بسم الله الرَّحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد رسول الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اتبعه ووالاه. اما بعد فقد وصل اليّ سؤال من احد المحبين وفقه الله للخير ودفع عنه الضير وهذه صورة السؤال بحروفه.
ما قولكم في ان الحقير قد وقف على الرسالة المسماة بالنصائح الكافية للفاضل الحبيب محمد بن عقيل وحيث انكم المؤيدون لها والداعون اليها واني بعد النظر والتأمل رأيت انها كالفتوى على السؤال الذي صدرت به الرسالة وهو ان بعض العلماء قال: ان من يلعن معاوية اقل خطراً ممن يترضى عنه فهل هو مصيب في ذلك أم مخطئ وحيث ان بعض العلماء اجاب بانه مخطئ بلا شبهة قام السيد محمد بن عقيل وانتصر للمفتي الأوّل وكانت الرسالة المذكورة هي في الحقيقة كالجواب عن هذا السؤال وانا لا اريد ان اتكلم بما اطال به صاحب الرسالة مما لا تعلق له بهذا السؤال أصلاً. ولكني اريد ان اعرض على شريف مسامعكم اشياء لا تزال تتوارد على الخاطر لا سيما وقد سمعت في يومي هذا تقول من جعل كتاب الله حكماً فلا يضره من ناوأه أو نحو ذلك. ومن الاشتباه (هكذا) انه من الثابت ان اللعن ينقسم إلى اقسام ومن يطلق عليه اللعن كذلك. واسباب اللعن متفاوتة. فمنها جلية ومنها خفية والناس في معرفة هذه الاسباب ايضا متفاوتون ومعاوية الذي وقع السؤال عن لعنه او الترضي عنه قد فات ومات. ونحن لا نعرف شيئاً من اخبار الماضين الا بما نقل الينا وليس الخبر كالعيان وليس هو ممن نص الله ولا المعصوم الصادق(صلى الله عليه وآله وسلم) على لعنه وغاية ما كتب صاحب هذه الرسالة ان يكون قد حاول دخول معاوية في عمومات ولا يخفى ان ما يستدل عليه بالعمومات ان يكون مظنونا او خطأ محضاً لا سيما وقد خصص العمومات بنقل المؤرخين وغالبها كالاسرائيليات لاشتمالها على الغث والسمين او يكون قد حاول مسألة اجتهادية يجوز أن تخفى على بعض الناس بل على اكثرهم وما كان كذلك كيف يكون الخطر في تركه اكثر مما لا خطر فيه البتة وهو الترضي؟ لان الترضي طلب الرضوان من الله تعالى والمشتبه امره ومجهول الحال على اكثر الناس والمختلف في حاله لا سيما ثبوت إسلامه كيف يكون المترضي عنه في خطر اكثر من خطر من يلعنه؟ او ليس قد ثبت عن الصادق المعصوم(صلى الله عليه وآله وسلم) استغفاره للمنافقين وهو وان نهاه الله تعالى عن الاستغفار لهم فمن البديهي انه لم يكن المانع له(صلى الله عليه وآله وسلم) مجرد الذنوب فهذا لم يقله مسلم بل هو انما كان المنع للنفاق وما ابطنوه من الكفر ومن المقرر ان المذنب والفاسق تحت مشيئة الله تعالى ومما يشفع فيه الشفعاء وقد قال(صلى الله عليه وآله وسلم): شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي وقد اجمع المسلمون على الاذعان بان صلاة الجنازة مسألة مشروعة على ما سوى الكافر من كل بر وفاجر، ومن الادعية المأثورة فيها ان يقال: اللهم اغفر له وارحمه واكرم نزله وارضه وارض عنه إلى غير ذلك من الادعية الواردة المأثورة. ومعلوم اني لا اعرف وجه الخطر في الترضي عن الفاسق المعلوم المتفق على فسقه فما بالك فيمن اختلف في فسقه او اختلف في سبه وجوازه مع وجود الالفاظ الذي ذكرناها في صلاة الجنازة. وفوق ذلك كله ان صاحب الرسالة المذكورة معترف باسلام معاوية ولم يثبت ردته ولا كفره ولا مروقه، فأذا ثبت سيدي باتفاق منا ومن صاحب الرسالة اسلام معاوية ولم يثبت إلاّ الاختلاف في فسقه فما الذي يوجب الخطر في الترضي عنه؟ بل لو سلمنا كما زعمتم بفسقه اما كان الأولى والاحرى بالصواب جواز الاستغفار الذي الترضي فرد من بعض افراده ان لم يقل صاحب الرسالة بندب ذلك كما قال به غيره من المسلمين وكما امرنا الله به فلا اقل من ان يقول لا خطر، لان الله تعالى قد امرنا به في غير ما آيه وكما قدمنا في صلاة الجنازة والشفاعة والدعاء وغير ذلك واما ما استدل به من لعن بعض المعاصرين فهو بعد حمله على لعن دون لعن فلعل لهم في ذلك مصلحة أو تأويلاً لان ذلك انما كان زمن حياته واما بعد الموت فانا نرى ان الداعي باللعنة اي بالطرد مناقض الداعي الشافع والمستغفر اللذين هما مقام محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة وان كل مسلم لا يسعه إلا التأمين على دعائه(صلى الله عليه وآله وسلم) يا ترى ان يدعو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لأناس ونقوم على نقيضه فندعو عليهم ولا اظن عاقلا مجوزا لذلك مع انا لم نر نقلاً صحيحاً ولان صاحب الرسالة لم يثبت عن سيدنا علي انه أمر بلعن معاوية بعد موته بل الثابت عنه كرم الله وجهه خلاف ذلك وايضا المسلم الفاسق المعين لم يصح في لعنه بعد موته شيء عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم). نعم ورد لعن غير المعين وهو يجوز ان يتناول الاحياء والاموات فكذا الاستغفار والترضي عن الفاسق المعين قد ثبت بالنص فيما صح من دين الاسلام واللعن انما جاء في غير المعنيين فيا ترى ايهما مقدم على الآخر؟ وفرق بين هذا وذاك ونحن إذا نظرنا من يجوز لعن الفاسق المعين لم نر التنصيص عن أحد ممن يعتد به على معين بعد موته ولو سلمنا انه قال به احد فلا اكثر من ان يكون قوله اجتهاديا يجوز ان يخالفه مجتهد غيره ولما ذكرناه وما لم نذكره وقع الاختلاف في تجويز ذلك بين العلماء فيا سيدي حفظك الله تعالى اذا كان حال معاوية كما ذكرنا وقد مات منذ زمان وهو محسوب في اموات المسلمين الشامل لهم دعاء المؤمنين فكيف الترضي عنه والاستغفار له يكون اكثر خطرا من لعنه مع أمر الشارع لنا بالاستغفار للمؤمنين؟ بينوا لنا جوابا شافيا عن هذه الشبهات لان النفس فيها ما فيها والخوض في هذا العويص مشكل وانتم سراته والشبهة واقعة والحالة ما ذكرنا فالجواب مطلوب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وايضا تخصيص عموم الآيات بالتواريخ المخترعات هل قال به احد من مجتهدي الامة؟ بينوا لنا لان الذي في مراكز اذهاننا ان تخصيص عمومات الآيات لا يكون إلاَّ بالسنة الصحيحة الثابتة او بالاجماع ولا شك انكم أدرى من الحقير فلذا طلب البيان ليظهر الحق فقط انتهى.
