أبو المرتضی بن شهاب رائد النهضة الاصلاحیة فی جنوب شرق آسیا نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أبو المرتضی بن شهاب رائد النهضة الاصلاحیة فی جنوب شرق آسیا - نسخه متنی

شهاب محمد اسد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

ابو المرتضى بن شهاب



(وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)



المائدة: 9



(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا اُولئك هم المؤمنون حقاً لهم مغفرة ورزق كريم)



الأنفال: 74



(الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله واُولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم)



التوبه: 20 ـ 22



صدق الله العلي العظيم الإهداء



الى الذين يستمعون القول ويبتغون الحق ويتّبعونه من أجل الحق وحده.



أهدي لهم هذا الكتاب



تقديراً لكفاح المغفور له السيد أبي المرتضى بن شهاب، واعترافاً بفضله عاش مناضلاً مجاهداً، مؤدياً رسالته فأحسن تأديتها، فله الجزاء الاوفى من المولى العزيز القدير.محمد أسد شهاب كلمة المجمع



لم تخل مسيرة التأريخ البشري في ادواره المتعاقبة، ومراحله المختلفة من نماذج فذة تسنّمت الذروة في التكوينة الهرمية للبناء الاجتماعي في كل أمة من الأمم.



وينفرد من بين اولئك الأفذاذ بالرتبة العليا في ذلك السلم، أفراد لم يجهَدوا في سلوكهم للصدارة سبيلها، بل كان التأريخ هو الذي ينحني بين أيديهم ليرتقوا منه السنام، ويحلّوا من قمته المنتهى بما تأهلوا به من عوامل رقي في مسيرة الانسان التكاملية.



ومما يزيد من عظمة اولئك الرجال أن يقفوا جلّ حياتهم، وكل مواقفهم في سبيل خدمة الإنسان، وبنائه الروحي على أسس قويمة من الدين والأخلاق والعقائد الصالحة، لذلك كان أحوزهم لقصب السبق في ذلك الميدان من تتسع رقعة سعيه نحو ذلك الهدف، وتكون خطواته أعظم ريادة في تطوير بُنى المجمتعات، وتسيير عجلة رقيّها للوصول إلى كمالها المنشود.



وإذا كان الأنبياء والمرسلون واوصياؤهم(عليهم السلام) هم السابقين في ذلك المضمار بما كان لهم من دور مرسوم من قبل الله تعالى من أجل إرساء دعائم التوحيد، وإقامة الحق والعدل، بتذكير الفطرة، وإثارة دفائن العقول، وإعادة الوعي الانساني إلى جهته القويمة التي تعاورت على حرفها عن مسارها السديد عوامل فاعلة من الهوى والشيطان والطاغوت، فإن ورثة مسيرتهم تلك قد حملوا الامانة، وأدوا رسالة الاصلاح في الأرض، وساروا في خط اولئك المصطفَين من عباد الله يقتفون آثارهم ويتوخون مواقع خطاهم في نشر الحق والفضيلة، وإعلاء كلمة الله سبحانه في أرضه ومن اولئك الرجال الأفذاذ الذين سلكوا تلك السبيل، حاملين رسالة الاصلاح هو السيد أبو المرتضى بن شهاب الدين العلوي رائد النهضة الإصلاحية في جنوب شرق آسيا، الذي تقدم الكاتب المحقق محمد اسد شهاب بعرض واف لسيرة حياته في هذا الكتاب الذي تضمن الكثير مما يتعلق بتلك السيرة الرائدة، مع تخصيص جزء كبير منه لاستعراض القصائد التي نضمها السيد ابن شهاب في ولاء الرسول(صلى الله عليه وآله) واهل بيته(عليهم السلام)، والتي أوصى هو بنشرها.



ومما تكفل الكتاب بعرضه مسألة مهمة في حياة ذلك الرجل، وهي قضية الوحدة بين المسلمين التي بذل من اجلها الكثير، وسعى جاهداً لإرساء قواعدها، ومحاربة عوامل هدمها أو إضعافها.



والمجمع العالمي لأهل البيت(عليهم السلام) إذ قام بنشر هذا السفر الجليل إنما يساهم في إثارة مكنون تراثنا الاسلامي الثرّ، والزاخر بسيَر الرجال العظام من أتباع مدرسة أهل بيت النبوة(عليهم السلام)، بإضافة مفردة سامية أخرى من مفردات حضارتنا الاسلامية التليدة، ومَعْلم هاد من معالم التأريخ الارنساني المشرق بالخير والحق والفضيلة.المعاونية الثقافية للمجمع العالميلأهل البيت(عليهم السلام)



تقدّم هيئة البحوث الاسلامية بأندونيسيا هذا الكتاب الجديد، عن رائد النهضة الاصلاحية والمكافح الكبير السيد أبي المترضى ابن شهاب، للمؤلف الاستاذ محمد اسد شهاب.



سبق لهيئة البحوث الاسلامية ان نشرت للمؤلف عدة كتب منها: جولة في ربوع جزر مورو عام 1981 طبع في لبنان، ولاقى الكتاب اقبالا ونفد في وقت وجيز.



في هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ، والذي نحن بصدده، يقول المؤلف في مقدمته: انه بذل جهدا لتقصي كل ما يتعلق بالمترجم له، حتى يتمكن من اعطاء القارئ الافق الواسع من الوضع الصحيح و بدقة، عن حياة الفقيد رائد النهضة الاصلاحية.



لا ريب ان المؤلف بذل مجهوداً لتأليف وتدوين تاريخ رجل عظيم، عاش في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين، لاحياء التراث والحفاظ عليه من الضياع. وهي خدمة يشكر عليها.



تطرق المؤلف في كتابه هذا الى عدة مواضيع، كلها تسترعي الاهتمام لتاريخ هذا الرجل العظيم في جميع مراحل حياته. كثيراً ما كانت كتاباته مقتضبة، ولو توسع لفتح للقارئ افاقاً جديدة شتى و مع هذا الاختصار فقد جاء الكتاب بهذا الحجم وافياً. وقد يستطرد المؤلف في بحثه الى مواضيع اخرى لها ارتباط بالموضوع.



ان البحث والدراسة تتطلب المزيد من التوسع في كل فصل من فصول ادوار حياة السيد ابن شهاب، خصوصاً وان هناك مواقف حاسمة مهمة تتطلب وتقتضي المزيد من التوسع فيها، لئلا تكون هناك فجوات تاريخية يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً متيناً قوياً، مثاله عن النشأة والعصر المتردي الذي عاش فيه وهو من أهم ادوار حياته. ففي هذا الدور تكونت شخصيته وتركزت نفسيته. لقد كان موضوع نشأته مقتضباً ويكاد يكون سرداً، مع ان المفروض ان يتوسع المؤلف فيه، كما ان موضوع اسرته جاء مختصراً جداً. في هذه الناحية كان عليه ان يتوسع باسهاب، ويذكر مثلاً سبب تسمية هذه الاسرة بآل شهاب. متى ومن بدأ بهذه التسمية، ومن هم الشخصيات البارزة في هذه الاسرة قديماً وحديثاً، ولكن ربما كان للمؤلف وجهة نظر اخرى في هذا الموضوع احتفظ بها.



لم يفصّل او يعلق المؤلف على مكانة فقيدنا الراحل التي تبوأها في مهجره وما قام به من اعمال، خصوصاً في حيدر آباد حيث قضى اكثر حياته فيها. وفيها قضى نحبه وكان مدفنه، كما ان البحث يقتضي التسلسل التاريخي حتى لا يكون هناك فراغ. ولكن هذا لا يقلل من قيمة الكتاب الذي يعد اول كتاب وضع لفقيدنا المصلح الكبير.



تطرق المؤلف الى ذكر بعض تلامذته فاختصر اختصاراً، مع ان جملتهم كبيرة، والادوار التي قاموا بها للاصلاح كانت عظيمة وناجحة في مجال التوعية والتعليم والاقتصاد. وما هذه المآثر الناطقة اليوم الا من بذورهم التي بذروها، وهم منتشرون في آسيا وافريقيا وجنوب الجزيرة العربية، فلهم القدح المعلى في النهضة الاصلاحية، او تكوين هذا الجيل الواعي المتنور بزعامة السيد ابن شهاد. وهكذا ايضاً في موضوع زملائه. المعروف ان صلات المغفور له كانت واسعة ووثيقة، خصوصاً برجال وزعماء المسلمين في العالم. ذكر المؤلف بعضهم باختصار في مصر والمغرب العربي والشام والعراق وايران وتركيا وجنوب شرقي آسيا وغيرها. والمفروض ان يسهب المؤلف في هذا الموضوع، لان رحلاته الكثيرة وصلاته بهم ومكاتباتهم له، كلها شاهدة بما نقول للفقيد من مكانة وتقدير من رجال العالم الاسلامي. لقد كانت رحلاته كلها مليئة بالاعمال الجليلة، فلا يحل في بلد الا ويوقظ مشاعر القوم ويذكي احساساتهم للنهضة والاصلاح.



اما موضوع موقف السيد ابن شهاب ونظرته نحو المرأة، فقد ركّزه المؤلف واعطاه حقه من البيان، بمتابعته واستشهاده بنظرية الغير مما زاد الامر وضوحاً، وصار للموضوع اهمية وقيمة.



هناك موضوع كثر الحديث عنه، وهو لماذا اختار فقيدنا الهند ومدينة حيدر آباد بالذات دون غيرها من بلدان العالم، ليكون منطلقاً لدعوته واعماله الإصلاحية؟ ربما يكون ما ذكره المؤلف على اقتضابه ما يشفي الغليل.



قضية المتزمتين وتجار الاديان، هذه قضية هامة من القضايا التي شوهت سمعة المسلمين، وأساءت الى قيمة الدعاة المخلصين. فالمجتمع الاسلامي يئن من اولئك الذين اساؤوا الى الاسلام، ممن يدعي الاسلام. وليس بمستبعد أنهم من اعداء الاسلام، ومن العملاء لاجهزة اجنبية لمحاربة الاسلام والمسلمين باسم الاسلام. فسحوا لاعداء الاسلام مجالاً ومدخلاً اتخذوا منه سلاحاً لمهاجمة المسلمين. وقيل: إن لهم صلة خفية بجهة استعمارية، لتنفيذ مخططاتها العدائية بارتكابهم تلك الاعمال المشينة المخجلة عن عمد.



موضوع النهضة الاصلاحية التي قام بها السيد ابن شهاب من المواضيع المهمة، والنقاط الحساسة التي تعتبر لب الكتاب، ففي هذا الفصل تلمع شخصية السيد ابن شهاب وعظمته ومواقفه. كيف كان يعمل ويخطط للاصلاح العام سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً في ظروف حالكة وملابسات قاسية؟ وكيف كان يجاهد لبثّ روح الكفاح والنضال وتوعية الشعب؟



فما هي الدوافع التي دفعته لارتياد نهضته الاصلاحية؟



انه موضوع جدير بالاهتمام.



كان السيد ابن شهاب مقتنعاً كل الاقتناع بان النهضة الاصلاحية العامة يجب ان تبدأ بالنهضة التعليمية لتثقيف العقول وتحرير الافكار، وعليه فقد بدأ بها. وبما ان هذا الموضوع هو الموضوع المهم الاساسي، لتكوين جيل جديد قوي مثقف فاهم واع يشعر بالمسؤولية بصفته فرداً من المجتمع. ومن هذا الجيل، تبلورت الافكار لارتياد النهضة الاصلاحية.



استطاع السيد ابن شهاب تحديد مخططه كما يقتضيه الواجب، وتتطلبه اصول التثقيف بحكمة ورصانة، مما يدل على رجاحة عقله وبعد نظره، فقد نجح واستطاع الوصول الى الهدف الذي ينشده، ووضع مثالاً للعدالة بمفهومها الشامل، على اساس الاخوة الاسلامية، ومعنى ذلك انه اعاد الحق الضائع فوضعه في موضعه الحقيقي.



ان الواقع الحقيقي المسلّم به هو ان النهضة الاصلاحية التي قام بها السيد ابن شهاب، كانت المنطلق لتطوير الحياة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المهاجر الشرقية بوجه عام، وفتحت لشعوبها آفاقاً جديدة كانت اساساً للتقدم العلمي والثقافي، الذي، تتمتع به تلك الشعوب اليوم، ولو لا وجود هذه النهضة الاصلاحية لما كانت الشعوب في المهاجر الشرقية تقطف ثمارها، وتتنعم بهذه النعم من التطور الملحوظ، ولما بلغت هذا المستوى الرفيع من التنور.



مهما قيل ما قيل ومهما حاول البعض ما حاول من طمس هذه الحقائق الناصعة، او اعطائها صورة غير صورتها الحقيقية فما هو الا كمنكر ضوء الشمس في رابعة النهار.



بعد انطلاق السيد ابن شهاب في نهضته الاصلاحية، وغرسه البذور ثم رعايتها حتى اثمرت واينعت، جنى القوم ثمارها بكل جوانبها وابعادها، فإذا الجمعيات تنشأ، والمدارس تبنى، والمطابع تؤسس، والجرائد تصدر، والكتب تؤلف وتنشر، ودور الايتام تنشأ، وابناء الشعب يتلقون العلوم في المعاهد ويخرجون حاملين الشهادات. فقد حوربت الامية ودفن الجهل.



كيف كانت الشعوب الاسلامية قبل ذلك العهد؟



كانت الشعوب الاسلامية في اواخر القرن الثالث عشر الهجري قد ضرب عليها الوهن، وهد من جسمها الضعف وبدت ممزقة وخاملة، لان دولة الخلافة، وهي رمز الوحدة الاسلامية كانت تعاني من ازمات خارجية ومشاكل داخلية، وهي تسير في طريقها الى الانحدار والانحلال رغماً منها، واعداؤها يتربصون بها من كل جانب لانتهاز كل الفرص لابتلاع هذه الفريسة نهائياً.



ان ذلك الوضع المتردي العام هو الذي دفع بالسيد ابن شهاب ليبدأ ويشق طريقه في عمله، ويصدع بدعوته للنهضة الاصلاحية، ويسعى السعي الحثيث لانتشال أمته و ما يمكن انتشاله من المأزق والانحطاط والهاوية التي وقعت فيها.



وكان من أهم اعماله ومساعيه تطوير الوضع الاجتماعي المتأزم، وتطوير معالم التفكير الجامد الى حركة نامية تعليمياً وثقافياً ووعياً للشعور بالمسؤولية، وذلك هو الكفيل لتطوير امة من حالتها المنحطة الى حالة اسمى واحسن، لتكون امة قوية مثقفة قادرة على الصمود، ومواجهة المصاعب وحل المشاكل، فلا خير لأمة جاهلة ولا أمل لشعب جامد.



اذا عرضت على السيد ابن شهاب قضية من القضايا السياسية ذات الاهمية القصوى، او قضية من القضايا الاجتماعية الحساسة، او من القضايا الاقتصادية المهمة يتناولها بأناته، ليدرسها ويغربلها من جميع النواحي بدقة متناهية، شرعاً وعرفاً وقانونياً، اسبابها، عواقبها، نتائجها بفكر متزن حتى يصل الى نتيجة ناضجة، فهو لا يستعجل في اي عمل يعمله، ولا يقحم الامر عنوة بعمل ارتجالي، وهذا يدل على رجاحة فكره المتسمة بالمرونة واللياقة.



كل من عرف ابن شهاب او تابع قراءة مؤلفاته، او سبق له ان استمع الى محاضراته او اقواله في مجالسه او عندما يلقي دروسه يشهد له ببعد نظره وكمال حكمته. اما سلوكه فمعروف، ويشهد له الجميع بمدى استقامته وتقواه. اما مواقفه المقدامة، و كفاحه من اجل امته، وافكاره النيرة واعماله الخيرة، فكلها جعلته قادراً على ردع التائهين، وتوعية الانعزاليين الجامدين، وهدي الطائشين، فنحاهم جميعاً عن انحرافهم، وازال ما ران على افكارهم من رواسب العمليات البالية، واعادهم الى الطريق والنهج السوي.



من خلال ما جاء في هذا الكتاب يرى القارئ حقيقة شخصية السيد ابن شهاب الفذة، وسداد رأيه، وبعد نظره يجاهد مخلصاً وينفق بسخاء في سبيل إنقاذ أمته، فتح لهم الابواب المغلقة، وما استعصى عليهم ادراكه، وفهّمهم ما غاب عن اذهانهم. وكان لارباب المصالح الذاتية سعي لطمس الحق والحقيقة، حتى يبقى مجهولاً لدى الامة، فانقلب الامر وظهر الباطل وكانه هو الحق الذي يجب اتباعه، واصبح في عقيدة القوم امراً مقدساً، فتشبث به المتشبثون والزموا الناس التمسك به، وهم لا يدرون انه الباطل.



هدّم السيد ابن شهاب تلك الاساطير الفاسدة بحكمة حكيمة، وطور الشعب وجعل من افراده شخصيات ذات قيمة رفيعة المستوى.



لم يكن السيد ابن شهاب الزعيم الاول ورائد النهضة الاصلاحية فحسب، ولكنه كان ايضاً أديباً كبيراً وشاعراً مفلقاً لا يشق له غبار، فجمع بين الادب والقيادة والزعامة الفكرية والاصلاحية بمفهومه الشمولي، ابتداءً من نشر التعليم والتثقيف الى الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي واوجد في الامة روح التحمس للنضال.



وخير دليل على عظمة السيد ابن شهاب، هو أنه استطاع ان يوجد من تلامذته عناصر قوية خلفوه في الزعامة، واوصلوا المسيرة على النهج الذي وضعه لهم، فأتموا البناء على اسس تصميمه لتحقيق وجود مجتمع يتمتع بالعدالة الاجتماعية ثم يحافظ عليها.



واليوم وقد مضى على تاريخ ميلاده اكثر من قرن، إذا القينا النظرة ملياً الى وضع المسلمـين، ثم قارنّا بين رجال رواد النهضة في عصر السيد ابن شهاب، وبين ما نشاهده الآن من الحركات والمنظمات والمؤتمرات الاسلامية، التي تقوم بدعمها هيئات اهلية ودولية، وتمونها حكومات باموال طائلة. وطبعا، ان لكل منها هدفاً خاصاً لصالحها، فالفرق عظيم والبون شاسع بين السابقين المخلصين في اعمالهم، إذ ليس لهم هدف شخصي أو مصلحة ذاتية سوى نفع الامة، وبين اللاحقين الذين لهم مصالح خاصة.



تعقد المؤتمرات والندوات، والنتيجة هي اتخاذ قرارات فوق القدرة والطاقة، ولا يمكن أن تنفذ، وتوصيات غير فعالة ولا يسمعها احد، كنداءات الصائح في الصحراء، وتتكرر نفس النغمة بنفس القرارات والتوصيات والاحتجاجات عندما تتكرر تلك المؤتمرات والندوات، وكلها هدر كلام، كهدر الاموال بكرم حاتمي، ولا جدوى لها، إذ تبقى قرارات بدون تنفيذ.



اصبحت المؤتمرات والندوات الشغل الشاغل للهيئات والمنظمات والدول، وأخذت الخلافات الداخلية تتكاثر وتتعاظم داخل تلك الاجتماعات. والغريب بعد كل ذلك أن تصدر البيانات الختامية المشتركة بان المؤتمر ناجح، وعقد في جو من التفاهم الاخوي، فالفرق بين الدعوتين الماضية والحالية واضح.



على رغم ان الخسارة فادحة بغياب رائد النهضة الاصلاحية الاديب الكبير السيد ابن شهاب، غير انه. من المفرح أنه لم يحدث اية ثغرة او فراغ في نطاق النهضة بعد غياب الفقيد، لوجود خلف من مستوى اعاظم الرجال، كالسيد محمد بن عقيل صاحب المؤلفات الكثيرة وامثاله، ولكن بقي هناك فراغ ملموس لم يسد حتى الآن في الادب فلا يوجد في الشعر من يجاريه.



انـه رائـد النهضـة الاصـلاحية وزعيمـها وبانيها بلا ريب، وهو ايضا اديب كـبير وشاعـر لا يضـاهيه احـد، حـمل مشعـل الادب الى المهجر الشرقي، فتخرج مـن مـدرسته شعـراء. واسمعه ماذا يقول في هذه القصيدة العاطفية الرقيقة التي مطلعها:







  • من غرامي بقرطها والقلاده
    ان أمت مغرماً فموتي شهاده



  • ان أمت مغرماً فموتي شهاده
    ان أمت مغرماً فموتي شهاده




وهو القائل ايضاً:







  • على سلمى وان نأت الخيام
    من المضنى التحية والسلام



  • من المضنى التحية والسلام
    من المضنى التحية والسلام




وهو القائل:







  • تعللنا بذكرهم الحداة
    وتهدينا النسائم اين باتوا



  • وتهدينا النسائم اين باتوا
    وتهدينا النسائم اين باتوا




وهو القائل:







  • فتنتك حين بدت بوجه مسفر
    ورنت مسلمة بطرف احور



  • ورنت مسلمة بطرف احور
    ورنت مسلمة بطرف احور




ومن قصائده الخمريات يقول:







  • روق الخمرة صرفاً وادر
    واسقنيها في الظلام المعتكر



  • واسقنيها في الظلام المعتكر
    واسقنيها في الظلام المعتكر




ومن قصيدة اخرى مطلعها:







  • امحدثي عمن أحب واعشق
    زدني فبي لهم اشتياق مقلق



  • زدني فبي لهم اشتياق مقلق
    زدني فبي لهم اشتياق مقلق




وهو القائل ايضاً:







  • بشراك هذا منار الحي ترمقه
    وهذه دور من تهوى وتعشقه



  • وهذه دور من تهوى وتعشقه
    وهذه دور من تهوى وتعشقه




ثم اسمعه ماذا يقول:







  • بهزك غصن القد ماذا تريدينا
    وماذا بلغز العين في السر تعنينا



  • وماذا بلغز العين في السر تعنينا
    وماذا بلغز العين في السر تعنينا




هذه من مطالع قصائده الغزلية الكثيرة اقتطفنا منها جزءاً يسيراً، وقد كتبوا عنه في الصحف كثيراً، منهم الاستاذ الاديب محمد بن هاشم في سلسلة مقالات نشرتها جريدة حضرموت في سورابايا، والاستاذ العلامة محمد احمد الشاطري في كتابه ادوار التاريخ الحضرمي، والاستاذ الاديب الكبير صالح الحامدي صاحب ديوان سمات الربيع، كتب سلسلة مقالات عن السيد ابن شهاب في مجلة النهضة الحضرمية من سنغافورا، وكتب الاستاذ محمد احمد مشهور الحداد سلسلة مقالات في جريدة البلاد، التي تصدر من جدة، كما دبج الاستاذ العلامة محمد بن حسن بن علوي بن شهاب ابحاثاً عن السيد ابن شهاب في صحف سنغافورا، وكتب عنه السيد علوي الحداد مفتي سلطنة جوهور الماليزية، والسيد حامد المحضار الف كتاباً خاصاً عن السيد ابن شهاب لا يزال مخطوطاً وكثير ممن لا يمكنني حصرهم كتبوا عن السيد ابن شهاب.



حين يدعو السيد ابن شهاب الى التحرر، فانما يقصد التحرر الفكري السليم من التبـعية العـمياء. فالحـرية فـي نظـرية السيد ابن شهـاب ليست الهـدف الاول والغـاية القصوى، اذا لم يكن رائدها العقل، واساسها البصيرة، ولم تتخذ من النظر البعيد نبراساً، ومن العلم ركناً حصيناً، حتى يمكن الوصول الى الهدف الحقيقي السامي مأمون النجاح.



هناك لا يزال اناس ممن يرى الحرية بمعنى التفسخ والفوضى والارهاب، فهو لا يريدها ويحاربها ايضاً.



لو جمعت نظريات السيد ابن شهاب وتوجيهاته الكثيرة الضخمة، لكانت مجموعة ضخمة من الآراء السديدة والتوجيهات القيمة، التي تمثل نبراساً يستضاء بنوره في الظلمة الحالكة.



شهد المهجر الشرقي عهد انبثاق لحركة نهوض واصلاح كبيرين شاملين في جميع القطاعات بوصول السيد ابن شهاب الى هذه المهاجر عام 1288 ـ هـ، اذ قام بدور نهضة اصلاحية فعالة وعظيمة.



إذا تقصينا الوضع ودرسنا الامور عن كثب في عهد اواخر القرن الثالث عشر الهجري، او اواخر القرن التاسع عشر الميلادي، نجد ان السيد ابن شهاب عاصر الزحف الاوروبـي الاستعـماري على العالم الشرقي، او العالم الاسلامي بعبارة اصح، بأساطيلة للسيطرة على الاقتصاديات العالمية، في الوقت الذي تتهاوى الشعوب الاسلامية في آسيا وافريقيا تحت نير الاستعمار، وبين مخالب الاستعباد الاوروبي ما عدا اليابان.



هذه الحوادث المؤلمة اثرت في نفس السيد ابن شهاب، لانه يرى ويشاهد ذلك في عصره المليء بالمشاكل والمحن المنصبة على العالم الاسلامي، وان حصون دولة الخلافة والمعاقل الاسلامية يدكها الاستعمار.



ولكن من سنن المولى جل شأنه ان تلك المشاكل والمحن هي التي تصهر الرجال وتخلقهم، فيظهرون على مسرح الحياة في الوقت المناسب للاصلاح والنهضة. فالزعماء لا يظهرون الا في الاجواء المكفهرة بالظلماء، والمتلبدة بالظلم والفساد والطغيان. والتاريخ شاهد ومليء بأمثال اولئك الزعماء، الذين قاموا بنهضة اصلاحية انقذوا بها قومهم من طغيان الظلمة، وانتشلوهم من حضيض الفساد ومهاوي الاستعباد. قد ينجح البعض، وقد يدفع البعض الآخر ثمناً عالياً يذهب ضحية الاصلاح.



ومن الناس من يرى الاصلاح فساداً لمكانتهم وعروشهمم



وبعد، فقد احسن الاستاذ محمد اسد شهاب بما قام به من جهد يشكر عليه، لابرازه تلك الشخصية بتأليفه هذا الكتاب، وقد تولت هيئة البحوث الاسلامية بجاكرتا في اندونيسيا، رغبة منها، نشر هذا الكتاب ضمن سلسلة منشوراتها العديدة، التي بلغت حتى اليوم اكثر من ثلاثمائة وستين كتاباً، باللغات الاندونيسية والعربية والانجليزية، في مواضيع شتى خدمة للعلم والتاريخ.



هـذه محـاولة قيمـة ومجـهود يشكر عليه لاحياء تاريخ العظماء وسيرهم، وهم جزء لا يتجزأ من التاريخ العام، الذي سيلمحه القارئ من خلال قراءته لهذا الكتاب.



مضى ما يقرب من قرن ونصف على تاريخ ميلاد السيد ابن شهاب عام 1262هـ، نعترف ان ما بلغناه و ما توصلنا اليه وما حصلنا عليه من خير نتمتع به الآن، انما هو بفضل جهوده، وما بذره فقيدنا عندما وضع مخططه في النهضة الاصلاحية. قد يغيب عن ذهن الجيل الحاضر والقادم هذه الحقائق لعدم اطلاعه عليها، فعلينا ان نقدر للمجاهد حق قدر جهاده، وللمكافح حجم كفاحه، اولئك الذين يعملون لله تعالى لرفع شأن الامة ونشر العلم وبث الوعي.



