبَكَ اللّهُ هو الذي أيّدكَ بنصره وبالمؤمنين َ * وألّفَ بينَ قلوبِهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنَّ اللّهَ ألّفَ بينهم إنّه عزيزٌ حكيمٌ)([397]).

بل سنجد كل انسان قد افترق إلى فرقة بنفسه، وبعدد أهواء النفوس وشهواتها ستكون هناك سبلٌ وفرق(وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوهُ ولا تتّبعوا السبلَ فَتَفَرّقَ بكم عن سبيلِه ذلكم وصّاكم بهِ لعلّكم تتقونَ)([398]).(شَرَعَ لَكم من الدينِ ما وصّى به نوحاً والذي أوحينا إليكَ وما وصّينا بهِ ابراهيمَ وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدينَ ولا تتفرّقوا فيه كَبُرَ على المشركينَ ما تدعوهم إليهِ اللّهُ يجتبي إليه مَنْ يشاءُ ويهدي إليه مَنْ يُنيبُ)([399]).

كما أن التوحيد هو الاساس في بناء الأمّة الواحدة(إنَّ هذه أُمَّتُكم اُمّةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون)([400])،(وإنَّ هذه أُمَّتُكم اُمّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتّقون)([401]). وهو الاساس أيضاً في قلب الموازين الاجتماعية في بناء العلاقات والجماعات، وتغيّرها من موازين النسب والحسب إلى موازين الايمان باللّه والتحزّب له ومن أجله سبحانه (لا تجد قوماً يؤمنونَ باللّهِ واليومِ الآخرِ يوادّونَ مَنْ حادَّ اللّهَ ورسولَهُ ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم أُولئك كتبَ في قلوبِهم الإيمانَ وأيّدهم بروح منه ويدخِلُهم جنّات تجري من تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها رضيَ اللّه عنهم ورضوا عنه اولئك حزبُ اللّه ألا إنَّ حزبَ اللّهِ هم المفلحونَ)([402]).

وهو بعد ذلك حصن المسلم وضمان لسلامة الدين والمصير، فقد روي عن علي بن موسى الرضا(عليه السلام) عن ابائه الطاهرين(عليهم السلام) عن علي بن ابي طالب(عليه السلام)قال: سمعت النبي(صلى الله عليه وآله) يقول: قال اللّه جلّ جلاله: إني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا فاعبدوني، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه بالاخلاص دخل حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي ([403]). وعنه(عليه السلام)ايضاً عن آبائه الطاهرين(عليهم السلام) عن علي بن ابي طالب(عليه السلام)قال: قال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : ما جزاء من أنعم اللّه عزّ وجل عليه بالتوحيد إلاّ الجنة ([404]).

كما أن بالتوحيد كمال التصديق بالدين لقول اميرالمؤمنين(عليه السلام): أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده ([405]).

الثاني: مبدأ الايمان بالرسول والطاعة له:

وهو المبدأ الثاني من مبادئ العقيدة الاسلامية الواحدة، التي عاش المسلمون الأوائل حقيقتها على الأرض، وتفاعلوا معها قيماً وسلوكاً وجهاداً وآثاراً، وأقام على ذلك اللاحقون من بعدهم بعقولهم وعواطفهم وسلوكهم، وقولهم فيه قول اللّه عزّ وجل في محكم كتابه المجيد:(إنَّ اللّهَ وملائكتَه يصلّونَ على النبيِّ يا أيّها الذينَ آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً)([406]). ويمكننا الإحاطة الاجمالية بهذا المبدأ ودوره في التوحيد والوحدة الاسلامية من خلال تناول المفردات التالية:

أ ـ الكتاب الإلهي الواحد القرآن الكريم :

باعتباره الكتاب الذي جاء به الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله) من عند اللّه تعالى، وقام بتبليغه للناس، وعمل على تثبيت مكانته المقدسة ووحدته في عقيدة المسلمين، وحفظه لهم بإذن اللّه، ودعاهم إلى أن يكون الدستور الأبدي لهم، ومن أبرز مداليل أن القرآن الكريم، باعتباره الكتاب الالهي الاوحد للمسلمين، أساس مبدئي للوحدة والاخوة بين المسلمين هي:

1 ـ كونه امام الاُمة المصدِّق والحقّ من اللّه تعالى الذي لامرية فيه، ورحمته الواسعة الذي يتوحد المسلمون تحت لوائه وذلك مدلول قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً وهذا كتابٌ مصدِّقٌ لساناً عربياً لينذرَ الذين ظلموا وبشرى للمحسنينَ)([407])، وقوله تعالى :(أفَمَنْ كان على بيّنة من ربّهِ ويتلوهُ شاهدٌ منهُ ومن قبلهِ كتابُ موسى إماماً ورحمةً أُولئكَ يؤمنونَ بهِ ومن يكفرْ به من الاحزابِ فالنارُ موعدُه فلا تكُ في مريَة منهُ إنّه الحقُّ من ربِّك ولكنَّ اكثرَ الناسِ لا يؤمنونَ)([408]).

وعن علي اميرالمؤمنين(عليه السلام) قال: عليكم بالقرآن فاتّخذوه اماماً قائداً ([409]) .

وبخلاف ذلك تنتفي الوحدة وتحل الفرقة وينتشر الضلال ويضيع الدين وذلك قول اميرالمؤمنين(عليه السلام): انه سيأتي عليكم بعدي زمان ليس فيه شيءٌ اخفى من الحقّ، ولا اظهر من الباطل.... فالكتاب واهله في ذلك الزمان في الناس وليسا فيهم، ومعهم وليسا معهم! لان الضلالة لا توافق الهدى وإن اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة، وافترقوا على الجماعة كأنهم أئمة الكتاب وليس الكتاب إمامهم، فلم يبق عندهم منه إلاّ اسمه، ولا يعرفون إلاّ خطه وزُبْرَهُ... ([410]).

وهو حبل اللّه المتين في توحيد المبدأ وعروته الوثقى في وحدة الدين وطريقته المثلى في صراطه المستقيم، ففي الحديث عن أمير المؤمنين(عليه السلام) عليكم بكتابِ اللّهِ، فإنّه الحبلُ المتينُ والنورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ... مَنْ قال به صدق ، ومَنْ عمل به سبقَ ([411]).

وذكر الامام الرضا(عليه السلام) يوماً القرآن، فقال: هو حبلُ اللّهِ المتينُ، وعروتُه الوثقى، وطريقتُه المثلى، المؤدّي الى الجنّةِ، والمنجي من النارِ ([412]).

2 ـ كونه يمتاز في هذا السبيل، سبيل الحجّة التامّة للواحد الأحد في المعبود، والتوحيد والوحدة الاسلامية في الدين، انه محفوظ لا ينحرف (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)([413])، ويطمئن اللّه سبحانه رسوله الامين(صلى الله عليه وآله)بعدم ضياع القرآن الكريم فان عليه تعالى جمعه وقرآنه ومن ثم بيانه وهو قوله الكريم: (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه * فاذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إنّ علينا بيانه)([414]).

كما أنه قائم لا يبلى، وحق لا اختلاف ولا تخلّف فيه، وهو مفاد قول الامام الرضا(عليه السلام): لا يخلق من الأزمنة، ولا يغثّ على الألسنة، لأنّه لم يجعل لزمان دون زمان، بل جعل دليل البرهان، وحجّة على كل إنسان، لا يأتيهِ الباطلُ من بينِ يديهِ ولا من خلفهِ تنزيلٌ من حكيم حميد ([415]).

وعنه عن أبيه(عليهما السلام) إن رجلاً سأل أبا عبداللّه(عليه السلام) ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة؟ فقال: لأن اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناس دون ناس فهو في كلّ زمان جديد، وعند كلّ قوم غضّ إلى يوم القيامة ([416]).

وعن اميرالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: كتاب اللّه تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في اللّه ، ولا يخالف بصاحبه عن اللّه ([417]).

ومن بليغ وصفه(عليه السلام) للقرآن الكريم كونه قوام الاسلام الابدي وبنيانه الازلي قوله: .. ثم انزل عليه الكتاب نوراً لا تطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك قعره، ومنهاجاً لا يضل نهجه، وشعاعاً لا يُظلم ضَوْؤهُ، وفرقاناً لا يخمدُ بُرْهانهُ، وتبياناً لا تهدم أركانه وشفاءً لا تخشى أسقامُه، وعزّاً لا تهزمُ أنصارُهُ، وحقّاً لا تخذلُ أعوانه، فهو معدن الايمان وبحبوحته، وينابيع العلم وبحورهُ، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الاسلام وبنيانُهُ، وأوديةُ الحقِّ وغيطانه، وبحرٌ لا ينزفه المستنزفون، وعيونٌ لا ينضبها الماتحون، ومناهلُ لا يغيضها الواردون، ومنازلُ لا يضلُّ نهجها المسافرون، واعلامٌ لا يعمى عنها السائرون وآكامٌ لا يجوزُ عنها القاصدون... ([418]).