فبعد ان تصفحت ذلك السؤال احببت ان اجيب عليه بما يذهب عن السائل الريب ويرفع عنه وعن كثير من امثاله حجاب الشبهة ويوضح له وجه الصواب على انه لو تأمل الرسالة المذكورة حق تأملها لم يشكل عليه ما اشكل ولظهر له الجواب جليا ولكن اسعافا ومجاراة له وحرصاً على ايضاح الحق له وارشاده اليه. اقول مجيبا عن ما يلزم له الجواب من مجمل السؤال:
الجملة الاولى
قوله: ان معاوية الذي وقع السؤال عن لعنه او الترضي عنه قد فات زمانه ونحن لا نعرف شيئا من اخبار الماضين إلا ما نقل الينا وليس الخبر كالعيان، انتهى. واقول: صدق السائل انا لا نعرف شيئا من اخبار الماضين إلا بالنقل فاننا لا نعلم معجزات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولا شمائله ولا احكام شريعته إلا بالنقل، وكذلك لا نعرف فضائل الخلفاء الاربعة واكابر الصحابة من المهاجرين والانصار الا بالنقل، ولا نعرف كفر أبي لهب وأبي جهل وعتبة وامثالهم الا بالنقل، ولا نعرف نفاق عبدالله ابن ابي وثعلبة وامثالها الا بالنقل، ولا نعرف بغي معاوية واعوانه ومخادعتهم لله ورسوله وارتكابهم عظائم الموبقات إلا بالنقل، فالنقل هو المرجع في الكل فليس لنا ذريعة لادراك الحقائق غيره، ويتحتم علينا قبول ما صح منه والاذعان به والاعتماد عليه فليكن هذا من السائل حفظه الله على بال.الجملة الثانية
قوله: وليس هو ممن نص الله ولا المعصوم الصَّادق على لعنه. انتهى. واقول ان اراد السائل بالنص هنا التصريح بلعن معاوية باسمه في القرآن فذاك صحيح، فان الله تعالى لم يلعن احدا مصرحا باسمه في القرآن الا ابليس. وان اراد النص المعتبر في الدلالة عند الاصوليين وهو كون الاستدلال بمنطوق القرآن ومنطوق الحديث فهو موجود في لعن معاوية وامثاله، فان الله جل جلاله نص على لعن الكاذبين على ربهم والظالمين والمفسدين في الارض والقاطعين ارحامهم والمؤذين لله ورسوله والمعتدين والذين لا يتناهون عن المنكر ومن قتل مؤمنا متعمداً ومن نقض الميثاق والداعين إلى النار إلى غير ذلك. وقد نص رسوله عليه وآله الصلاة والسلام على لعن من احدث حدثا او آوى محدثا ولعن من سب اصحابه ومن ضار بمسلم أو مكر به وعلى لعن الراشي والمرتشي وعلى لعن من ولي من امور المسلمين شيئاً فامر عليهم احداً محاباة وعلى لعن من لعن عمارا وعلى لعن من اخاف اهل المدينة ظلماً. وقد ثبت ذلك بالتواتر والنقل الصحيح تلبس معاوية واتصافه بجميع هذه الاوصاف المذكورة التي نص الله ورسوله على لعن من اتصف بشيء منها فكيف ومعاوية متصف وملابس لجميعها؟ والتواتر والنقل الصحيح اعظم شاهد على ذلك. وبهذا يتضح ان قول السائل: ليس معاوية ممن نص الله ولا المعصوم الصادق على لعنه خطأ ظاهر، ومن الجهل الفاضح ان نتطلب الدليل في الحكم على الاشخاص بالنص على اسمائهم ولا نعتبر بعموم الدلالة. ياترى هل نص الشارع على وجوب الصلاة والزكاة وتحريم الرباء والسرقة على فلان بن فلان اي السائل ام كان ذلك بعموم الآيات والاحاديث لا يشتبه ذلك على ذي تمييز، كيف وقد اتفق الاصوليون انه لو ورد حكم على شخص معين كان عاما في غيره فليرجع السائل ان جهله إلى مظانه من كتب الاصول.الجملة الثالثة
قوله: وغاية ما كتب صاحب الرسالة ان يكون قد حاول دخول معاوية في العمومات. انتهى. واظنه يريد عمومات من لعنهم الله ورسوله. واقول: اما دخول معاوية في عموم تلك الآيات والاحاديث فلا يحتاج إلى محاولة ولا مزاولة ومن الذي ينازع في ان معاوية كان كاذبا وظالما ومفسداً في الارض وقاطعاً للرحم ومؤذيا لله ورسوله باذيته أهل نبيه وانصاره وقاتلاً للنفوس المؤمنة بغير الحق وداعيا إلى النار كما في حديث عمار ومحدثا للاحداث السيئة وسابا لاكابر أصحاب رسول الله واكابر اهل بيته وراشياً ومحابياً بالامارة لابنه السكير الخمِّير واعوانه الذين هم من شاكلته ومخيفاً لاهل المدينة إلى غير ذلك من موجبات اللعن ومسبباته. ولكن انصار معاوية واذنابهم واتباعهم هم الذين يحاولون خروجه عن عمومات هذه الآيات والاحاديث بما لا يجديه ولا يجديهم نفعاً ولا ينهض لهم بحجة، فترى بعضهم يدعي اجتهاده وصلاح نيته وبعضهم ينكر بعض ما ثبت من الموبقات وبعضهم يتصامم ويتغافل عنها و يأمر الناس بالسكوت عنه وبعضهم يزعم ان الصحبة عاصمة له ومكفرة عن ذنوبه إلى غير ذلك من التهويسات الباطلة والتاويلات الفاسدة. وانّى يتم لهم شيء من ذلك والتواتر يدحض أقوالهم والنقل الصحيح يسخن اعينهم والقلوب المؤمنة تنفر من تمحلاتهم ونور الحق يطمس ظلمات وساوسهم والله من ورائهم محيط؟الجملة الرابعة
قول السائل: ولا يخفى ان ما يستدل عليه بالعمومات ان يكون مظنوناً أو خطأً محضاً لا سيما وقد خصص العمومات بنقل المؤرخين وغايتها كالاسرائيلات لاشتمالها على الغث والسمين. انتهى كلامه. واقول: قال الاصوليون: ان دلالة العام على افراده ظنية اي لاحتمال اخراج بعض الافراد عن الحكم بخصوص آخر كقوله تعالى: (وما ملكت ايمانكم)فما في قوله:ما ملكت لفظ عام يشمل كل امة مملوكة ولو كانت اختا او اما لكنه مخصوص بقوله تعالى: (حرمت عليكم امهاتكم واخواتكم)الآية. فيبقى الحكم ثابتاً في الباقي الذي لم يذكر في الآية المخصصة واذ اجاز اخراج شيء من افراد العام بدليل آخر يخصصه فدلالته بلا شك ظنية ولكنه ظن اقامه الشارع مقام اليقين في لزوم امتثاله وتحتم العمل بمقتضاه وهكذا غالب ادلة الفقه