ان الواجب يحتم علينا تقدير وتعظيم هؤلاء المجاهدين المخلصين، وان نعرّف الجيل القادم بهؤلاء الزعماء المجاهدين.



إن ما بلغ من علمنا، ونحن لا نجزم بذلك، ان السيد ابن شهاب لم يكتب مذكرة له في حياته، كما لم يكتب شيئا عن رحلاته، مثل ما يكتب العظماء مذكراتهم. ففيها تصور الحوادث من وجهة نظرهم. كم سيكون لمذكرات السيد ابن شهاب، لو كتبت، قيمتها التاريخية; اذ ان في المذكرات عادة كشف امور خفية ذات اهمية قصوى. ولعل الايام المقبلة كفيلة بإبراز ما نتمناه الآن. كما اننا نؤمل، كما يقول مؤلف هذا الكتاب، ان يأتي من بعده آخرون من الجيل المتنور المثقف يبذلون الجهد والطاقة لمواصلة البحث والدراسة، والتقصي لكلّ ما يتعلق بفقيدنا المغفور له، مما تركه من مؤلفات، وبخاصة ما كان مطبوعاً منها، إحياءً للتراث العلمي، وتخليداً لهذا الزعيم العظيم، والمصلح الفذ الكبير رائد النهضة الاصلاحية.



ومن الملاحظ ان السيد ابن شهاب ترك الدنيا ملبياً نداء ربه بعد طمس الاستعمار لدولة الخلافة وازالتها، وطرد آخر سلاطينها بعامين، واستبدالها بجمهورية وطنية علمانية، وهو الذي استمات في حياته مجاهداً للدفاع عن بيضة الاسلام، ووحدة المسلمين تحت لواء الخلافة. كما انه خرج من هذه الدنيا خالي الوفاض، لم يترك لورثته مالاً ولا عقاراً ولا شيئاً من حطام الدنيا.



رحمه الله وغفر له، ووفقتا جميعاً للعمل من أجل الصالح العام، خدمة للمجتمع وابتغاءً لوجه الله وحده. والله ولي التوفيق.



رئيس هيئة البحوث الاسلامية



جاكرتا ـ اندونيسيا



واقعة حالكثر اللغط وتعددت التهم والاقاويل التي أثارتها زمرة من ذوي الفتن المغرضين اعداء الحق ومروجي الباطل، يتهمون السيد ابن شهاب بالمروق عن الصراط القويم والخروج عن الجادة المألوفة وطريق السلف، وانه اتى بآراء جديدة غريبة تخالف المعروف والمألوف، وتدعو الى الزندقة. فراجت اسواق المغرضين من تجار الاديان ومستجدي نعم السلطان، وسلاح العاجز القذف والتهم والسب والشتم، فقام السيد في وجوههم وكان في شرخ شبابه، وردّ عليهم بهذه القصيدة، معلنا الحق وموقفه الذي يستميت من اجله ومحاربة الباطل والمبطلين([1]):قال لي بعض مدعي العلم ممناضرم الحمق بين جنبيه ناراهل ترفّضت قلت لم ادر ما الرفــض لديكم حقيقة واعتبارافرفيع مقام قومي وسامان يجاروا السفيه والمهذاراغير ان الضرورة اقتضت الإيــضاح فالصمت يوهم الإقراراان لي من تمسّكي بكتاب اللّهما اتّقي به الأخطاراولما صحّ من حديث ابي القاسم أنقادُ راضياً مختارالا اُعاني التأويل فيها اتّباعاًللهوى او تعصباً او ضرارامذهبي مذهب الوصي ابي الســبطين فالحق دائر حيث دارااعلم الصحب للمدينة بابٌكم به اللّه ارغم الكفارا([2])وتمسّكت بالشهيدين انيسائر في عقيدتي حيث سارااشرف العالمين اُمّاً وجدّااطيب الناس عنصراً ونجاراحصّنوا العلم اذ بنو عبد شمسخبط عشواء يخبطون سكارىغيّروا بدّلوا طغوا وتعامىحاملو العلم خيفة واضطراراألف شهر تمتعوا ثم حقّتنقمة اللّه فاستحقوا الدماراوبأقوال جعفر حيث صحتعنه نقضي ونتبع الآثاراوبنيه الائمة العلويينالاُلى حولوا العتيم نهاراسالكي المنهج الذي لم تجد فيــه انعطافاً ولست تلقى ازوراراهؤلاء الاعلام اشرف بيتفي الورى بيتهم واعلى مناراايها الغمر هل سؤالك إياي لجهل ام خفة واغترارااننا ايها المغفل نقفوهؤلاء الائمة الاطهاراان يطوفوا نطف ونستلم الــركن ونرمي كما رموها الجمارااعلم الناس بالكتاب وبالســنّة حيث الهدى هناك استنارابالذي صحّ عنهم الأخذ احرىفاقرأ الكتب وافحص الأخباراان تقل ما به يدينون رفضفهو ديني عقيدة وائتماراأعلى الحق تجتري ام عليهمكيف تسري سرى النسور الحبارىعن ابيهم اتى الهدى ثم عنهميتلقى ويودع الأسفارافهو في دورهم وفيهم عريقولدى غيرهم يرى مستعاراما من الشام جاء أو ارض طوساو سمرقندَ أو أتى من بخارىديننا حبّ اهل بيت رسول اللــه حبّاً يكفّر الأوزاراونحبّ المهاجرين واصحاب النبي الخيار والأنصاراضاعف اللّه اجرهم وعليهمصيّب العفو والرضا مدراراوأحلّ الجميع في جنة الخــلد وأجرى من تحتهاً الانهاراهذه السنّة التي امر اللــه بها الناس صبية وكباراونهاهم عن التولّي لمن نافق او جدّ في الفساد وجاراما تريدون بعد انا شرحناما الصدور انطوت عليه مراراهل تسوموننا انتقاص عليفنغيظ المهيمن القهّارااو على ابنيه نجتري وسخيفٌمن يعيب الشموس والأقماراام تريدون ان نحبّ ابن هندوعن النص مثلكم نتوارىلم تجد مؤمناً كما اخبر اللــه محباً من حارب الجباراوحديث النبي اقوى عرى الايــمان في اللّه بغضنا الاشرارافهو باغ ولا كرامة للباغي ومن النار الشرار استطارا([3])حارب المرتضى وسمّم سبط الــمصطفى بئس ما ارتضاه قرارايقتل الصالحين صبراً كحجريأكل الفيء يلعن الكرّاراوتمادى يعيث فيهم فساداًوعلوّاً في الارض واستكباراخاض لج الضلال عشرين عاماًثم ولّى يزيده الخمّاراوتقولون باجتهاد مثابيا لهذا معرّة وشنارالو يكون الذي زعمتم صوابالارعوى بعد قتله عماراهل ترى عالم الخفيات يرضىما صنعتم ويقبل الاعذاراومن المخجل احتجاج اناسباحاديث تشبه الاسماراساقهم نصبهم اليها افتراهاورواها من يعبد الديناراولهم كم مقلد رام ربحاًلم يزده التقليد الا خسارااين ربح الذي يرى القار مسكايُقتنى او يرى النحاس نضاراربنا افتح بين الجميع بحقوارفع الخلف بيننا والشجاراواهدنا أقوم السبيل ولا تحــمل علينا اصرا ولا أصراراوارفع الضنك عن عبادك والبأساء وارحم وأرخص الاسعاراوصلاة على نبيك طهاعظم الرسل رتبة وفخاراوعلى العترة الكرام امانالارض من ان تميد او تنهاراوعلى الصحب من لنصر رسولاللّه ساموا النفيس والاعماراوعلى التابعين ما غرد القمــري او ناوح الحمام الهزارا* * *







  • في ذِكْرى أَبي المُرْتَضى
    لم يقض منها على طول المدى وطرُ
    يتلو وينبئ وهو السفر والخَبرُ
    وهو الخفيُّ الذي ما زال يستترُ
    إذا تغيّبَ عنها الشمس والقَمرُ
    وقد تبيّن ما نفس وما مَدرُ
    إن أنت إلا على عِلاته بشرُ
    إلا وفي الأمر صون هتكه ضررُ
    خذ ما يليك ودع ما دونه خطرُ
    لا بدّ من مرجع مهما نأى السفرُ
    فلا يهمك منها الطول والقصرُ
    واصبر وكافح فإن المرتقى وعِرُ
    جفّ المدادُ وتم الحكم والقدرُ
    فاستغفر الله علّ الذّنب يُغتَفرُ
    والبحر موج وفي تسيارها غررُ
    يقول للصدف الخلاب يا دررُ
    فجنة الخلد للصديق يا سقرُ
    فما اعتذاركما ليلى ويا غُدرُ
    فإن أبيت فما أقساك يا حجرُ
    فرب نكبة نار أصلها شررُ
    دار الكفاح ومنك العون والظفرُ
    رب غفور إليه الكل مفتقرُ
    وفي الحياتين نعم الذّكر والعبرُ
    بقيت فينا هما العرفان والنذرُ
    فلا تراث سِوى ما تحتوي الزبرُ
    لم يبله الدهر فهو الشمس والقمرُ
    فليس يرزأ فيها الطولُ والقصرُ
    أنت الحجى والنهى والمجد والظفرُ
    ومتّع النفس شعرا كله دُررُ



  • نتلو من الكون سفرا طيه عبر
    الفِكرُ والسمع والأبصار تألفه
    ما زال يجلو الذي ما زال مستتراً
    فانظر الم تر للدجناء ظلمتها
    وكم سما يا ترى نبت على جمد
    ما أنت من حجر صلد ولا مدر
    لم يعينا كل ذا الإعياء مغلقه
    أما السؤال فكل الكون مسألةٌ
    فاقنَعْ هديت وزد يا رب منك هدى
    إن لم يكن معدل فالزم محجته
    وسر وحاذر فإن المستوى زلق
    فما سؤالك ما لوحٌ وما قلم
    وقفت جهلا أمام الباب تقرعُه
    أبقيت في الفُلكِ والأرواح عاصفة
    يا رب من يدعي علما وفلسفة
    إن تستزيدي فكم من كاذب أشر
    العيش عمر وأعمال مسجلة
    وكم عِظات تذيب القلب من أسف
    لا تأمن الذنب مهما دق من صغر
    خلقت سبحانك اللهم ممتحنا
    يَرعاكَ يا ابن شهاب بعد محنتها
    نعيش ذكراك بعد البين خالدة
    وقد تركت لنا عهدين ما بقيا
    ورثت ما ورث الرسل الكرام لنا
    وفي حياتك نور يستضاء به
    إن الحياة إذا الرحمن باركها
    أنت العلى والمنى والعز مكرمة
    يا راوي الدهر أنشدنا قصائده
    ومتّع النفس شعرا كله دُررُ




عزيزي السيد محمد اسد شهاب



وصلتُ من سفر الى ارض الهند بدعوة من علماء في نيودلهي فلما وصلتُ بوفور وجدتُ خطابكم الكريم فكتبت هذه الأبيات ورحم الله الحبيب صاحب الديوان. وهنيئاً لكم العيد السعيد أعاده الله علينا وعليكم في خير وعافية والسلام.



محبك المخلص



تقديم



عندما زرت ايران عام 1392هـ ، الموافق 1972م تسنى لي ان اقوم بزيارة لبعض علماء المسلمين الاعلام فيها، وتشرفت بالاجتماع مع الكثير منهم في عدة مدن، منها: طهران، قم، شيراز، مشهد، وغيرها.



اجتمعت بالعلامة الجليل السيد مرتضى العسكري صاحب المؤلفات الكثيرة، وعميد كلية اصول الدين في بغداد سابقاً، قبل استيلاء حكومة بغداد عليها ومصادرة املاكها. كما اجتمعت بالسيد العلامة آية الله شهاب الدين الحسيني المرعشي، وبكثير من الشباب المثقف الجامعي الذين يعملون في حقل التعليم والتربية والتثقيف. وسنحت لي فرص زيارة معاهدها العلمية وحوزاتها وجامعاتها وانديتها الادبية، واتصلت برجالها ووجهائها. ودونت كل ذلك في كتاب خاص افردته عن ايران من جميع نواحيها. كما افردت لكل بلد زرته على حدة في كل رحلاتي. منها مثلاً جولتي في ربوع جزر مورو، وضعتها في كتاب خاص طبع بمطبعة سرفي بريس في بيروت عام 1979م.



تطرق العلامة السيد المرعشي حين اجتماعي معه في حديثه الممتع الى ذكر السيد ابي المرتضى ابن شهاب، وتكلم باسهاب وهو معجب به وبتآليفه وبحوثه العلمية ودراساته الموضوعية العميقة، الدالة على سعة اطلاعه ومبلغ مستواه العلمي الرفيع، ومساهمته الفعالة في تركيز النهضة العلمية.



السيد المرعشي يقدر السيد ابن شهاب تقديراً كبيراً ويعجب به، كما ابدى لي ذلك كثير غيره من الاكابر في هذا الموضوع.



عجبت ان يكون للسيد ابن شهاب هذه المكانة الممتازة، والتقدير العظيم والاعجاب الكبير لدى كبار المراجع العلمية الاسلامية في ايران، امثال السيد المرعشي الذي بدا لي سعة اطلاعه على مكانة السيد ابن شهاب.



استطرد السيد المرعشي في حديثه الشائق الممتع، وذكر ان لديه بعض مؤلفات السيد ابن شهاب، منها كتاب رشفة الصادي الذي يأمل ان يعيد طبعه احياء لهذا التراث الغالي.



مرت شهور بعد عودتي من ايران، فاذا انا برسالة تصلني من السيد شهاب الدين المرعشي، بتاريخ 8 شوال عام 1396هـ ، يقول فيها: انه في مقام اعادة طبع ونشر كتاب رشفة الصادي، ورجاني ان اكتب شطراً من ترجمة المرحوم السيد ابن شهاب.



لبيت في الحال طلبه على استعجال، تقديراً لجهده وهمته في إحياء وتخليد التراث الاسلامي. وكتبت ما يقرب من عشرين صفحة بالخط العريض مقدمةً بسيطة للطبعة الثانية من كتاب رشفة الصادي.



ومضت السنون، ويمتد بي الزمن الى فرصة كنا فيها في اجتماع ضم الكثير من الشباب المثقف، ووجدت كثيراً منهم يستفهم متلهفاً، بل ويستزيد عن السيد ابن شهاب. فدار بخلدي ان اضع كتاباً موجزاً عن حياته، استقيه من المصادر التي تذكر عنه. وأن يحتوي هذا الكتاب مراحل حياته ونهضته الاصلاحية، ومواقفه السياسية والاقتصادية، وبرامجه وآراءه. ورأيت اكمالاً للكتاب ان ألحقه مختارات من قصائده.



بدأت في الكتابة، وشعرت اني في حاجة الى كثير من المراجع المتعلقة بالمترجم له، واسفت آنذاك ان مكتبة وكالة الأنباء العالمية (APB) قد ضاعت، ولم آسف على شيء كاسفي على ضياع مؤلفات السيد ابن شهاب، من تلك المكتبة الخاصة بالكتب التراثية القيمة بجاكرتا، التي كانت في إدارة الوكالة، وذلك اثر اقتحام البوليس الهولندي عام 1948م خلال الثورة الاندونيسية الاستقلالية، ومصادرته جميع الاوراق والوثائق والكتب من ادارة الوكالة ومكتبتها، التي تضم امهات الكتب التاريخية والادبية والدينية والعلمية. ثم تلت هذه المصادرة استنطاقات قاسية مفتعلة، دامت اياماً في مركز القوات المسلحة للبوليس الهولندي، وعلى الرغم من كل ذلك فان العمل في ادارة الوكالة استمر ولم ينقطع الا يوماً واحداً فقط. وكانت النشرات الاخبارية تصدر يومياً مرتين، كالعادة، صباحاً ومساءً بثلاث لغات، الاندونيسية والعربية والانجليزية.



بعد الافراج عن المسؤولين لم يفرج عن الكتب والوثائق والاوراق، وبقيت محجوزة في مركز البوليس الهولندي، على الرغم من مطالبتنا والحاحنا لاسترجاع ممتلكاتنا من الكتب الصادرة وغيرها. وهكذا فقدت وكالة الانباء هذه المكتبة باجمعها. ولا نعلم ماذا فعلوا بالكتب والوثائق، ونحسب انها احرقت وابيدت كلها. واكملت هذه المسرحية في اواخر عهد الرئيس سوكارنو، حيث هيمن الشيوعيون في ذلك الوقت على دفة الحكم. وتم مصادرة وكالة الانباء العالمية عام 1963، ضمن سلسلة مصادرات الصحف اليومية الكبرى، والمجلات التي لا تماشي سياسة الحكومة ونظامها اليساري. فقد صدر مرسوم جمهوري رسمي باسم رئيس الجمهورية الاندونيسية بتاريخ 13 ديسمبر عام 1963، يقضي بمصادرة وكالة الانباء (APB)، والاستيلاء على ممتلكاتها الثابتة والمتحركة، وكل ما له علاقة بالوكالة التي جمعت حديثاً، والاموال والاقلام والدفاتر والحسابات الجارية والآلات، حتى الموظفين والعاملين فيها، وتم اغلاق مكتب الوكالة (APB) بالشمع الاحمر، وسيق المسؤولون الى مركز المدعي العام، لاستنطاقهم وتحميلهم المسؤوليات المصطنعة لتبرير مصادرة الوكالة وممتلكاتها.



دام الاستنطاق ثلاثة اشهر، ثم افرج عنهم بدون محاكمة لعدم وجود سبيل او منفذ لادانتهم، ولكن الحكومة استحلت الوكالة وممتلكاتها، ثم ادمجت وكالة الانباء (APB) بما فيها من الموظفين والعاملين فيها، بوكالة الانباء الحكومية انتار، والتي يشرف عليها الحزب الشيوعي مباشرة.



حاولت الحكومة اغراء المسؤولين في الوكالة، فعرضت عليهم مناصب عالية خارج اندونيسيا، ليتقلدوا منصب سفير ومستشار السفارة في اوروبا الشرقية وامريكا اللاتينية، او البلدان الاشتراكية في آسيا. ومعنى هذا في العرف العام المتعارف عليه نفي ولكن بأسلوب وطريقة يخفى فيها المكر. وجاء مندوب خاص من قبل الرئيس سوكارنو يحمل معه هذا العرض والاقتراح، ولكنا رفضنا هذا العرض الذي يحتوي على معنى النفي والابعاد من البلاد لمن لا يرغب فيه بأسلوب مهذب، والذي يطبق في كثير من البلدان. ثم ان السفير مقيد بنظم وقوانين الدولة، يجب عليه تنفيذها بقسم يقسم به امام الرئيس.



لقد فضلنا البقاء في اماكننا، وعدم التعاون مع الدولة مطلقاً، وان كان ذلك يجر علينا العواقب الطغيانية. ان امثال هذه الطريقة التي يتخذها الحكام في كل دولة استبدادية ديكتاتورية امر مألوف ومعروف. اذ ليس للحق فيها قيمة ولا للحرية مكانة ولا للعدل وزن.



لم يدم عهد حكم الرئيس سوكارنو طويلاً بعد تورطه في الشبكة الشيوعية، ومصادرته وكالة الانباء العالمية والصحف التي لا تماشي هواه، لقد قضي عليه وعلى سلطته وحكمه بعد سنتين فقط من تاريخ مصادرة الوكالة، وذلك اثر الثورة الشيوعية الفاشلة للاستيلاء على الحكم في يوم 30 ايلول ـ سبتمبر عام 1965م([4]).



وبسب فقداني تلك المراجع التي لم يبق منها بيدي الآن الاّ النزر اليسير جداً، ونسخة واحدة من ديوان السيد ابن شهاب المطبوع باندونيسيا عام 1924، وما وجدته من بعض كتابات خطية لدى احفاد المرحوم في حيدر آباد، وبعض معلومات تلقيتها من الذين لهم علاقة به، وهم قلة اليوم، اذ قد اختار الله الكثير منهم الى جواره، عليهم الرحمة.



تزودت في بدء العمل من هذه المعلومات، وتجلى لي فيما بعد انه يجب علي الحصول على المزيد من الوثائق والمراجع والمعلومات. فواصلت العمل وتكبدت مشاق السفر والتنقلات، وقطعت المسافات البعيدة للاتصال بمن لا يزالون على قيد الحياة من زملائه وتلامذته. وزرت اسرة المرحوم في منزله بحيدر آباد في بلاد الدكن بالهند في عام 1973، وراجعت اسرته واحفاده فلم اجد مما بقي لديهم الا النزر اليسير من هذه المعلومات التي تزدوت بها. واتصلت بمن بقي من تلامذته، كالسيد المدحج والعيدروس والمحضار وابن شيخ ابي بكر. وكنت اطمع ان اجد الشيء الكثير من الكتب المتبقية لديهم. ولكنهم حدثوني بكل ما علق باذهانهم وما كانوا يذكرونه. وما زال بذاكرتي عالقاً ما كان يرويه ويحدثني به والدي المغفور له علي بن احمد بن شهاب عن السيد ابن شهاب، وكذا ما تلقيته من احاديث المرحوم السيد عقيل ابن زين العابدين الجفري، ومن الاستاذ محمد بن هاشم، وهؤلاء من تلامذة السيد ابن شهاب.



كل هذه المعلومات جمعتها ودونتها في هذا الكتاب المختصر. فالفضل الاول في تدوين هذا الكتاب راجع لمولانا العلامة السيد شهاب الدين المرعشي الحسني الذي فتح الباب لاحياء ذكرى السيد أبي المرتضى ابن شهاب الذي ابدى اهتمامه باحياء ترائه. وكانت همته هي التي دفعتني وبعثت فيّ الروح لوضع هذا الكتاب.



كل من تسنى له الاطلاع، ولو على كتاب واحد من مؤلفات السيد ابن شهاب المطبوعة او المخطوطة على رغم ندرة وجودها الآن، والتي اصبحت عزيزة المنال ومن نوادر الكتب، يستطيع بلا ريب الاستفادة منه،واستخراج معلومات وفوائد كثيرة، ولا بد ان يعترف بعد ذلك بان السيد ابن شهاب علم من الاعلام، واحد اساطين العلم، ورائد من رواد النهضة الاصلاحية المخلصين في القرن الرابع عشر الهجري.



كل مؤلفاته تشهد له على ما بلغه من مستوىً رفيع. وكتبه في مجموعها موسوعة علمية ضخمة قيمة، تشمل الادب والفلسفة والحكمة واللغة والتاريخ والدين والسياسة والثقافة والاقتصاد. ولو اعيد طبعها لكانت العلم النير الذي يستفيد منه العلماء والباحثون وطلبة العلم.



فللسيد ابن شهاب كتب كثيرة متعددة المواضيع والبحوث، طبع جُلها قديماً بالمطبعة الحجرية في سنغافورا والهند، وذلك قبل ظهور المطابع الحديثة في تلك البلدان، ولم تكن الاحرف العربية من الحديد معروفة آنذاك. وطبع من مؤلفاته في القاهرة، عند بدء ظهور الطباعة بالاحرف العربية المعروفة بالطباعة الاميرية، كتابه رشفة الصادي([5]) عام 1302هـ، وقد مضى على طبعه الى تاريخه ما يقرب من قرن. اما ديوانه فطبع باندونيسيا عام 1924، بمدينة بوقور بعد وفاته بعام واحد. مجموع كتبه المطبوعة (32) كتاباً، والباقي لا يزال مخطوطاً. ولا ريب ان كل كتبه المطبوعة قد تقادم عهدها وقل وجودها واصبحت من نوادر الكتب، وليس من السهل على الباحث العثور على هذا التراث القيم، اذ يتطلب جهداً كبيراً للعثور عليه، وهي ان وجدت فمتفرقة في اندونيسيا وماليزيا والهند وجنوب الجزيرة العربية، بايدي اناس ربما ورثوها من آبائهم، والمؤسف أنه لم يكن لهم اهتمام بها او تقدير لها.



قيل لي ان بعض مؤلفات المغفور له السيد ابن شهاب المخطوطة والمطبوعة موجود بمدينة تريم بجنوب الجزية العربية، والمؤسف أنني لم تسمح لي الظروف بالوصول الى مناطق جنوب الجزيرة ا لعربية، خصوصاً بعد استيلاء الشيوعيين على الحكم عام 1957 وبلغني من مصادر متعددة ان حكومة الجنوب صادرت جميع الكتب الموجودة في مكاتب الافراد، والهيئات التعليمية، والمدارس والمكتبات، وجمعتها في مكتبة الدولة العامة، وتعددت الاقاويل حول تلك الكتب المصادرة. ومن الناس من يقول: انها جمعت في دائرة الدولة لحفظها، ومنهم من يقول: إنها احرقت وابيدت باعتبارها كتباً سامة مخدرة، من كتب الرجعية والكهنوتية التي تميت القلوب وتخذل الارواح، لان نفوس الحكام لا تستسيغ ما في امثال تلك الكتب التي لا تماشي المفاهيم الشيوعية، فاحرقوها وابادوها، لئلا تسمم عقول الناشئة على حد قولهم.



لا اجزم بشيء من هذه الاقاويل، لاني لم اصل في رحلاتي الى جنوب الجزية العربية، ولكن العهدة على الراوي. وقد استعنت بكثير ممن اعرفهم في الجنوب العربي ليمدوني بما لديهم، او لدى غيرهم من معلومات في هذا الشأن. رحب القلة وتلكأ الاكثرية وخشي الآخرون، ولست اعلم سبب ذلك، ألخوفهم من بطش الحكام وطغيانهم وعسف ولاة الامور؟ ام لان الرعب والخوف قد غلبهم حتى صاروا يخشون صوت الناعق والصفير؟ ومعلوم ان الشعب الذي يعيش خائفاً مكبوتاً لا يمكن له ان يعمل شيئاً.



وبعد، فان هذا مجهود المقل، وكل املي ان يتاح لغيري مواصلة الدراسة ومتابعة البحث، والتقصي بصفة موسعة عامة فيما يستحقه فقيدنا من العناية والتقدير لوضع كتب عنه اوسع مجالاً. كما أرجو ان يقوم آخرون بجمع تراثه ومؤلفاته ومراسلاته وخطبه، وما تركه لمن بعده من المخطوطات لطبعها، واعادة طبع مؤلفاته المطبوعة التي اصبحت نادرة، والله ولي التوفيق.



محمد اسد شهاب



1400هـ ـ1980م



نسخة من رسالة السيد المرعشي الى مؤلف الكتاب



لمحة سريعة:



هذه لمحة سريعة عن ادوار حياة زعيم النهضة الاصلاحية العلمية، وباعث التحرر الفكري، و رائد الاصلاح الاجتماعي، وعالم من العلماء الفطاحل، ونابغة من نوابغ الادب العربي الملقب بقريع البلغاء السيد ابي المرتضى بن شهاب. علم من اعلام القرن الرابع عشر الهجري. نشر العلم وحارب الجهل، و حطم عقال الجمود والتبعية العمياء، وجاهد في سبيل هدفه، واستمات لترسيخ دعائم الحق، وكان لاعماله الخيرية صدىً واسع هز المجتمع، وقلب الأوضاع فيه الى نشاط فكري متفتح.