والقرآن بعد ذلك نزل بالحق مصدقاً لما سبقه من كتب الانبياء والمرسلين ومهيمناً وحاكماً عليها، وهو قوله تعالى: (وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما انزل اللّه ولا تتبع أهواءَهم عمّا جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء اللّه لجعلكم امةً واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى اللّه مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)([419]).

3 ـ كونه المحجّة البيضاء التي لا طريق للباطل والفرقة والفتن بين المسلمين معها، لو يتلونه حق تلاوته ويتبعونه حقّ اتّباعه، وذلك مفاد قوله عزَّ من قائل في كتابه الكريم:(الذين آتيناهم الكتابَ يتلونَه حقَّ تلاوتِه أُولئكَ يؤمنونَ بهِ ومن يكفرْ بهِ فأولئكَ همُ الخاسرون)([420]). وهو بعد ذلك مقوّم مبدئي للأخوّة الاسلامية التي نادى بها رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)وبذل اهل البيت(عليهم السلام) من بعده كل وجودهم من اجل تجسيدها وتحقيقها في واقع المسلمين وخصوصاً في سلوك وحياة أتباعهم ومحبيهم .

فعن أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال: أَوِّهِ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموهُ، وتدبّروا الفرضَ فأقاموه، أحيوا السنّةَ وأماتوا البدعةَ، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه ([421]).

ثم هو حصن الامة من الفتن والمخرج الآمن منها، فعن أميرالمؤمنين(عليه السلام)أن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: أتاني جبرئيل فقال: يا محمد سيكون في اُمّتك فتنة، قلت: فما المخرج منها؟ فقال: كتاب اللّه فيه بيان ماقبلكم من خبر، وخبر ما بعدكم، وحكم مابينكم... ([422]).

وعن الحسن بن عليّ(عليه السلام) قال: قيل لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله): إنّ اُمتك ستفتن، فسئل: ما المخرج من ذلك؟ فقال: كتاب اللّه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، من ابتغى العلم في غيره أضلّه اللّه ... ([423]).

وعن الصادق (عليه السلام) قال: من لم يعرف الحقّ من القرآن لم يتنكب الفتن ([424]) .

4 ـ كما أن في القرآن الكريم حل مشاكل المسلمين وحكم ما بينهم، ونظم أمرهم، وبذلك يُحكم بناء الاُمّة الواحدة ويشتدُّ عودها وتقوى شوكتها. وهو مدلول قوله تعالى: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خسارا)([425])، وقوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)([426])، وقوله تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء)([427]).

وعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: القرآن غنيّ لا غنى دونه، ولا فقر بعده ([428]). وعن أميرالمؤمنين علي(عليه السلام) قال: واعلموا ان هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحَدِّث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدىً، أو نقصان من عمىً. واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنىً، فاستشفوهُ من أدوائكم، واستعينوا به على لاوائكم، فان فيه شفاءً من أكبر الداء: وهو الكفر والنفاق، والغيُّ والضلال، فاسألوا اللّه به، وتوجهوا اليه بحبه، ولا تسألوا به خلقه، إنه ما توجه العباد إلى اللّه تعالى بمثله، واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدِّق، وانه من شفع له القرآن يوم القيامة شُفِّع فيه، ومن مَحَلَ به القرآن يوم القيامة صُدِّق عليه، فانه ينادي مناد يوم القيامة: ( ألا إن كل حارث مبتلىً في حرثه وعاقبة عمله، غير حَرَثةِ القرآن ). فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوه على ربكم، واستنصحوه على انفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم ([429]).

وعنه(عليه السلام) أيضاً أنه قال: في القرآن نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم ([430]).

وقال أيضاً: ... أَلا إنَّ فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم ([431])

وعنه(عليه السلام) في وصف القرآن الكريم قال: جعله اللّه ريّاً لعطش العلماء، وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاج لطرق الصلحاء، ودواء ليس بعده داء، ونوراً ليس معه ظلمة، وحبلاً وثيقاً عروته، ومعقلاً منيعاً ذروته، وعزاً لمن تولاه، وسلماً لمن دخلَهُ، وهدى لمن ائتمَّ به، وعذراً لمن انتحله، وبرهاناً لمن تكلم به، وشاهداً لمن خاصم به، وفلْجاً لمن حاجّ به، وحاملاً لمن حمله، ومطيّة لمن أعمله، وآية لمن توسَّم، وجُنّة لمن استلأم، وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن روى، وحكماً لمن قضى ([432]).

وبالمفاد نفسه قال الصادق(عليه السلام): ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب اللّه عزّ وجل، ولكن لا تبلغه عقول الرجال ([433]).

ب ـ عظمة الرسول(صلى الله عليه وآله) وصفاته الخالية:

إن الخصال المثالية والصفات الكمالية التي حباها اللّه تعالى رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله)وتعاهده عليها تحقق هدفين أساسيين في مضمار إمضاء الإرادة الإلهية على الارض، وسوق الانسان المسلم في مدارج الكمال إلى ربّه العزيز المتعالي وهما:

1 ـ على صعيد تبليغ رسالة اللّه ودعوة الانسان لعبوديته سبحانه سيكون كمال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وعصمته من الخطأ والنسيان والخيانة مُنجّزاً للحجّة الإلهية التامة على الارض والبلاغ المبين في الدين للانسان، فعن أميرالمؤمنين(عليه السلام) في بيان هذه الصفة الشريفة والمنزلة الرفيعة للرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) يقول: ... أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع في الألسن، فقضى به الرسل، وختم به الوحي، فجاهد في اللّه المدبرين عنه، والعادلين به... ([434])، ذلك لأن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) لا ينطق إلاّ عن وحي وتسديد إلهي لقوله تعالى في كتابه الكريم: (وما ينطقُ عن الهوى * إن هوّ إلاّ وحيٌ يوحى * علّمهُ شديدُ القُوى)([435]). وبهذا تتحقق وحدة الدين ووحدة الطرح الإلهي للبشرية، وإلى هذا اشار أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) فيما ورد من كتاب له للاشتر حين ولاه مصر: ... واردُد إلى اللّه ورسوله ما يُضلعك من الخطوب، ويشتبه عليك من الأمور فقد قال اللّه تعالى لقوم أحبّ ارشادهم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول) فالرد الى اللّه: الأخذ بمحكم كتابه، والرد إلى الرسول: الأخذ بسنته الجامعة غير المفرّقة.. ([436]).

وقد استوعب أميرالمؤمنين(عليه السلام) هذه الحقيقة في امضاء ارادة اللّه لتحقيق وحدة الطرح الالهي من خلال عظمة الرسول(صلى الله عليه وآله) ومقامه الالهي قائلاً: اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق، والفاتح لما انغلق، والمعلن الحق بالحق، والدافع جيشات الاباطيل، والدامغ صولات الاضاليل ; كما حُمِّل فاضطلع قائماً بأمرك مُستوفزاً في مرضاتك، غير ناكل عن قدم، ولا واه في عزم، واعياً لوحيك حافظاً لعهدك، ماضياً على نفاذ أمرك; حتى أورى قبس القابس واضاء الطريق للخابط، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام، وأقام بموضحات الاعلام ونيرات الاحكام، فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين وبعيثك بالحق ورسولك الى الخلق... ([437]).

2 ـ على صعيد التربية والإعداد لإنسان الرسالة الإلهية ومجتمع العدل الإلهي والاُمة الواحدة الراشدة ستكون الأخلاق العظيمة لرسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ورأفته ورحمته سبيلاً حسناً، وحكمته ودرايته منهجاً ربانياً لتحقق المصاديق النموذجيّة للاقتداء والتأسّي برسول اللّه(صلى الله عليه وآله)الذي أمر اللّه عباده به حيث قال في محكم كتابه الكريم: (لقد كان لكم في رسول اللّه اُسوة حسنةٌ لمن كان يرجو اللّهَ واليومَ الآخرَ وذكرَ اللّهَ كثيراً)([438])

ومن الواضح الجلي أنَّ التأسّي برسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يعني بمفهوم لازم وحدة التلقّي والأخذ، ووحدة السلوك ووحدة الدعوة والتبليغ في واقع المسلم المتأسّي، كما هو شأن الرسول(صلى الله عليه وآله) مع ربّه عزّوجل حين أدّبه وربّاه، فقد ورد عن الامام الصادق(عليه السلام): إن اللّه أدّب نبيّه(صلى الله عليه وآله)حتى إذا أقامه على ما أراد، قال له: (واْمُرْ بِالعرفِ وأعرض عن الجاهلينَ) فلمّا فعل ذلك له رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) زكّاه اللّه فقال: (إنّك لعلى خلق عظيم)فلمّا زكّاه فوّض إليه دينه فقال:(ما آتاكم الرسولُ فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ([439]).

وهكذا تكون أخلاق رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) العظيمة، وخصاله الكريمة باعثَ شوقِ المسلمين وحبّهم للّه الواحد الأحد، ورائد هديهم ورشادهم لصراطه المستقيم، وحجّةً تامة على صدق ما آتاهم من الدين، وعاملَ شدِّهِم وتحريكهم لتولّي أمرهم في تحقيق إرادة اللّه وإعلاء كلمته في الأرضين، وكل ذلك عوامل بناء وترسيخ لوحدة الامة وتأسيس أرضية خلقية كاملة للاُخوة بين المسلمين.