فان اكثرها ظنية واجبة الاتباع، فدليل وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة والتشهد ظني ودليل ربع العشر في زكاة النقد وشاة عن خمس من الابل ظني كذلك وهلم جرا، واحاديث الآحاد كلها ظنية المتن كاحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الحديث، اللهم إلا احاديث قليلة جاءت متواترة وقد ميزها الحفاظ وبينوها كحديث من كنت مولاه فعلي مولاه وحديث تقتل عماراً الفئة الباغية فتلك قطعية الورود. وحيث علمت ذلك تعلم لزوم العمل بعموم الآيات والاحاديث الدالة على جواز لعن معاوية بل ندبه واستحبابه تأسيا بكتاب الله وبرسوله وبملائكته ولعل السائل اصلحه الله نظر في بعض الكتب ان دلالة العام ظنية فتخيله ضعفاً في الدلالة فلهذا تجاوز الحد وخالف الكل بقوله: او خطأً محضاً. لا بل قوله: خطأ محضا هو الخطأ المحض والله أعلم. اما قول السائل: وقد خصص يعني صاحب الرسالة العمومات بنقل المؤرخين الخ. فعجيب، لان ما نقله صاحب الرسالة عن أهل الحديث وعن المؤرخين انما هو تعيين لافراد العام واثبات وتاييد لكون معاوية واعوانه من الداخلين في ذلك العموم، فكيف يدعي السائل أنه تخصيص؟ وكأنه لا يعرف معنى التخصيص. ولهذا نقول له: ان التخصيص هو اثبات حكم لفرد من افراد العام مخالف لحكم العام اما باستثناء في لفظ العام او شرط فيه او بدليل مخصوص خارجي منفصل كما قدمنا ذكره في الآية السابقة، فيخرج ذلك الفرد بذلك المخصص عن حكم العام وما نقله صاحب الرسالة عن المحدثين والمؤرخين ليس من التخصيص في شيء بل هو اثبات وتعيين لبعض افراد العام. ولو فرض وجود مخصص يخرج معاوية وامثاله من تلك العمومات لقلنا به، كما لو فرضنا وجود حديث بلفظ لعن الله المفسدين في الارض إلا معاوية لاخرجناه من عموم المفسدين، وكما لو جاء ان معاوية قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لقلنا به. ولكن انّى ذلك؟ بل جاء في الاحاديث الصحيحة وبالتواتر ما يثبت انه من اكابر من يستحق ما دلت عليه تلك الآيات والاحاديث والاذعان لما جاءت به متحتم فليتق الله امرئ اراد بعلمه وعمله وجه الله تعالى.
الجملة الخامسة
قول السائل: او يكون قد حاول مسألة اجتهادية، إلى قوله: مع وجود الالفاظ التي ذكرناها في صلاة الجنازة. ونقول: هذا كلام مضطرب مختل التركيب والترتيب غير انا نجاري السائل حرصاً على افادته ونقول له: اما ما تتخيلهُ وتظنهُ ان معاوية ربما كان مجتهداً طالب حق كما ادعاه له كثير من انصاره، فقد بسط صاحب الرسالة الجواب عنه بما فيه مقنع للمنصف ودحض لحجة المكابر والمتعسف. ويكفي في رد ذلك ان الاجتهاد لا يسوغ مع وجود النص وقد نص النبي عليه وآله الصلاة والسلام على بغي معاوية وخطائه في حديث عمار وغيره، وقد علمه معاوية وسمعه فكيف يسوغ له الاجتهاد بعده؟ ولكنه مراغم معاند محاد لله ورسوله نقول ذلك جهاراً رضي بذلك انصاره أم سخطوا. واما كون الخطر في الترضي عنه تعظيماً له اكثر من الخطر في لعنه فلا شك فيه ولا ريب لانا نقول: انه لا خطر في لعنه اصلاً لثبوت ارتكابه الكبائر التي لعن الله ورسوله فاعليها ولنا في رسول الله اسوةً حسنة فيكون لعنه مندوباً للتأسي بكتاب الله ورسوله وملائكته ولو لم يكن التأسي مطلوباً في خصوص هذه المسألة لما ورد مكرراً لعنة الله والملائكة والناس اجمعين. كيف وقد قال الله تعالى (اولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) وهذا امر باللعن في صيغة الخبر، واما زعم من زعم أن ترك اللعن من الورع فله رأيه في عمل نفسه وليس له أن ينهى الناس عن أمر شرعه الله ورسوله لعباده لراي رآه، وهذا الترك اقرب إلى التنطع والتعصب منه إلى الورع، وعلى قياس هذا الورع يكون الامتناع عن كل سنة اختلف فيها ورعاً ويسري في كل حكم وفضيلة احتمل بطلان دليلها. اللهم أن هذا تعطيل للدين وليس من الورع المحمود في شيء. واما التفريق بين المعين وغيره وبين الحي والميت كما زعمه بعض العلماء فقول مرجوح بل تحكم صرف لا دليل عليه، وقد بسط الجواب عنه صاحب الرسالة بما يبين فساده فليرجع إليه ثمة. واما الخطر في الترضي عنه وتعظيمه وتسويده فعظيم لما يعلمه الكل ان الترضي هو شعار الاصفياء والصالحين من العباد كما ورد في القرآن الكريم مكرراً وصار من بعد شعاراً لهم ملازماً لتعظيمهم فلا يكون لغيرهم من الفسقة وذوي الكبائر لملازمته العرفية للتعظيم وتعظيمهم مغضب للرب وسخط له كما في الحديث. وقد ذكر صاحب الرسالة من ذلك ما فيه مقنع للمنصف وكما قالوا في الصلاة على غير الانبياء استقلالاً بالمنع لانها صارت شعاراً للانبياء، فكذلك الترضي هنا فهو شعار للاكابر وذوي الفضل وليس المنع سببا عن نفس طلب الرضا عن الفاسق والظالم فقط، بل لملازمته للتعظيم الممنوع أمَّا الدعاء للفاسق بالرحمة والمغفرة وللكافر والمنافق بالهداية فلا منع فيه حيث خلا عن اقترانه بمحبة وموالاة. اما ان كان مقترنا بهما فممنوع أيضا لقوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله)ومن هذا القبيل ما ذكره السائل بما ورد في الصلاة على الميت غير ان السائل زاد فيه وارضه وارض عنه ولم اقف على هذه الزيادة في رواية صحيحة على انه لو فرضت حياة النبي عليه وآله الصلاة والسلام عند موت معاوية فالظن الغالب انه لا يصلي عليه لان علامات النفاق كلها موجودة فيه مع انه عليه وآله الصلاة والسلام امتنع عن الصلاة على رجل من أصحابه بسبب كونه مديونا دينارين لم يؤدهما وامتنع من الصلاة على احد المجاهدين معه لما اخذ من فيء المسلمين خرزاً لا يساوي درهمين، فما بالك بمعاوية الذي تعلقت بذمته الآلاف المؤلفة والقناطير المقنطرة من اموال المسلمين التي جمعها واغتصبها ظلما وعدواناً؟ وقد امتنع النبي عليه وآله الصلاة والسلام أيضا عن الاستغفار لمحلم بن جثامة القاتل رجلاً في المعركة، اسلم حين اقبل عليه محلم بالسيف فظن انه انما نطق بالشهادتين جزعاً من السيف، ولما طلب من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ان يستغفر له أبى بل قال: اللهم لا تغفر لمحلم ثلاثا. أتراه يستغفر لمعاوية الذي بغى على وصيه وسمَّ سبطه وريحانته وبدّل سنته وقتل الالوف من خيار امته بغير الحق. ثم لو كان الدعاء مشروعاً على الاطلاق كيف كان لكل مسلم لجاز ان يقال: اللهم صل وسلم وبارك على معاوية وعمرو ويزيد والحجل وابن ملجم وابن زياد والوليد وامثالهم، إذ الصلاة من الرحمة لكنها لما كانت مقرونة بالتعظيم امتنعت على هؤلاء الفسقة. وكذلك الترضي عن مثل هؤلاء لما فيه من التعظيم. والحاصل ان تعظيم معاوية وتسويده وحبه هو الممنوع وكل ما اقترن به شيء من هذه فممنوع كذلك ومن هنا يعرف وجه الخطر بالترضي عنه وعدمه في لعنه والله أعلم.
الجملة السادسة
قول السائل: وفوق ذلك كله ان صاحب الرسالة المذكورة معترف باسلام معاوية ولم يثبت ردته ولا كفره ولا مروقه ولم يبق الا الاختلاف في فسقه. في كلام كثير اكثره تكرار إلى آخر السؤال. ونقول له: اننا وصاحب الرسالة وكثير غيرنا قائلون بان معاوية عاش منذ يوم الفتح إلى ان هلك وهو مظهر للاسلام، واما الباطن فلا اطلاع لاحد عليه الا بالوحي فنكل امره إلى الله. غير انا وجدنا في صحيح الحديث ما يستدل به على النفاق من العلامات، وهي الكذب في الحديث والخيانة في الامانة والخلف في الوعد والغدر في العهد والفجور في الخصومة وبغض علي بن ابي طالب ومعاداته وبغض الانصار. وقد اثبت التواتر والنقل الصحيح وجود كل هذه الاوصاف في معاوية. ومن اراد العثور على شيء من ذلك فلينظر في تلك الرسالة. ثم مع ذلك لا نعامل معاوية الا معاملة الفسقة وذوي الكبائر من المسلمين والله سبحانه وتعالى متولي سريرته.
واما ما ذكره من الاختلاف في فسقه فواقع لكن حجة القائلين بعدم فسقه داحضة، فان الكل قد اجمعوا على ان الفاسق من ارتكب كبيرة او أصر على صغيرة، ومعاوية قد ارتكب كبائر كثيرة وبوائق عظيمة وأصر عليها. وقد عدد منها صاحب الرسالة ما اذا علمه المنصف لم يتردد في فسق ذلك الطاغية وفجوره ومحادته لله ولرسوله. فليس بمجهول الحال ولا المشتبه أمره كما توهم السائل. والتمحل والتعسف والتأويل الفاسد لا ينفي عنه الفسق ولا يثبت له عدالة ولا براءة مما اقترف من الفواقر. والاحتجاج بذلك نفخ في رماد (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة) اما الاستغفار له ممن لم يثبت عنده نفاقه فجائز ان لم يقترن بمحبة ومودة كما قدّمنا ذلك. واما قول السائل: يا ترى ان النبي أن يدعو النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)([91])لاناس ونقوم على نقيضه فندعو عليهم؟ لا اظن عاقلاً يجوز ذلك. فنقول: صدقت ولكنك نفسك واقع في هذه الحفرة فان الله تعالى ونبيه عليه وآله الصلاة والسلام قد لعنا الظالمين والكاذبين على ربهم والمفسدين في الارض وغيرهم وانت تنهى عن لعنهم وتجادل عنهم وقد دعا عليه وعلى آله الصلاة والسلام على من عادى عليّاً أو ابغضه أو خذله بقوله، كما في الصحيح: اللهم عاد من عاداه وابغض من ابغضه واخذل من خذله. وانت تدعو لذلك المعادي لعلي والمبغض له والخاذل بالرحمة وتستدر له المغفرة. اما المؤمن الصادق الايمان فهو الذي يجعل هواه تبعاً لما جاء به نبيه(صلى الله عليه وآله وسلم) فيلعن من لعنه ويدعو لمن دعا له ويستغفر لمن استغفر له وبذلك تتحقق له المتابعة لنبيه عليه وآله الصلاة والسلام وتخالط قلبه بشاشة الايمان والتوفيق بيد الله. واما ما اشار اليه السائل فيما نقله صاحب الرسالة لم ينقل عن المؤرخين هل يحتج له ام لا؟ فنقول: ان صاحب الرسالة لم ينقل عن المؤرخين للاحتجاج به إلا ما صح أو تواتر واما غير ذلك فنقله إياه تقوية وبيانا للواقع ولم يعارض بذلك صحيحاً ولا رد به نصاً ولا خصص به عاما كما زعم السائل. على ان الامام الشافعي رحمه الله يقول في الرسالة: أهل المغازي أقوى في بعض الامور من نقل واحد عن واحد. واكثر ما ينقله ثقات المؤرخين هو الواقع المتواتر والله أعلم. واما قول السائل: من المقرر ان المذنب والفاسق تحت مشيئة الله ومما يشفع فيه الشفعاء، وقد قال(صلى الله عليه وآله وسلم) شفاعتي لاهل الكبائر من امتي. قلنا: نعم كل تحت مشيئة الله تعالى ولكن لا يجوز لنا ان نحيل كل فاقرة يفعلها فاجر على مشيئة الله ويلزم عليه لو فرض جوازه ان لا نعظم احداً من أهل الفضل والدين بعينه ولا نترضى عنه لأنه أيضا تحت المشيئة وربما يكون من الاشقياء المخلدين في النار. ان هذا هو التعطيل بعينه. بل الواجب علينا أن نعامل كلا بما جاء به الكتاب والسنة كما كلفنا الله تعالى من مدح أو قدح أو ترض أو لعن أو حب أو بغض، وليس لنا الاحتجاج بالقدر ولا الاحالة على المشيئة. وأمَّا قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) شفاعتي لاهل الكبائر من امتي فمن هذا القبيل وليست هذه القضية كلية حتى نعلم ان معاوية ممن يشفع له النبي عليه وآله الصلاة والسلام بل القضية مهملة والمهملة لا يستدل ولا يحتج بها. على ان من كان خصمه الله تعالى ونبيه عليه وآله الصلاة والسلام يوم القيامة وعلي والحسن والحسين وخيار الصحابة بل والامة كلها التي بدل دينها واكل أموالها وقتل خيارها كيف ترجى له شفاعة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ان هذا من ابعد البعيد مع ان الله جل شأنه لا يغفر للمذنب تبعاته حتى يحله منها صاحب التبعة فكيف يغفر للمصرّ الذي لم يتب ومن ذا الذي يرجو ان تحل جميع الامة معاوية المصرّ على فواقره من تبعتها؟ ولئن سامحه انصاره الذين ختم الله على قلوبهم بمحبته فلا طمع في ان يحله الباقون. (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى).
هذا ما حضرني في الجواب على هذا السؤال وارجو من ذلك السائل المحب أن يعفيني في المستقبل عن مثل هذه الاسئلة التي هي اوضح من ان يسأل عنها على اني في شغل عن تكرار الكلام في شأن ذلك الطاغية. وان في رسالة السيد محمد بن عقيل ما يغني الطالب المنصف، ويرغم انف المتعصب والمتعسف وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.
الشهاب الثاقب على السباب الكاذبمن املاء السيد ابي بكر بن عبد الرحمنبن شهاب الدين العلوي الحسيني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى اصحابه المنتخبين وعلى التابعين لهم باحسان الى يوم الدين.
أما بعد فقد وقفت على رسالة صغيرة الحجم الّفها جناب الملا فقير الله اصلحنا الله واياه سماها :مفسق معاوية من الفرقة الغاوية
فطالعتها من بدئها الى منتهاها وادركت معاني منطوقها وفحواها وتبينت ما اشتملت عليه من عجب وعجاب وانحراف عن جادة الصواب. اوغل مولفها في سبيل المدافعة عن بغي معاوية بن ابي سفيان وافرط حتى كفر وفسق بسببه كثيراً من أئمة اهل الاسلام والايمان وصرح في ديباجتها ان باعث تحريرها والسبب الحامل على تسطيرها هو وقوع البحث بيني وبينه في شان معاوية وعدالته او فسقه وبيان كذبه وصدقه وزعم انه ناظرني فاسكتني وبهتني واعجزني وذكرني في ضمن الرسالة شيئا من عبارات المراجعة التي وقعت والتي يزعم وقوعها في كتبية مولانا السيد عبدالحق الاعظمى. واقول الآن: اما نفس رسالته فساقطة بذاتها لاحقة بأخواتها اذ كلها تاويلات وتمحلات واكاذيب ملفقات لا تستحق وضعاً في بساط البحث والمراجعة ولا تنتج الا فارغ المنازعة. يحتج فيها بكتاب الله وحديث رسوله مقلوبا ثم يدعي انه الغالب حالة كونه مغلوباً. والرد على مثلها من باب تحصيل الحاصل واضاعة لنفيس الاوقات من غير طائل ولو اتى في جوهر دعواه بشيء من الحق الصّريح او سلك فيها مسلك الاحتجاج الصحيح لتبعته في ذلك ورجعت اليه وكفى بالله شهيدا عليّ وعليه. ومن حيث اني لا غرض لي الآن في البحث معه في شيء من مواضيع رسالته فلندعه وشانه ونتركه وما اختاره من الاعتقاد في معاوية واحواله لعلمي انه لتعصبه وامثاله كثير لا يرجع الى السواء ولا يستطيع الخروج عن طاعة سلطان الهوى. ومن الذي يقدر ان ينقذ كل غارق او يسكت كل ناعق؟ وقد قلت في هذا المعنى شعرا:
كشفت بقال الله قال رسوله
واثبت ما نيطت به من بوائق
فسرت قلوب المتقين ورحبت
وانكر اقوام يخالون انهم
ومن هم وما هم لو عجمت قناتهم
سأضرب عنهم لا لعجز وانما
الم تر ان الليث يحمي عرينه
ويعرض ان نقت ضفادع غابه
ولو ملأت اصواتها افق الغاب
ضلال ابن هند والذى فيه من عاب
وبغي بما لم يبق ريباً لمرتاب
فحول ذوي التحقيق اجمل ترحاب
رجال وان العلم لعبة لعّاب
سوى كل سباب سفيه وصخاب
ارى الكف عن صيد الثعالب اولى بي
ويفرق من انيابه كل ذي ناب
ولو ملأت اصواتها افق الغاب
ولو ملأت اصواتها افق الغاب
الأمر الأول ما شحنت به الرسالة من أيمان مؤلفها المكررة ببراءة معاوية واجتهاده وصلاح نيته واشباه ذلك، مما لا يطلع على حقيقته الا الله تعالى. وكل ذلك تأل على علام الغيوب جلّ جلاله، وافتيات عليه نسأل الله العافية والسلامة، ثم تكفير مؤلفها تارة وتفسيقه اخرى كل من سب طاغيته معاوية او لعنه او فسقه، مع علمه ان كان عالماً كما يزعم بوقوع جميع ذلك في معاوية وبلوغه الينا تواتراً واحادا من كثير من اكابر الصحابة وائمة اهل البيت وافاضل المسلمين، واذا صدر هذا من مدعي العلم مثل المؤلف لم يكن المحذور فيه مقصوراً على المؤلف فقط، بل ربما اقتدى به في ذلك من يعتقد علميته فيقع في هاوية الزلل ويتعرض لمقت الله عزَّ وجلَّ. امَّا ما خصني به في رسالته من نسبة الافتراء اليّ والبهتان والضّلال وفساد الغرض والفسق والجهل بالعربية وبالأصول والدعاء عليَّ بأن يطهر الله مني بلدة حيدر آباد بالنفي عنها وغير ذلك من السباب والشتائم فاني وان كنت احد منه لسانا وابلغ منه بيانا واثبت منه جنانا واكثر منه انصاراً واعوانا واقوى منه ان شاء الله ايمانا لا اقابله بمثل مقاله ولا انثل كنانتي لنضاله، فان قلمى يأبى ان يكتب كما كتب ويترفع عن الخروج من حدود الأدب فلا اؤاخذه بشيءمن ذلك بل اصفح عنه تكرما وطلباً لمرضاة الله تعالى(وان تعفوا اقرب للتقوى)واما ما استطال به لسان تلميذه في تقريض رسالته بأبياته التي يحسب انها شعر من السب والهجو فموكول امره الى الله تعالى وهو الحكم العدل وكل اناء ينضح بما فيه.