كانت ولادته رحمه الله في عام 1262هـ الموافق للعام 1846م.



وهو في غنىً عن الاطراء والمديح، ونحن لا نقول ما ليس فيه جزافاً ولا نمدحه عفواً اذ ليس في المدح فائدة. ولكننا نذكر الواقع كما هو واقع، خدمة للحقيقة، واداء لامانة التاريخ.



ترك تراثاً قيماً لمن بعده من مؤلفاته المخطوطة والمطبوعة، كما ترك من بعده خلفاً من خيرة تلامذته، الذين قاموا بأداء الرسالة خير قيام خدمة للمجتمع، هذبوا الجيل من بعده مقتفين اثر استاذهم، وواصلوا المسيرة الجهادية حاملين معهم مشعل الإشعاع، ناهجين نفس الدرب الذي سار عليه استاذهم السيد ابن شهاب، بنفس الخطة التي وضعها لهم فحملوا الامانة، وادوا الرسالة، وصاروا قدوة صالحة لمن بعدهم.



في هذه اللمحة السريعة من صفحات حياة فقيدنا، معدن العلم الغزير الذي لا ينضب والسيل الدافق من ا لادب، نبرز مكانته التي احتلها عن استحقاق في المجتمع، بعد كفاح وصراع مريرين ضد الباطل، عانى فيهما ما عانى وهو صابر جلد، حتى استطاع الوصول الى هدفه، وبلوغ مناه.



مؤلفاته كثيرة، وهي تصور حقيقة شخصيته، واتجاهاته الفكرية، ومواقفه الحازمة، ومبدأه الذي استمات لتحقيقه، وهدفه الذي ينشده، وهي خير دليل على إخلاصه لامته. تاريخه جزء لا يتجزأ من تاريخ نضال الابطال، وكفاح اولي العزائم والدعاة الذين وقفوا نفوسهم وحياتهم ووهبوها لله تعالى سعياً وراء مرضاته.



اقتفى السيد ابن شهاب آثار خطوات من سبقه من اهله، سالكاً مسلك آبائه واجداده، المتسلسلين الى رسول الله سيدنا ونبينا محمد خير البشر(صلى الله عليه وآله وسلم).



وقد توفي رحمه الله في 10 / 5 / 1341هـ المصادف لـ 29 / 12 / 1922م. رضي الله عنه، واسكنه فسيح جناته.



مسلك الدعوة:



يرى السيد ابن شهاب ان المسلك الامثل في اسلوب الدعوة الاسلامية يجب ان ترتكز على دعامتين متينتين قويتين.



الاولى: موجهة الى المسلمين لتنوير بصائرهم، وازالة غشاوة الرواسب عن أذهانهم، وازاحة الاساطير الخيالية المطبقة في الافكار، وصقلها لتبدو لامعة يتبلور بها العقل الذي منحه الله للبشر، تلك المنحة الالهية العظيمة التي جل الانتفاع بها، والاستنارة بنورها. وبالعقل فضل الله البشر على سائر المخلوقات، ولا قيمة لبشر بدون عقل، فهو والسوائم على حد سواء.



ان الغفلة والجمود الفكري من تراكم الرواسب يجب ازالتها من العقول، حتى يستطيع الانسان ادراك الحقائق بمفهومها نقية ناصعة، كما أنزلها الله تعالى على نبيه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم).



الثانية: دعوة الامم والشعوب غير الاسلامية الى الاسلام بالحكمة والموعظة الحسنة التي ترتاح اليها النفوس، وبالتفهيم بما تتقبله العقول، والحوار بأسلوب حسن وبالطريقة العلمية، على ان يكون الداعي عالماً متفقهاً، واسع الاطلاع، رحب الصدر، سامي الاخلاق، حسن السيرة، صابراً قنوعاً، ليكون مثالاً واسوة طيبة يقتدى به، يواصل الطريق ويستمر في الدعوة بما أمر الله به، بموجب الدستور الذي وضع للدعاة.



ان الدعوة إلى الطريقة المثلى والنهج الصحيح ليست من الامور البسيطة السهلة، اذ تتطلب من الداعي، كما ذكر السيد ابن شهاب، إلى جانب العلم والثقافة، تحليه بالصبر والحزم، والتذرع بالحكمة والأناة ولين الجانب وبعد النظر، وعدم الاغترار بالمال، او أن يلهيه طمع الدنيا في منصب او مركز.



تعرض كثير من الدعاة السباقين لمشاكل وعراقيل، وهذا امر معلوم بالضرورة من عدة وجوه، أهمها موقف الاعداء الذين يتربصون في كل مرصد، لقطع مسيرة الدعاة وعرقلة اعمالهم، وقد يتعرض الداعي لاغتيال اذا رأوه خطراً، إذ يكون التخلص منه واجباً في عرفهم.



ثم لا يفوتنا ان هناك فرقة من النفرات الضالة تمشي على هذه السيرة، وقد اُنشئت لتحارب المسلمين باسم الاسلام، وتعادي الحق باسم الحق، وتتآمر على كل فئة صالحة تدعو للحق والصواب.



حكمة ربانية أن يستطيع الانسان بعقله وفكره ان يميز بين الحق والباطل، والحسن والقبح، ويفرق بين الاصيل والدخيل، ويعرف الجيد من المزيف. ضدان باقيان ما دامت الدنيا، الحق والباطل. والخير والشر، فللحق والخير انصار كما ان للباطل والشر أعوانا.



عندما يتصفح المرء تاريخ العظماء والمصلحين ورواد النهضة، يتجلى واضحاً شخصية كل واحد منهم، وكذا نجد في سيرة ابن شهاب ومواقفه بين سِيَر أولئك الابطال من العظماء في التاريخ. ولعل القارئ يتوق للمزيد من معرفة شخصية هذا الزعيم الفذ، والمصلح العظيم في جميع نواحي حياته، فهو اديب من الادباء وشاعر من الشعراء وعالم من العلماء ومصلح كبير قام بنهضة فكرية قلب بها الاوضاع الى (180) درجة، بدون ثورة ولا اراقة دماء. فتاريخه مليء بالمفاجئات في كثير من النواحي التي تعرض لها، من عداوة المعتدين، وكراهية المبغضين، وحسد الحاسدين، ومقاومة عملاء الاستعمار، فكان يواجه كل ذلك بتؤدة وأناة، وحنكة وصبر حتى استطاع بذكائه تحطيمهم كلهم واحداً بعد آخر. فهي سيرة تاريخية مليئة بالعبر والعظات.



جاهد وكافح طيلة حياته، لا من اجل نفسه او اسرته، ولكن من اجل امته عامة، فمتاع الحياة عنده لا قيمة له ولا يهمه شيء من حطام الدنيا وكان لا يميل في اعماله الى الارتجال، ولا يتسرع بتصديق اقوال القالة، بل يسمع منهم ويتحرى الحقيقة، ويكره لغو الكلام. يعرفه الناس انه جدي لم يستبد يوماً برأيه، ويقبل آراء الغير من اخوانه وزملائه، بل قد يراجعهم ويناقشهم حتى يصلوا جميعاً في فكرة الى نقطة اتفاق واحدة، ويعالج الامور بحنكة وروية. ومعروف عنه انه متواضع جدا، سامي الاخلاق، يرحب بالقادم اليه ومن جاءه، ويسلم على كل من يلاقيه، واذا مر في شارع من الشوارع يقف من عرفوه اجلالاً وتكريماً، يتقدمون إليه مسلمين عليه. كان موضع احترام الجميع ومحل تقديرهم ومحبوباً لديهم يهابه الحكام ورجال الدولة، فهو في طليعة رجال الاصلاح ورواد النهضة الفكرية في عصره، آلت اليه القيادة والريادة بظهوره على مسرح النهضة الاصلاحية. التف حوله المثقفون، واحتشد العلماء الاحرار عنده، لانهم وجدوا فيه املهم الذي ينشدونه، فكانوا له عوناً وأنصاراً يؤيدون دعوته الاصلاحية.



اذا ذكر اسمه اقترن بفكرة انه رائد النهضة الاصلاحية، وذكر معه الادب والعلم وسمو الاخلاق، فكان اسمه يؤدي معنى النهضة والادب والعلم والاصلاح. هذه هي المزية التي امتاز بها السيد ابن شهاب، وانفرد بها في حياته، واصبحت عَلَماً وذكرى له بعد وفاته.



ما من اديب او عالم في جنوب الجزيرة، او في المهاجر الشرقية الا ويقدر السيد ابن شهاب باعجاب واجلال مترحماً عليه، ومعترفاً بانه باعث النهضة، والكل يقر بذلك ويشهد بمكانته وفضله، الا من ختم الله على قلبه وبصيرته من الحاقدين الحاسدين.



ومعروف عنه انه لا يميل الى التصوف، وله قصائد كثيرة عبّر فيها عن رأيه في التصوف والمتصوفة، وربما يكون عدم ميلانه للتصوف ناتجاً من طبيعة الاسرة الشهابية التي قل من يتصوف منهم، ولكني احسب انه يفرق بين التصوف الحقيقي، وبين أولئك الذين اتخذوا التصوف وسيلة لاعمال غير مرضية، ففي فصل آخر من هذا الكتاب ذكرنا نتفاً من قصائده في هذا الموضوع.



لم يقتل السيد ابن شهاب، لان قاتليه جبنوا عند ملاقاته، ولم يُغتل، لان الذين حاولوا اغتياله ولّوا هاربين رهبة منه. ولكنه مات شهيداً على فراشه، تلك هي ميتة الشهادة، مات مكافحاً مجاهداً جلداً.



والمؤسف حقاً انه لم ينجب من بعده من اولاده من يكون له ولو عشر معشار من مستواه. اما الذراري من بناته فقد انجبن الكثير الطيب من أخيار الرجال.



غالى بعض مقدريه ـحسب رأيناـ في قولهم: ان السيد ابن شهاب كان حكيماً بارعاً بلغ مبلغ درجة حكماء العالم. ونرى ان هذا الوصف مبالغ فيه، على اني مقدر للسيد ابن شهاب، ولا أبخسه حقه، فاني ارى ان تلميذه السيد احمد السقاف كان يصفه بأنه من الحكماء في القرن الرابع عشر الهجري، فمن يراجع ديوانه يجد جل قصائده حكماً بالغة وآيات بينات ناطقة، ومعنى ذلك ان السيد ابن شهاب كان حكيماً، فهو حكيم معترف به بدون مبالغة، كما ان السيد احمد السقاف لم يكن زعيماً في درجة استاذه السيد ابن شهاب.



ويبخس آخرون السيد ابن شهاب بقولهم عنه بأنه بئس المربي، كيف يمكن له ان يكون زعيماً، وهو لا يحسن حتى تربية اولاده، ولم يهذب ابناءه. وهذه ليست بحجة وإنما هي تهم باطلة وسخرية حاقدة، فالسيد ابن شهاب، كما قلنا مراراً، يهمه أمر قومه ومجتمعه قبل نفسه واولاده واحفاده واسرته. ضحى بكل شيء، وآثر على نفسه واسرته لعصبة قومه، وهذا منتهى الايثار، وعنوان الزعامة الحقة.



انهالت الدنيا عليه من كل جانب فنبذها، وتوافرت لديه كل اسباب العظمة فانزوى عنها، وجاءه النفوذ فلم يستغله. بل كره لنفسه ان يكون في عظمة الملوك وفخر ارباب الوجاهات، لانه لم يطلب ملكا، ولم يُرد جاهاً ولا مالاً ولا مركزاً، بل ادى رسالته ليرضي ضميره طمعاً في رضى الله ورسوله، لانه يشعر بالمسؤولية في هذا العالم نحو امته وقومه، فهو لم يعش حياة البذخ والاسراف، فكانت حياته كفافاً وكان بيته كسائر بيوت الشعب، يعيش عيشة البساطة وكان يميل اليها، فقد اتته الدنيا منصاعة اليه فردها لمن يريدها ولم يقتن لنفسه بيتاً في هذه الدنيا، وهو القائل:







  • شهوات الناس في الدنيا خيال
    فاعمل الخير تجد في جنة الـ
    ـخلد ملكاً ونعيماً لا يزال



  • وهي ان لم تك من حل وبال
    ـخلد ملكاً ونعيماً لا يزال
    ـخلد ملكاً ونعيماً لا يزال




هذه هي الشخصية العظيمة لعَلَم من اعلام هذا الدور، توفرت فيه كل صفات الزعامة القوية الحقة، الزعامة الاصلاحية والسياسية بتفوق مع ماله من علم وادب وصلاح. وباستحقاق تبوأ مكاناً في مصاف زعماء العالم المصلحين، وهو جدير بذلك.



العصر المتردي:



العصر الاسلامي في اواخر القرن التاسع عشر، واوائل القرن العشرين الميلادي كان عصر ركود، واسترخاء فكري، وخمول ذهني، هيمن على معظم النواحي والمجالات الاجتماعية والسياسية والتعليمية والتربوية والاقتصادية، بل على كل مرافق الحياة الادبية والثقافية وغيرها في العالم الشرقي. اسبابها كثيرة، منها تكالب الدول الغربية على الخلافة الاسلامية، وتمزق المسلمين في الداخل، والضعف العام، ولذلك يصفه بعض المؤرخين بأنه عصر الضعف والمسكنة والاسترخاء بالنسبة للمسلمين، وقد تساقط جل البلدان الاسلامية من عقد الخلافة في اواخر عهدها، الواحدة بعد الاخرى، لتكون مستعمرة تابعة لدولة غربية! أو شرقية.



تأبى الدول الغربية أن تنافسها دولة اسلامية، فهي ترى وجود الخلافة الاسلامية خطراً عليها، فتخشاها وتعتبرها عدوها اللدود الذي يجب محوه وازالته من الوجود، فانبرت الدول الغربية مجتمعة، على رغم الخلافات بينها، متحدة ضد الخلافة الاسلامية، تحوك المؤامرات عليها لاستنزاف قواها ومحاصرتها اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، وتسللت الايدي الصهيونية، وظهرت الافكار العصرية حتى تردت الاوضاع الداخلية، مما سهل تسبب الانفجار لتحطيمها.



استنبول عاصمة الخلافة الاسلامية، اصبحت في شغل شاغل بمشاكلها الامنية الداخلية وتردي السياسة الخارجية، فازدادت سوءاً واستعصاءً كلما مرت بها الايام.



وكانت مؤامرة الدول عليها مستمرة متواصلة، بل تشتد ضد الخلافة فيها لاجتثاثها. نرى اقطار اوروبا الشرقية البلقان، التي تحميها دولة الخلافة الاسلامية، تتساقط الواحدة تلو الاخرى لتصبح تلك البلدان بمساعدة الدول الاوربية المتحالفة، حكومات مستقلة ذات سيادة، تتصدى لمجابهة ومقارعة دولة الخلافة الاسلامية، التي دعتها دول اوروبا بالدولة الاستعمارية، حتى لقد تأثر بهذه الدعاية كثير من المسلمين، حيث يسمون الخلافة الاسلامية بالدولة الاستعمارية، واخذت صفحات الكتب واعمدة الصحف بهذه النغمة الغربية في محاربة الخلافة الاسلامية، والهدف من ذلك اضعاف نفوذ الخلافة الاسلامية في العالم الاسلامي، وبث روح القومية والوطنية لتفقد دولة الخلافة قدرتها، وينفلت زمام السلطة والحكم من قبضتها، فتجرها الى العجز عن مجابهة المشاكل الخارجية، لانشغالها بالامور الداخلية المستعصية حينذاك، مما سهل اضعاف دولة الخلافة الاسلامية، وتمزيقها الى اجزاء باسم قوميات وشعوب جديدة، ما كانت معروفة ولا موجودة من قبل.



جل البلدان الاسلامية التي اقتطعت من جسم الخلافة الاسلامية، وقعت في براثن الاستعمار الشرقي الروسي او الغربي الاوروبي، ترزح تحت وطأة الظلم وطغيان الاستعباد، واصبح العالم الاسلامي عاجزاً ضعيفاً يعتوره الوهن الشامل حتى كاد يفقد الامل في معالجته.



كانت الدول الغربية الكبرى آنذاك، وهي انجلترا وفرنسا وإيطاليا وروسيا، يسوؤها ان ترى الخلافة الاسلامية المتمثلة في الدولة التركية تسيطر على هذه الارجاء الواسعة، ولها قوة الشكيمة والسلطة الواسعة والنفوذ العظيم في قلوب الملايين المسلمين من هذا العالم، لذلك اجمعت هذه الدول سلوك سبيل المؤامرات لاضعاف الخلافة التركية، وارهاقها بالثورات الداخلية. وانطلاقاً من هذا الاتفاق ألبت شعوب اوروبا الشرقية، الواقعة تحت حماية دولة الخلافة الاسلامية، على الانتفاض والثورة عليها، ومدت الثوار بالاسلحة والعتاد، فثارت بلغاريا وصربيا ورومانيا وغيرها، واشغلت هذه الثورات المسلحة المتوالية دولة الخلافة، وانهكت ميزانيتها الى حد كبير، في حين كانت الدول الغربية تعمل من الخارج للضغط على دولة الخلافة، ومحاصرة نفوذها بصفة غير مباشرة. كيف لا وهذه الدولة الاسلامية في اوروبا قذىً في اعين الغربيين.



ان معاهدة سان ستيفانو عام 1878م قد وجهت بوجه خاص لاضعاف الحكم الاسلامي، ومساعدة شعوب البلقان للتمرد على دولة الخلافة طلباً للاستقلال، وقد اعترفت هذه المعاهدة باستقلال دول رومانيا، الجبل الاسود، صربيا، كما انشأت دولة بلغاريا. واستمرت هذه الدول الكبرى تمد الشعوب حتى انفصلت عن الدولة الاسلامية، وما ان استقلت هذه الدول حتى اشتدت عداوتها لدولة الخلافة الى ابعد الحدود.



هذا التدهور المستمر في مستوى قوى دولة الخلافة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، اثار الغيرة والحمية في قلوب الشباب المتحمس، واخذوا يتهامسون فيما بينهم بعدم رضاهم واستيائهم من الاوضاع المتدهورة لدولة الخلافة، وانها تسير الى الحضيض وهم يرونها ويشاهدونها، جر ذلك الى تكتل الشباب من جميع الطبقات، بما فيهم القوات المسلحة، وقرروا انه لابد لهم من القيام بعمل جاد لانقاذ دولة الخلافة من الانهيار، وللمحافظة على كيان الدولة لا بد من ابعاد وبتر من يعتبرونه غير صالح للحكم، او ضعيفاً في ادارة الدولة وقلب الاوضاع كلها الى مستوىً جديد، والمعروف ان لدول الاستعمار عملاء يخدمون المصالح الاستعمارية، لتحطيم المسلمين وتمزيقهم الى اُسر قَبَلية وجماعات عشائرية وكتل عنصرية، غُذيت بعقائد مزخرفة من إلحادية اشتراكية، او دينية تزمتية متطرفة، استعين في نشرها بمن يتقمصون الدين لتعزيز نشر المفاهيم التي تجر المسلمين الى التمزق والويلات، هؤلاء وهؤلاء هم السبب الاول في هذه المأساة المؤلمة، التي حطمت المسلمين وورطتهم في التخلف الفكري.



الانقلاب التركي:



يعتبر يوم 27 نيسان / ابريل عام 1909م في تاريخ دولة الخلافة، يوماً جرى فيه اكبر حادث، كان بداية لمآسي من الانقلابات التي تعتبر نقطة تحول خطير، اذ حدثت تبدلات عظيمة في سياسة دولة الخلافة آنذاك، ففيه قام جماعة من الشباب التركي لجمعية تركيا الفتاة، وجمعية الاتحاد والترقي، فاتحدوا وأجمعوا امرهم، وانقضوا على الخليفة عبد الحميد وأجبروه على التنازل عن السلطة، ولم تكن فكرة ازالة الخلافة او اقامة جمهورية قد تخمرت في اذهانهم، بل كانوا يطلبون اصلاحاً عاماً، وجعل الحكومة شبه علمانية، مع بقاء دولة الخلافة رمزية.



في ذلك اليوم فقد الخليفة عبد الحميد سلطته، واقتادوه مخفورا الى منفاه في سلانيك، وعين بعده اخوه محمد الخامس، وحاول القيام باعباء السلطة، لكنه عجز عن مجابهة الشباب التركي، فسلم الامر والقيادة اليهم مختاراً، ولم يطل عهد الحكومة الفتية حتى اخذت تواجه عدة قضايا ومشاكل كبيرة، ما كانت تحسب لها حساباً من قبل.



في عام 1912 عقد ممثلو شعوب صربيا وبلغاريا واليونان اجتماعاً، قرروا فيه اقامة حلف دفاعي مشترك بينهم، هدفه مجابهة الخلافة وتحطيمها، وكان ذلك بايعاز من روسيا بضمان منها لمساندة الحلف الثلاثي الدفاعي، وتعرضت دولة الخلافة من جراء ذلك للثورات الداخلية باستمرار، من شعوب اوروبا الشرقية الواقعة تحت حماية دولة الخلافة.



انتهزت ايطاليا فرصة انشغال دولة الخلافة بمشاكلها الداخلية في البلقان، وباتفاق مع دول اوروبا الغربية وبمساعة فرنسا هاجمت ايطاليا ليبيا، واحتلت طرابلس وبرقة بعد معارك ضارية ومقاومة شديدة ابداها الشعب الليبي، وهي المعارك المعروفة بحرب طرابلس الغرب، وهكذا تم لايطاليا احتلال ليبيا عام 1913، غير ان الشعب الليبي رفض الاحتلال، وقاوم بكل قوة وضراوة واستمرت المقاومة حتى نشوب الحرب العالمية الثانية.



تمرد شعب الجبل الاسود على حكم دولة الخلافة، ثم أعلن انفصاله عنها واستقلاله بالحكم دولة حرة مستقلة، ثم تبعه شعب صربيا وبلغاريا بعد ذلك، ومن ذلك الحين بدأ ينكشف الضعف الكامن في دولة الخلافة، واخذ نجمها بالاُفول، ثم وهنت شوكتها في جميع الحقول والمستويات، حتى اضطرت تحت ضغط الدول الكبرى الى قبول معاهدة صلح لندن عام 1913، التي تنص على تخليها عن جميع الاماكن التي تسيطر عليها في اوروبا الشرقية وعن حمايتها، ومنح شعوبها حق تقرير مصيرها بنفسها.



بعد عام من توقيع تلك المعاهدة اندلعت الحرب العالمية الاولى، فلم تجد دولة الخلافة لنفسها بُداً ومخرجاً الا الانضمام الى الالمان في هذه الحرب ضد الحلفاء، ففي يوم 28 حزيران، يونيو عام 1914م انطلقت الشرارة الاولى للحرب العالمية الاولى، باغتيال ولي عهد النمسا في مدينة ساراجيفو (في يوغوسلافيا حالياً) فاندلعت الحرب، وحاربت المانيا الى جانب النمسا، ثم دخلت تركيا الى جانب المانيا، وانضمت روسيا الى جانب الحلفاء وبعد ذلك جاءت ثورة البلاشفة عام 1917م، وحل الشيوعيون محل القياصرة، وانتهت الحرب العالمية الاولى بفوز الحلفاء.



إن استمرار المؤامرات التي تحوكها الدول الغربية ضد الخلافة الاسلامية، قد ترك أثره العظيم على العالم الاسلامي اجمع، بما في ذلك بلدان آسيا الوسطى، وزاد الوضع سوءاً، حيث كان المسلمون في ذلك الوقت متفرقين، تتنازعهم الاهواء، وتسيطر عليهم اتجاهات دينية، وافكار جديدة طارئة، ونزعات استحوذت على البعض منهم لمصالح ذاتية، ووُجد علماء السوء ووعاظ السلاطين وفقهاء البلاطات، الذين توظفهم السلطات لتبرير الافعال المخالفة للعرف والانسانية والدين. كل ذلك ساعد في زيادة تفتيت وتشتيت القوى الاسلامية والتجمع الاسلامي، في الوقت الذي يوالي الغرب خطواته في التقدم الصناعي والهندسي والسياسي، والمسلمون لاهون بالمسائل الثانوية والامور الجانبية، مما سهل لساسة الغرب الطامعين ان يسيطروا على بلدان المسلمين الغنية، بعد ان قطعوا اوصال الخلافة الاسلامية، وجزّؤوها الى شعوب وقوميات، وتقاسموا البلدان الاسلامية فيما بينهم، فكان من نصيب روسيا آسيا الوسطى، بحكم الوضع الجغرافي، المعروفة بثرواتها المعدنية، وكان لفرنسا سوريا ولبنان، ولانجلترا العراق وفلسطين، تمهيداً لجعلها وطناً قومياً لليهود، وتنفيذاً لوعد بلفور، كما احتلت انجلترا ايضاً شرقي الاردن. اقر الحلفاء تقسيم آسيا وافريقيا وتجزئتهما بين الدول الغربية المستعمرة، ومع كل هذا لم تستطيع روسيا ان تسيطر على بلدان آسيا الوسطى الاسلامية بسهولة، فقد دامت المقاومة اعواماً انتهت بحصار الروس لقلعة اناب الاسلامية، ودافع المسلمون دفاعاً قوياً للحفاظ على هذه القلعة، التي بقيت مركزاً للكفاح حتى فني الكثير منهم، وقضى من قضى بسبب فقدان الزاد والعتاد، واسر من اسر من الباقين الموجودين في ا لقلعة، حينذاك استطاع الروس احتلال القفقاس، اما من اسر من المسلمين في هذه المعركة فقد سيقوا الى معاقل العذاب في سلوسبروج، حيث قضي عليهم جميعاً في ذلك المنفى، وكان الروس قبل احتلالهم لبلدان آسيا الوسطى الاسلامية كثيراً ما يختلقون الاسباب، ليتخذوها ذريعة وتمهيداً لاحتلال تلك البلدان، وكانت روسيا تتهم المسلمين بانهم يسيئون معاملة المسيحيين ويعذبونهم لتثير حفائظ مسيحيي العالم، وتؤلبهم ضد مسلمي آسيا الوسطى، وتجعل لنفسها عذراً في هجومها على البلدان الاسلامية باسم انقاذ الاقلية المسيحية من مظالم المسلمين، ووحشيتهم، مع ان الواقع التاريخي المؤكد يثبت انه ليس هناك مسيحيون في بلدان آسيا الوسطى.



رأت روسيا ان الانجليز يستعمرون الهند وبعض مناطق جنوب آسيا، وهولندا مستولية على اندونيسيا، وفرنسا على بلدان الهند الصينية، وبعض بلدان افريقيا موزعة على الاستعمار الغربي، وهذه المستعمرات تدر آلاف الملايين من الجنيهات لمستعمريها، وكان حظ روسيا كحظ غيرها من دول الاستعمار المستولية على ارجاء واسعة، غنية بالبترول والفحم الحجري واليورانيوم والمغنيسيوم والذهب والنحاس ومعادن اخرى، الى جانب خصوبة ارضها. فكانت روسيا تعتمد كلياً على الموارد التي تدرها عليها بلدان آسيا الوسطى الاسلامية.