وقد صدق اللّه في محكم كتابه إذ قال في ذلك:(لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عَنِتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنينَ رؤوفٌ رحيمٌ)([440])، وقوله تعالى: (فبما رحمة من اللّهِ لنتَ لهمْ ولو كنتَ فظّاً غليظَ القلبِ لانفضّوا من حولِكَ فاعفُ عنهم واستغفرْ لهم وشاورهمْ في الأمرِ فإذا عزمتَ فتوكّلْ على اللّهِ إنَّ اللّه يحبُّ المتوكّلينَ)([441]).

ج ـ قيمة وآثار طاعة الرسول(صلى الله عليه وآله):

إنَّ لطاعة الرسول(صلى الله عليه وآله) قيمةً وآثاراً ذكرها القرآن الكريم وأشارت اليها السنّة الشريفة للرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام)، خصوصاً في تحقيق أخلاقية الوحدة والاخاء بين المسلمين، ومن أبرز تلك القيم والآثار:

1 ـ إنّها تؤدي إلى توحيد اللّه، والتوبة والإنابة له سبحانه، وهي بذلك ترتّب آثار هذا التوحيد وتلك الإنابة في تحقيق وحدة المبدأ والمسار والمصير للمسلمين، حيث جاء في القرآن الكريم: (من يطعِ الرسولَ فقدْ أطاعَ اللّهَ ومنْ تولّى فما أرسلناكَ عليهم حفيظاً)([442]) وجاء أيضاً: (وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاعَ باذنِ اللّهِ ولو أنهم إذ ظلموا أنفسَهم جاءوك فاستغفروا اللّهَ واستغفرَ لهم الرسولُ لوجدوا اللّهَ تواباً رحيماً)([443]) بل ان مخالفة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وشقاقه الصريح هي في طول مخالفة وشقاق اللّه سبحانه وهي تساوق الكفر في الآثار والنتائج، وقد تضافرت آيات القرآن الكريم في بيان ذلك وتأكيده، منها قوله تعالى: (إن الذين يحادّون اللّه ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين * يوم يبعثهم اللّه جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه اللّه ونسوه واللّه على كل شيء شهيد)([444])، وقوله تعالى: (ذلك بأنـّهم شاقّوا اللّه ورسوله ومن يشاقِّ اللّه فانّ اللّه شديد العقاب)([445])

ويذهب القرآن الكريم إلى أبعد من ذلك فيؤكد أن التوحيد الخالص والايمان الحق لا يجتمع أبداً في قلب مؤمن مع ودِّ من خالف اللّه ورسوله وإن كانوا آباءه أو أبناءه أو اخوانه أو عشيرته، وذلك في قوله تعالى: (إن الذين يحادّون اللّه ورسوله اولئك في الاذلين * كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي إن اللّه قويٌ عزيز * لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه ورسوله ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانهم أو عشيرتهم اولئك كَتَب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي اللّه عنهم ورضوا عنه اولئك حزب اللّه ألا إنّ حزب اللّه هم المفلحون)([446]).

2 ـ تحقيق وحدة الإمامة والقيادة الإلهية، وبالتالي وحدة القرار والحركة والهدف في مسيرة المسلمين نحو اللّه، إذ بوحدة الامامة والقيادة الإلهية تنتفي كل عوامل الاختلاف والتفرق عن سبيل اللّه. فطاعة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) والتسليم له بعنوانه اماماً وقائداً للمسلمين بلا حرج وشوب هو علامة كاشفة عن صدق الايمان والاقرار بالحاكمية المطلقة للرسول(صلى الله عليه وآله) في كل شأن من شؤون الامة، وهي تقابل الصد عن طاعة الرسول(صلى الله عليه وآله) والتحرّج من انفاذ قضاءه وتنفيذ أوامره، الذي هو علامة كاشفة عن النفاق وعدم صدق الايمان بالرسول(صلى الله عليه وآله) وبالتالي عدم الاقرار بامامته وقيادته الإلهية، وهو في واقعه المبدأ السلبي الذي منه تتفرق الامة وتتمزق إلى شيع وأحزاب لغيراللّه يعادي بعضها بعضَها الآخر فيفشلوا وتذهب ريحهم، وهو مفاد قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّهَ وأطيعوا الرسولَ واُولي الأمرِ منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّهِ والرسول إن كنتمْ تؤمنونَ باللّهِ واليومِ الآخر ذلكَ خيرٌ وأحسنُ تأويلاً * ألمْ ترَ إلى الذين يزعُمون أنَّهم آمنوا بما أُنزلَ اليكَ وما أُنزلَ من قبلِكَ يُريدون أنْ يتحاكموا إلى الطاغوتِ وقدْ أُمروا أنْ يكفروا بهِ ويريدُ الشيطانُ أنْ يُضلَّهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزلَ اللّهُ وإلى الرسولِ رأيتَ المنافقينَ يصدّونَ عنك صدوداً * فكيف إذا أصابتهم مصيبةٌ بما قدّمتْ أيديهِمْ ثمّ جاءوكَ يحلفونَ باللّهِ إنْ أردنا إلاّ إحساناً وتوفيقاً * أُولئك الذينَ يعلمُ اللّهُ ما في قلوبِهم فأعرضْ عنهمْ وعِظهمْ وقلْ لهمْ في أنفسِهم قولاً بليغاً * وما أرسلنا من رسول إلاّ ليطاعَ بإذنِ اللّهِ ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسَهم جاءوكَ فاستغفروا اللّهَ واستغفر لهمُ الرسولُ لوجدوا اللّهَ توّاباً رحيماً * فلا وربِّكَ لا يؤمنونَ حتّى يحكّموكَ فيما شجرَ بينَهمْ ثمَّ لا يجدوا في أنفسِهم حرجاً ممّا قضيتَ ويسلّموا تسليماً)([447]). وهو أيضاً مدلول قوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا اللّه إنّ اللّه شديد العقاب)([448]).

ومن هذه الرؤية المبدئية في وحدة الامامة والقيادة ندرك أهمية بيانات رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) المتكررة في تعيين من يخلفه اماماً وخليفة للمسلمين، وتتابع وصاياه في ضرورة اتباع وطاعة من نصبه للخلافة والامامة من بعده، وذلك حفظاً للدين واقامة لأركانه وتوحيداً للامة وصيانة لكيانها. وقد كانت هذه البيانات والوصايا في كمها وكيفها قد استوعبت كل الصيغ والاساليب والمناسبات المشهودة والمعهودة لدى المسلمين أيام رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، منها:

أ ـ حديث الغدير: قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله ([449]).

ب ـ حديث الثقلين: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيها الناس إنما أنا بَشرٌ أوشك ان ادعى فأُجيب، واني تارك فيكم الثقلين ما ان تمسكتم بهما ـ أو ان اعتصمتم بهما ـ لن تضلّوا ابداً، وهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي، احدهما اثقل من الآخر، وانهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، فاتقوا الله وانظروا كيف تخلفوني ـ أو كيف تحفظوني ـ فيهما، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فانهم اعلم منكم وتوشكون ان تردوا عليَّ الحوض، وأسألكم حين تردون عليَّ عن الثقلين كيف خلفتموني فيهما، فمن استقبل قبلتي واجاب دعوتي فليستوص بهم خيراً ([450]).

ج ـ حديث الكساء: روى الواحدي في كتابه المسمى باسباب النزول يرفعه بسنده إلى ام سلمة رضي الله عنها انها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيتها يوماً فأتته فاطمة (عليها السلام) ببرمة فيها عصيدة فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي لي زوجك وابنيك، فجاء علي والحسن والحسين فدخلوا وجلسوا يأكلون والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالساً على دكة، وتحته كساء خيبري، قالت: وأنا في الجمرة قريباً منهم، فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الكساء، فغشاهم به ثم قال: اللهم أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً. قالت: فادخلت رأسي، قلت: وأنا معكم يا رسول الله، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك إلى خير، إنك إلى خير، فأنزل الله عزّوجلّ: ( انما يريدُ الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ([451]).

د ـ حديث الدار: روى الطبري في تاريخه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وانذر عشيرتك الاقربين)، دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا علي ان الله أمرني ان انذر عشيرتي الاقربين، فضقت بذلك ذرعاً وعرفت اني متى أُباديهم بهذا الامر ارى منهم ما اكره، فصمت عليه حتى جاء جبرئيل فقال: يا محمد انك ان لا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا صاعاً من الطعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عسّاً من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم، وابلّغهم من أمرت به، ففعلت ما أمرني به ، ثم دعوتهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه ابو طالب وحمزة والعباس وابو لهب، فلما اجتمعوا اليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به، فلما وضعته تناول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حذية من اللحم فشقها بأسنانه، ثم القاها في نواحي الصفحة ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما ارى إلاّ موضع ايديهم، وايم الله الذي نفس عليّ بيده، وان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم. ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلما اراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يكلمهم بدره ابو لهب إلى الكلام فقال: لهدّما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: الغد يا علي، ان هذا الرجل سبقني إلى ما قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت، ثم اجمعهم إلي. قال: ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام فقربته لهم، ففعل كما فعل بالامس فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، ثم قال : اسقهم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعاً.