الأمر الثاني اللازم بيانه هو حكايته في تلك الرسالة ما جرى بيني وبينه من المباحثة بخلاف الواقع فانه غيّر وبدّل وعرّض وطوّل وزاد ونقص ودندن ورقص ولا اظنه في ذلك متعمداً للكذب لكونه من الذين يعلمون معنى قوله عزّوجل: (انما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون) لكنه ربما ساء حفظه في بعض المواضع وغلب عليه النسيان في بعضها، ولكيلا يبقى الأمر تحت ستار الابهام على قراء رسالته ان كان لها قراء سَأُبيّن هنا ما خالف الواقع والحقيقة التي صدرت مني ومنه، وكفى بالعدول الحاضرين شهوداً على صحة قولي فيما اذكره هنا وهم والحمد لله احياء يرزقون. منهم السّيد الفاضل عبد الحق الاعظمى البغدادي المدرس الآن بمدرسة على كر والشيخ الفاضل صالح بن علي اليافعي والمكرم الجمعدار صلاح بن احمد الاحمدي وغيرهم على ان شهادة الله وحده في الآخرة مغنية وكافية عن كل شهادة وكفى بالله حسيبا. ادعى فقير الله سامحه الله اني سألته عن دليل مسألة عموم تعديل الصحابة وذلك واقع، ولكنه زعم اني قلت له أيضاً: وان الاجماع ليس بدليل بل هو من القال والقيل وان الامام احمد منكر للاجماع. انتهى. واقول الآن: هذا محض كذب لم اقله في تلك الجلسة ولا اعتقده بل اقول بحجية الاجماع اذا استكمل الشروط ومؤلفاتي الكلامية والاصولية والفقهيّة شاهدة بذلك ومصرحة به على انه لا الاجماع من الامة بل ولا من اهل السنة على عموم وعدالة الصحابة كما طنطن به ودندن كيف. وكتب الاصول وغيرها طافحة بذكر الخلاف في ذكر ذلك؟ واذا وجد خلاف فلا اجماع. ثم ذكر انه رد على هذا القول بكلام طويل ذكره في رسالته نسبني فيه الى الافتراء القبيح والبهتان الصريح والضلال المبين وسلوك مسلك الجهنميين. سامحه الله وعفا عنه. ثم قال بعده: فسكت السيد الحضرمي وبهت وما اعترض عليه شيئا ولا ذكر فيه عيباً. واقول: هذا كله غير واقع فإني لم انكر حجية الاجماع كما قدمت ذلك ولم يرد علي هو في تلك الجلسة بما اطال به في رسالته ولم اسكت ولم ابهت من رده ويشهد لي وعليه بعد شهادة الحاضرين العرف بل العقل فانهما ان لم يحيلا يستبعدان صدور ذلك الجواب الطويل منه في تلك الجلسة القصيرة، والحال انه لا يقتدر على المحاورة بالعربية فضلاً عن ترتيبها وتنميقها كما زعم وانّى يتيسر له في تلك الجلسة سرد عبارات الكتب التي نقل عنها في رده وحفظها كما يزعم؟ وانما جمع ذلك كله ثم رتبه في بيته بعد ان رجع الى بلده ثم حرره في رسالته وابرزه زعما منه انه وقع في تلك الجلسة.
هكذا هكذا والا فلا. ثم ذكر فقير الله ارشده الله انه استدل على عموم العدالة بقوله عزّوجلّ (والسّابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) وهذا واقع لكنه لم يذكر في رسالته جوابي عن هذا الاستدلال وكتمه، وهو قولي: ان معاوية وامثاله ليسوا من المهاجرين ولا من الانصار ولا من الّذين اتبعوهم بإحسان، بل من الذين بغوا على المهاجرين والانصار وقاتلوهم وقتلوهم ظلماً وعدواناً، فلا دليل في الآية على دخول معاوية واشباهه. وما ادري اتناسى فقير الله جوابي هذا حين حرر رسالته ام نسيه؟ فان الانسان مظنة النسيان. واما قوله بعد ذلك: وبينت وجه الاستدلال بها الى آخر ما اطال به وطنطن فغير واقع وانى له بحفظ تلك الاقاويل وترتيبها وسردها كما ذكر في الرسالة؟ ولو ذكرها في تلك الجلسة لوجد مني جوابا شافيا عنها لا تعصب فيه ولا حماقه. بل الواقع بشهادة الله وشهادة من حضر انه عدل بعد جوابي عليه بما مرّ من الاستدلال بهذه الآية الى الاستدلال بقوله تعالى: (للفقراء المهاجرين) الآية. واراد ان يقراها فلم يفتح عليه منها الا قوله تعالى: (اولئك هم الصّادقون) فطلب مصحفا يستخرج منه الآية فلم يجد فسأل تلميذاً له كان معه اذ ذاك عن الآية فلم يفده شيئاً فاستدل بعدها بقوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه اشداء على الكفار رحماء بينهم) الآية. أما قوله بعد إيراد الآية: ووجه الاستدلال بهذه الآية، الى آخر الكلام الطويل الذي جزم فيه بكفر من انكر عدالة معاوية وخبط فيه خبط العشواء فلم يصدر منه في تلك الجلسة بل رتبه بعد ووضعه في رسالته كعادته، على انه لا يقيم له دليلاً ولا يغنيه فتيلا. ثم قال هداه الله وتاب عليه: قال السيد الحضرمي: المراد من الذين معه الذين بعد الصحابة. واقول: هذه فرية عليَّ عظيمة فليستغفر الله منها والواقع اني انما قلت: المراد بالذين معه هم اهل صلح الحديبية، لأن الآية نزلت عقيبه كما ذكر ذلك اكثر اهل التفسير والحديث. والمراد بالكفار في الآية المشركون الذين منهم اذ ذاك معاوية وابوه. وما ادري بماذا اتطلب لفقير الله العذر في تبديل جوابي هذا بجواب من عندياته سامحه الله وعفا عنه. وبناء على تلك الخزية الفاضحة اطال الكلام والهذر حتى قال: والعجب كل العجب من الذي يدرس علوم العربية ومع هذا هو من العرب ويفسر الآية القرآنيّة بهذه الهفوة التي تضحك كل صبي وصبيّة. هذا ما قاله فقير الله نترك الحكم فيه لاهل العلم والعقل والذوق السليم. وما اصدق ما قيل شعرا:
سكـتت بغابغـة الـزمان
وتسابقـت عـرج الحـمير
واخـرت فيه السوابـق
واصـبح الوطـواط ناطـق
واخـرت فيه السوابـق
واخـرت فيه السوابـق
هذا ما وقع بيننا وبين الاخ فقير الله اثبتناه بالصدق والامانة وهو يعلم ذلك ويعرفه. ثم اني لا ادعي اني عالم اعرف ما لا يعرفه غيري، وما اعتقد الا اني طالب علم اصرّح بما اعلمه من الحق واقبله من غيري. وبحمد الله تعالى وفضله لا اعدل عن قوله تعالى وقول رسوله عليه الصّلاة والسلام الى قول فلان وفلان ولا اتعصب لامام ولا مذهب ولا اتشبث بالتاويلات البعيدة الفاسدة، واستعيذ بالله ما عشت من، اتّباع الهوى واستغفر الله تعالى من كل خطيئة او زلة قلم او لسان وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم والحمدُ لله رب العالمين.
كتبه العبد العاجز ابو بكر بن عبد الرحمن بن
شهاب الدين العلوي الحسيني غفر الله له
آمين اللهم آمين.
رحلاته
يميل السيد بن شهاب الى الرحلات في سبيل اهدافه لتحقيق مشروعه النهضة الاصلاحية شأنه في ذلك، شأن المكافحين المصلحين من دعاة المسلمين الاوائل الذين آثروا العمل للمصالح العامة، رغم ان الرحلات والتنقلات في تلك الازمنة ليست من الامور السهلة، فالمسالك وعرة ومضنية حتى وصف السفر بأنه قطعة من العذاب، فالراحة في الاسفار مستحيلة، وكانت الرحلات قديما وبالاخص الرحلات البحرية شاقة متعبة ومملة وتستغرق شهورا حتى يصل الانسان المسافر الى هدفه. وبتطور المراكب الشراعية الى بواخر تسير بقوة البخار تحسنت الاوضاع، ولكن هدير الآلات واصواتها المزعجة لا تستطيع مكافحة الامواج في البحار والمحيطات، وتضايق تلك الاصوات المسافرين ويتعرضون بسببها للصداع والملل والغثيان خصوصا اذا تعرضت الباخرة لهياج الامواج وتلاعبت بها بتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال، فيتساقط الركاب صرعى. وقد تدوم بهم الحالة اياما وليالي لا يستسيغون طعاما ولا يحلوا لهم شراب ولا يهنأون بنوم، كل يذكر الله ويسأله النجاة والسلامة. فان سكن الموج وهدأ البحر وتنفس المسافرون الصعداء وبدأ الانتعاش يساورهم شكروا الله الذي نجاهم وسلمهم وانقذهم من موت او بلاء محقق. وقد تتكرر تلك الحالة مرات عديدة، حتى يصلوا الى المرفأ الذي يقصدونه.
كانت البواخر تقطع المسافة من سنغافورا الى السويس في 24 يوما وتعتبر في وقتها غاية ما وصلت اليها العقلية البشرية من تقدم، اذ اصبحت اقل من شهر بعد ان كانت شهورا على المراكب الشراعية. وبخلاف اليوم الذي اصبح السفر متعة وراحة ومن الامور التي تسعد المسافر ويتطلبها، فهو يقضي رحلاته سعيدا متنقلا كما يريد وهو مرتاح البال والضمير.
ففي تلك الازمنة لم تكن هناك طائرات نفاثة سريعة مريحة تقطع المسافات البعيدة في ساعات قلائل في الوقت الذي تقطع البواخر شهورا. وتحمل الطائرات النفاثة اليوم مئات من الركاب، يرتاح المسافر على مقاعد وثيرة وتقدم اليه وجبات الطعام الشهية وهو في اعالي الجو والفضاء بين السحب لا يشعر بتعب او ملل، وقد يأخذه نوم عميق. وكأن الوقت قد قصر فينسى المسافر الم الفراق والبعاد، واصبح المثل اليوم يقول السفر متعة وراحة.
طاف السيد ابن شهاب في معظم البلدان الاسلامية قبل الحرب العالمية الاولى وبعدها متجشما المتاعب، ولم تكن رحلاته استجمامية او سياحية او وسيلة للترفيه، ولكن كانت لهدف معيّن شريف ولغاية سامية للصالح العام الذي يؤمن به ويكافح من اجله، قائماً برسالة النهضة الاصلاحية، شأن اجداده السابقين الذين جاهدوا وهاجروا في سبيل الدعوة الاسلامية لخدمة المجتمع البشري بنشر الدين الاسلامي الصحيح بين امم وشعوب غير اسلامية ولم تصل الدعوة اليهم لبث التعاليم الاسلامية الحقة الخالية من الشوائب والترّهات. ثم ايقاظ الغافلين وتنوير اذهانهم حتى يتبين لهم حقيقة الاسلام واضحا ناصعا جليا. وكان عليه في كل رحلاته الاتصال المباشر بالشعوب والمسؤولين لبعث فكرة النهضة الاصلاحية وتفهيمهم بالغاية والهدف والمقصد، فهو يولي مزيد اهتمامه الخاص بهم، ثم لمزيد التعرف على احوال الشعوب والامم عن كثب والوقوف على حقيقة اوضاعهم، فكان عليه الاتصال المباشر بالمفكرين والزعماء والعلماء والادباء والمسؤولين في الدولة ورجال الصحافة والشعب.
يواصل السيد بن شهاب رحلاته على متن البواخر وقد يضطر الى ركوب المراكب الشراعية للتنقل من جزيرة الى اخرى، اما في البر فعلى العربات وعلى ظهور الدواب.