واذا رجعنا الى معاهدة لندن عام 1920 التي تمت بين الدول الغربية وروسيا من جهة، وتركيا من جهة اخرى، في موضوع مرور السفن عبر البسفور والدردنيل، نجد ان هذه المعاهدة لم تكن الا وليدة معاهدة سان ستيفانو عام 1878م، فقد اضعفت هذه المعاهدة تركيا من جهة، وافادت روسيا من جهة اخرى، حيث كانت تلك الدول جبهة واحدة امام تركيا، ثم حل عام 1923 الذي عدّلت فيه هذه المعاهدة لتقتصر على الدول المحايدة، لئلا تشمل المانيا وايطاليا واليابان، التي بدأت آنذاك تنافس الحلفاء وتطورت الى مستوى الدول الكبرى، ثم عدلت هذه المعاهدة بمعاهدة اخرى عام 1936، تم التوقيع عليها في مونتريو.



في هذا العصر المتردي وبين مجتمع متفكك ضعيف، وتحت جو ملبد قاتم تسوده الازمات ولد السيد ابن شهاب في عام 1292هـ، وسط قوم ضعاف البنية، وفي ظروف شملتها الفوضى العارمة والعصبيات القاسية، مما بعث في النفوس حب العزلة والميل الى الانطواء والانزواء، فتكوّن مجتمع شبه انعزالي، فاقد للروح الوثابة، خال من الطموح الاسلامي، وساد على افراده روح القناعة بما هو عليه، فعشعشت هذه الحالة في عقولهم، واستقرت في اذهانهم عقيدة يؤمنون بها.



في هذا الجو المتدهور، وفي هذه البيئات القلقة، وبين هذه الفوضوية الاجتماعية نشأ السيد ابن شهاب وترعرع، وعاش في هذا العصر المتردي السيئ للمسلمين، بين عدم الاستقرار وبين الاضطرابات المحلية والفوضى العامة في العالم الاسلامي.



لم يجد السيد ابن شهاب بُدّاً في بدء حياته من العيش بين هذه الظروف باجوائها الموبوأة. ذاق حلوها ومرها، فسبرها وكانت له اعظم مدرسة دفعته الى إعمال الفكر لسلوك سبيل يحرر قومه من الامراض الاجتماعية وينقذهم.



اما من عرفوا بالفقهاء فقد انشغلوا بالامور الفرعية، والخلافات في الاستنتاجات في الامور العامة والعمل لرفع الكابوس السائد. لقد استشرى هذا المرض في الافراد والجماعات وبين الحكام والمحكومين.



عاش السيد ابن شهاب في عنفوان شبابه مع زمرة من طلبة العلم، في ذلك الجو المشحون بما لا يرتضيه حر الضمير، ولا يسكت عنه ذو طموح وعزم. ومن الطبيعي ان يعيش غريباً في هذا المجتمع الذي يعتبره الكثير شاذاً في آرائه وافكاره، فصبر على مضض، غير انه وجد افراداً من الشباب يشاركونه في آرائه النيرة، ويتألمون لهذه الاحوال الشاذة، ويلمسون المآسي في اوضاع قومهم، وكان السيد ابن شهاب يمتاز بتحمسه لمبدئه وعقيدته طموحاً بعزم قوي صارم ينحو الى هدف معين.



من هذا المنطلق بدأ السيد ابن شهاب يعمل وهو في عنفوان شبابه لتحطيم هذه الاوضاع، ففاجأته مقاومة شديدة وردود فعل ضارية، وبدافع روح الشباب كان يواجه الشدة بأشد منها، ويجابه العنف بأقسى منه، ولا عذر للمتخلف المريض فكرياً، السادر في لجج الجمود والانزواء، وكان يقول: إن الامر يقتضي ذلك، وانه على الحق والحق منصور.



بدأ التطور الفكري الاصلاحي يأخذ في مجراه الجديد الصحيح، لدى جملة من الشباب المتنور من زملائه، لتقويض معالم الاوضاع البالية والافكار الجامدة من رواسب العهد الماضي القريب. وانتبه قومه من غفلتهم مبهوتين من دوي هذا الصوت الجديد الذي لم يألفوه، وأخذوا يرمقونه بكثير من الشك والريب والحذر.



مضى السيد ابن شهاب في طريقه الاصلاحي لا يلوي على احد، حتى استطاع تكوين فكرة استساغها الشباب وتقبلها، وحلت الفكرة في قلوبهم بوعي وادراك وفهم. واستيقظت على اثرها زمرة من بني قومه فقدروه وعظموه وكان له عندهم مكانة مرموقة.



بلغ السيد ابن شهاب مرحلة النضوج، وجاوز الكهولة والشيخوخة وهو يحتفظ بروح شبابه الغض كما كان، لم تؤثر الشيخوخة فيه، بل كان قوياً في بنيته، قوياً في افكاره، وقوياً في عقيدته ومبدئه، واستمر في اعماله بروح الشباب الغض بدون فتور، لم يفتقد شيئاً من قدرته ولم يطرأ عليه، وهن في عزمه، ولم تثنه الشيخوخة عن نشاطه المعروف عنه بل كان انتاجه ايام شيخوخته اكثر واوسع من ذي قبل، فقد تضاعفت اعماله الدراسية وابحاثه العلمية، وتقصيه الامور وانكبابه على التأليف، حتى اصبح بيته محطة الوافدين اليه من اماكن بعيدة شتى، للاستفادة من مجالسه واحاديثه، وكانت مجالسه لا تمل القاصدين المستفيدين، حيث يأتي البعض منهم لمصالحه الخاصة يسترشده او يستخيره فيما استعصى عليه من مشاكل خصوصية كانت ام عمومية، ومنهم من يأتي اليه يلتمس منه ان يكون حكماً فيما شجر بين الأفراد لفصل الخلاف.



فالسيد ابن شهاب وهو في هذا السن اصبح المرجع العلمي والقضائي والاستشاري، الجميع متفقون عليه، وواثقون به، وراضون منه ان يكون حكماً او مشيراً او ناصحاً، لاطمئنانهم اليه في صلاحه وتقواه ونزاهته وورعه.



وسيجد راغب المزيد ـخصوصاً الدارس والباحثـ في تتبع تاريخ السيد ابن شهاب في جميع ادوار حياته المرتع ا لخصب، من عهد طفولته وشبابه الى مرحلة نضوجه، واخيراً الى مرحلة شيخوخته.



يمتاز عظماء الرجال عن غيرهم بمميزات كثيرة، هذه المميزات هي التي جعلتهم يصلون في مراحل حياتهم الى مرتبة لا يصل اليها غيرهم.



النشأة



لم يكن السيد ابن شهاب وحيد أبويه، فله اخوة ذكوراً وإناث، لكنه كان اكثرهم ذكاء وابعدهم همة، تجلى ذلك منذ طفولته.



في اثناء سنة 1226هـ كان احد فضلاء السادة العلويين قد خرج ومن معه من وطنه تريم الى قرية صغيرة تسمى حصن آل فلوقة، وهي قرية صغيرة بقرب مدينة تريم، وتعتبر احد مصائفها. وقدر ان كان اهله في مدة الحمل، فشاء الله ان يولد له قبل العود الى المدينة في ذلك المكان، ابن كاحسن ما يتمنى الوالد ان يكون ولده. اما الاب فهو السيد عبد الرحمن بن محمد بن شهاب العلوي، واما الابن فهو السيد ابو بكر ابن شهاب نابغتنا وشاعرنا الاكبر.



استقبلت العائلة ولادته بالفرح وبالبشرى، كما يستقبل الابوان عادة عندما يبشران بمولود ذكر، فحب الآباء والامهات للأولاد دون الاناث طبيعة بشرية متواترة متأصلة في قلوب الشعوب بدون استثناء، من قديم الزمن حتى اليوم والى المستقبل، والاسلام يعارض هذه الإحساسات المتأصلة المألوفة، التي تفرق بين مخلوق ومخلوق من بني آدم الذين كرمهم الله، (واذا بُشّر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودّاً وهو كظيم).



لقد كان فرح والديه وكافة الاسرة بهذا المولود عظيماً، المولود الذكر الجديد الذي زاد من عدد افراد الاسرة، لقد زادهم ولداً فزادهم اعتزازاً وشاء الله ان تبرز هذه الدرة من صدفتها، بل ان يطل من اُفقه هذا الهلال الذي ما زال على مرّ الايام يزداد نمواً، وينير على ربوع وادي الاحقاف ليكون فاتحة عهد جديد للادب والشعر، وليزداد به العلم انتعاشاً وازدهاراً لتلك الديار الجامدة. رباه والده منذ طفولته تحت عنايته ورقابته واشرافه المباشر، تربية كريمة حسنة في احضان المجد، بين اسرة عرفوا بالفضل وسمو التربية التي تنتهجها الاسر العملية الصالحة، شأن كل والد يود لولده الخير، كما سبق ان ربى اخوته من قبله. والتربية حلية في اليسر وملجأ في العسر كما يقول ارسطوا الفيلسوف.



نشأ الولد في كنف والده اعواماً، كانت فيها مواهبة الطبيعية قد اخذت تنمو وتنتعش، ثم تعرض والده لمرض ألم به اقعده عن الخروج، ولم يمهله المرض طويلاً حتى وافته المنية. لقد كانت الفاجعة على هذه الاسرة عظيمة، والرزيئة فادحة، لغياب رب الاسرة.



كان السيد ابن شهاب آنذاك لا يزال حدثاً صغيراً لم يبلغ سن الرشد بعد، ولقد كانت الحادثة ضربة أليمة في نفسه، تركت في قلبه اثراً عميقاً. فقد والده الذي يحبه ويحن عليه، ولكنه وجد من اخيه الاكبر وشريكه في هذا المصاب من يخفف عنه اللوعة والاسى، وخير من يسليه ويهون عنه آلامه النفسية.



يرى هذا الطفل البريء من ابيه ثم من اخيه الاكبر خير امام يقتدي به، وافضل مثال يحتذي حذوه، وكثيراً ما يقف اخوه الاكبر وينظر الى اخيه الاصغر، ودموعه تترقرق في عينيه، لانه يرى ويجد في اخيه البراءة، والطهارة، فتزداد رأفته وحنانه ومحبته فيه، ويتضاعف أعتناؤه به اكثر، بذل قصارى جهده في تربيته، كما كان يفعل والدهما، فأحسن كفالته وتهذيبه وتربيته وتعليمه، فقام اخوه الاكبر مقام والده المرحوم.



التحق السيد ابن شهاب وهو ابن ست سنوات بالدراسة، وواصلها تلقياً من خيار علماء ذلك ا لعصر، من اهل التقى الصالحين الذين لا يشق لهم غبار. وكانت النجابة تلمع فيه، والتهبت شعلة العبقرية والذكاء لديه، ونما شرهه اشد شره إلى التهام العلوم واكتساب المعارف، مما دفعه ا لى الاخذ عن فطاحل كبار العلماء، دفعه إلى ذلك شدة فهمه مع صفاء قريحته وسرعة حفظه، فتقدم تقدماً باهراً أدهش مشايخه واساتذته، حتى لقد اذن له البعض منهم في الاستقلال بالتدريس وهو في دور المراهقة، وهو سن يندر التأهل فيه للتدريس، بل كانت له فى صغره بعض فتاوى وتعليقات علمية تدل على تفوقه وعبقريته. وهنا ابتدأت حياته الادبية، اذ بدأ ميله ا لى الادب واشتغل بمطالعة بعض الكتب الادبية والدواوين الشعرية، وشرع في قرض الشعر.



مشايخه واساتذته:



منهم: العلامة السيد عبدالله بن علي بن شهاب، عميد الاسرة الشهابية آنذاك.



العلامة السيد العلوي السقاف.



العلامة السيد محمد بن ابراهيم بلفقيه.



العلامة السيد احمد بن محمد المحضار.



العلامة السيد الحسن ابن الحسين الحداد.



العلامة السيد علي بن محمد الحبشي.



العلامة السيد محسن ابن العلوي السقاف.



هؤلاء هم من جهابذة العصر في ذلك الزمن، ومن كبار العلماء الاعلام، ومن الشخصيات البارزة في جنوب الجزيرة.



كان السيد ابن شهاب منذ نعومة اظفاره مثالاً للجد والاجتهاد، متوقد الذكاء حتى صار مثالاً حسناً لاقرانه من الطلبة ومفخرة يفتخر به معلموه واساتذته.



كثيراً ما يراجع معلميه واساتذته، ولا يألو جهداً في مناقشتهم في كثير من المسائل، التي لم يكن في حسبانهم ان يصدر منه النقاش فيها، فيزداد تقديرهم وحبهم له لتقصيه الابحاث الدراسية.



يقضي السيد ابن شهاب بعد عودته من الدرس وقته معتكفاً في مكتبة والده بين الكتب، مكباً على مطالعة كتب الادب ومراجعة اسفار التاريخ، ويمحص ما يقرأه تمحيصاً دقيقاً.



قد يذهب في امسيات ايامه الى بيوت اساتذته، او زملائه الذين هم معه في الدراسة، لمراجعة ما استجد له من الكتب، او لتتبع البحث والدراسة حتى يستقر له ما يشفي غليله، فهو لا يكتفي بما يدرسه تلقياً من اساتذته فقط، ولكنه يمحص كل مسألة دراسة وبحثاً حتى يجد ما يشفيه.



تفتق ذهنه بالشعر وهو في سن الخامسة عشرة من عمره، فسالت اقلامه بعدد من القصائد، وتفتحت اكمام شاعريته بما يحفظ الكثير من قصائد الشعراء المتقدمين والمحدثين، هذا بجانب ما كان يتتبعه بشغف زائد، من كل ما ينتجه الادباء والشعراء نثراً ونظماً وما يؤلفه المؤلفون. وكانت هوايته الاولى اقتناء ما تصدره المطابع من الكتب الحديثة او القديمة، وحيازة المخطوطات وان غلت قيمة، حتى تجمعت لديه في وقت وجيز مجموعة كبيرة من امهات الكتب، زيادة عما في مكتبة والده.



رأى اساتذته فيه هذا النبوغ فتفألوا له بمستقبل زاهر باهر فكانوا يستعذبون احاديثه وابحاثه وتصديه دائماً الى صميم الواقع من حقائق الامور، على ان المسائل التي قد يطرقها السيد ابن شهاب، في خلال تلك البرهة من الزمن قد يعتبرونها من المسائل المستهجنة، ذلك لانها قد تقادمت عليها عوادي الزمن، وغمرت بضاعتها طيات الاعوام، فجهلها الناس ـوالمرء عدو ما جهلهـ فلا عجب ان لا تتحمل المشاعر سماع امثال تلك الابحاث النابية عن افهامهم، أن يعتبروها خارجة عن الحقائق، مخالفة لما ألفوه من التقاليد المتوارثة، وايثار البعض الركون والانزواء.



على رغم اعجاب الاساتذة بالسيد ابن شهاب وتقديرهم لابحاثه وافكاره النيرة، فانهم يفضلون ان لا يتسرع لمسابقة الزمن، لان المجتمع الذي يعيش فيه ضيق الافق، لم يألف سماع شيء من امثال هذه الامور، التي يقولها السيد ابن شهاب مخالفة لما نشأوا عليه، فمهما كان ما يقوله حقاً ناصعاً لا يمكن لهم ان يؤمنوا به.



سار هؤلاء النخبة ـ السيد ابن شهاب وزملاؤه ـ في طريقهم بايمان قوي، وعزم صادق يؤدون الرسالة طلباً لرضى المولى بدون كلل أو ملل او خوف من احد، حتى صاروا المحجة الاولى والقدوة المثلى لطلاب العلم والمتنورين من الجيل الصاعد، واصبحت بيوتهم ملتقى طلاب العلم والادباء والمفكرين، وفى مجالسهم كان يستطاب البحث العلمي الحر.



في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع ظهر السيد ابن شهاب وسطع نجمه، فتكتل حوله جمع من نجباء زملائه، وممن تلقوا عنه وتغذوا بافكاره الحرة وصاروا من اصفيائه، حاملين معهم هذه الروح الوثاية، يدعون الى الحق الصريح بدون مواربة، فقد كاد الحق ان ينطمس بعد تكالب الاهواء عليه من كل جانب، وغمرته مصالح السياسة او سياسة المصالح، فجرفت المجتمع الى الضعف والوهن في الادراك والتفكير.



جابهت مدرسة ابن شهاب هذا المجتمع الانعزالي الراكد بأسلوبها الجديد، واستطاعت في وقت وجيز ان تحوز نصيباً وافراً في تهذيب النشء الصاعد، من الجيل الجديد واصلاح افكاره، فقلبت الاوضاع التي الفها المجتمع، وازالت ما ران على العقول من آثار التبعيات.



في جميع ادوار تاريخ البشر، لا يخلو كل مجتمع مهما بلغ به الركود والجمود والتخلف، من وجود فرد أو افراد الهمهم الله العقل والدراسة والعلم، يمكن وصفهم بانهم عباقرة أو فلتات ذلك المجتمع في زمنهم، فيكونون منارات للفكر الحر، ومصادر للاشعاع العلمي، ومشاعل لتنوير الاذهان، فهؤلاء الافذاذ هم القوة التي تستطيع ان توقظ هذا المجتمع الراكد، وتهزه ليصح من سباته، ويخلع شعار جموده، وينفض غبار الوهن الذي استشرى في جسمه وروحه.



ليس بالميسور لكل مجتمع مخدر ضعيف الادراك أن يتقبل ما لم يألفه، او ان ينسجم معه، وكيف يتفتح له قلبه عفوا والموضوع عنه غريب؟ ولكن المصلحين هم الذين يستطيعون بإخلاص ان يسلطوا اضواءهم على هذا المجتمع، فتنير له السبيل وتوضح له الهدف.



الرواسب التي تتراكم بطول الزمن تنصهر الى عادات، والعادات المتوارثة ليست قابلة للتغيير المفاجئ، بل قد يكون رد فعل عكسي، لذلك فان الحكماء يتبعون الحكمة في التوعية والتبصير، ومجاراة الواقع حتى يجتذبوا المدعو تدريجيا الى الحق الصراح. فالمرء غالباً ما ينفر من كل شيء يجهله، وقد يلجأ الى الجدل اعتماداً على عقليته وما نشأ عليه، وهذا يصدق على كل مجتمع متخلف ثقافياً.



في هذا المجتمع الذي نشأ فيه السيد ابن شهاب، وهو كالمجتمعات الاخرى المتخلفة، يرى أولئك النخبة المتحررة شذاذاً خارجين عن مألوفهم، فوصفوا هذه النخبة بالمروق والانحراف، واتهموهم بتغيير الاوضاع وتخريب العقائد.



حاولت سدىً ان أجد ولو بعضاً من قصائد السيد ابن شهاب، التي نضمها وهو في سن دون العشرين، لان المعروف انه نظم الشعر وهو في الخامسة عشرة من عمره، فلم أجد الا هذه القصيدة التي قالها وهو في سن الرابعة والعشرين، على رغم كثرة انتاجه الادبي، وديوانه المطبوع لم يستوعب كل ما قاله من قصائده المطولة او القصيرة.



يخاطب السيد ابن شهاب، وهو في عنفوان شبابه في الرابعة والعشرين من عمره، شريف مكة عبدالله باشا بن عون في عهد الخلافة التركية عام 1286هـ، يشرح له ما جرى على بني الحسين ابن الامام علي(عليهما السلام) من المظالم التي انصبت عليهم، والقصيدة الكاملة يجدها القارئ في باب المختارات، منها:







  • آل الحسين بني ابيك عرتهم
    بثوا اليك شكية فيما جرى
    من فرقة اخزى واهون ان يسا
    ورثوا فعال بني امية في قبا
    عطفاً اخا العزمات ان لنا بكم
    حاشاك يابن الاكرمين اِذا بنا
    واقلب بنصرك يابن عون سجسجاً
    لتقر عيني خير من وطئ الثرى([6])
    واليك من نجل الوجيه خريدة
    تسبي نهى من در منطقها وعى



  • فتن واضحى شملهم متصدعا
    ممن اذاقهم العذاب الا وجعا
    ق الى جنابك ذكرهم او يرفعا
    ئحهم وقتلهم الشيوخ الركعا
    رحماً وهل ترضى بها ان تقطعا
    عثر الزمان تقول تعساً لالعا
    ريحاً تهب على ربانا زعزعا
    وتسرّ فاطم والبطين الا نزعا([7])
    تسبي نهى من در منطقها وعى
    تسبي نهى من در منطقها وعى




والقصيدة طويلة بدأها بالغزل شأن الشعراء القدماء، وكان لهذه القصيدة تأثير عميق لدى شريف مكة، فاتخذ اجراءات اتصل فيها بالباب العالي مقر الخليفة، واهتمت دولة الخلافة بما جرى على الاسرة العلوية، وحاولت ان تقوم باعمال حاسمة لو لا ان الاوضاع لم تمكن دولة الخلافة، فقد كانت بريطانيا في عدن، والجنوب العربي تحت حمايتها، ودولة الخلافة قد أنخر جسمها الضعف والوهن.



اسرته



ينتسب السيد ابو المرتضى بن شهاب من جهة والده وامه الى الاسرة الشهابية العلوية، سليلة العترة النبوية الطاهرة، وهو السيد ابو بكر بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله بن عيدروس بن علي بن محمد بن شهاب الدين بن احمد بن عبد الرحمن بن الشيخ شهاب الدين بن عبد الرحمن بن علي بن ابي بكر السكران بن عبد الرحمن السقاف بن محمد مولى الدويلة ابن علي بن علوي بن الفقيه المقدم بن محمد بن علي ابن الامام محمد صاحب مرباط ابن علي خالع قسم ابن علوي بن محمد صاحب الصومعة ابن الامام علوي بن عبدالله بن المهاجر احمد بن عيسى([8]) بن محمد النقيب ابن الامام علي العريضي ابن الامام جعفر الصادق(عليه السلام) ابن الامام محمد الباقر(عليه السلام)ابن الامام علي زين العابدين(عليه السلام)ابن الامام السبط الشهيد الحسين(عليه السلام) ابن امير المؤمنين الامام علي(عليه السلام) وابن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت سيد الكائنات ومفخرة الموجودات محمد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).







  • نسب تحسب العلى بعلاه
    قلدتها نجومها الجوزاء



  • قلدتها نجومها الجوزاء
    قلدتها نجومها الجوزاء




هاجر جده الاعلى احمد بن عيسى من البصرة عام (317هـ)، فراراً من الظلم والطغيان الذي انصب على آل البيت(عليهم السلام) واتباعهم، واتجه احمد المهاجر واسرته من بعده الى جنوب الجزيرة العربية ومنهم من اتجه الى شمال افريقيا وافريقيا الغربية والشرقية وجزرها، مثل زنجبار ومدغشقر وجزر القمر، ونجد الآن بعض سلالة المهاجر احمد بن عيسى في الصين واليابان والسيام (تايلاند) وبورما والفليبين وآسيا الوسطى ونيسابور وايران وقزوين وسمرقند وطبرستان والهند وباكستان والهند الصينية التي تعرف الان بفيتنام ولاوس وكامبوديا وماليزيا واندونيسيا، ووصلت سلالة احمد المهاجر الى جزر سليمان والجزر النائية في اواسط المحيط الهادي والجزر الواقعة قرب المنجمد الجنوبي.



وبمرور الزمن وتعاقب الهجرات المتوالية، نجد منهم الآن في اوستراليا ونيو زيلاندا وبلدان اوروبا والامريكيتين، وتجنسوا بجنسية تلك البلدان وذابوا في خضمّ تلك المجتمعات.



والسيد ابن شهاب يفتخر بانتسابه الى هذا البيت العلوي من اسرة آل شهاب الدين، فقال في قصيدة له سماها طهور الشراب من شمائل السادة آل شهاب، وهي قصيدة طويلة، يجدها القارئ في المختارات من قصائده التي اوصى بها، مطلعها:







  • الا لا يعيب المجد والفضل اقلال
    اذا امتحنت بيض الصفاح وجربت
    فبالنصل لا بالغمد يتضح الحال



  • وكل لئيم لا يسوّده المال
    فبالنصل لا بالغمد يتضح الحال
    فبالنصل لا بالغمد يتضح الحال




ثم يقول من نفس القصيدة عند ذكره لهذه الاسرة:







  • فروع شهاب الدين غوث الورى الذي
    انابت به لما استضاءت بنوره
    أولئك حتى الآن وراث شعبهم
    ولم لا وهم من صفوة العلوية الا
    لى لهم بالسبق تعترف الآل



  • عليه من النور الالهي سربال
    طوائف لا تحصى غواة وضلال
    وهل ارثهم الا علوم واعمال
    لى لهم بالسبق تعترف الآل
    لى لهم بالسبق تعترف الآل




يقول وهو يفتخر بانتسابه الى هذا البيت العريق، ويعتذر عن التقصير:







  • وها انا منكم غير اني مقصر
    عن السعي في نجد الفضائل مكسال



  • عن السعي في نجد الفضائل مكسال
    عن السعي في نجد الفضائل مكسال




ثم يهنّئ هذه الاسرة بقوله:







  • هنيئاً لكم آل الشهاب وكيف لا
    يُهنّا الذي لم يطغه الجاه والمال



  • يُهنّا الذي لم يطغه الجاه والمال
    يُهنّا الذي لم يطغه الجاه والمال




ينتمي السيد ابو المرتضى بن شهاب من ابيه وامه الى البيت الشهابي المعروف من الاُسر العلوية العريقة، وعدد اسر البيت الشهابي قلة قليلة، خصوصاً اذا قورن بالاسر العلوية الاخرى، كاسرة بيت العطاس وآل السقاف وآل الحبشي وآل العيدروس وآل ابن الشيخ ابي بكر بن سالم وغيرها من الاسر العلوية، فهذه الاسر تمثل الغالبية الساحقة من مجموع الاسر العلوية.



اما البيت الشهابي فهو من الاسر المحدودة افراد عائلاتها، مثل بيت آل يحيى وبيت آل القدري وبيت آل ابن سهل، وغيرها من الاسر الصغيرة المحدودة. ويمتاز البيت الشهابي ببيت العلم فثمانون من افراد هذا البيت حاملون شهادات جامعية في الطب بجميع فروعه، والهندسة بكل أقسامها، والحقوق وغيرها ذكوراً واناثاً، ويعرف افراد هذه العائلة بالتواضع وحب مساعدة الغير، وليس لهم طمع في الحياة.



قد يشتبه البعض في الاسرة الشهابية ويقع لديه الالتباس في اصل هذه الاسرة، فالاسرة الشهابية الموجودة في الشام وفي لبنان بالذات، هي من سلالة الامير بشير الشهابي الملقب بالامير، وهذه الاسرة كما تحدثنا اوثق المصادر التاريخية قدمت من الحجاز ثم استوطنت لبنان. فهي من العرب الاقحاح الخلص. ولا نعرف الى اي القبائل تنتمي هذه الاسرة. هل الى كندة او بني مرة او الى الغساسنة، وهذه الاسرة تقيم بالشام وبلبنان بالذات، وهي من الاسر المعروفة، تتمتع بصيت حسن في المجتمع، ولها مكانتها المرموقة. اما الاسرة الشهابية الثانية فهي من بني شهاب الدين، المنتمية الى المهاجر احمد بن عيسى بن محمد النقيب ابن علي العريضي ابن الامام جعفر الصادق(عليه السلام) واسرة احمد بن عيسى المستوطنة بالبصرة في العراق قررت الهجرة ومغادرة العراق، بسبب الطغيان المنصب عليها، وتوجهت الى اليمن واستقرت بمدينة الجسيسية بجنوب اليمن. وبها توفى احمد ابن عيسى ودفن فيها. وقبره معروف يزار.