ثم تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا بني عبد المطلب اني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، اني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ان ادعوكم اليه، فأيكم يؤازرني على هذا الامر على ان يكون اخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعاً، فقلت ـ واني لأحدثهم سناً وارمصهم عيناً، واعظمهم بطناً، وأهمشهم ساقاً ـ: أنا يا نبي الله اكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا واطيعوا. قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لابي طالب: قد أمرك ان تسمع لابنك وتطيع ([452]).

هـ ـ حديث السفينة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق ([453]).

و ـ حديث الامان من الاختلاف: اخرج الطبراني عن ابن عباس، ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: النجوم امان لأهل الارض من الغرق، واهل بيتي امان لأهل الارض من الاختلاف ([454]).

ز ـ حديث المودّة: أخرج الامام احمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى )، قالوا : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): علي وفاطمة وابناهما ([455]).

وقد اشتهر أمر هذه الاحاديث والوصايا النبوية وتمّت حجيتها وتحدت كل محاولات الطمس والتحريف والتزييف التي قام بها من كان في عقيدته برسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين(عليهم السلام) شوب وبقايا جاهلية جهلاء، ولو توَلّوا من نصبه رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)للخلافة من بعده لاستقامت الامة على الصراط المستقيم ولما كالها الشقاق والتفرق، وبهذا ورد أنه: ذُكرت الامارة ـ أو الخلافة ـ عند النبي(صلى الله عليه وآله)فقال : ... ان وليتموها عليّاً وجدتموه هاديا مهديّاًيسلك بكم على الطريق المستقيم ([456]).

3 ـ ومن الآثار المهمة لطاعة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) هو منع سيادة حالة النفاق في أوساط المسلمين، وبالتالي الوقوف في وجه التفرّق والتشرذم والانكفاء عن الأهداف الإلهية للإسلام في هداية الناس، وتحقيق وحدة الاُمة الاسلامية وبناء كيانها الشامخ، وهو مدلول قوله تعالى في محكم كتابه العزيز والذي يحدد فيه سبحانه علامات الطاعة للرسول(صلى الله عليه وآله)ولوازمها ويكشف عن حالات النفاق في طاعته والتسليم له(صلى الله عليه وآله) وعلامات هذا النفاق والآثار المترتبة عليه ويرشده الى الموقف المبدئي من المعرضين والمعارضين (ويقولونَ آمنّا باللّهِ وبالرسولِ وأطعنا ثمّ يتولّى فريقٌ منهم من بعدِ ذلكَ وما اُولئكَ بالمؤمنين * وإذا دُعوا إلى اللّهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم إذا فريقٌ منهم معرضون * وإن يكن لهم الحقّ يأتوا إليه مذعنين * أفي قلوبِهم مرضٌ أمِ ارتابوا أم يخافون أن يحيف اللّه عليهمْ ورسولُه بل اُولئك هم الظالمون * إنما كان قولَ المؤمنينَ إذا دُعوا إلى اللّهِ ورسولهِ ليحكمَ بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا واُولئك همُ المفلحون * ومن يطع اللّهَ ورسولَه ويخشَ اللّهَ ويتّقِه فاُولئك همُ الفائزون * وأقسموا باللّهِ جهدَ أيمانِهم لئن أمرتهم ليخرُجُنّ قل لا تُقسموا طاعةٌ معروفةٌ إنّ اللّهَ خبيرٌ بما تعملون * قلْ أطيعوا اللّهَ وأطيعوا الرسولَ فإنْ تولّوا فإنّما عليه ما حُمّلَ وعليكم ما حُمّلتُم وإنْ تُطيعوه تهتدوا وما على الرسولِ إلاّ البلاغُ المبينُ)([457]).

لهذا نجد أن القرآن الكريم قد عنى بشكل كبير ومثير خطورة النفاق على انتشار دعوة الرسول(صلى الله عليه وآله) بين الناس واقامة مجتمع التوحيد وبناء اُمة الاسلام، فجاءت عشرات الآيات الكريمة تحذّر الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله) منهم وتكشف نواياهم وخططهم في اجهاض الدعوة الاسلامية والتشكيك في مقام الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله)وقيادته بهدف خلق حالة من التردد وعدم التسليم له(صلى الله عليه وآله) تمهيداً لأرضية التمرد عليه وعصيان أوامره. وكثيراً ما كان يَحذَر هؤلاء المنافقون أن تنزل آية كريمة لتكشف أمرهم وخططهم، وقد أشار القرآن الكريم الى ذلك في مواضع متعددة، منها قوله تعالى: (يحذر المنافقون أن تُنزَّل عليهم سورةٌ تنبئهُم بما في قلوبهم قل استهزئوا إنَّ اللّه مُخرجٌ ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولُنَّ إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نَّعفُ عن طائفة منكم نعذِّب طائفة بأنهم كانوا مجرمين * المنافقون والمنافقات بعضُهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهونَ عن المعروف ويقبضون ايديَهُم نسُوا اللّه فنسيهُم إن المنافقين هم الفاسقون * وعَدَ اللّهُ المنافقين والمنافقاتِ والكفار نارَ جهنَّم خالدينَ فيها هي حسبُهم ولَعَنَهمُ اللّهُ ولهم عذابٌ مقيمٌ)([458]).

ولجني هذه الثمرة الكبيرة وردع النفاق ومنع سيادته حذّر اللّه سبحانه رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله) منهم ومن خططهم ونواياهم وأمره بجهادهم ومواجهتهم، والزمه بالاقدام وانفاذ ما أمره به، وتعبئة المؤمنين وتحريضهم على طاعته وامتثال أوامره، وتحذيرهم من دسائس المنافقين ودعاياتهم الكاذبة، فقد جاء العديد من آيات القرآن الكريم بهذا المدلول، منها قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * يحلفون باللّه ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا وما نقموا إلاّ أن أغناهم اللّه ورسولُهُ من فضله فان يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولّوا يعذبهم اللّه عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ومالهم في الأرض من وليٍّ ولا نصير * ومنهم من عاهد اللّه لئن آتانا من فضله لنصّدّقنّ ولنكوننَّ من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولّوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا اللّه ما وعدوه وبما كانوا يكذبون * الم يعلموا أن اللّه يعلم سرَّهم ونجواهم وأن اللّه علاّم الغيوب * الذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلاّ جُهدهم فيسخرون منهم سَخِرَ اللّه منهم ولهم عذابٌ اليم * استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اللّهُ لهم ذلك بأنهم كفروا باللّه ورسوله واللّه لا يهدي القوم الفاسقين * فرح المخلَّفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نارُ جهنم اشدُّ حرّاً لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً جزاءً بما كانوا يكسبون * فان رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوّاً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تُصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالُهم وأولادهم إنما يُريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون * وإذا أُنزلت سورةٌ أن آمِنوا باللّه وجاهدوا مع رسوله استأذنك أُولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأُولئك هم المفلحون * أعدَّ اللّه لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم * وجاء المُعذِّرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا اللّه ورسولهُ سيصيبُ الذين كفروا منهم عذابٌ أليمٌ)([459]).

ومنها قوله تعالى:(ويقولون طاعةٌ فاذا برزوا من عندك بيَّت طائفةٌ منهم غير الذي تقول واللّه يكتب ما يُبيِّتون فأعرض عنهم وتوكَّل على اللّه وكفى باللّه وكيلاً * أفلا يتدبرون القُرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً * وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردُّوه إلى الرسول وإلى اُولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونهُ منهم ولولا فضلُ اللّه عليكم ورحمتهُ لاتَّبعتُمُ الشيطان إلاّ قليلاً * فقاتل في سبيل اللّه لا تكلَّف إلاّ نفسك وحرِّض المؤمنين عسى اللّه أن يكُفَّ بأس الذين كفروا واللّه أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلاً)([460]).

الأساس الثاني:وحدة التشريع الاجتماعي والسياسي العام

وينطلق هذا الاساس المبدئي من الآية الكريمة: (إنّ هذه اُمتكُم اُمةً واحدةً وأنا ربُّكم فاعبدونِ)([461])، وتؤكّد آية كريمة اُخرى ذات المفهوم فتقول: (وإنَّ هذه اُمتكُم اُمّةً واحدةً وأنا ربُّكم فاتّقون)([462]).

ومن ظاهر الآيتين الكريمتين نجد أن علّة وحدة الامة الاسلامية هي وحدة الرب والمعبود، وأن هذه الوحدة لا تتحقق في اطارها الاجتماعي والسياسي إلاّ إذا تجسّدت هذه العقيدة عبادةً للّه، وتقوى على هديه وشريعته التي ارادها حياةً للاُمّة، وتوحيداً لها في سيرها الشامل نحو اللّه تعالى.