واصل بعض اولاده واحفاده وبني عمومته الهجرة للدعوة الاسلامية في القارة الآسيوية، ويعرفون في الهند بآل عظمة خان. استوطن البعض منهم تلك البقاع، وواصل الآخرون هجرتهم الى جنوب شرقي آسيا وجزر الباسفيك، ولهم بها عقب وسلالات معروفة منتشرة اندمجوا باهلها وشعبها، وتقلد البعض منهم قيادة اُمور الدولة والحكم والسلطنة بعد هداية تلك الشعوب الى اعتناق دين الاسلام.



وبيت آل شهاب المعروف بآل شهاب الدين تفرعت منه اسر اخرى كبيت آل الزاهر وبيت آل الهادي وبيت آل المشهور، وكلها من غصن واحد.



فالفارق واضح وبيّن بين الاسرتين، اسرة الشهابي المنتمية الى الامير بشير الشهابي بلبنان، وبين اسرة آل شهاب المنتمية الى المهاجر احمد بن عيسى.



الشجرة



زملاؤه



للسيد ابن شهاب اصدقاء اوفياء وزملاء لازموه، ومعارف في معظم بقاع الارض التي زارها وتردد اليها، وبذلك توثقت الصلات ثم استمرت عبر المراسلات في البلدان العربية والاسلامية وغيرها من الاقطار.



اتصل به كبار العلماء والزعماء وفحول الشعراء والادباء، والذين لهم اعمال بارزة مرموقة في الشؤون الاجتماعية ممن لا حصر لهم، ارتبطوا به ارتباطاً وثيقاً، ونجدها جلية في مراسلاته ومكاتباته وبعض قصائده وهي كثيرة. ومن هذه الصلات، صلات الامراء به الذين كانوا يجلونه ويعظمونه تعظيماً، لا اعلم هل كان ذلك تقديراً حقاً منهم له او خشية ومجاملة او حذراً منهم ورهبة.



ان المعروف ان شخصية السيد ابن شهاب قوية، وهو عزيز النفس معتد بها كريم سمح الاخلاق، وهو الذي يقول بافتخار واعتزاز:







  • وسنام اي الارض اذهب منزلي
    اني لتكرمني الاسود بارضها
    لعظيم منزلتي وعظم مفادها



  • ولي الندامى الغرّ من امجادها
    لعظيم منزلتي وعظم مفادها
    لعظيم منزلتي وعظم مفادها




وفي هذه العجالة نكتفي بايراد ذكر بعض زملائه، ممن لهم القيادة والريادة والذين شاركوه في النهضة الاصلاحية بما فيهم الادباء والشعراء.



السيد محمد احمد المحضار



هو في مقدمة اصدقاء السيد ابن شهاب، وهو من العلماء الاعلام، ذو شخصية فذة، وهو فوق ذلك مؤرخ واديب وشاعر وخطيب مفوه، يتسابق الناس لسماع احاديثه التي لا تمل، ويمتاز بالكرم والجود والسخاء، منزله مأوىً للضيوف القادمين والوافدين، من جميع الاقطار والجهات الى بيته العامر في مدينة بوندو وسلو بجاوا الشرقية، والسيد المحضار من الرجال العاملين المصلحين، بذل جهده للاعمال الخيرية في تشييد المعاهد العلمية وبناء المدارس الدينية، وعمارة المساجد والاهتمام بالجيل الصاعد وتثقيفه.



كان ابيض اللون طويل القامة مفتول العضلات، صلته بالسيد ابن شهاب صلة متينة جمعتهما وحدة العقيدة والمبدأ والهدف والغاية، وكان شديد الاعجاب بالسيد ابن شهاب، يحفظ الكثير من قصائده ويستشهد بها في مجالسه وخطبه ومحاظراته.



للسيد المحضار مؤلفات لا تزال مخطوطة، وتعليقات وحواش على الكتب التي يقرأها، وهي في غاية الاهمية، وقد يسترسل في تعليقه على موضوع الكتاب الى التفصيل المسهب، وكانت تعليقاته مدعومة بالأدلة والحجج العلمية. ومعروف عن السيد المحضار الوضوح، لا يداري ولا يخشى.



شاهدت في عام 1929 من شهر ذي القعدة في منزل السيد محمد ابن ابي بكر ابن يحيى بعض مؤلفات وقصائد ومكاتبات ورسائل للسيد المحضار في مجموعة لا بأس بها لا تزال كما هي مخطوطة بقلمه المعروف بالحبر الاخضر، لم ترتب او تبوب وهي كما هي. اطلعت على اكثرها من هذه المجموعة، فوجدتها بلغت من الجودة في دقة التحليل، وفي كيفية عرض المسائل المستعصية وتحليلها مبلغاً كبيراً باسلوب شائق، يمكن جعلها اساساً ومرجعاً لحل تلك القضايا. ومن المكاتبات رسائل دارت بينه وبين السيد محمد بن عقيل صاحب المؤلفات الشهيرة كالنصائح الكافية وتقوية الايمان والعتب الجميل وغيرها، كما اطلعت على مجموعة رسائل اخرى منها مع السيد عقيل بن زين العابدين الجفري، وتمتاز هذه المكاتبات بطرق المواضيع السياسية والاجتماعية، وهناك مجموعة رسائل اخرى مع كبار الشخصيات الاسلامية في العالم، منها ما استرعى انتباهي، وهي مكاتباته مع الامام يحيى حميد الدين امام دولة اليمن آنذاك. ولو رتبت ونسقت هذه المجموعة لجاءت في عدة مجلدات كبيرة. ويقول السيد محمد ابن ابي بكر ابن يحيى ان تلك المجموعة هي الجزء الصغير، والمعروف ان المجموعة الكبيرة موجودة في مكتبته في مدينة بندووسو.



والسيد المحضار احد الشعراء المكثرين، وله قصائد حمينية وحكمية عديدة متفرقة متناثرة لم تجمع. والسيد المحضار يقول الشعر في كل مناسبة سانحة تسنح له، وما نشرتها بعض صحف المهجر هي القليلة بالنسبة الى كثرة ما قاله من القصائد.



عندما بدأت اكتب هذا الكتاب حاولت ان اجد ما شاهدته عام 1929 لدى السيد محمد بن ابي بكر بن يحيى المقيم في سورابايا، فلم اعثر على شيء منها. فقد اختاره الله الى جواره، ثم حدث الهول الهائل والطامة الكبرى بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، واحتلال اليابان لهذه الجزر بين عام 1942 وعام 1945 ثم أعقبتها الثورة الاستقلالية التي دامت حتى شهر كانون الأول من عام 1949. وواصلت البحث هنا وهناك وعثرت على بعض قصائد السيد المحضار التي لا تتجاوز ثلاث قصائد، محفوظة في مكتبة المرحوم السيد هاشم ابن شيخان السقاف بقرسي، ولا تزال هذه المكتبة محفوظة يتولاها ابناء المرحوم، وهما محمد واحمد. وجدت هذه القصيدة مكتوبة بخط رديء تعسر قراءته.



وسألت السيد حسين ابن السيد محمد المحضار عن مؤلفات والده، وما تركه من آثار وتراث بما في ذلك من مؤلفات وقصائد ومكاتبات، فقال: ان طول الزمن وتعاقب الاحداث وتوالي المحن بسبب نشوب الحرب العالمية الثانية، وما أعقبها من ثورات وحروب الاستقلال التي لم تبق ولم تذر، قد بعثرت كل شيء، ثم ان هجرة السكان خلال تلك الحوادث جعلتهم لا يفكرون في شيء سوى سلامة انفسهم فقط، فكيف يمكن لهم التفكير في المحافظة على الكتب او جمعها؟ فالمحنة الكبرى التي واجهناها وعشنا معها كانت قاسية جداً وقد دامت زهاء خمس سنوات عجاف، فقدنا بسببها ممتلكاتنا واموالنا، بل الكثير فقدوا حتى ارواحهم. وهكذا تبعثر وفقد كل ما ترك في المنازل والبيوت.



يرى السيد المحضار ان المسلمين امة واحدة، وهم الذين على طريقة آل البيت(عليهم السلام)، تلك الطريقة الأسنى والسبيل الاقوم، ومن لم يكن معهم وعلى طريقتهم فهم خارجون عن المحجة المثلى.



ويتجلى ذلك في مؤلفاته وتعليقاته وقصائده الموزونة او النثرية الحمينية منها او الحكمية. ومنها قصيدته التي مطلعها:







  • بشرى لنا من جانب القدس العلي
    بحبيبه الاعلى وسيدنا علي



  • بحبيبه الاعلى وسيدنا علي
    بحبيبه الاعلى وسيدنا علي




ومنها:







  • اسماء خص بها النبي وصنوه
    خالصة لهم فليس لغيرهم
    معلومة التنصيص عند ائمة الـ
    ومسميات وافقت اسماءها
    برت أليّة من بذلك يأتلي



  • وبنوهم من كامل ومكمل
    منها سوى ما في يد المتطفل
    ـتلخيص والتخصيص فرض الافضل
    برت أليّة من بذلك يأتلي
    برت أليّة من بذلك يأتلي




وفيها يقول في حق اهل البيت(عليهم السلام) بعد أن بيّن أن مذهبهم هو خير المذاهب:







  • يروون عن آبائهم عن جدهم
    فلو أن أصحاب المذاهب انصفوا
    سل منهم النعمان والثوري وما
    لك والامام الشافعي والحنبلي



  • عن جبرئيل عن الكريم المفضل
    تبعوه لكن فات حز المفصل
    لك والامام الشافعي والحنبلي
    لك والامام الشافعي والحنبلي




* * *



وللسيد المحضار قصائد كثيرة في النبي صلوات الله عليه وفي الامام علي وآل البيت(عليهم السلام)، ومما قاله في الامام علي(عليه السلام):







  • ايا من قال جهلاً في علي
    هو الاولى به من غير نص
    فإقرء آية التبليغ فيها([9])
    تجد نصاً يغيظ الناصبيا



  • بان النص كان به خفيا
    فكيف وقد بدا منه جليا
    تجد نصاً يغيظ الناصبيا
    تجد نصاً يغيظ الناصبيا




يقول ابنه السيد حسين المذكور: انه لم يعد يتذكر شيئاً من قصائد والده الا الشيء اليسير جدا، وقد يتذكر منها في مناسبات، وها هو يذكر الآن هذين البيتين:







  • والله ما قتل الحسين
    الا مبايعة السقيفة
    والتخلف عن أسامه



  • ورض في البيدا عظامه
    والتخلف عن أسامه
    والتخلف عن أسامه




سألت السيد مكرراً ومستفهماً، عن الكتب بجميع انواعها المخطوطة والمطبوعة التي كانت موجودة في مكتبته العامرة، كيف صارت؟



قال: كما ذكرت لك عن الاهوال، وما سلم منها وهو قليل جداً ارسل الى مدينة قيدون بجنوب الجزيرة العربية، لينتفع طلاب العلم منها، غير أن سوء الطالع والحظ العاثر لازما تلك الكتب، حيث صادرت الحكومة الشعبية الشيوعية الديموقراطية الاشتراكية المسيطرة على جنوب الجزيرة المكتبات حتى الكتب الموجودة لدى الافراد، فضلاً عن الكتب الموجودة في المكتبات العامة والمعاهد العلمية والمدارس، حتى المكتبات الخاصة للافراد، كلها لم تسلم من المصادرة واستيلاء الحكومة عليها، باعتبارها كتب سامة، وشاع الخبر ان جل تلك الكتب ابيدت واحرقت، وهكذا كانت نصيب الكتب المرسلة من اندونيسيا.



للسيد المحضار صلات وثيقة بزعماء المسلمين في العالم، سواء كانوا في البلدان الاسلامية او خارجها، وله معهم مساجلات ومحاورات جمة في اوضاع المسلمين واحوالهم، وما يجب في الدفاع عنهم في مواجهة الاستعمار الذي حل في البلدان الاسلامية، واصبح المسلمون مستضعفين في بلادهم ووطنهم، ضعفاء عجزة لا يقدرون على شيء، وكان يحث زعماء المسلمين على وجوب مضاعفة العمل، والكفاح في سبيل انقاذ المسلمين من الحالة التي هم فيها، ولا يتم ذلك الا بنشر العلم وبث الوعي، والتخلص من العقول المتحجرة لعملاء الاستعمار، وله في هذا الصدد المجال الواسع من النضال.



موقف السيد المحضار من الاستعمار الهولندي والبريطاني معروف لدى الخاص والعام، وهو لا يهادن الاستعمار وعملاء المستعمرين. كانت اعماله في نطاق النهضة الاصلاحية مطبقة على المنهج الموضوع لتحرير العقول من التبعية والتقليد. اعماله في انشاء المدارس والمعاهد العلمية ناطقة شاهدة بما له من فضل في محاربة الجهل والامية.



قلنا ان للسيد المحضار قصائد كثيرة قالها في مناسبات عديدة منها التي مطلعها:







  • بدت تتهادى في ملابسها العذرا
    فابدت لمن قد لام في حبها العذرا



  • فابدت لمن قد لام في حبها العذرا
    فابدت لمن قد لام في حبها العذرا




وله قصيدة اخرى مطالعها:







  • سقى الحيا حيث مصطافي ومرتبعي
    بلؤلؤ الطل مهما شاء من مطر



  • بلؤلؤ الطل مهما شاء من مطر
    بلؤلؤ الطل مهما شاء من مطر




اما قصيدته المعروفة بالغديرية وقافيتها نونية، فمعروفة لدى الجميع، ولطولها نقتطف منها هذه الابيات:







  • ايا من حلت الاهواء منه
    تجد نص الغدير من التعامي
    وكيف يكون مظنوناً وفيه
    من الايضاح ما اغنى واقنى



  • محلاً اعقبته هوى وغبنا
    يفيد بلفظه القطعي ظنا
    من الايضاح ما اغنى واقنى
    من الايضاح ما اغنى واقنى




توفي السيد المحضار رحمه الله في مدينة سورابايا عاصمة جاوا الشرقية عام 1925م ـ 1344هـ، اثر مرض ألزمه الفراش عن عمر ناهز 64 عاماً، اذ كان ميلاده عام 1280هـ، وكان وفاته بعد ثلاث سنوات من وفاة السيد ابن شهاب. شيعت جنازته عشرات الالوف من المشيعين الى مثواه الاخير وصلي عليه في جامع مسجد عمفيل الكبير اعظم مساجد اندونيسيا واقدمها. ودفن تحت قبة كبيرة بجوار مسجد القبة في قلب مدينة سورابايا. أَبّنه يوم الدفن كثير من افاضل العلماء الاعلام ووجهاء القوم منهم الاستاذ احمد غنائم الامير المصري الذي كان حينذاك باندونيسيا، فاسهب واطال ذاكرا فضائل المرحوم واعماله وجهاده وهو فرد كاُمة وكان الحاضرون وجوما يستمعون لكلمة التأبين. لم تشهد مدينة سورابايا في تاريخها تشييع جنازة كهذا التشييع الذي ملأ القلوب والاسماع حيث توافدت الجموع الغفيرة من المدن والقرى بجاوا للمشاركة، وانهالت برقيات التعازي من اكثر الاقطار في هذا المصاب الاليم، واقيمت له مجالس التعزية في كثير من مدن اندونيسيا وجنوب الجزيرة وبعض بلدان افريقيا. نشرت الصحف المحلية العربية والاندونيسية نبأ الوفاة ووصفت باسهاب معالم التشييع، كما نشرت خطب التأبين، وانفردت جريدة حضرموت التي تصدر من مدينة سورابايا باللغة العربية بنشر سلسلة تأبينات في حلقات متتابعة كتبها افاضل القوم عن المغفور له فلم يتركوا بابا من تاريخ حياته الا ذكروه، تاريخه واعماله وكفاحه وجهاده وفضله وعلمه وادبه الى غير ذلك، كما نشرت القصائد الرثائية من شعراء المهجر الشرقي وجنوب الجزيرة.



وضريحه الى اليوم مزار يزوره الكثيرون من مقدريه وعارفي فضله. وخلف المغفور له ذرية صالحة عديدة ذكورا واناثا، ومن اولاده علوي وعبدالله وصالح وحسين ومحضار ولهم ذرية من اسباط واحفاد منتشرون في مدن اندونيسيا والجزيرة العربية.



يقرر السيد المحضار في قصيدته شارحا الاوضاع الحقيقية بصراحة بان الالقاب والمسميات الاصيلة كالهادي والمهدي والناصر والمنصور والصادق والصدوق والمولى والولي وما شابهها اسماء والقاب خص بها النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) آل بيته دون غيرهم، ولكن مدلسوا التاريخ من النواصب والخوارج جعلوا هذه الالقاب وقمصوها لمن هب ودب محاولين ومتعمدين التدليس.



ثم يصف السيد المحضار آل البيت(عليهم السلام) بأنهم قد باعوا انفسهم لله تعالى.



الاستاذ محمد بن سالم بارجاء



الاستاذ محمد بن سالم بارجاء شاب مثقف متنور اتصل بالسيد ابن شهاب ايام مكوثه في مدينة سورابايا، فلازمه ولم يفارق مجالسه، يحضر دروسه ويستمع الى محاضراته، وكان السيد ابن شهاب معجباً بالاستاذ بارجاء ويرى فيه الخير والصلاح فحثه على العمل لمصالح الامة العامة واقترح عليه انشاء واصدار اول جريدة باللغة العربية في مدينة سورابايا وقوى عزمه ثم دعمه. فما كان من الاستاذ بارجاء الا ان نفذ الفكرة فاصدر فعلا اول جريدة باللغة العربية باسم (الاقبال) وكان ذلك في اوائل القرن العشرين. وكانت ادارة جريدة الاقبال مجمعا للشباب المثقف المتنور المتحرر. ومن ادارة جريدة الاقبال انطلقت الاضواء للنهضة الاصلاحية وصارت لسانها الناطق وحاملة مشعل الاصلاح ونشر الوعي والتحرر مما اثار حفائظ حكومة الاستعمار الهولندي فضاعفت من اهتمامها بهذه الحركة الجديدة وتربصت بالاستاذ با رجاء محمد بن سالم وتتبعت خطواته محاولة عرقلة اعماله والحد من نشاطه ثم تحطيمه، والى هذه القضية يشير شاعر المهجر السيد احمد السقاف في قصيدة له بما يلي:







  • سمعوك في الاقبال تزأر فانثنوا
    فأريتهم معنى الثبات وان جمـ
    ـع الذل والايمان ما لا يمكن



  • فرقا وودوا خيفة لو تدهن
    ـع الذل والايمان ما لا يمكن
    ـع الذل والايمان ما لا يمكن




سعت هولندا بكل طاقاتها لاعتقال الاستاذ با رجاء وتبرير فعلها في اتخاذ تلك الخطوات الجائرة، حتى استطاعت اعتقاله بتهم ملفقة مصطنعة تافهة جداً، اعتقلته القوات الهولندية مع زمرة من زملائه المكافحين بينهم رجل الاريحية الشهم الاستاذ يوسف علي شكر غني احد كبار مصدري السكر الى اوروبا وامريكا. وعلى اثر هذه الحادثة قامت ضجة كبرى في البلد وتوالت الاحتجاجات من كل جانب وتصدى السيد عقيل ابن زين العابدين الجفري للدفاع عن المعتقلين وكان السيد المحضار في مقدمة الجميع.



حاولت هولندا اثبات التهم على المعتقلين وجندت عملاءها للتحريض واثبات الجريمة وتهمة اثارة الشغب والفوضى والقلاقل في البلاد بنشر الافكار السامة ضد الدولة كما حاولت تبرير اعمالها التعسفية بحجة المحافظة على الامن العام، ولكنها خشيت من هيجان الرأي العام، وتصديه لفضح حيل الاستعمار. فلم تجد هولندا امام هذا الهيجان والصيحات الكبرى التي رجت البلاد، الا الافراج عن المعتقلين وخرج الاستاذ بارجاء وزملاؤه من الاعتقال واستقبلتهم الجموع الحاشدة من الامة في موكب حافل وسار الموكب العظيم بالهتافات وصيحات النصر في اهم شوارع المدينة حيث توقفت جميع حركة المرور، واستقبلهم الشعب بالهتافات الجهادية ورفع الشعارات الحماسية وهم يحيون المكافحين.



اقام الاستاذ الشاعر الكبير ورئيس تحرير جريدة حضرموت السيد محمد بن هاشم، حفلة استقبال كبرى في المعهد العلمي ( مدرسة حضرموت) حضرها رواد النهضة الاصلاحية وزعماؤها ووجهاء الشعب وجمع غفير من الشباب المتنور واكتظت القاعة الكبرى الى الساحة الواسعة الرحبة وتبارى فيها الخطباء والشعراء في تقدير وتعظيم المكافح الاستاذ محمد بن سالم بارجاء وزملائه. القى الاستاذ السيد محمد بن هاشم قصيدته العصماء بعنوان (أ أبا الرجاء).



ليس من فضول الكلام ان يقال: ان الاستاذ محمد بن سالم بارجاء قد استسقى من معين السيد ابن شهاب الذي لا ينضب. وكان الاستاذ بارجاء احد طلائع الشباب الناجحين الذين شمروا عن ساعد الجد وواصلوا الكفاح لتحقيق النهضة الاصلاحية. وقد افنى الاستاذ بارجاء شبابه مكافحاً للمصالح العامة حتى اقعدته الشيخوخة ووهنت قواه فلازم منزله متعبدا وهو في اواخر ايام حياته، وقد ادى فريضة الحج وتشرف بزيارة نبي الامة سيدنا محمد خير البرية(صلى الله عليه وآله). وتوفي بمدينة مالانغ بجاوا الشرقية.



اما القصيدة التي قالها شاعر المهجر الشرقي السيد احمد السقاف والتي ذكرناها قبل هذا، فها هي كاملة:







  • صدق واخلاص وقلب مؤمن
    واذا كبير النفس كلل سعيه
    فله المآرب تنقضي وله المغا
    لم يعدم الزمن الرجال على وجو
    ثق يا ابن سالم انني ارعى الجميـ
    مهما تقلبت الامور او افترقـ
    فاذا عددتك في الرجال فذاك اد
    واذا مدحتك فالثناء على الفضا
    ان الفضائل والمكارم كلما
    عشرون عقدا في جهاد عدوة الـ
    حتى الكلام لكي نقدر في الكلا
    فبكل باب مهلك وبكل جسـ
    سمعوك في الاقبال تزأر فانثنوا
    فأريتهم معنى الثبات وان جمـ
    ـع الذل والايمان ما لا يمكن



  • وجميل صبر للعواقب يضمن
    عون الاله، فكل صعب هين
    لب يرعوي وله المعاند يذعن
    د بقية منهم اتيت تبرهن
    ـل واذكر الود القديم وافطن
    ـنا في الظواهر او تباعد موطن
    نى ما يقال وذاك حق يعلن
    ئل والمكارم يستطاب ويحسن
    خفيت يجليها التقى والمعدن
    اسلام نمعن في الكفاح وتمعن
    م فلا نفصله يكال ويوزن
    ـر مزلق وبكل فج مكمن
    فرقا وودوا خيفة لو تدهن
    ـع الذل والايمان ما لا يمكن
    ـع الذل والايمان ما لا يمكن





السيد عقيل بن يحيى



هو الشاعر الموهوب والاديب الكبير والنكتي البارع من ابناء عمومة العلامة السيد محمد بن عقيل صاحب المؤلفات. وللسيد عقيل هذا، ديوان شعر كبير نشرت بعض قصائده صحف المهجر الشرقي وتدرس كثير من قصائده في المدارس لطلاب الادب العربي، اما ديوانه فلا يزال مخطوطا ولم يكن له حظ في النشر.



من قصائده السائرة على الالسن قصيدته التي مطلعها:







  • رم المجد وابذل في تطلبه الجدا
    ولا تن وادأب في تجشمه جدا



  • ولا تن وادأب في تجشمه جدا
    ولا تن وادأب في تجشمه جدا




وله من القصائد المطولات التي بلغ بعضها ستمئة بيت دفاعاً عن آل البيت(عليهم السلام)ويرد فيها على المناوئين الذن يحاربون الحق. فمن تلك القصائد الكثيرة هذه القصيدة التي مطلعها:







  • الحق في الصدق والتمويه في الدجل
    والقول قولان، قول يستضاء به
    والمفسدون على اقوالهم ظلم
    وفي الزمان اعاجيب ترى وبه
    قوم تملكهم ضرب من الخبل



  • والحق انصع شي ظاهر وجلي
    في المدلهمات، قول بالفسوق ملي
    يعافه كل معوجّ ومعتدل
    قوم تملكهم ضرب من الخبل
    قوم تملكهم ضرب من الخبل




بجانب هذه القصائد الكثيرة له قصائد اخرى حمينية بالعامية الدارجة وجل هذه القصائد الحمينية الدارجة في مدح آل البيت النبوي الكريم. يقول السيد عقيل انه يفضل ان يكون المديح باللغة الدارجة ليسهل فهمها وحفظها. ومن هذه القصائد الكثيرة نورد هنا مثالاً:







  • اللولة بالوصية ما رضوا
    والثانية شلو الخلافة
    والثالثة والرابعة عصبوا
    علي ولي الله مولانا علي
    ما خوفته جموعهم، وجه
    رجعو طير وادرعو بالحيلة
    لانهم صاروا دعاة النار



  • وقت النبي في ساعة استحضار
    بينهم ولعاد خلو قسم لانصار
    واطلقوا واجمعوا على الاشوار
    زوج البتول الفاتك الكرار
    عليهم ضرب بالبتار
    لانهم صاروا دعاة النار
    لانهم صاروا دعاة النار




لم نعثر حتى اليوم على ديوان السيد عقيل لدى احفاده واسباطه وللسيد عقيل عقب جلّهم منتشرون بجزيرة جاوا. ومن ابنائه السيد محمد الصحفي المعروف الذي اصدر عدة مجلات بجاكرتا منها الترجمان والمكوى وجريدة برهوت اصدرها من مدينة الصولو بجاوا الوسطى.



توفي السيد عقيل بمدينة المسيلة بحضرموت من اليمن الجنوبي ومن اولاده السيد علي ابن عقيل خريج الجامعة في سوريا.



لكثرة عدد زملائه واصدقائه الذين لهم صلة متينة وعلاقة طيبة بالسيد ابن شهاب في جميع الاقطار، فلا نستطيع حصرهم ونكتفي بما عن لنا من هذا العدد المحدود من اسمائهم وبدون ترجمة لاحد منهم:



محسن بن علوي السقاف



احمد بن محمد المحضار



احمد زيني دحلان مفتي مكة المكرمة



حسين البلكرامي وزير معارف سلطنة حيدر آباد



حسن بن حسين الحداد



علي بن محمد الحبشي



فصل باشا ابن علوي بن سهل عضو مجلس المبعوثان وامير ضفار



احمد بن عمر بن يحيى



حسن بن علوي الجفري اليمني



محمد بن عيدروس بن شهاب



محمد بن طاهر الحداد



توفيق باشا خديوى مصر



مير عثمان علي خان سلطان حيدر آباد الدكن



صالح بن غالب القعيطي سلطان الشحر والمكلا



برغش بن سعيد سلطان زنجبار



ابوبكر بن ابراهيم سلطان سلطنة جوهور الماليزية



عبدالله باشا ابن عون شريف مكرة المكرمة والحجاز



احمد فضل حاكم لحج



فضل بن علي بن محسن العبدلي



محمد بن محسن العبدلي



احمد فارس الشدياق صاحب الجوائب



مهدي بن علي خان



عثمان بن محجوب



صالح بن جعفر



عبد الرحمن آل ابن ابراهيم



علي يوسف صاحب جريدة المؤيد



عبد الله مديحج



السلطان عبد الحميد سلطان دولة الخلافة



حسن بن عبدالله بن حامد



عبد القادر القباني



تلامذته



انجبت مدرسة السيد ابن شهاب جملة كبيرة وطبقة مثالية من تلامذته ومريديه الذين ارتشفوا من معين علمه فانتفعوا منه لملازمتهم له. تثقفوا بثقافته، واقتبسوا من قبس آرائه. درسوا عنده أخذاً وتلقيا حتى نبغوا، فكانوا من فطاحل العلماء الاعلام في الادب والتفسير والفلسفة والامور الاجتماعية. تكونت من هذه المجموعة زمرة صالحة تعد في طليعة من شاركوا مباشرة في تحقيق هدف النهضة الاصلاحية التي قام بها واسسها ووضع منهاجها ومهدها.



واصبحت هذه المجموعة فيما بعد هم رواد النهضة الاصلاحية وهم الزعماء والقادة المخلصون. ونبغ من هذه المجموعة الذين ساروا على منهج استاذهم باذهان نيرة وقادة وبافكار متحررة متفتحة تخلصت من التبعية العمياء. هذه المجموعة الصالحة هي من اصحاب المبادئ السليمة والعقيدة الصحيحة بروح سامية، شخصياتهم قوية وهم الراغبون في العلم، تبوأوا مراكز عالية في المجتمع ورفضوا المراكز في الدولة لانهم لا يريدون ان يكونوا آلة صماء بايدي الولاة والحكام. فكانوا في الحقيقة زعماء الشعب والاُمة واصبحوا مثالاً حسناً كما تركوا لمن بعدهم تاريخاً حسناً يقتدى به كما تركوا ايضا تراثا علمياً. نذكر هنا عدداً منهم:



السيد محمد بن عقيل



هو العلامة الجليل والبحاثة القدير صاحب المؤلفات الكثيرة منها:



1 ـ العتب الجميل في الجرح والتعديل طبع عدة مرات



2 ـ النصائح الكافية طبع عدة طبعات



3 ـ تقوية الايمان مطبوع



4 ـ فصل الحاكم مطبوع



وله عدة مؤلفات اخرى قيمة لا تزال مخطوطة، من تلك المخطوطات:



1 ـ احاديث المختار في معالي الكرار، مع تعليقات ضافية وابحاث قيمة بحجج دامغة، وهو من خير الكتب ومن اهم المراجع التاريخية.



2 ـ المراسلات وهي مجموعة مراسلاته ومساجلاته ومراجعاته مع زعماء المسلمين وعلمائهم ومع رؤساء الدول الاسلامية وكبار الشخصيات البارزة في مصر والشام والعراق وايران والهند واليمن والمغرب وغيرها، وهذه المجموعة عبارة عن وثائق تاريخية ثمينة ذات قيمة علمية يتجلى فيها الحق الذي اراد اصحاب الاهواء والقيادات التي تفرض ارادتها بالقوة طمسه، فشوهت حقائق معالم التاريخ وخنقت الافكار، فغربل السيد ابن عقيل القضايا واشهر الحقائق حتى اصبحت واضحة جلية لا ينكرها الا مأفون العقل والبصيرة.



3 ـ مذكرات في اربع مجلدات كبيرة. كان السيد ابن عقيل حريصا كل الحرص على تدوين مذكراته يومياً، فيضع كل موضوع على حدة، وهذه ثروة تاريخية ثمينة.



4 ـ ثمرات المطالعة وهي تعليقاته وتمحيصاته لكل كتاب او صحيفة يقرأها، هنا يتجلى مبلغ حرصه في المطالعة.



ولا نعلم ان كان له مؤلفات اخرى غير التي ذكرناها. اصدر السيد ابن عقيل عدة صحف في المهجر الشرقي منها (جريدة الاصلاح) اصدرها عام 1326هـ من سنغافورا. و(مجلة الامام) باللغة الماليزية عام 1324هـ ورأس تحريرها السيد شيخ الهادي بن شهاب، وفي عام 1325هـ كان السيد احد مؤسسي الجمعية الاسلامية في سنغافورا في ضمن سلسلة النهضة الاصلاحية، وانتخب السيد محمد احمد السقاف رئيساً لمجلس ادارتها. وفي نفس العام كان السيد من مؤسسي مدرسة الجنيد بسنغافورا. وكان للسيد ابن عقيل نشاط بارز في مشاركة تحرير عدة صحف باللغة العربية والماليزية وكان يكتب المقالات في الصحف المصرية والشامية بتوقيع مستعار وهو ايضا كثير الرحلات، زار اليابان والصين وروسيا في عهد القياصرة وسافر بالقطار عبر سيبيريا الى اوروبا وزار بلدانها شرقا وغربا كما حضر المعارض الدولية في اوروبا، وقد افادته هذه الرحلات الطويلة الشاقة التي تعد في ذلك الوقت مجازفة لصعوبة المواصلات ووعورة المسالك([10]). جاب بلدان الشرق الاوسط والادنى وكثير من بلدان آسيا واوروبا وأفريقيا وله في اليمن ومصر والشام والحجاز صلات برجالاتها وشخصياتها البارزة كما له صلات في البلدان الاخرى التي زارها في آسيا، كان مقره في سنغافورا وفيها تأهل، والسيد ابن عقيل لبق في اتصالاته بمنتهى المرونة، وكان الزعماء والعلماء ورؤساء الاحزاب السياسية يجلونه ويقدرونه لعلمه وسمو اخلاقه.



كانت بريطانيا تنظر الى السيد ابن عقيل كما تنظر الى استاذه السيد ابن شهاب بنظر الريبة وعدم الارتياح من وجوده في سنغافورا لاعماله التي تعتبرها بريطانيا معاكسة لمصالحها، وكانت بريطانيا تعاكسه وتضايقه مضايقة في كل محل يحل فيه من مستعمراتها ومحمياتها التي لا تغيب عنها الشمس. وهكذا حدثت له حادثة عندما زار السيد ابن عقيل مدينة المكلأ بجنوب الجزيرة العربية وهي محمية بريطانية، إذ رأى العسس ورجال مخابرات الامن يحيطون به ومنعوه من البقاء في المدينة اكثر من 48 ساعة وطلبوا منه مغادرة البلاد في اول باخرة ترسو في الساحل. فتوجه السيد ابن عقيل الى عدن على متن باخرة هندية صغيرة، وانتشرت أنباء هذه الحادثة في جميع الاصقاع، وما ان بلغ أسماع زملائه هذا الخبر المؤلم في المهجر الشرقي مما حدث له من تصرفات بريطانيا، حتى عقدوا اجتماعاً طارئاً مستعجلاً دعي اليه السيد محمد بن عبد الرحمن بن شهاب في جاكرتا وقرروا تقديم احتجاج وتأليف لجنة لجمع التبرعات المالية النقدية لتدعم موقف السيد ابن عقيل وتأييده متابعة فى اعماله، وتولى السيد محمد بن عبد الرحمن بن شهاب العمل والاشراف على سير الامور، ثم قامت مسيرة كبيرة من الشعب المسلم الى مركز القنصلية البريطانية ومكتب استعلاماتها وبهتافات صاخبة وتمت المظاهرة بسلام ولم يحدث ما يعكر الامن.



توفي السيد محمد بن عقيل بمدينة الحديدة باليمن عام 1350هـ و شيعت جنازته تشييعاً رسمياً بالمراسيم المتبعة من قبل دولة اليمن والجنود حاملو اسلحتهم المنكسة واعلنت الدولة الحداد ثلاثة ايام. واشترك في التشييع العلماء والشخصيات البارزة، أبنه كثير من رجال العلم ورثاه كثير من الشعراء ونشرت صحف اليمن وصحف المهجر الشرقي الخبر وما اُلقي من التأبينات ومراثي الشعراء وكتب الكتاب باسهاب عن المغفور له السيد ابن عقيل تاريخ حياته وجهاده.



وممن رثاه زميله شاعر المهجر الشرقي السيد احمد عبدالله السقاف بمرثية عصماء بلغت 68 بيتاً.







  • لم يمت من سعى فأحيا المعالم
    فلماذا نذري الدموع ونأسى
    او نبكي مجاهدا ركب الاهـ
    قدم الصالحات ثم مضى فهـ
    عشت عيش المجاهدين ترينا
    وترينا الثبات والصبر والحـ
    لك نفس ابية تانف الظـ
    ان آثارك التي سوف تبقى
    إن تواريت في التراب فتمثا
    قائل ذا محمد بن عقيل العـ
    هجر الدار اذ راى ساكنيها
    امة لا تحس من حرج يبـ
    هم افراد التبسط في البسـ
    الفوا الذل واستعدوا لمن امـ
    لم يخافوا تقلب الظلم بالنا
    كم اليه الفقيد او ما ولكن
    جهلوا نصحه وما ارخص الدر
    عمرك الله ما الذي يبتني الفر
    كم ابت حضرموت ان تعرف الفضـ
    ولكم قبله اباها ابي
    لا تنال الخطوب منه ولا تاخذ
    تاركا للغني بين رباها
    وانتحى يطلب السلامة في السا
    وهواء البلاد يحكمه الجهـ
    ليس بدعا ان مسّك الظلم كم حلـ
    زار باريس وهي تختال زهوا
    فاراها من الكمال مثالا
    لك في مصر والحجاز مبرا
    ومقام بين الرجال واهل العـ
    سحت في الارض ناثرا درر الحكـ
    وانتهت في مغارس الفضل ايا
    في حمى من نجلهم من حماة الد
    الامام المعظم المفتدى يحـ
    لهم تالد من المجد بالقر
    شرف لا يرام تحمي حماه
    ولهم طارف من المجد مكتو
    عرفوا قدر ذلك الضيف([12]) هل
    ايها الراحل العظيم الى الرحمـ
    هذه خطة الحياة وهذا
    مضحك شأننا بمعترك العيـ
    فتامل تر الورى بين جذلا
    وكئيب مما يعاني ومسرو
    غير ان السرور يظهر كالبر
    وعلى ضوء ذلك البرق تبقى
    رب يوم سررت فيه ويوم
    احرجتني به الهموم كما يحـ
    كغداة استفقت رعبا لما طـ
    خط سطرا فكل نقطة حرف
    قطع الله ذلك السلك فالقلـ
    ان يكن سرنا ببشرى فكم جر
    كلما سلت العلوم سلاحا
    حسب من يبتغي من ما
    ذوقتنا حضارة العصر شهدا
    فاذا العيش إذ بلوناه مرا
    اضعفت من نفوسنا امم الغر
    وادعت ان في ثقافتها البلسـ
    وارتنا برق المواعيد حتى
    واختلفنا على بقية ارث
    فاتت رحمة بنا تقسم الما
    ندبت سوء حظنا فندبنا
    واستجرنا بها، اذ هي بالنا
    هل ترى في فسيح ذا الشرق شعباً
    نحن في راحة الزمان متاع
    (كلنا وارد السراب وكل)
    ما خلا بقعة تخيرت العز
    حسبها من حديث احمد ما ميز
    حكمة تنشر العلوم وايما
    لم تلامس حضارة الغرب لكن
    فبها الامن مستتب وروض الـ
    وبها العيش لا يزال انيق اللـ
    بقعة تنبت الفضيلة والعز
    كتبت للفقيد خاتمة العمـ
    ـر وإن الامور عند الخواتم



  • وقضى في هوى العلى والمكارم
    ولماذا حزنا نقيم المآتم
    ـوال ان عاد راجعا بالمغانم
    ـو على من يضاعف الاجر قادم
    كيف يستصغر العظيم العظائم
    ـلم وبذل الندى وصدق العزائم
    ـلم وراى في موقف الراى حازم
    هي معنى علاك وهي التراجم
    لك فوق المآثر الغر قائم
    ـامل المخلص التقي المعالم
    بين اعمى اصم او متصامم
    ـعث منها الشعور وطءُ المناسم
    ـط على الشرب او لذيذ المطاعم
    ـعن في الظلم بالرقى والتمائم
    س ولم يشعروا بخطب مداهم
    اين رب الحجا اللبيب الفاهم
    اذا سمته بسوق البهائم
    د وحيدا وحوله الف هادم
    ـل وكم ضيع الرجال الحضارم
    لا يبالي بغاشم او بظالم
    ه في الله قط لومة لائم
    ذمما ثم تشتري بالدراهم
    حل لكن دهره لم يسالم
    ـل لمن صح عقله لا يلائم
    ـت بذرية النبي المظالم
    وترى الحر من يبيح العظائم
    واراها الرجال تحت العمائم
    ت وفي الشام والعراق مكارم
    ـلم والفضل عربهم والاعاجم
    ـمة تزهو بك القرى والعواصم
    مك بين المجاهدين الأكارم
    ين انصاره الليوث الضراغم
    ـيى وانجاله السيوف اللهاذم([11])
    بى وفي العز ما لهم من مزاحم
    سابحات يريبها كل حائم
    ب بسمر القنا وبيض الصوارم
    يعرف قدر العظيم الا الاعاظم
    ـة والقرب والنعيم الدائم
    منتهاها فمن من الموت سالم
    ـش فكل مدافع او مهاجم
    ن ومتسعتب وراض وناقم
    ر بايامه وباك وباسم
    ق بغيم من المكاره قاتم
    قوة الروح للزمان تقاوم
    مظلم بالخطوب اسود فاحم
    ـرج من اعسر الغريم الملازم
    ـيّره ذلك النعي الواجم
    منه نبل وكل حرف صارم
    ـب به الروع والعيون سواجم
    عنا ناعيا سموم الأراقم
    لدفاع صالت به يد آثم
    ت غريقا في بحره المتلاطم
    وارتنا العيش الرغيد الناعم
    واذا الشهد مشبعا بالعلاقم
    ب فلا فرق بيننا والسوائم
    ـم والمهلكات تلك البلاسم
    اذكرتنا بجودها جود حاتم
    كلنا طامع وكل مساهم
    ل فكان التراث حظ القاسم
    ها لتخفيف خطبنا المتفاقم
    ر تلهى ونحن وفد البراجم([13])
    صدق الغرب وانثنى غير نادم
    يطلب الربح فيه كل مساوم
    حمل في وليمة الذئب طاعم
    لة فيها الامام من نسل هاشم
    ها عن لداتها([14]) بالعلائم
    ن هما مجدها القوي الدعائم
    لم تقع مثل غيرها في المآزم
    ـعلم داني الثمار والشرع حاكم
    ـلون غضا شذي عرف الكمائم
    وحصن من فتنة الغرب عاصم
    ـر وإن الامور عند الخواتم
    ـر وإن الامور عند الخواتم





والسيد ابن عقيل كاتب معروف ولا يقول الشعر الا نادراً جدا وهو من المقلين في الشعر.



ومن الذين أَبنه ورثاه العلامة السيد علوي ابن طاهر الحداد مفتي سلطنة جوهور الماليزية، اذ تربطه بالسيد ابن عقيل رابطة وثيقة وصلات قوية. وعندما بلغه نبأ وفاته رثاه بقصيدة طويلة وأبنه بسلسلة من المقالات نشرت في مجلة الرابطة التي تصدر من جاكرتا.



وممن رثى المرحوم السيد ابن عقيل العلامة حجة الاسلام السيد محسن الامين صاحب المؤلفات الكثيرة بمرثية طويلة مطلعها:







  • سالت دموع العين كل مسيل
    رزء بدا فيه الزمان بمقلة
    مكفوفة وساعد مشلول



  • حزنا لفقد محمد بن عقيل
    مكفوفة وساعد مشلول
    مكفوفة وساعد مشلول




وممن رثاه ايضاً الكاتب الاديب والصحفي المعروف محمد علي لقمان صاحب جريدة (فتاة الجزيرة) التي تصدر من عدن بقصيدة مطلعها:







  • ماذا الظلام على ربى الاقطار
    فهل الكسوف سرى على الاقمار



  • فهل الكسوف سرى على الاقمار
    فهل الكسوف سرى على الاقمار




وممن رثاه ايضا الاستاذ العبقري السيد محمد بن هاشم بمرثية عصماء نقتطف منها ما يلي:







  • هو الحين لا العلم الغزير يرده
    هو الحين مهما يبلغ المجد بالفتى
    صعودا فلا يغني عن الحين مجده



  • ولا الحلم في صيد الرجال يصده
    صعودا فلا يغني عن الحين مجده
    صعودا فلا يغني عن الحين مجده




ويقول فيها:







  • عذيري وما ان من عذير من الردى
    فيا ليته والدهر من ليت ساخر
    فينجاب من بين الاماثل نحسه
    بني علوي مات عنكم محمد
    بني علوي مات عنكم محمد
    بني علوي ان بقى في نفوسكم
    هلم انثروا الدمع الغزير فانما
    سنبكي ونبكي ما بقينا فهل لنا
    بهمته العظمى تسلق شامخاً
    وحلق في جو المعارف طائرا
    من العظماء الطامحين بعزمهم
    لادراك شأو لا يصور حده



  • يفضل افذاذ الرجال فرنده
    يرى عمره ما كان ياخذ زيده
    كما انهل ما بين الاسافل سعده
    اب مشفق جم نداه ورفده
    اب في تلاقي مجدكم ظل جهده
    نفيس من الاشفاق فاليوم عهده
    تناثر من مجد الحضارة عقده
    سلو به ينسي علاه وجده
    من المجد حتى حل نبتون بنده
    فلم تلهه ليلى النسيب ودعده
    لادراك شأو لا يصور حده
    لادراك شأو لا يصور حده





الى ان قال:







  • اقر يراعي بالقصور لانه
    تغمده المولى بمرج من الرضى
    يضوع خزاماه الصريح ورنده



  • رثاء جليل جلّ في الناس فقده
    يضوع خزاماه الصريح ورنده
    يضوع خزاماه الصريح ورنده




ورثاه ايضاً العلامة الجليل السيد عبد الرحمن بن عبيد الاله السقاف بهذه المرثية:







  • ماذا اقول وافكاري مقسمة
    جاء النعي فاشجاني واوقفني
    قد فتَّ في عضدي موت الهمام فهل
    مصيبة كلنا يشجى بغصتها
    اصاب منها العلى والعلم خسران



  • وفي الحشا من جوى الاحزان نيران
    والعين باكية والقلب حيران
    يا آل يحيى بكم للكسر جبران
    اصاب منها العلى والعلم خسران
    اصاب منها العلى والعلم خسران




الى أن يقول:







  • اه عليكم بني الزهراء اخّركم
    فاين تاويل تطهير الاله لكم
    نصيب كل لئيم بينكم مقة
    ما للفضائل والرذائل ما
    اهكذا من يحب المجد سيرته
    ما في الديار أخو صدق يصارحكم
    خذلتم ابن عقيل وهو زينتكم
    واستاثر العارفوا قدر الرجال به
    ضيف الائمة حيث الامن يحفظه
    حيث الحمية للاسلام موقده
    بها كم ارتد عدوان وكفران



  • في العزم ضعف وفي الاخلاق ادران
    وفي البصائر من احقادها ران
    وحظ كل كريم النفس هجران
    فيهن عار، لان القوم عيران
    كلا ولكن هذا الجيل سكران
    ولا اللحى تحتهن اليوم ذكران
    فمات والجوف للاسلام حران
    فحق منا له مدح وشكران
    في الظهر والبطن قرآن ومران
    بها كم ارتد عدوان وكفران
    بها كم ارتد عدوان وكفران




ويقول فيها:







  • لهفي على ابن عقيل ثاويا جدثا
    لم تبك ام العلى مثل الجمال وان
    وحيث قلت بوادينا نوادبه
    والهند واليمن الخضراء تندبه
    وان قضى ابن عقيل وهو مهتضم
    ما زال في تعب آل النبي تها
    في ذمة الله لا غبتك مرحمة
    في روضة لك اصحاب الكساء بها
    فوق الاسرة بالفردوس جيران



  • من بلقع منه بالايمان عمران
    اودى عليها لهاميم وغران
    ففي العراق عليه الدمع غدران
    ومصر ايضا وظهران وايران
    فجده مات قدما وهو نجران
    داهم من الجور أقتاب وكيران
    ولا عداك من الرحمن غفران
    فوق الاسرة بالفردوس جيران
    فوق الاسرة بالفردوس جيران





ورثاه ايضاً العلامة السيد عقيل بن زين العابدين الجفري المقيم بمدينة سورابايا تعجيزاً وتصديراً لقصيدة السيد الشاعر حيدر الحلي:







  • (اظبى الردى انصلتي وهات وريدي)
    ظعن الخليل ولا نصير يرتجى
    (ذهب الزمان بعدتي وعديدي)



  • وتفنني ما شئت في تبديدي
    (ذهب الزمان بعدتي وعديدي)
    (ذهب الزمان بعدتي وعديدي)




وللمرحوم السيد ابن عقيل مباحثات علمية ومساجلات في مواضيع كثيرة حساسة، ذكرها في مذكراته عن رحلاته الطويلة الى اوروبا ومحاوراته من رجال المستشرقين الغربيين وابان لهم اوجه اخطائهم في كتاباتهم او ما اثبتوه في مؤلفاتهم، كانت جلسات المحادثات قد تستغرق وقتا طويلاً وقد تواصل الجلسات في الايام التالية حتى يتوصلوا الى نقطة التفاهم، واعترف البعض منهم بانها غير متعمدة وان ذلك مبلغ ما وصل إليه علمهم وان المصادر التي اعتمدوا عليها هي ما وصلت اليهم من الكتب، ووعدوا انهم سيضيفون في الطبعات القادمة هذه المعلومات الجديدة ويراجعوا الكتب التي لم تصلهم ولم يطلعوا عليها من قبل.



ويعرف عن السيد ابن عقيل صراحته في احاديثه او مناقشاته بالعلم والمنطق وعندما يتباحث مع المستشرقين في الموضوع ويصل الى الهدف، يستطرد الى الامور السياسية لدولة كل مستشرق، لان كل مستشرق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بدولته خصوصاً في الامور السياسية المتعلقة بالمسلمين، ولذلك فان السيد ممن يقاوم الاستعمار والمستعمرين بضراوة، تعرض السيد ابن عقيل كثيراً الى ضغوط المستعمرين في كل بلد يحل فيه.



حدثني السيد العلامة عقيل الجفري، انه على رغم تضلع السيد ابن عقيل في العلوم الدينية والأدب العربي والفلسفة، فانه كان سياسياً ضليعاً وذو نفوذ واسع وهو رجل عمل لا رجل اقوال ويعد من المع علماء وساسة زمانه كان يهتم في المقام الاول بتشييد المعاهد العلمية واصدار الصحف ونشر الكتب، وللسيد ابن عقيل آراء سديدة يدلي بها على الحاضرين، فيتقبله البعض بالاعجاب والتقدير وقد يسخر منه البعض الاخر، لان آراءه كان فيها نظر للمستقبل، ثم لا يعدو بعد فترة ان يؤمن باقواله من كان يسخر من كلامه قبلا. وقد حذر السيد ابن عقيل زعماء العرب والوجهاء منهم اثناء الحرب العالمية الاولى، اذا انتصر الحلفاء على الالمان فويل للعرب من مكر الغربيين وان فلسطين ستكون الضحية الاولى، فالوزير البريطاني اللورد بلفور قد تعهد لليهود واعترف ان فلسطين هي الوطن القومي لليهود ويجب ان تفتح باب الهجرة لليهود ليستوطنوا فلسطين، وكتب السيد ابن عقيل الى وجهاء العرب وزعمائهم يحذرهم بالخطر الداهم عليهم وان العاقبة ستكون سيئة اذا تساهلوا، وكان جل العرب يحسنون الظن بالحلفاء بل ان البعض منهم مسترسلون في التخبط وراء الانجليز وحلفائهم اندفاعاً وراء العاطفة والظن وأن من الانجليز كل خير للعرب والمسلمين، بل ان منهم من لا يرون الخير من تركيا ولم يكتفوا بذلك بل اعلنوا الكراهية والحرب على تركيا. لا نعلم ماذا كان وقع رسالة السيد ابن عقيل لزعماء العرب في هذا الموضوع وما هو صداه لديهم.



الامير شكيب ارسلان والسيد ابن عقيل



نعي الامير شكيب ارسلان السيد ابن عقيل عندما بلغه خبر وفاته بهذه الكلمة بعنوان:



مصاب الاسلام محمد ابن عقيل



ليس فقد السيد الشريف محمد بن عقيل بن يحيى العلوي الحضرمي بخطب على السادة الاشراف الحضارمة وحدهم ولا برزء القطر اليمني منفردا، ولا بمصاب الامة العربية من دون غيرها، بل لعمري هذا هو الماتم الذي يحق ان يجلس للعزاء فيه الاسلام من اقصاه الى اقصاه، والمناحة التي يشترك فيها جميع الاقطار اهل كلمة لا اله الاّ الله محمد رسول الله، فقد كان السيد ابن عقيل غطريفا كبيراً من غطارفة هاشم وجحاجحة قريش، منيع الايمان ومشرف التوحيد الماحي للاوثان. وكان عارفا ما عليه من حقوق هذا الدين الذي نشره اجداده في الارض، فقضى حياته في خدمته ووقف عمره على بث دعوته، وكان له اليد الطولى في هذه النهضة العربية الاجتماعية في الاقطار الاندونيسية التي قد ظهرت اثارها واينعت ثمارها، ونال من ارشاده وايقاظه القطر اليمني والافق الحضرمي خاصة، ولم يزل الى ان لحق بالرفيق الاعلى سراجاً منيراً يستضييء العرب بنوره وعماداً كبيراً يستندون اليه، ولقد جمع اشتات المحامد، ورأينا فيه كيف يجمع العالم في واحد. رحمه الله وجزاه عن العرب والاسلام خيراً. ولقد اتيت على جزء من فضائله بمقالة نشرتها في جريدة العهد الجديد البيروتية عندما جاءني نعيه الاليم وذكرت فيها تشرفي بلقائه في المدينة المنورة قبل الحرب العامة ببعضة اشهر وتجاذبنا اهداب المباحثات السياسية يومئذ، ولم نكن متفقين في جميع الافكار ولكن كنا متفقين في نصرة الامة العربية ومناصرة الاسلام.