ونجد مخطط هذه الوحدة الشاملة لجميع جوانب حياة الاُمّة وحركتها الالهية في الجوانب التالية:

1 ـ وحدة الشعائر الاسلامية:

كالقبلة الواحدة والصلاة والحج وغيرها ; ولهذا الجانب أثرٌ كبير في إبراز الصفة القدسية لمظهريّة وحدة الامة من خلال الشعائر الاسلامية الواحدة، فالقبلة الواحدة، وهي الكعبة المشرّفة، بيت اللّه الذي أقام قواعده نبيا اللّه ابراهيم واسماعيل(عليهما السلام) بأمر اللّه ووحيه: (وإذْ يَرفعُ إبراهيمُ القواعدَ من البيتِ وإسماعيلُ ربَّنا تقبّلْ منّا إنّكَ انتَ السميعُ العليمُ)([463]).

والقيمة الرسالية المميّزة لقبلة المسلمين هذه أنها لم تكن قبلتهم بادئ الأمر، إلى أن أمر اللّه رسوله أن يتحوّل إلى الكعبة المشرّفة ويتخذها قبلة خاصة للمسلمين، فقد روى علي بن إبراهيم بإسناده عن الصادق(عليه السلام) قال: تحوّل القبلة إلى الكعبة بعدما صلّى النبي(صلى الله عليه وآله) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال: ثم وجهه اللّه إلى الكعبة، وذلك أن اليهود كانوا يعيّرون رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)ويقولون له: أنت تابع لنا، تصلي إلى قبلتنا، فاغتمَّ رسول اللّه من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من اللّه تعالى في ذلك أمراً، فلما أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل جبرئيل(عليه السلام)فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة، وأنزل عليه: (قد نَرى تَقلُّبَ وجهِكَ في السَّماءِ فلنُولّينَّكَ قِبلةً تَرضاها فولِّ وَجهَك شَطرَ المسجدِ الحَرامِ) وكان صلّى ركعتين إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: (ما ولاّهُم عَن قِبلتِهم الّتي كانوا عَليها) ([464]).

وبذلك تميّز المسلمون عن اليهود وكانت الكعبة قبلتهم دون سواهم، وحّدوا اللّه باستقبالها في صلاتهم وشعائرهم المتعلقة بها، فعن الامام الباقر(عليه السلام)قال: إذا استقبل المصلّي القبلة استقبل الرحمن بوجهه لا إله غيره ([465])، فكانت بحق احدى عوامل شعورهم بالاُمة الواحدة في مبدئها ومسارها وغايتها، وكذلك الامر في الصلاة، فهي مبدأ بناء امة التوحيد والعدل، وذلك مفاد قوله تعالى على لسان نبيّه إبراهيم(عليه السلام): (ربِّ اجعَلني مُقيمَ الصَّلاةِ ومِن ذُرّيتي رَبَّنا وتَقبَّلْ دُعاءِ)([466]).

وشأن الصلاة توحيد المسلمين، لكونها رأس الاسلام بعد الإقرار بالدين، فعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: ليكن همّك الصلاة، فإنّها رأس الاسلام بعد الإقرار بالدين ([467]). ولكونها أيضاً وجه الدين، فعن الامام الصادق(عليه السلام) قال: لكل شيء وجه، ووجه دينكم الصلاة ([468]). وكونها خير العمل وعمود الدين، فعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): الصلاة عمود الدين ([469]). وعن امير المؤمنين(عليه السلام) قال: اُوصيكم بالصلاة وحفظها، فإنها خير العمل، وهي عمود دينكم ([470]).

وعنه(عليه السلام) أيضاً: اللّه اللّه في الصلاة ; فإنها عمود دينكم ([471])، ولكون إقامتها إقامة للملّة، بل هي الملّة كما ورد عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حيث قال: عباد اللّه إن أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى اللّه جلَّ ذكره الإيمان باللّه وبرسله وما جاءت به من عند اللّه وإقامة الصلاة، فإنها الملّة ([472])، وهل أدلُّ من ذلك في شأنية الصلاة على وحدة المسلمين في الدين والملّة؟ خصوصاً إذا تُوّج أداؤها بالجماعة، ففي ذلك إظهار للحجة، وإعلان للتوحيد في العبادة، وبناء لأمّة الاسلام الواحدة.

فعن صلاة الجماعة قال الامام الرضا(عليه السلام): إنما جعلت الجماعة لئلاّ يكون الاخلاص والتوحيد والاسلام والعبادة للّه إلاّ ظاهراً مكشوفاً مشهوراً، لأنَّ في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب للّه وحده، وليكون المنافق والمستخفّ مؤدياً لما أقرَّ به، يظهر الاسلام والمراقبة، وليكون شهادات الناس بالاسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البرّ والتقوى، والزجر عن كثير من معاصي اللّه عزَّوجل ([473]).

والحج هو الآخر شعيرة من شعائر اللّه الكبرى التي تعبر تعبيراً عظيماً عن وحدة المسلمين وتواصلهم وتعارفهم وتناصرهم، من خلال الاجتماع الهائل للحجّاج المسلمين في مكّة المكرّمة على اختلاف قومياتهم وأوطانهم واجتهاداتهم الاسلامية، ومن خلال أدائهم الواحد وتناسقهم الفريد في أعمال الحج وشعائره الموحّدة، وجعْل الشارع الحجّ فريضة واجبة على المستطيع، يبرز أهميته وأثره في تحقيق أهداف الاسلام السياسية والاجتماعية الكبرى، تصديقاً للآية الكريمة: (وللّهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ من استطاعَ إليهِ سبيلاً)([474]); وهي بعد ذلك نداء وأذان للناس المسلمين للاجتماع: (وأذِّنْ في الناسِ بالحجِّ يأتوكَ رجالاً وعلى كلّ ضامر يأتينَ من كلِّ فجّ عميق)([475]) ليتداولوا شؤونهم وينظّموا أمرهم، وليتشاوروا فيما يحقق وحدتهم وعزّتهم، ويقيم دينهم ويديل دولتهم، ويقوي شوكتهم سياسياً واقتصادياً.

كل ذلك يتم في أجواء شعائر الحجّ الإلهية المقدسة، وفي إطار المناخ الروحي لهذه الفريضة العبادية المشهودة، فعن هشام بن الحكم قال: سألت أبا عبداللّه(عليه السلام) فقلت له: ماالعلّة التي من أجلها كلّف اللّه العباد الحجّ والطواف بالبيت؟ فقال: إن اللّه خلق الخلق... وأمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا، ولينزع كل قوم من التجارات من بلد إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاري والجمّال، ولتعرف آثار رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وتعرف أخباره ويذكر ولا ينسى .

ولو كان كل قوم (إنّما) يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد، وسقطت الجلب والارباح، وعميت الاخبار، ولم تقفوا على ذلك، فذلك علّة الحج ([476]).

وفي باب العلل التي ذكر الفضل بن شاذان أنه سمعها من الامام الرضا(عليه السلام)جاء: فإن قال ]قائل[: فلم أمر بالحج؟ قيل: لعلّة الوفادة إلى اللّه عزّ وجلّ وطلب الزيادة...، مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع في شرق الارض وغربها ... وقضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيها، مع ما فيه من التفقّه ونقل أخبار الأئمة(عليهم السلام) إلى كل صقع وناحية، كما قال اللّه تعالى: (فَلولا نفرَ مِن كُلِّ فِرقة منهم طائفةٌ ليَتفقَّهوا في الدِّينِ وليُنذِروا قَومَهم إذا رَجَعوا إليهم لعلَّهم يَحذَرونَ)و (ليَشهدوا منافعَ لهم) ([477]).

وهكذا لو تتبعنا باقي الشعائر الاسلامية لوجدناها طافحة بدلالات التوحيد العقائدي والوحدة الاجتماعية والسياسية بين المسلمين، مفعمة بروح التواصل والتناصر والتآخي في اللّه فيما بينهم.

2 ـ وحدة الشأن الاسلامي:

وفي هذا الجانب يظهر أبرز صور التكافل وأقوى الأواصر الأخوية بين أبناء الامة الاسلامية، وتنشأ منه حالة اجتماعية فريدة ومعبّرة عن شوكة المسلمين ومنَعَتهم، مما يؤهّلهم لتمثّل الوحدة السياسية فيما يتعلّق بكيانهم الاسلامي الواحد، ومجمل حركته العامة، وهو يخوض صراع إثبات الوجود وأصالة البقاء عقائدياً وحضارياً. وبنظرة فاحصة إلى ما ورد في القرآن الكريم والسنّة الشريفة نجدها قد جاءت نصّاً جلياً في بيان هذا الأصل الاسلامي الشامخ، منها الآية الكريمة التي تحكي قوّة الارتباط بين المؤمنين، وتعبّر عنها بالولاية، حيث تقول: (والمُؤمنونَ والمُؤمناتُ بَعضُهمْ أولياء بَعض يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَونَ عن المُنكَرِ ويُقيمون الصَّلاةَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ ويُطيعون اللّهَ ورَسولَهُ أُولئكَ سَيَرحَمُهم اللّهُ إنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ)([478]).