وفي اثناء مقامه الاخير باليمن لم اخل من سلامه وقتا بعد آخر بواسطة الاخ الفاضل المسلم النبيه المفكر الدكتور زكي كرام نزيل برلين الذي كان يكاتبه. وقبل انتقاله الى رحمة ربه بقليل ارسل يسألني عن أمور واحوال اقلقته من جهة الحجاز. وبينما كنت انتظر جوابه في هذا الموضوع جاءني نعيه من ابن اخيه السيد عبدالله بن احمد بن يحيى فنزل عليّ نزول الصاعقة، لاني في مقدمة من يقدرون هذا الراحل الجليل الذي فقدناه. انطفأ سراج كبير من سرج الاسلام. والاسلام هو الذي فقده. واما هو فقد انطلق من سجن هذه الدنيا الى ساحة القدس التي لا نهاية لها. وما اجدره بقولي في رثاء فقيد آخر من هذه الطبقة، المغفور له احمد باشا تيمور:







  • ليهنك يا تيمور انك حزتها
    وانك لو خيرت فيما ترومه
    لكنت سعيدا بالذي انت صائره



  • الى ملأ لا يعرف الموت زائره
    لكنت سعيدا بالذي انت صائره
    لكنت سعيدا بالذي انت صائره




اسال الله ان يحسن عزاء السادة الحضارمة وعزاءنا جميعا بفقد هذا السيد السند وان يلهمنا واياهم الصبر الجميل.



جنيف 2 نوفمبر 1931



شكيب ارسلان



وكان السيد ابن عقيل على جلال مقامه يمثل التلميذ البار لاستاذه السيد ابن شهاب فهو يعظمه ويجله معترفا بفضله عليه، فلا يذكر استاذه في المحافل والمجتمعات العامة والخاصة او في مكاتباته او مؤلفاته الا باسم شيخنا العلامة السيد ابن شهاب.



السيد عقيل بن زين العابدين الجفري



عالم جليل وأديب كبير وشاعر مرموق من مواليد مكة المكرمة عام 1282هـ درس في صباه بالحرم المكي الشريف لدى شيوخ من العلماء الأجلاء وتحت رعاية والده الرجل الصالح العلامة السيد زين العابدين الجفري، وعندما ترعرع بعثه والده الى تركيا ليواصل دراسته في معاهدها العليا واستقر في العاصمة استنبول وبعد نجاحه وتخرجه منها واصل دراسته الجامعية واختار دراسة الطب والتحق بكلية الطب في الجامعة، لكنه لم يكمل مستواه الجامعي فترك الكلية وهو في السنة الثالثة من دراسته الطبية. يجيد اللغة التركية اجادة تامة تكلماً وكتابة وخطابة كانه من ابناء تركيا الاقحاح، كما يحسن اللغة الالمانية بجانب معرفته واجادته اللغة العربية الذي هو من ابنائها.



عاد الى الحجاز ولكنه لم يقم فيها طويلاً، وبدأت صلته بالسيد ابن شهاب مراسلة، وكان معجباً بالسيد ابن شهاب ويوقره، ثم غادر الحجاز وكان ذلك في عهد الشريف عون، متجهاً الى اوروبا وزار عواصمها وبعض بلدانها وواصل رحلته الى آسيا وتوجه الى حيدر آباد للاجتماع بالسيد ابن شهاب وتتلمذ في مدرسته ولازمه ورافقه. وافادته هذه الملازمة التي تتلمذ فيها عند السيد ابن شهاب، والسيد الجفري يعد من النوابغ ولا عجب اذا اصبح من رجال العلم اللامعين والساسة البارزين. واسع الاطلاع قوي الحجة في حديثه رحب الصدر كريم وسخي لا يرد طلب طالب ووافد لحاجة. لا يتاخر عن كل عمل خيري. ينفق بسخاء لمساعدة الارامل والايتام والعائلات الضعيفة والاسر الفقيرة، وكان يخصص لهم نفقات شهرية سرا، لا يعلم بها احد الا بعد وفاته. افنى امواله وممتلكاته التي ورثها من والديه في سبيل الدعوة الاسلامية والدفاع عن المستضعفين وفي المشاريع الاصلاحية العامة، ساهم في تأسيس المطابع العربية عام 1921 بمدينة سورابايا كما تبرع للمؤسسات الخيرية بسخاء، وشارك مشاركة فعالة في اصدار الصحف والمجلاّت باللغة العربية والاندونيسية وانفق على طبع مؤلفات السيد محمد بن عقيل في مطبعة العرفان بصيدا لبنان لصحاحبها الشيخ احمد عارف الزين صاحب مجلة العرفان وجريدة جبل عامل.



كان السيد عقيل الجفري يكتب المقالات في صحف المهجر الشرقي وفي بعض الصحف العربية بتوقيع مستعار، وبحكم وضع السيد الجفري وعمله فله صلات واسعة بعظماء الرجال في العالم. ومراسلاته معهم، جمعت في ملف كبير، وله مساجلات خاصة مع الشيخ الزواوي احد العلماء الاعلام البارزين في مكة المكرمة في مسائل وشؤون اسلامية عامة وهي شبيهة بكتاب المراجعات للسيد الموسوي ومكاتباته مع شيخ الازهر سليم البشري..



وللسيد الجفري عدة مؤلفات منها مطبوعة باسماء مستعارة ومنها ما نشر باسم صديقه السيد حسن التقوي الشيرازي المهاجر الايراني الى اندونيسيا واستقر بها واقام بمدينة سورابايا وتأهل فيها وله أسباط دون الاحفاد، لم يكن له عقب ذكور من اولاده واقام في مدينة سورابايا يزاول التجارة حتى وافته المنية.



للسيد الجفري تعليقات كثيرة على الكتب التي يطالعها، وله مجموعة خاصة لرسائله المتبادلة بينه وبين السيد محمد المحضار صديقه الحميم تطرق فيها للامور السياسية في مقاومة الاستعمار الهولندي واحوال المسلمين المستضعفين، ونظريته في الامور الاجتماعية وكيفية اصلاحها والى النقد الذاتي، وهذه المجموعة من الرسائل حفظت في ملف كبير. وله ايضاً مساجلات علمية مع بعض العلماء وهذه المساجلات عبارة عن كشكول علمي.



والسيد الجفري من الشعراء المجيدين غير انه غير مكثر، نشر بعض من قصائده في صحف المهجر الشرقي ولا يزال غيرها مخطوطاً من تلك القصائد مرثية في استاذه السيد ابن شهاب.



السيد الجفري من طلائع المجاهدين والمكافحين ضد الاستعمار الهولندي والمدافعين عن المستضعفين بقلمه وماله ولسانه ونفسه، قاوم الاستعمار الهولندي مقاومة فعالة اقلقت الهولنديين المستعمرين، فاعتقلته السلطات الهولندية الحاكمة وسجنته عام 1347هـ وصادرت بعض ممتلكاته وجملة كبيرة من الكتب في مكتبته، وكنت انا وبعض الاخوة السيد محمد ضياء شهاب والسيد عيدروس المشهور صاحب امتياز جريدة حضرموت والسيد احمد بن عمر باعقيل نزوره بين الحين والآخر في الساعة المقررة لزيارته وهي لا تزيد عن ساعة فلكية في المساء والضابط الهولنديى يحضر عند زيارتنا ولا يفارقنا الا عندما ما يحين ساعة انصرافنا ولم يطلق سراح السيد الجفري الا بعد ان قضى فترة طويلة في السجن ولم يقدم للمحاكمة، وخرج السيد الجفري شامخ الرأس وواصل كفاحه ضد الاستعمار الهولندي مما اضرم الحقد عليه فاعادت الكرة مرة اخرى واوعزت الى عملائها باشعال النار في منزل السيد الجفري لاحراقه والتخلص منه، واحترق البيت كله ولم يسلم شيء فيه من الأثاث والكتب الا ارواح الساكنين فيه، وكانت الحادثة في منتصف الليل حيث العالم في هدوء تام.



عندما بلغ الخبر أصدقاءه ومعارفه توافدوا اليه مسرعين ليشاركوه في المصاب الأليم، فكان يستقبل الجميع بالبشاشة مما يدل على علو نفسه ويقول: ان ذلك هو الكفاح ولا يتم الكفاح الا بالنتضحية بشتى اشكالها واوضاعها، وشكر القادمين في مواساتهم له وكل شيء هين لديه. واستمر يواصل كفاحه ضد الاستعمار الهولندي واتصل بالمجاهدين الاندونيسيين المكافحين ضد الاستعمار الهولندي حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية وتورطت هولندا في هذه الحرب واكتسحت اليابان جنوب شرقي آسيا واستسلمت هولندا للقوات اليابانية الفاتحة، وبهذا انتهى تاريخ الاستعمار الهولندي من اندونيسيا.



كان السيد الجفري يحمد الله دائماً على اطالته عمره ومعاصرته للأحداث التي ابتلي بها في حياته وكان في اواخر ايام حياته يعيش قرير العين لان الله اتاح له حضور اعلان استقلال اندونيسيا يوم 17 / 8 / 1945، كما شاهد اخر الاسرى من الهولنديين المستعمرين يساقون الى المعاقل وشاهد عيانا انهيار دولة الاستعمار، فكان يشعر بشفاء الغليل، وها هي اعلام ورايات اندونيسيا ترفع على مباني جمهورية اندونيسيا الفتية، اذ تحققت آماله وآمال الشعب الاندونيسي، طفح اغتباطه بالشكر للمولى العلي القدير الذي اذل الاستعمار وسلم الله الشعب الاندونيسي من براثن العبودية فأصبح حرا مستقلاً. هذا هو الاستقلال الذي ينشده السيد الجفري والذي كافح واستمات من اجله وبذل ممتلكاته في سبيل حرية الشعب الاندونيسي واستقلال وطنه. صار يعيش مع الحوادث قرير العين مغبتطا شاكرا وحامدا.



والسيد الجفري على علو مقامه وسعة علمه وسمو مكانته في المجتمع يتحاشى الظهور ويميل الى الدعة والبساطة فهو متواضع يستقبل الناس احسن استقبال يبش للجميع ولا يفرق بين الناس فكلهم في نظره سواسية.



توفي بمدينة سورابايا عام 1372هـ عن عمر ناهز التسعين، رحمه الله رحمة الابرار.



الاستاذ محمد بن هاشم



شاعر وأديب وكاتب اَريب وهو من رجال التربية. اسس المعاهد العلمية والتربوية في كثير من بلدان المهجر الشرقي وهو ايضا صحفي قدير ترأس تحرير عدة صحف منها المدرسة وجريدة حضرموت ثم تفرغ لأمور التربية والتعليم، تخرج على يده كثير من رجال العلم البارزين منهم:



1 ـ الاستاذ عبدالله بن نوح الشاعر المفلق قائد كتيبة جيش التحرير الاندونيسي لمنطقة جاوا الغربية، وله ديوان شعر لا يزال مخطوطا ونشر بعض قصائده في صحف المهجر الشرقي وبعض المجلات العربية، وله مؤلفات باللغة العربية والاندونيسية. وفي الثلاثينيات ترأس تحرير جريدة (المؤمن) وبعد الاستقلال ترأس (هيئة البحوث الاسلامية) بجاكرتا وهو استاذ الادب العربي بجامعة اندونيسيا، اسس المعاهد الاسلامية منها معهد الاحياء والمعهد الزراعي العالي.



2 ـ وتخرج على يد الاستاذ ابن هاشم، السيد هاشم بن يحيى الاديب الشاعر، نشر بعض قصائده في صحف المهجر الشرقي وفي بعض المجلات الكويتية له ديوان لم يُطبع بعد وهو ايضاً من رجال التربية والتعليم.



3 ـ وممن تخرج على يديه أيضاً الاستاذ عبدالله عبدالرحيم الخوجة والاستاذ محمد السقاف والاستاذ سعيد باحويرث.



كان الاستاذ محمد بن هاشم يكتب في عدة صحف من صحف المهجر الشرقي بجانب توليه رئاسة تحرير جريدة حضرموت التي اشرنا اليها والتي تصدر من مدينة سورابايا، وهي من ارقى الصحف العربية التي تصدر في المهجر الشرقي واوسعها انتشارا، وكان الامير شكيب ارسلان والسيد التفتازاني والعلامة الشيخ رباح حسونة الازهري والعلامة الاستاذ محمد المرشدي يكتبون في هذه الجريدة. ولم تسلم هذه الجريدة من الضغوط الاستعمارية الاستفزازية وتعريض صاحب الامتياز المسؤول السيد عيدروس المشهور مراراً للاستنطاق امام المدعي العام الهولندي بتهمة تحريض الرأي العام للاضطرابات والاعمال الفوضوية الغوغائية واثارة القلاقل ضد الامن العام، وهدد المدعي العام صاحب الامتياز بتحمل المسؤولية من عواقب اعماله المخلة للامن العام. وبما أنه ليس للمدعي العام مستمسك في دعواه لجأ الى الاتهام ثم الى التهديد والوعيد. وحقيقة الامر التي لا مرية فيها ان الخوف والخشية سيطرا على عقول حكام الاستعمار مما جعل المدعي العام يفعل فعلته تلك، ويظهر ذلك من تلجلج المدعي العام فى تقديم التهم امام صاحب الامتياز وكانت اجوبة صاحب الامتياز منطقية وبحجج دامغة، وحاول المدعي العام تبرير دعواه بشرعية الحكم الاستعماري، وعندما فقد اتزانه لجأ الى التهديد والوعيد، وهذا شأن الضعيف الخائف. ولم تنته تلك الاستتفزازات بل تكررت الاستدعاءات مرات أخرى. فطوراً امام المدعي العام وطورا آخر امام محافظ الامن العام، واحياناً لدى مدير المخابرات، ومرة اخرى امام القوات المسلحة، ومن حين إلى آخر لدى المشرف العام على الصحافة والنشرات. فلا يمر شهر الا ويأتيه استدعاء من تلك الجهات المختصة والدوائر المسيطرة على دفة الحكم. وبحكم هذا الوضع المتكرر الف صاحب الامتياز تلك الاستفزازات والمحاولات من المستعمر لاستنزاف قواه المعنوية واضعاف روحه وبلبلة افكاره ولكن كانت النتيجة عكسية، وكلما دعي السيد المذكور الى احدى تلك الدوائر أفلج عليهم بمنطقه القوي، وخرج من الاستنطاق وهو موفور الكرامة مرفوع الرأس اشد عزيمة واصلب عقيدة واقوى من ذى قبل. واستمر في كتاباته ومقالاته ودفاعه عن المستضعفين والمحرومين الاندونيسيين اصحاب البلاد، ومهاجمته الاستعمار الهولندي البغيض الذي يستنزف خيرات البلاد.



للاستاذ محمد بن هاشم عدة مؤلفات علمية وتاريخية وكتب مدرسية طبعت في اندونيسيا وفي مصر. من مؤلفاته المطبوعة (رحلة الى الثغرين) في مجلد واحد وكتاب (تاريخ الدولة الكثيرية) في مجلدين. وكلا الكتابين طبعا بمصر، ومن الكتب المدرسية ألّف في اللغة العربية والانشاء والجغرافيا والطبيعيات وكلها طبعت باندونيسيا. كما ان له شروحات وتعليقات على كثير من الكتب العلمية. منها شرحه على منظومة (اليواقيت في فن المواقيت) للعلامة السيد محمد الشاطري وله ايضا مؤلفات اخرى.



اما قصائد الاستاذ ابن هاشم على ما نعلم فلم تجمع حتى بعد وفاته ولكن نشر بعضها في صحف المهجر الشرقي في المناسبات.



في عام 1912 تولى الاستاذ ابن هاشم التدريس في مدرسة جمعية خير بجاكرتا ووضع لمدارس الجمعية نشيدا ينشده التلاميذ كل صباح عندما يجتمع التلاميذ صفوفا قبل دخولهم الاقسام او في مناسبات اخرى. كما وضع اناشيد اخرى كثيرة تنشد في اكثر المدارس الاسلامية. من تلك الاناشيد نقتطف هذه الانشودة باسم جمعية خير:







  • بجمعية الخير يرقى الوطن
    وندرس للعلم في كل فن
    لها الشكر منا على كل حال
    ونخدم اوطاننا والبلاد
    هلموا هلموا رجال السداد
    نفر من اهل الهوى والضلال
    نحب النبي وآل النبي
    نعظم بالفضل آل الرسول
    وليس سوى فرع تلك الاصول
    عليهم من الله ازكى السلام
    وقد وجدوا رحمة للانام
    وان غضب المفترى او طعن



  • وينجاب عنها ظلام الفتن
    لها الشكر منا بطول الزمن
    فقد علمتنا حميد الفعال
    وننقذها من مهاوى الفساد
    فقد آن اصلاح هذا الوطن
    ونتبع ما قد اتى في السُنن
    ونعرض عمن طغى وافتتن
    ونكرم اولاد الزهراء البتول
    حسين وفاطمة والحسن
    هداة البرايا ونور الظلام
    وان غضب المفترى او طعن
    وان غضب المفترى او طعن





الاستاذ ابن هاشم من البارين لاستاذه ومن الذين يعترفون ويفتخرون بانهم من خريجي مدرسة السيد ابن شهاب. عندما بلغه نبأ وفاة استاذه وقد كان مديرا للمعهد العلمي (شمائل الهدى) بمدينة فكالوغن بجاوا الوسطى تأثر كثيراً من ذلك النباء المؤلم، فأقام مأتما تأبينيا كبيراً حضره علية القوم ووجهاء البلاد الذين قدموا من كل حدب وصوب حتى اكتظ بهم المكان على سعته والقى الاستاذ ابن هاشم مرثيته من 26 بيتا أثرت في الحاضرين تأثيراً بالغا، ومطلع المرثية:







  • ارونا احتمال الصبر كيف يكون
    وكيف به الخطب المهول يهون



  • وكيف به الخطب المهول يهون
    وكيف به الخطب المهول يهون




والمرثية بكاملها مثبتة في فصل وفاة المغفور له السيد ابن شهاب.



بين الاستاذ ابن هاشم والاستاذ احمد عبدالله السقاف شاعر المهجر صلات متينة وصداقة وثيقة يجمع بينهما وحدة العقيدة والمبدأ والهدف، والسقاف من مقدري الاستاذ ابن هاشم ومن المعجبين به ومقدريه فجاشت نفسه بهذه القصيدة المكونة من 88 بيتا تقديرا واعترافا وتعظيما لفضل زميله الاستاذ ابن هاشم وهي ما يلي:







  • جدير بان يحيى العظيم معظما
    وشان كبير النفس حب الكمال ان
    وكل امرئ يصبو إلى ما يروقه
    فمن مغرم بالحلم والعلم والندى
    ومن مستهام بالحطام وواله
    تغربل ابناء الزمان تجاربي
    فطوراً بغاثاً كالنسور وتارة
    واخرى ترينا جاهلا عند نفسه
    ومعتقدا في نفسه الفضل ناسيا
    وعابدَ مال في المبرات منه ما
    وكاتم علم لو توقف رشدنا
    صحبت فما الفيت غير ابن هاشم
    وعشت فلم ادرك سواه مهذبا
    بهمته رام المعالي فنالها
    وبالعزم والاقدام أخضع دهره
    فلا فضل إلا وهو فيه مفضَّل
    له نفس حُرّ لا تقيم به على
    يلاقي خطوب الدهر غير مُروّع
    تصدى لاصلاح الزمان وأهله
    فما فلّت الأقوال صارم عزمه
    رأى ما بوادي حضرموت فساءه
    فهب إلى الاصلاح يدعو رجاله
    رويدك إن القوم في سكرة الهوى
    فما خلقوا في الأرض إلا ليبتنوا
    بآذانهم وقرٌ فلستَ بمُسْمع
    فلم يثنه عن خدمة الشعب ذاك بل
    فضحّى بما ضحّى وجد ولم يزل
    وهاجر لاستكشاف حالة قومه
    رأى عجمة قد أخرستهم وخطة
    رأى ما يذيب القلب من سوء حالهم
    رأى أمة تلهو وشعباً يقوده
    تجرد عن أحساسه وشعوره
    فأنشقه من نافع العلم منعشا
    وأيقظه من نومه كلما رأى
    وشمَّر للتعليم ساعد جده
    وأسس دوراً للمعارف أصبحت
    أزالَ بها جهلاً وأصلح فاسداً
    ألا فلتَجرّ الذيل (سرباية) التي
    تجنت علينا سابقاً ونبت بنا
    فلما رضيت اليَوم عنها وأذعنت
    بها حضرموت اليوم للعلم معهد
    تُدَرِّب بالآداب والعلم والنهى
    ومهما أطَلت حضرموت صحيفة
    سمعنا بها روح الحياة يخاطب الـ
    سمعنا بها سحر البيان وقوة الـ
    بها قُدْتَ أفكاراً وحركت جامداً
    وناصرت أحراراً وأكبت حاسداً
    فيا رجل الأعمال معذرة فقد
    بماذا أفيد الناس عنك وكلهم
    وإن شذ فيهم أكمه بك جاهل
    و والحقِّ إني لست بالشاعر الذي
    ولكن مدح العاملين يعلم الـ
    عظائِم أعمال([17]) إذا ما ذكرتها
    وكم مرة حاولت أن أمدح امرأً
    ولست بما أثني عليك به امرأً
    ولكن شعباً لا أرى فيه عاملاً
    يجازيك بالاحسان سوءاً بجهله
    وعلمته حسن الثناء عليك إذ
    واعلم أن البعض يتلو قصيدتي
    وإن جزائي أن يقال مُعلّمٌ
    عليَّ التغني بالثناء لأهله
    وأن اندب الشعب الذي ساء حظه
    أسكّان وادي حضرموت، أمالكم
    أما تتعدى عدة الشاي نظرة
    أطار على واد ابن راشد طائر
    بكائي على شعب تعرقه الهوى
    أضاع حقوقاً للبلاد فأصبحت
    وهل قام حق للضعيف الذليل في
    إلامَ وحتَّامَ الغرور بني أبي
    وأنى ينال الغلبَ في الحرب أعزل
    وإلا دعوا عِزَّ الحياة لغيركم
    دعوا العلم إن العلم صعب مناله
    فلا تحسنوا بالعلم إلا لباسكم
    ولا تُسمِعوا من جد في السعي عاملاً
    وإن ذَب عنكم فاشتموه وكلما
    ولا تنفقوا الأموال إلا على الهوى
    فليس لها إلا العوائد مصرفاً
    (لِمَنْ تجمع الدنيا إذا لم ترد بها)
    لمن تجمع الدنيا إذا لم تنل بها
    هنيئاً فهذا المجد والسؤدد الذي
    وسخَّر أهل الشرق قاطبة لكم
    على رسلكم لا تقبلوا نصح ناصح
    فإن تصبحوا أضحوكة لا يضركم
    فما المجد إلا أن تعيشوا بذِلَّة
    وما الفخر إلا أن تسودوا تؤهُّما



  • وحق لذى الاقدام ان يتقدما
    يرى بالمعالي مستهاما متيما
    ويقضي طويل العمر مستهترا بما
    ومن هائم باللحظ والثغر واللما([15])
    بجاه وميّال مع النفس حيثما
    فما تركت مطربشا([16]) او معمما
    تريناً زبيباً قبل أن يتحصرما
    غدا علما من كل صوب مُيمما
    الى ذاته اعمال من قد تقدما
    تناول منه خشية الفقر درهما
    على نصحه لم تلف في الارض مسلما
    ابيا ولم اُلفِ امرأً منه اكرما
    ورمت فاعياني فتى منه احزما
    وبالجد في كل المحامد أسهما
    وبالعلم والتقوى على غيره سما
    ولا فخر الا كان فيه المقدما
    أذى الذل حتى لمحة الطرف رَيْثَما
    إذا عبس الدهر الخؤون تبسما
    فلاقى الذي يلقاه ذو العزم منهما
    بل استن حتى صار أنكى وأصرما
    واشفق إشفاق الغيور على الحمى
    فصاح به في الشعب جهل تحكما
    يرون التمادي في الجمود تقدما
    قصوراً ويفتنوا شراباً ومطعماً
    ولستَ بهاد مَن عن الحق في عمى
    تجشم في إصلاحه ما تجشما
    يرمم من بنيانه ما تهدما
    (بجاوة) ألفاها أضرَّ وأشأما
    أضاعت مزاياهم وجهلاً مخيما
    ويبكي حنوّاً كل ذي مقلة دما
    هواه بأنواع السموم مُسَمَّما
    فلو قُطعَتْ أوصاله ما تألما
    وحط على جرثومة الداء مرهما
    بها مزعج الأحلام عاد فَهَوَّما
    فشاد بناءً للفضائِل محكما
    لأبنائنا نحو السعادة سُلَّما
    وقوَّم معوجّاً وعَرّب أعجما
    بها الأرض إذ شرفْتها باهت السما
    وكم فوّقت نحوي ونحوك أسهما
    غفرنا لها من ذنبها ما تقدما
    به الغرس ميمون الطوالع قد نما
    لمستقبل الأيام جيشاً عرمرما
    رأينا شعور الشعب فيها مجسَّما
    ـزمان ويستقضيه بالعنف مغرما
    ـجنَان وما تروي الشجاعة عنهما
    وعلَّمت جهالاً وأيقظت نُوماً
    وشجعت أنصاراً وأسكت لُوَّما
    عدمت لساناً عن علاك مترجما
    يرى فوق هذا الفضل فيك مسلّما
    فلا عجباً ان ينكر الشمس ذو عمى
    إذا هم يوماً بالكلام تكلما
    ـفصاحة من قد كان بالعي ملجما
    تصير بها الألفاظ شعراً منظما
    فأشعر عند النطق أنَّ بفي ما
    يحاول أن يستوضح الناس مبهما
    سواك وإن ألفيت لم ألف أعظما
    فأنطقته بالشكر إذا ظل أبكما
    تأخر عن حسن الوفاء وأحجما
    يراها ذُعاف السم والبعض بلسما
    تخلى لنظم الشعر يطري معَلّما
    بحق وتعليم البليد ليفهما
    وإن كان تذكار المصائب مؤلما
    عيونٌ ترى جوَّ السياسة مظلما
    ترون بها صرح الأماني محطما
    فألقى على أهليه غازاً مُنوّما
    فشيبه قبل الشباب واهرما
    تراثاً بشرع الأقوياء مقسما
    زمان به أضحى القوي محكما
    وهذا لهيب النار في الدار اُضرما
    وأنى يجاري جاهلٌ من تعلما
    فما زال بطن الأرض للعار أكتما
    وإن نِلتُم منه القليل المرجما
    ولا تتقنوا بالعلم إلا التكلما
    لاصلاحكم إلا الأذى والتبرما
    أذاقكُم شهْداً أذيقوه علقما
    وما يورث الشعب الأسى والتندما
    وليس لها إلا الموائد مصرما
    وليمة عرس أو ختاناً ومأتما
    قضاء مراد النفس أو تسفك الدما
    به الحظ وافاكم موفّىً متمَّما
    وجاءكم الغربيُّ عفواً ليخدما
    وظنوا السراب الماء والخسر مغنما
    وقولوا مديح إن سمعتم تهكما
    وما الفخر إلا أن تسودوا تؤهُّما
    وما الفخر إلا أن تسودوا تؤهُّما





في عام 1924 ترأس الاستاذ ابن هاشم اول بعثة علمية من نوعها من اندونيسيا الى القاهرة تظم 17 طالباً للالتحاق بجامعات مصر، وكان الاستاذ عبدالله بن نوح احد اعضاء هذه البعثة وكان عمره لا يتجاوز الثانية والعشرين، نجح افراد هذه البعثة وعادوا الى وطنهم اندونيسيا وهم خير قادة للامة الاندونيسية.



مرت الاعوام والسنون واذا بنا نسمع نبأ نعي وفاة الاستاذ ابن هاشم. انتشر النبأ المؤلم في المهجر الشرقي وتأثر من هذا النبأ اصدقاؤه وزملاؤه ومقدرو فضله فاقاموا له الفواتح في كثير من بلدان اندونيسيا، وأبنه ورثاه الكثير في مقدمتهم تلميذه الوفي استاذ عبدالله بن نوح بهذه المرثية بعنوان (الى روح المرحوم السيد محمد بن هاشم):







  • بكى القلب حزنا من وفاة محمد
    لهونا فكان النعي ابلغ واعظ
    فلما نعى الناعي افقنا كانما
    كأن لم يكن منا رحيل ولم نقف
    كأن لم يكن بين المنازل والربى
    كأن لم نكن في الركب من عهد آدم
    كأن لم نكن في الفلك والبحر مائج
    كأن لم يمت شيخ ولم يمض شادن
    وفيت فلما جزتها يا ابن هاشم
    تذكرت عهدا والعهود مواثق
    لعمرك ليس العيش حلما لنائم
    ورب دفين في التراب وذكره
    مضيت ولكن المكارمَ حضّر
    خلود فلا اخلاد منك ترفعاً
    فَخُلصّتَ من دار بلينا بدائها
    وكنت لنا هديا فانجبت بيننا
    محمد، اما كنت فينا محمدا
    عليه سلام الله يتلو صلاته
    وتبقى لنا ما غرد الطير في الربى
    واحيا الدجى ليلا نِداء الموحد



  • سليل المعالي والاثيل المؤبد
    وتهنا فكان الموت اهدى لمهتد
    حياض المنايا ما خلقن لرود
    على راقد في ضمن قبر ملحد
    شجون ولا تذكار حزن مردد
    على متن هوج وسط قفر مجرد
    على لجج سود واُفق ممدد
    ولم يفن فتان بخد مورد
    توفيت في اوج الوفاء المجدد
    فيا لهفي من ذكر عهد موكد
    ولكنه في كل باق مخلد
    ضياء مدى الدهر الطويل الممدد
    عوالي غوالي كاملات كخرَّد
    الى الارض للعيش الكثيف المجسد
    سموم افاع او مكائد حُسّد
    نجوما واقمارا تضيء لقصد
    فذاك لعمري من ابيك محمد
    تعم ذوي الطهر العلي الممجد
    واحيا الدجى ليلا نِداء الموحد
    واحيا الدجى ليلا نِداء الموحد





السيد علي بن احمد بن شهاب



زعيم وسياسي محنك، مصلح كبير، ترأس عدة حركات سياسية وهو من رجال الفكر ومن رواد النهضة الاصلاحية، قاوم الاستعمار الهولندي مقاومة فعالة ولا غرابة اذا تعرض لضغوط من استنطاق الى محاكمات وكان يراسل جريدة المؤيد التي تصدر من القاهرة لصاحبها السيد علي يوسف. كما يراسل صحف الشام وتركيا بجانب ما كان يكتب للصحف المحلية، يكشف فيها سوءات الاستعمار الهولندي في اندونيسيا وبريطانيا في ماليزيا وما تعانيه شعوب تلك المناطق من امتهان واستعباد واستنزاف خيرات البلاد باعمالها التعسفية، وكان لتلك المقالات صدى عظيم. وتضايقت هولندا من تلك المقالات المتوالية. وهذه من الاسباب التي جرته الى المحاكمة.



صلاته وثيقة بالزعيم الوطني مصطفى كامل رئيس الحزب الوطني وبالاستاذ عبدالقادر قباني صاحب صحيفة ثمرات الفنون ومع الاستاذ حسن الطويراني بالقاهرة، كما ان له بالشام وتركيا اصدقاء كثيرين.



والسيد علي خطيب بارع وله اسلوب خطابي معروف يهيج مشاعر السامعين وهو يهوى الرحلات. زار تركيا مقر دولة الخلافة قبل الحرب العالمية الاولى ومكث بها مدة من الزمن. اتصل خلالها بولاتها وزعمائها وبكثير من اعضاء مجلس المبعوثان (البرلمان) من البلدان الاسلامية، وكان يشرح لهم اوضاع المسلمين في بلدان شرقي آسيا وما يلاقونه من ظلم واستعباد. دخل مصر عدة مرات لكي يلتقي باصدقائه ومعارفه كما زار المغرب والشام والعراق والحجاز وادى فريضة الحج ودخل الهند عدة مرات وبلدان الملايو وسنغافورا. اما بلدان جنوب الجزيرة العربية فقد تأهل بها وتزوج من بناتها على رغم انه من مواليد جاوا وينتهز دائما في كل رحلاته الفرص للاجتماع بقادة الاحزاب السياسية وزعماء الامة ورجال الصحافة للتباحث معهم وشرح الاوضاع السيئة التي تعانيها شعوب تلك المناطق من ظلم وطغيان الاستعمار وما يمكن من تنسيق اعمال لدرء مفاسد الاستعمار وكيفية تنفيذ تلك الاعمال الموجهة ضد طغيان الاستعمار وقد تم الاتفاق على:



1 ـ تنسيق الاعمال ضد الاستعمار.



2 ـ تبادل الانباء والزيارات من الشخصيات.



3 ـ الاهتمام بالنشء من الجيل الصاعد بإعطاء المنح الدراسية.



4 ـ على دولة الخلافة ودولة مصر فتح ابواب مدارسها لطلاب العلم من جنوب شرقي آسيا.



5 ـ توثيق العلاقات التجارية بين مسلمي جنوب شرقي آسيا ورجال الاقتصاد في تركيا ومصر.



بعد عودته الى جاكرتا من رحلته، جمع رجال النهضة وقدم لهم تقريرا مفصلاً عما قام به من اعمال وما تم من الاتفاقيات الاصلاحية وشرح لهم اوضاع المسلمين في كل بلد زاره واجتماعه ببعض زعماء الامة ووجهائها ورجال الصحافة والعلماء، على ان تستمر هذه الاتصالات بالرسائل وتبادل المعلومات.



كان علي بن احمد صاحب مشاريع اصلاحية وهو من روادها الاوائل، له طموح في انهاض الامة. انتخب بالاجماع ليرأس جمعية خير في اول عهدها عند تأسيسها، وهو خطيب اجتماعي معروف وممن يهتم بالايتام واقترح على زملائه اقامة وتأسيس دار للايتام باسم (دار الشفقة) ثم وضع النظام الاساسي والاداري، ولم يمض وقت حتى اُخرج المشروع الى حيز الوجود.



كان يأتي اليه رجال الاعمال والزعماء ورجال الجمعيات والشخصيات البارزة يستشيرونه لغرض الاستنارة بآرائه، فلا يضن عليهم ويزودهم بآرائه ونصائحه وحث الجميع على الاهتمام بنشر العلم وبناء دور التعليم وتشييد المعاهد العلمية وتنمية الاقتصاد وتقويته واحياء روح ا لاعتزاز بالنفس وعدم الشعور بالنقص خصوصاً امام الاوروبي، ومقاومة الاستعمار والمستعمرين ومحاربة الالحاد والملحدين.



له مؤلفات في التاريخ والتربية وفي مسائل اجتماعية، طبع منها كتاب واحد وهو (الثلاثة الابطال) في التاريخ الاسلامي باللغة العربية وترجم الى اللغة الاندونيسية وهو من سلسلة التاريخ الاسلامي، وقد قررت الهيئة المركزية لجمعية خير تدريس هذا الكتاب في جميع مدارسها ومعاهدها، اما مؤلفاته الاخرى فلا تزال مخطوطة، وتولى شرح ديوان الشاعر الحضرمي عبد الحق وقام بطبعه عام 1356هـ .



وقد توفي في أواخر عهد الاحتلال الياباني لاندونيسيا، وقبل استسلام اليابان للحلفاء بثلاثة أشهر، وذلك في شهر كانون الثاني 1945.



السيد احمد بن عبدالله السقاف



هو شاعر المهجر الشرقي والكاتب الاديب العبقري الفذ والمربي الناجح. اسس في حياته عدة معاهد اسلامية وتولى ادارة بعضها واشرف بنفسه على التدريس فيها. وهو لطيف العشرة، بعيد النظر مستميت في حب آل البيت النبوي الطاهر ومتمسك بتعاليمهم ويطبق فقههم عملياً بحذافيره.



له عدة مؤلفات تاريخية وقصصية وروايات وبحوث علمية وله ديوان.



اما كتبه المطبوعة فهي:



1 ـ خدمة العشيرة



2 ـ فتاة قاروت



3 ـ الصبر والثبات



4 ـ عاقبة التساهل



5 ـ الديوان



وله مؤلفات اخرى لا تزال مخطوطة منها:



1 ـ تاريخ سلطنة بانتان



2 ـ دخول الاسلام الى اندونيسيا



3 ـ تاريخ الدعاة



اصدر مجلة الرابطة وتولى رئاسة تحريرها، وهي من المجلات العلمية. واسس مطبعة في جاكرتا لطبع الكتب والتراث الاسلامي.



ليس كل قصائده مثبتاً في ديوانه المطبوع، فإن له قصائد اخرى كثيرة حكمية وحمينية لم تثبت في الديوان وهي متناثرة هنا وهناك في المجلات والصحف، وكان المرحوم قد جمع قصائده الحمينيات في ديوان خاص ولا يزال مخطوطاً. اما ديوانه المطبوع فهو ما تسنى للاستاذين محمد ضياء شهاب وسقاف الحبشي جمعه بعد وفاة الشاعر احمد السقاف وقد تولت مكتبة الارشاد للطباعة والنشر بجدة طبع هذا الديوان في بيروت الطبعة الاولى والثانية، بطباعة جيدة متقنة.



الاستاذ احمد السقاف ممن يفتخرون بانه من خريجي مدرسة السيد ابن شهاب ويعتز دائما في احاديثه ومجالسه مستشهدا باقوال استاذه ولا غرابة ان يكون نبأ وفاة السيد ابن شهاب الصدمة الكبرى في حياته وكان التأثير في نفسه عميقا، فرثى استاذه بمرثية طويلة مثبتة في مكان آخر من هذا الكتاب.



تاقت نفسه وهو في شيخوخته إلى العودة الى وطنه بعد ان قضى نصف قرن في المهجر الشرقي صال فيه وجال وخدم المجتمع وشيد دور العلم ونشر اللغة العربية فكانت اعماله ناجحة وازدهرت واثمرت، وما كان الناس يودون فراقه لو لا شوقه الى وطنه الذي تركه وهو في عنفوان شبابه ومقتبل عمره، وسيعود اليها وهو في شيخوخته. وجد الجد فعزم على السفر واعد العدة وجمع كل ما يحرص عليه في حياته وركب الباخرة متوجهاً شطر وطنه حضرموت. وشاء الله ان يختاره الى جواره في عرض البحر وكان ذلك في عام 1369هـ ـ 1946م وكان آخر ابيات قالها وهو يودع المهجر الشرقي المرعى الخصيب ما مطلعها:







  • وداعا ايها المرعى الخصيب
    ففيك العيش اضحى لا يطيب



  • ففيك العيش اضحى لا يطيب
    ففيك العيش اضحى لا يطيب




ترك وراءه عدة ابناء عبدالله وصالح ومحمد وغيرهم وقد نبغ محمد وهو شاعر كأبيه وهو من رجال الحزب الوطني الاندونيسي، تولى عدة مناصب رفيعة في وزارة الاعلام واشرف على قسم الاذاعة العربية من يوم تأسيسها وكان يكتب ويشارك في تحرير مجلة الشؤون الاندونيسية، عين ملحقا اعلاميا في السفارة الاندونيسية بالقاهرة عدة اعوام. وكانت صلاته بزعماء مصر وثيقة كما كانت صلته وثيقة بسماحة الحاج امين الحسني رئيس الهيئة العليا لشؤون فلسطين وانتخبته حكومة اندونيسيا عضوا في كثير من وفودها وبعثاتها.



اما شعره فمن الرقيق الممتاز وقد ورث الادب والشعر من ابيه. وعندما فاز الحزب الوطني الاندونيسي في الانتخابات العامة عام 1955 وعين علي ساسترو امين جويو رئيسا لوزراء اندونيسيا القى الاستاذ محمد بن احمد السقاف قصيدته العصماء مهنئا الحزب الوطني الاندونيسي ورئيسها بهذا الفوز والنصر المبين.



الشيخ صالح بن سند الكثيري



هو احد زعماء قبيلة بني كثير التي ترجع في سلسلة نسبها الى قبائل الشنافرة الهمدانية، وهو بطبيعة الحال ينتمي الى الاسرة الكثيرية صاحبة الدولة والسلطة الحاكمة بمنطقة حضرموت الداخلية. وللدولة الكثيرية تاريخ طويل اذ حكمت البلاد اكثر من سبعمئة عام. وقد اسهب الاستاذ ابن هاشم في كتابه (تاريخ الدولة الكثيرية) في تاريخ هذه الدولة في جزءين، والكتاب مطبوع بالقاهرة عام 1957. والدولة الكثيرية دولة عريقة وذات جذور عميقة في جنوب الجزيرة العربية. ولكن بريطانيا قضت عليها قضاء ملؤه الحقد والكراهية انتقاما منها، فانهارت اثر تسليم بريطانيا زمام الحكم لزمرة صغيرة من الشيوعيين، عندما ارادت بريطانيا مغادرة محمياتها في جنوب الجزيرة ومستعمراتها في عدن، سلمت البلاد بردا وسلاما بجميع قواتها المسلحة الى ايدي تلك الشرذمة الماركسية، مثلما سلمت فلسطين لليهود عام 1948 وسلمت بريطانيا سنغافورا الاسلامية الى ايدي الصينيين عام 1976 فأفسدت البلاد وطغت على العباد. وهكذا طبقت التعاليم الماركسية والاحكام الشيوعية بالقسوة، فاحتضنتها روسيا ووجدت موطئا لقدمها في الجزيرة العربية وهيمن الاتحاد السوفييتي المنحل مباشرة على تلك المناطق، واصبح حكام البلاد كقطع لعبة الشطرنج في ايدي حكام السوفييت، وليس لاهل البلد امر او حول الا ما يقوله السفير السوفييتي الحاكم المطلق.



الشيخ صالح بن سند زعيم آل الكثير في المهجر الشرقي، وهو من القوميين الاقحاح، ترأس (الهيئة المركزية للجمعية الكثيرية الشنفرية العربية الاسلامية الاصلاحية) بجميع فروعها واقسامها المنتشرة في جميع المهجر الشرقي وهو المشرف المباشر لجميع معاهد ومدارس الكثيرية.



انتخب الشيخ صالح بالاجماع ليرأس الوفد الكثيري من المهجر الشرقي لمفاوضة الدولة الكثيرية بحضرموت في جميع الامور الاصلاحية بالوطن، وسافر الوفد من اندونيسيا برئاسته وجملة من اعضاء الوفد المنتخبين متوجها الى حضرموت واستقبلته الدولة استقبالاً فخما وحل الوفد ضيفا على الدولة طول اقامته بحضرموت. وقد جرت مفاوضات وتم الاتفاق واتخذت القرارات الاصلاحية في الوطن مما بشر الجميع بالخير للامة الحضرمية.



يعتز الشيخ صالح بن سند ويفتخر بانه ممن تلقوا عن السيد ابن شهاب ويذكر ذلك بكل اعتزاز في احاديثه الخاصة والعامة، ولا يذكر اسم السيد ابن شهاب الا بالتقدير والاجلال وبأنه رائد النهضة الاصلاحية بحق وباعث الروح الاسلامية بين الشعوب في المهاجر الشرقية، ويقول الشيخ صالح بن سند إنه في جميع اعماله وخطواته يحذو حذو السيد ابن شهاب. وكثيرا ما يستشهد الشيخ صالح باقوال السيد ابن شهاب.



يحدث الشيخ صالح عن نفسه في مجالسه كيف كان اتصاله بالسيد ابن شهاب قائلاً:



كنت تواقا للتعرف إلى السيد ابن شهاب. قبل لقائي به ومعرفتي اياه مباشرة كنت اسمع عنه كثيراً، ومن حسن حظي كانت الصدف متاحة لي فاجتمعت به وانا لا ازال شابا في مقتبل عمري، فهالتني شخصيته وامتلأ في عيني فاكبرته، سمعت كلامه وهو يتحدث فأعجبني حديثه لما حواه من حكم ومعان جليلة وآراء نيرة سديدة، فتحت امامي آفاقا جديدة واسعة تشفي العليل فما وددت مفارقته. لقد استعظمته فقدرته واحببته من اول جلسة سمعت فيها حديثه، فلازمته واستفدت من ملازمتي له، وكانت معاينتي له فاقت ما كنت اسمع عنه من الاخبار والاحاديث، حقا انه رجل زمانه، راجح الفكر بعيد النظر مع سمو اخلاقه وعلو همته فكلامه طلية لا يمل، ويستفيد منه كل سامع مُصغ اليه، ولا عجب ان يقدره ويجله ويعظمه كل من اجتمع له. فهو استاذي وقدوتي.



كنت أرى السيد ابن شهاب دائماً يفكر ويعمل ويكافح ويجاهد في سبيل مصلحة أمته ومن أجل شعبه وسعادته في جميع المجالات بما في ذلك مجال التربية والتعليم والتهذيب. فأنا اشعر بالسعادة التامة حين مجالستي له، واستماعي لحديثه واستفيد منه، فاواظب على حضور دروسه ومحاضراته التي يلقيها على جمع من طلبة العلم ورجال الفكر او على مجموع الشباب المثقف المتنور. كنت اشعر بالغبطة والسرور لاني كنت ممن اسعدهم الحظ ـبتوفيق من اللهـ ان اكون بين هذه المجموعة الطيبة من الشباب المتنور، تلك الفرصة الطيبة التي كسبتها واستفدت منها، كانت لي الركيزة الاولى والمشعل النير، أضاءت السبل وانارت لي الطرق التي اسلكها الآن وانتهجها في حياتي وجهادي. فتلك الفرصة الذهبية كانت لي اعظم فرصة في حياتي الطيبة التي لا تقدر بقيمة أبداً. فلقد انارت لي المحجة.



هكذا يقول الشيخ صالح بن سند الكثيري بكل فخر واعتزاز مؤكداً ان علاقته باستاذه السيد ابن شهاب مستمرة متواصلة حتى آخر ايام حياته.



بعد عودة الشيخ صالح بن سند من حضرموت رئيساً للوفد الكثيري، قدم تقريرا ضافيا للجمعية الكثيرية التي اوفدته قال:



على رغم النجاح الذي احرزه الوفد في مفاوضته مع الدولة الكثيرية واتخاذ تلك القرارات الحازمة الموفقة التي نؤمل ان تنفذ وتطبق بحذافيرها في القريب العاجل، فاني اتوجس خيفة من وجود شرذمة ماركسية، فهذه الشرذمة اراها كالسم في الجسم او كالنار في الهشيم، فان الحريق إنما هو من الشرر الصغير، وقد حذرت المسؤولين في الدولة وبعض الاخوة ممن لهم مكانة في المجتمع من عواقب هذا التساهل والاهمال، فان عواقبها وخيمة، إن عدم الادراك والنظر البعيد بعين ثاقبة الى هذا الخطر الداهم من الزحف الماركسي ومؤامراته التوسعية يجرّ إلى تقويض الدولة واحتلال البلاد واستعباد الشعب، فالماركسية لا تسالم احداً ولا تتسامح مع احد ما لم يدُرْ في فلكها وينضوِ تحت عقيدتها ويتماشَ مع سياستها، ومن شذ عنهم فهو الضحية الاولى.



ولكن لرجال الدولة ووجهاء الامة وجهة نظر مبنية على الديمقراطية، فالضغط يولد الانفجار بل يجر الى الاعمال التخريبية، أو العمل من وراء الستار خفية، ومن الحرية ينطلق وينبعث الاصلاح ولكل في الحياة رأيه ووجهة نظره، ولن يبقى ولن يدوم إلا الأصلح.



حاورتهم جميعاً وكان وجهة نظرهم عن الديمقراطية والحرية هي الخطأ التام بعينه، وكررت لهم جمعياً أنه اذا استمر التساهل فسيأتي يوم تسيطر الماركسية على الدولة وعلى مقاليد الامور بالقوة وتقضي على الاوضاع الديمقراطية وتعكس الحياة الاجتماعية لتصير هناك دولة ماركسية تقوم على انقاض الدولة المبادة، وما اكثر الحوادث والعبر. ولكن رجال الدولة وبعض قادة الامة يرون من كلامي التشاؤم وقالوا لي إنني انظر بمنظار اسود قاتم وانني اجعل من الحبة قبة وانني غير متفائل في شيء، وهم ينظرون الى هذه الامور أنها بسيطة جدا بل وانها مما يقوي دعائم الديمقراطية في البلاد وان الشعب سيرى الخير ويرى الشر، وفي العالم الديمقراطي لا تعيش إلاّ الديمقراطية ويحتجون ببريطانيا ففيها الحرية التامة فالشعب لم يختر الاّ الديمقراطية وان الشيوعية لم تجد لها موطئ قدم فيها وهكذا فان الماركسية والمبادئ الاخرى كلها في طريقها الى الزوال والفناء في هذه الدولة الكثيرية الديمقراطية. هكذا كانت عقيدة الحكام في الدولة الكثيرية وفكرة وجهاء الامة فيها. ولكني لبثت اكرر في كل حديثي معهم وفي جلساتي واجتماعاتي بهم الخاصة والعامة احذرهم من مغبة التساهل والاعتماد على الفكرة الديمقراطية الخاطئة، وأبنت لهم كيف ان المؤامرات تحاك من كل جانب وان الفتن تبذر في كل محل لتمزيق الشعب الى كتل صغيرة ضعيفة وتشتيته بالافكار والمفاهيم الجديدة المستوردة، ولا يكفيهم ذلك بل ويثيرون المسائل الفرعية الدينية الخلافية لاشغال الامة بالخلافات الجانبية التي تقوض دعائم الدولة الحاكمة لتحطيمها وازالتها من الوجود.



وعلى اثر هذه المحاورات راجعت المسؤولين في الدولة الكثيرية مرة اخرى بصفة رسمية لاجراء مباحثات ومفاوضات خاصة تتعلق بهذا الموضوع الذي اراه في غاية الاهمية ويرونه من توافه الامور التي لا تستحق الاهتمام بها مطلقا.



وباسم الوفد الكثيري الذي يمثل رسميا الهيئة العليا للجمعية الكثيرية باندونيسيا وبالمهاجر الشرقية عقدت مباحثات اخرى لدرس هذا الموضوع دراسة عميقة، واتفق الجانبان بعد مباحثات اولية على وضع النقاط وحصرها حصراً في هذا الموضوع بالذات ولحل القضايا الاخرى وتمت المفاوضات بين الوفد الكثيري القادم من المهجر وبين مندوبين من الدولة الكثيرية، وفي الاجتماع الاول قدم الوفد مشروعه الاصلاحي العام خصوصاً فيما يتعلق بالامور الداخلية للدولة الكثيرية بيقظة تامة وعدم التساهل في مواجهة المبادئ والمفاهيم الوافدة من الشيوعية والماركسية، وعندما بدأ النقاش في هذا الموضوع شعر الوفد بهيمنة النفوذ البريطاني الذي يدعي المسؤولية التامة لهذه المناطق الواقعة تحت حمايته، وبدأ سير المفاوضة في تلجلج مصطنع وان الهيمنة البريطانية واضحة وهي تسيطر على الاوضاع السياسية كما تعرضت الدولة الكثيرية لضغوط قوية عرقلت سير المفاوضة ووضعتها في طريق مسدود، وما دام الطريق مسدوداً فالحل مفقود. وتوقفت المفاوضة ولم يستطع الوفد مواصلة عمله بعد هذا الحد على رغم ما بذلت من الجهود لمواصلة سير المفاوضة ولكنها باءت بالفشل الذريع، وعاد الوفد الكثيري من حيث اتى وهو يعاني من حسرة ما بعدها حسرة.



ودار الزمن دورته، وتطورت الامور، وانقلبت الاوضاع بشكل غريب وتحققت فراسة الشيخ صالح بن سند الثاقب في ما كان يتوجس منه خيفة وما كان يرى من خطر للشيوعية التي استشرت وصار ما صار في البلاد واستولى الشيوعيون على مقاليد الحكم وازيلت الدولة الكثيرية وانقلبت الامور وانعكست الاوضاع، فإذا السلطان الكثيري لاجئ في جدة ورجال الدولة في السجون والعلماء والشخصيات المعروفة يساقون الى ساحة الاعدام، وهكذا ازيلت الدولة الكثيرية من الوجود.



لقد نبّه الشيخ صالح بن سند المسؤولين في الدولة بما فيهم السلطان نفسه، حسين بن علي الكثيري من مغبة التساهل ولم يكتف الشيخ صالح بن سند بتنبيههم فقط بل انذرهم بالويل ان لم يفيقوا من خيالاتهم الديمقراطية ويتداركوا الامور قبل استفحالها.



صالح بن غالب القعيطي



هو ولي عهد السلطنة القعيطية، ينوب عن ابيه في ادارة البلاد بحضرموت الساحلية من الجنوب اليمني، درس على يد السيد ابن شهاب وتفقّه في مسائل اصول الدين وتعمق في دراسة علم الحديث بجانب دراسته لفنون الادب، كان ذا شخصية قوية وروح فياضة طموحة سامية لتطوير وضع ا مته ساعياً لتحقيق النهضة الاصلاحية بنشر العلم ومحاربة الجهل المخيم على امته تحقيقاً شاملا في اطار السلم والتوادّ والاتحاد.



له مؤلفات علمية مطبوعة، يتحدث باسترسال وباسلوب جذاب مؤثر على السامعين، وكانت مجالسه مجالس علمية تدل على موهبته الواسعة واطلاعه على مجريات الاوضاع الدولية والاجتماعية العامة، وهو رحب الصدر حسن الاخلاق بالرغم من كونه ولي العهد في السلطنة، لانه تتلمذ على يد السيد ابن شهاب وكان من الملازمين له. يقول هذا الامير انه استسقى من معين صاف لا ينضب هو معين استاذه السيد ابن شهاب وان ملازمته لاستاذه هي التي افادته.



كان السيد ابن شهاب يرى في هذا الامير الخير، ويأمل منه وعلى يده الخير لوطنه وامته ولكن السيد ابن شهاب يخشى عليه من بطانة السوء التي تحيط بوالده، خصوصاً اذا اسندت اليه السلطة وتولى الحكم، فعاقبة السوء لا محالة واقعة عليه، وكثيراً ما حذره استاذه أن عليه ان يكون يقظا واعيا من تلك الثلة، ثلة السوء، عملاء بريطانيا المستعمرة، وبريطانيا تنفي انها مستعمرة وتدعي أنها حامية لا غير. وللسيد ابن شهاب قصيدة في هذا الامير الشاب وتلميذه الذي يرجو على يده الخير ومطلعها:







  • ذهبت الى منازلة الاسود
    وذلك ما ورثت من الجدود



  • وذلك ما ورثت من الجدود
    وذلك ما ورثت من الجدود




والقصيدة طويلة يجدها القارئ في المجموع من قصائد السيد ابن شهاب في موضع من هذا الكتاب.


/ 8