ويحدثنا الرسول(صلى الله عليه وآله) عن وحدة الشأن الاسلامي فيما بين المؤمنين، وضرورة اهتمام بعضهم بقضايا البعض الآخر وأموره، تحقيقاً لتلك الوحدة فيقول : مَنْ أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم ([479])، ويضيف(صلى الله عليه وآله)أيضاً مؤكّداً أن كل ذلك مرتبط باللّه، رافض للذل، محقق للعزّة، مصدّق قوله تعالى: (وللّهِ العِزّةُ ولِرسولهِ وللمُؤمنينَ)([480]) فيقول(صلى الله عليه وآله): مَنْ أصبح من أمتي وهمّته غير اللّه فليس من اللّه، ومن لم يهتمّ بأمور المؤمنين فليس منهم، ومن أقرَّ بالذلّ طائعاً فليس من أهل البيت ([481]).

ويؤكّد حفيده الامام الصادق(عليه السلام) ذلك بقوله: من لم يهتم باُمور المسلمين فليس بمسلم ([482]).

ثم يسلّط الرسول(صلى الله عليه وآله) الضوء على حالة الاهتمام باُمور المؤمنين، ويصفها بأنها حالة تواد وتراحم، ويعلل ذلك بأن المؤمنين هم كالجسد في ترابطه وإحساسه الواحد، فيقول: مثل المؤمنون في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمّى ([483]).

ويقول الامام الصادق(عليه السلام) في ذلك أيضاً: المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده... ([484]).

ويقول(عليه السلام) أيضاً: إنما المؤمنون إخوة بنو أب وأمٍّ، وإذا ضرب على الرجل منهم عرق سهر له الآخرون ([485]).

إذن فوحدة الشأن الاسلامي أصل وحقيقة مبدئية مقوّمة للوحدة والاخوّة بين المسلمين، وأساس بنّاء في قيام الامة الاسلامية الواحدة.

3 ـ الولاية والتناصر بين المسلمين:

إنَّ اول ما أسّسه الرسول(صلى الله عليه وآله) بأمر اللّه سبحانه في بناء كيان الامة الاسلامية ، وعمل لتجسيده واقعاً محسوساً هو مبدأ الولاية والتناصر بين المسلمين، الذي عبّر عنه القرآن الكريم أروع تعبير حين قال: (والمُؤمنونَ والمُؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعض يأمُرونَ بالمعروفِ ويَنهَون عن المُنكرِ ويُقيمونَ الصَّلاةَ ويُؤتونَ الزَّكاةَ ويُطيعونَ اللّهَ ورسولَه أولئكَ سيَرحَمهم اللّهُ إنّ اللّهَ عزيزٌ حكيمٌ)([486]). وبذل الرسول(صلى الله عليه وآله) الكثير لشدّ المسلمين نحو تمثلهم صورة حاكيةً معبرةً في جميع جوانب الحياة، سواء في بعدها الفردي أو الاجتماعي والسياسي، حتى أصبحت السمة البارزة والمميّزة لهم، ولدرجات قربهم إلى اللّه ورسوله، وتكشف لنا الآيات القرآنية الكريمة عن هذا المبدأ الأساسي بتفصيل رائع، حيث يقول تعالى فيها: (إنّ الّذينَ آمَنوا وهاجَروا وجاهَدوا بأموالِهم وأنفُسِهم في سبيلِ اللّه والّذين آوَوا ونَصَرُوا أولئكَ بعضُهم اولياءُ بعض والّذينَ آمَنوا ولم يُهاجِروا مالكم من وَلايتِهم مِن شيء حتّى يُهاجِروا وإنْ استَنصَروكم في الدِّينِ فعلَيكم النَّصرُ إلاّ على قوم بينَكم وبينَهم مِيثاقٌ واللّهُ بما تَعمَلونَ بصيرٌ * والّذينَ كفروا بعضُهم أولياءُ بعض إلاّ تفعلوه تكُنْ فِتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ * والّذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه والذين آووا ونصروا أولئك هم المُؤمنونَ حقّاً لهم مغفرةٌ ورِزقٌ كريمٌ * والّذين آمَنوا مِن بَعدُ وهاجَروا وجاهَدوا معكم فأولئكَ مِنكم وأولو الأرحامِ بعضُهم أولى ببعض في كتابِ اللّهِ إنَّ اللّهَ بكلِّ شيء عليمٌ)([487]).

وقد جعل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) أمر التناصر بين المسلمين معياراً لانتماء المسلم وارتباطه العضوي بالأمة الاسلامية وكيانها الواحد، فعن أبي عبداللّه(عليه السلام) أن النبي(صلى الله عليه وآله) قال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن يسمع رجلاً ينادي: يا للمسلمين، فلم يجبه فليس بمسلم ([488]).

ثم جعل لدماء المسلمين حرمة أوجب حفظها، وشرّع القصاص لمن يتجاوز عليها، بل جعل المسلمين ـ كل المسلمين ـ قوة واحدة متكافئة متكافلة في الدفاع عن كل فرد ينتمي مبدئياً إليهم، فعن الصادق(عليه السلام) قال: خطب رسول الله(صلى الله عليه وآله) بمنى (إلى أن قال): المسلمون أخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، هم يد على من سواهم ([489]).

وعن إبراهيم بن عمر اليماني عنه(عليه السلام) قال: حق المسلم على المسلم أن لا يشبع ويجوع أخوه، ولا يروى ويعطش أخوه، ولا يكتسي ويعرى أخوه، فما أعظم حق المسلم على أخيه المسلم!

وقال(عليه السلام): أحِبّ لأخيك المسلم ما تحب لنفسك، وإذا احتجت فسله، وإن سألك فأعطه لا تمله خيراً ولا يمله لك. كن له ظهراً فإنه لك ظهر، إذا غاب فاحفظه في غيبته وإذا شهد فزره وأجلّهُ وأكرمه فإنه منك وأنت منه، فإن كان عليك عاتباً فلا تفارقه حتى تسأل سميحتهُ، وإن أصابه خير فاحمد اللّه وإن ابتلي فاعضده، وإن تمحل له فأعِنه، وإذا قال الرجل لأخيه: اُف انقطع ما بينهما من الولاية، وإذا قال: أنت عـدوي كفر أحدهما، فإذا اتهمهُ انماث الايمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء .

وقال: بلغني أنه(عليه السلام) قال: إن المؤمن ليزهر نوره لأهل السماء كما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض .

وقال(عليه السلام): إن المؤمن ولي اللّه يعينه ويصنع له ولا يقول عليه إلاّ الحق ولا يخاف غيره ([490]).

وبذلك تُحكم أركان الولاية والتناصر في الامة الاسلامية، معبّرة عن أفضل وأهم عوامل قيام الوحدة الاجتماعية والسياسية بين ابنائها، على أُسـس عقائدية وطريقة عملية تكاملية، تجسد مبدأ التوحيد في منهجيّته لتوحيد الامة وجوداً وحركةً وهدفاً، ليصدق فيها قول اللّه عزّ وجلّ في كتابه الكريم: (كُنتُم خَيرَ أُمّة أُخرجتْ للنّاسِ تأمُرون بالمعروفِ وتَنهَون عن المُنكرِ وتُؤمِنونَ باللّهِ)([491]) .

4 ـ التواصي بالحق والتواصي بالصبر:

لا شكّ أن عظمة هذا المبدأ وقيمته في تكوين عصبة الايمان، وتقوية شوكة المسلمين ورص صفوفهم، وخلق المنعة والاقتدار في كيانهم هي العلّة في أن يُقسِم اللّه لأجله في قرآنه الكريم، وينصّ فيه على أنّ النجاة من الخسران المبين، والفوز بمراتب التسليم له سبحانه رهين بالتزامهم به محتوىً ومنهجاً في حياتهم الاجتماعية والسياسية، حيث يقول عزّ من قائل: (والعصرِ * إنَّ الإنسانَ لفي خسر * إلاّ الّذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ وتَواصَوا بالحقِّ وتَواصَوا بالصَّبرِ)([492]).

إن التواصي بالحق والتواصي بالصبر على حمله والعمل به يوجب تحقق رتب للمؤمن تترتّب علاقته بالحقّ على ضوئها كالآتي:

أ ـ أولى هذه الرتب هي معرفة الحق، وقد حدد الاسلام طريقة معرفته، وحصرها بما جاء به الرسول(صلى الله عليه وآله) من عند اللّه قرآناً، إرشاداً، وسنّةً للعقول، وتشريعاً للحياة، حيث خاطب اللّه رسوله(صلى الله عليه وآله) في محكم كتابه الكريم قائلاً: (إنّا أرسلناكَ بالحقِّ بشيراً ونذيراً)([493])، وجعل معيار الايمان وميزانه معرفة الحق من اللّه عزّ وجلّ عن طريق رسوله الكريم(صلى الله عليه وآله) حيث قال: (... فأمّا الّذينَ آمَنوا فيعلَمونَ أنّه الحقُّ مِن ربِّهم)([494])، ورفض المنهج الأرضي الذي يقرر أن معرفة الحق بالرجال، وأثبت العكس في أن معرفة الرجال تكون بالحقِّ ليس إلاّ، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: إنَّ دين اللّه لا يُعرف بالرجال، بل بآية الحق، فاعرف الحق تعرف أهله ([495]) وقال(عليه السلام) أيضاً إنّ الحق والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال. اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله ([496]).

وقد رسم الامام الصادق(عليه السلام) منهج معرفة الحق، وردع عن سواه فقال: مَنْ دخل في هذا الدين بالرجال أخرجه منه الرجال كما أدخلوه فيه، ومَنْ دخل فيه بالكتاب والسنّة زالت الجبال قبل أن يزول ([497])، كما حثَّ الاسلام على طلب الحق مهما كانت الموانع والعقبات، حيث لا يكون من أهل الحق إلاّ مَنْ وجده وسلّم له وعمل به، فعن أمير المؤمنين(عليه السلام) قال: خُض الغمراتِ إلى الحقِّ حيث كان ([498])، وقال(عليه السلام) في ضرورة لزوم الحق عند معرفته ليكون من أهله: الزم الحق يُنزلك منازل أهل الحق يوم لا يُقضى إلاّ بالحق ([499]).

ب ـ وثاني هذه الرتب التسليم للحق والعمل به، وهو أول مصاديق معرفة الحق وآثاره الحقّة.

فقد جاء عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قوله: السابقون إلى ظل العرش طوبى لهم، قيل: يا رسول اللّه ومن هم؟ فقال: الذين يقبلون الحق إذا سمعوه ويبذلونه إذا سُئلوه ويحكمون للناس كحكمهم لأنفسهم ([500]).

وقد تألّق أمير المؤمنين في وصف هذه الرتبة، فقال ببلاغته الفريدة وفصاحته السديدة: ألا وإنّ الحقَّ مطايا ذلل، ركبها أهلها وأعطوا أزمّتها، فسارت بهم الهوينى حتى أتت ظِلاًّ ظليلاً ([501])، وعن الامام الصادق(عليه السلام) قال: العزُّ أن تذلّ للحق إذا ألزمك ([502])، وفي العمل بالحق قال أمير المؤمنين(عليه السلام): إنَّ أفضل الناس عند اللّه من كان العمل بالحق أحبّ إليه وإن نقصه وكرثه([503])من الباطل وإن جرّ فائدة وزاده ([504]).

وفي بيان الثمار الوفيرة والآثار العظيمة للتسليم للحق والعمل به يقول الامام الصادق(عليه السلام): إن اللّه إذا أراد بعبد خيراً شرح صدره للإسلام، فإذا أعطاه ذلك أنطق اللّه لسانه بالحق فعمل به، فإذا جمع اللّه له ذلك تمّ له إسلامه ... ، وإذا لم يُردِ اللّه بعبد خيراً وكله إلى نفسه، وكان صدره ضيّقاً حرجاً، فإن جرى على لسانه حق لم يعقد قلبه عليه، وإذا لم يعقد قلبه عليه لم يُعطه اللّه العمل به... ([505]).

ج ـ وثالث الرتب الصبر على الحق، لأنّ الحق ثقيل مبدأً يحمله الانسان المؤمن والجماعة المؤمنة، ومنهج حياة وعمل وجهاد يتنكّبه العاملون في طريق اللّه، ويقارعون به الجبت والطاغوت من أعداء اللّه والمستكبرين في الأرض، وقد نزلت في بيان شدة الحق وثقله على الانسان آيات كريمة منها قوله تعالى: (لقدْ جِئْناكُم بالحَقِّ ولكنَّ أكثركم للحَقِّ كارهونَ)([506])، وتكرر في أكثر من آية قوله تعالى: (وأكثرُهم للحقِّ كارهونَ)([507]).

وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في ذلك، وفي أن العاقبة في الصبر على الحق قال: الحق ثقيل، وقد يخفّفه اللّه على أقوام طلبوا العاقبة، فصبّروا نفوسهم، ووثقوا بصدق موعود اللّه لمن صبر واحتسب، فكن منهم واستغنِ باللّه ([508])، وقال(عليه السلام)أيضاً: لا يصبر للحقِّ إلاّ من يعرف فضله ([509])، وقال(عليه السلام) أيضاً: اصبر على مرارة الحق، وإياك أن تنخدع لحلاوة الباطل ([510])، وعن الامام الباقر(عليه السلام) قال: لما حضرت أبي عليّ بن الحسين(عليه السلام) الوفاة ضمّني إلى صدره ثم قال: أي بُنيّ، أوصيك بما أوصاني أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنّ أباه(عليه السلام) أوصاه به: أي بنيّ، اصبر على الحق وإن كان مرّاً ([511]). وعن الامام الصادق(عليه السلام)قال: ... اصبر على الحق فإنه لم يصبر أحدٌ قط لحقٍّ إلاّ عوّضه اللّه ما هو خير له ([512]).

د ـ ورابع الرتب إعلان الحق والدعوة له تخلّقاً بأخلاق اللّه في ذلك حيث يقول عزَّ من قائل في كتابه الكريم: (واللّهُ يقولُ الحقَّ وهُو يهدي السبيلَ)([513])، وهذه الرتبة هي اعلى الرتب وأسماها لما فيها من إقامة الحق وإرساء قواعده في الامة، وردع الباطل وأهله ومواجهة الجور وسلاطينه. وقد تواصلت آيات القرآن الكريم يؤكّد بعضها الآخر على ضرورة اضطلاع الامة المؤمنة بمهمة بيان الحق والدعوة إليه، منها قوله تعالى: (ومِن قوم موسى أمةٌ يهدونَ بالحقِّ وبهِ يَعدِلونَ)([514])، وقوله تعالى: (ومِمَّن خَلقْنا أمةٌ يهدونَ بالحقِّ وبهِ يعدِلونَ)([515])، كما أن هذه المهمة تعتبر من ممحصات الايمان ومحكّات اختباره، لا يفرق فيها من يتحملها بين أن تكون له وللأقربين منه أو عليه وعليهم (يا أيُّها الّذينَ آمَنوا كُونوا قَوّامينَ بالقِسطِ شُهداءَ للّهِ وَلَو على أنفُسِكُم أو الوالدَينِ والأقربينَ إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً فاللّهُ أولى بِهما فلا تتَّبِعوا الهَوى أنْ تعدِلُوا وإنْ تَلْووا أو تُعرضوا فإنَّ اللّهَ كانَ بما تعمَلونَ خَبيراً)([516])، كما لا يفرق فيها بين رضاً أو غضب، فعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: ما أنفق مؤمن نفقة هي أحبّ إلى اللّه عزّ وجلّ من قول الحق في الرضا والغضب ([517]) وعن أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصيته لابنه الحسين(عليه السلام) قال: يا بنيّ، أوصيك بتقوى اللّه في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرضا والغضب ([518]).

بل إن مهمة اعلان كلمة الحق والصدع بها هي من أفضل الجهاد عند اللّه، فعن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) قال: ألا لا يمنعنَّ رجلاً مهابة الناس أن يتكلّم بالحق إذا علمه. ألا إن افضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر ([519])، وعن حفيده الامام الصادق(عليه السلام) قال: كان أبي يقول: قم بالحق ولا تعرّض لما نابك ([520]).

وهكذا فلو ترقّت الامة وتسامت في رتب التواصي بالحق والتواصي بالصبر هذه تكامل بناؤها، ورُصَّت صفوفها، واشتد عودها، ولأصبحت امة الحق والعدل، يتوحّد فيها هدفها ومسارها ومصيرها ولتسنّمت بذلك رتبة الشهادة على الناس أمماً وشعوباً بعد اللّه ورسوله، ليصدق بحقها قوله تعالى: (وكَذلكَ جعَلْناكُم أُمّةً وَسَطاً لتَكونوا شُهَداءَ على النّاسِ ويَكونَ الرَّسولُ عليكُم شَهيداً... )([521]). ولا يتم ذلك جزافاً، بل لابد من الجهاد في اللّه حق الجهاد، والاعتصام به سبحانه في هذا السبيل لنيل هذه الرتبة السامية والشرف العظيم: (وجاهِدوا في اللّه حقَّ جِهادِه هُوَ اجتَباكُم وما جعَلَ علَيكُم في الدّينِ مِنْ حَرَج مِلّةَ أبيكُم إبراهيمَ هُوَ سَمـّاكُم المسلمينَ مِنْ قَبلُ وفي هذا ليكونَ الرَّسولُ شهيداً علَيكُم وتكونوا شُهَداءَ على النّاسِ فأقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ واعتَصِموا باللّهِ هُوَ مَولاكم فنِعمَ المَولى ونِعمَ النَّصيرُ)([522]).

وقد بيّن اللّه سبحانه أنّ كل ما يصيب الامة الراشدة من قرح وفتن فهو سنّة قائمة في الناس لا تختص بالمؤمنين منهم، فيجب أن لا تثنيهم عن تنكّب طريق الحق والعدل والوصول إلى رتبة الشهادة الكبرى: (إنْ يَمسَسْكُم قَرْحٌ فقَدْ مسَّ القومَ قَرْحٌ مِثلُه وتِلكَ الأيامُ نُداولُها بينَ النّاسِ ولِيعلَمَ اللّهُ الّذينَ آمَنوا ويتَّخِذَ مِنكُم شُهداءَ واللّهُ لا يُحبّ الظالمينَ)([523]).

5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

إنّ هذه الوظيفة الالهية والمبدأ الاسلامي ذات مفاد شامل لكل أبعاد الحياة الفكرية والعملية، وتكاد تنحصر ثمارها بممارستها على صعيد الامة خصوصاً، حيث لا نجد آية كريمة في القرآن الكريم لا يكون فيها خطاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبطاً بالمؤمنين، بوصفهم أمّة واحدة وجماعة متحدة يوالي بعضهم البعض الآخر، كما نجد أن طبيعة الارتباط بين وحدة الامة الاسلامية، بما تتحلى به من إيمان وخير ورشاد، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ارتباط الموصوف بصفته والمعلول بعلته، فقد جعل اللّه سبحانه وتعالى الأمة الاسلامية خير الأمم التي اخرجت للناس، بوصفها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن باللّه: (كُنتُم خَيرَ أمَة أُخرِجتْ للنّاسِ تأمُرونَ بالمعروفِ وتنهَونَ عن المُنكرِ وتُؤمِنونَ باللّهِ)([524])، كما أن ارادة اللّه سبحانه وتعالى شاءت أن تكون سُنَّة التمكين في الأرض للامة المؤمنة معلّلة لإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (الّذينَ إنْ مكّناهُم في الأرضِ أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوا الزَّكاةَ وأمَروا بالمعروفِ ونهَوا عن المنكرِ وللّهِ عاقبةُ الأُمورِ)([525])، وهكذا الأمر في غيرها من الآيات الكريمة وما جاء في السنّة الشريفة.

وقد روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنه قال: لا تزال امتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البر، فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء ([526]).

وللإحاطة بهذا المبدأ الاسلامي المهم، ودوره الخطير في بناء وتوحيد الامة الاسلامية، نعرض له باختصار في ثلاثة جوانب أساسيّة:

أولاً: أهلية الأمة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

فلو لم تكن الامة مؤهلة للقيام بهذه الوظيفة الإلهية الخطيرة، فإنها ستفقد أهم عامل من عوامل قوة شوكتها ودوام وحدتها، ذلك أن الامام الباقر(عليه السلام)قال: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه عزّ وجلّ فمن نصرهما أعزه اللّه ومن خذلهما خذله اللّه ([527]).

وأهلية الامة هنا تعني توفرها على خصائص معينة بما هي أمة، وهذه الخصائص هي:

أ ـ الايمان باللّه ورسوله والتسليم والطاعة لهما، وهذه الصفة هي المنبع الأول والأساسي لمعرفة كل معروف يراد الأمر به، ومعرفة كل منكر يراد النهي عنه، والاستقامة في أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحقيق ثماره في الأمة : (يومَ نبعَثُ في كلِّ أمّة شهيداً عليهِم مِن أنفُسِهم وجِئنا بكَ شهيداً على هؤلاءِ ونزّلْنا عليكَ الكِتابَ تِبياناً لكلِّ شيء وهُدىً ورحمةً وبُشرى للمسلمينَ)([528])، ولذا نجد أن اللّه سبحانه قد جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الايمان باللّه واليوم الآخر، ليحقَّ في القائمين به أنّهم من الصالحين: (ليسُوا سَواءً مِن أهلِ الكتابِ أمّةٌ قائمةٌ يتلونَ آياتِ اللّهِ آناءَ اللّيلِ وهُم يسجُدونَ * يُؤمنونَ باللّهِ واليوم الآخرِ ويأمرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المُنكرِ ويُسارعونَ في الخيراتِ وأولئكَ مِن الصالحينَ)([529]). وفي آية اخرى جعل اللّه سبحانه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سياق الايمان بالرسول واتّباعه واتّباع النور الذي اُنزل معه، وبذلك يصدق وصف اللّه لهم بالمفلحين: (الّذينَ يتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبيَّ الأمّيَّ الّذي يجِدونَه مكتوباً عِندهم في التَّوراةِ والإنجيلِ يأمُرهم بالمعروفِ ويَنهاهم عن المُنكرِ ويُحلُّ لهُم الطيِّبات ويُحرِّمُ عليهِم الخَبائثَ ويضَعُ عَنهم إصْرَهم والأغلالَ الّتي كانتْ عليهِم فالّذينَ آمَنوا بهِ وعزَّروهُ ونَصروهُ واتَّبعوا النُّورَ الّذي أُنزلَ معَه أولئكَ هُم المُفلحونَ)([530]).

وفي ضرورة احاطة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بأحكام الاسلام ، وعلمه بتفصيلاتها واستقامته عليها وحكمته في أداء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول الامام الصادق(عليه السلام): إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عالِمٌ بما يأمر عالِمٌ بما ينهى، عادلٌ فيما يأمر عادلٌ فيما ينهى، رفيقٌ بما يأمر رفيقٌ بما ينهى ([531])، وقال(عليه السلام) عندما سُئل عنهما: إنما هو على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلاً إلى أي من أي. يقول: إلى الحق أم إلى الباطل، والدليل على ذلك من كتاب اللّه قول اللّه عزّ وجلّ (ولتَكُن مِنكُم أُمّةٌ يَدعونَ إلى الخَيرِ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)... ([532]).

ب ـ الولاية فيما بين أبناء الأمة المؤمنة، فلو لم يكن بين ابناء الامة الواحدة موالاة الايمان لكان ثلماً في طاعتهم للّه ورسوله، ومن ثم تخلّفاً في اقامتهم للدين، وقوامه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ظاهر تفريع اللّه سبحانه وتعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة اللّه ورسوله على الولاية فيما بين المؤمنين والمؤمنات في قوله عزَّ من قائل: (المُؤمنونَ والمُؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعض يأمرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المُنكرِ ويُقيمون الصَّلاة ويُؤتونَ الزَّكاةَ ويُطيعونَ اللّهَ ورسولَه أولئكَ سيَرحَمُهم اللّهُ إنَّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ)([533]).

وقد جاء عن أمير المؤمنين(عليه السلام) ما يؤكّد أنَّ أهم عوامل الولاية بين المؤمنين والمؤمنات هو الأمر بالمعروف، حيث قال: من أمر بالمعروف شدَّ ظهور المؤمنين ([534])، وقال(عليه السلام)أيضاً: الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق ([535])، أما ضعف الايمان الذي يبغضه اللّه سبحانه، وهو أخطر الوهن في الفرد المؤمن والأمة المؤمنة، فهو لازم لعدم النهي عن المنكر، وهو قول رسول اللّه(صلى الله عليه وآله): إن اللّه ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له؟ قال: الذي لا ينهى عن المنكر ([536]).

ج ـ الخلافة للّه ولرسوله في الأرض، التي يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم مستلزماتها وواجباتها ; لقوله تعالى في محكم كتابه الكريم: (الّذينَ إنْ مكّنّاهم في الأرضِ أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوا الزَّكاةَ وأمروا بالمعروفِ ونهَوا عن المُنكرِ وللّهِ عاقبةُ الأُمورِ)([537])، وقال الامام الباقر(عليه السلام) إن اللّه جعل للمعروف أهلاً من خلقه حبب اليهم فعاله، ووجّه لطلاب المعروف الطلب اليهم ويسر لهم قضاءه، كما يسر الغيث للأرض المجدبة ([538]). والخلافة عهد وبيعة بايع بها المؤمنون ربّهم اللّه ورسوله على حمل الأمانة الالهية وأدائها في الأرض، وإقامة الدين وإعلاء كلمته، وإن من أهم مقوماتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك قوله تعالى: (إنَّ اللّهَ اشترى مِن المؤمنينَ أنفُسَهم وأموالَهم بأنَّ لهم الجَنَّةَ يُقاتلونَ في سبيلِ اللّهِ فيَقتُلون ويُقتَلون وعداً عليهِ حقّاً في التّوراةِ والإنجيلِ والقرآن ومَنْ أوفى بعهدِه مِن اللّهِ فاستَبشروا ببَيعِكم الّذي بايَعتُم بهِ وذلكَ هُوَ الفوزُ العظيمُ * التّائبونَ العابدونَ الحامدونَ السّائحونَ الرّاكعونَ السّاجدون الآمرونَ بالمعروفِ والنّاهونَ عَن المُنكرِ والحافظونَ لحدودِ اللّهِ وبَشِّرِ المُؤمنينَ)([539]).

والخلافة هنا خلافة الامة المؤمنة الواحدة التي يسعى لتحقيقها الرسل وأتباعهم من المؤمنين الصالحين، فهي خلافة الدين ورسالته في الأرض التي وعدها اللّه عباده الصالحين (وَعدَ اللّهُ الّذينَ آمَنوا وعَمِلوا الصّالحاتِ لَيَستَخلِفنّهم في الأرضِ كما استَخلفَ الّذينَ مِن قبلِهم ولَُيمَكِّننّ لهم دينَهم الّذي ارتَضى لَهُم وليُبدِّلَنَّهم مِن بَعدِ خَوفِهم أمْناً يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بيْ شَيئاً ومَنْ كفَرَ بَعدَ ذلكَ فأولئِكَ هُم الفاسِقونَ)([540])، وقال الرسول(صلى الله عليه وآله): من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله ([541]).

/ 6