ادى فريضة الحج والعمرة أول مرة عام 1286هـ وهو آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره، وتشرف بزيارة الرسول الاعظم سيدنا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) ومراقد آل البيت النبوي الكريم عليهم سلام الله. واقام بالحجاز وقتا تسنى له فيه الاجتماع بعديد من علمائها ووجهائها وبالقادمين للحج من الشخصيات الاسلامية البارزة، من افغانستان والصين وتركيا وايران والهند وبلدان افريقيا وبلدان آسيا الوسطى وبلدان جنوب آسيا والبلدان العربية من غربها الى شرقها. وما اجتمع باحد منهم الا اعجبوا به لسعة علمه وآرائه النيرة فتوثقت صلاتهم به وتوطدت العلاقات بينهم وبينه حتى آخر حياته.
بعد 15 عاماً حج مرة ثانية وذلك عام 1302هـ وقد بلغ من العمر اربعين سنة. وفي هذه المرة استقبلته الشخصيات والعلماء استقبالاً حافلاً، فقد عرفوه من قبل وكان الآن اوسع نفوذا وابعد تأثيراً. ثم توافدت الجموع اليه يهنئونه بسلامة الوصول والقدوم من شخصيات اسلامية وافدة وكذلك المواطنون الحجازيون في المبنى الذي استأجره لسكناه طيلة اقامته بالحجاز. فكانت المجالس تعقد في اكثر الايام واصبح بيته ملتقى العلماء والمفكرين والساسة والادباء من كل قطر. ومعظم الشخصيات الحجازية الذين اجتمعوا به في حجه السابق وعرفوه وتأثروا به هم في حجه هذا يلازمونه طيلة اقامته بينهم. الجميع معجب بآرائه وسداد فكره وبعد نظره وسعة علمه، وبلغ ذلك مسمع شريف مكة وكان يحرص على الاجتماع به، وما ان اجتمع شريف مكة به حتى اكبره فقدره تقديرا واكرمه اكراما وأنزله عنده ضيفاً. وقد أقام شريف مكة للسيد ابن شهاب على شرفه مأدبة كبرى في قصر الامارة بمكة المكرمة تقديرا واعترافا لما له من فضل. وقد حضر المأدبة جمهور من العلماء والوجهاء من ضيوف الرحمن القادمين من جميع اصقاع العالم، وكان السيد يتصدر المأدبة المقامة على شرفه والقى كلمة ضافية اخذت بمجامع القلوب لسعة اطلاعه وقدرته على التعبير بلسان فصيح سليم وباسلوب ادبي سلس فكان موضع اعجاب الجميع وتقديرهم له.
ثم تعددت المجالس الخصوصية والعمومية بين شريف مكة والسيد ابن شهاب، وشريف مكة هذا هو عبد الله باشا بن عون امير الحجاز والوالي من قبل دولة الخلافة.
في احدى هذه الجلسات اسهب السيد بن شهاب فى كلامه لشريف مكة عن الاوضاع المتردية في جنوب الجزيرة العربية وما يعانيه العلويون واتباعهم من ضغوط وما يلاقونه من انواع التنكيل والظلم والطغيان والاضطهاد بصفة عشوائية وشرح له الاوضاع شرحاً وافياً، ثم سبكها في قالب قصيدة ثم سلمها لشريف مكة، ومطلعها :
حيّا الحيا حياً به حلّت سعا
ومنازلا خطرت بهن واربعا
ومنازلا خطرت بهن واربعا
ومنازلا خطرت بهن واربعا
واليك من وادي ابن راشد انتهى
آل الحسين بني ابيك عرتهم
بثوا اليك شكية فيما جرى
من فرقة اخزى واهون ان يسا
ورثوا فعال بني امية في قبا
ئحهم وقتلهم الشيوخ الركّعا
وفد الأُلى شرفوا وطابوا منبعا
فتن واضحى شملهم متصدّعا
ممن اذاقهم العذاب الأوجعا
ق الى جنابك ذكرهم او يرفعا
ئحهم وقتلهم الشيوخ الركّعا
ئحهم وقتلهم الشيوخ الركّعا
في موضع آخر من هذا الكتاب افردت فصلا لما يلاقيه العلويون من تعذيب وتنكيل وقتل وتشريد، وهجر البلد كثير منهم الى بلدان اخرى طلبا للسلامة لاجئين، مع ذكر اسمائهم من القتلى منهم والمعذبين.
تأثر شريف مكة بالواقع المؤلم كما تأثر الحاضرون على ما حدث لابناء عمومته في جنوب الجزيرة العربية.
انتشر هذا الخبر وصار حديث المجالس العامة وبلغ اسماع النواصب فاهتموا بالامر، إذ كيف يسيء السيد ابن شهاب الى سمعة ابناء جنوب الجزيرة واستاؤوا من اعماله واعتبروها فتنة، فاجتمعوا فيما بينهم وتشاوروا ثم قرروا مجابهة اعمال السيد ابن شهاب والايقاع به والانتقام منه، فرفعوا عريضة لشريف مكة وشوا فيها بالسيد ابن شهاب زاعمين أن تلك القصائد التي يدعيها السيد انها له والتي قدمها لشريف مكة كلها منحولة وان تلك القصائد لشعراء آخرين، عزاها السيد لنفسه، فهو لم يكن شاعرا ولا اديبا، سوى انه يحسن الكلام ولديه لسان وتعبير وسجيته الكذب على الناس بانتحال قصائد الغير، فهو بعمله هذا يعد سارقا والسارق والكاذب مجرم يجب محاكمته، ونحن ادرى الناس به وبأفعاله. واشاعوا الخبر في طول البلاد وعرضها للحط من قدر السيد اولاً وحتى يرتاب الناس منه ثانيا ويعرفوا عنه الكذب.
اراد شريف مكة تحرّي الحقيقة في هذه الاشاعة ليعرف الصادق من الكاذب. وصادف الوقت يوم اجتماع السيد ابن شهاب بشريف مكة في احدى الجلسات في قصر الامارة بمكة وبحضور جمع من العلماء والوجهاء، فانتهز الشريف تلك الفرصة السانحة امام الحاضرين ليمتحن السيد ويختبره بأسلوب لبق، فقال الشريف موجها خطابه للسيد بهذا البيت من الشعر وطلب منه التذييل عليه.
قد صفى الوقت لابناء الزنا
ولمن يحسن ضربا وغنا
ولمن يحسن ضربا وغنا
ولمن يحسن ضربا وغنا
وبنو الدهر كما قد مال ما
قل ان يوجد منهم منصف
وبلوت الناس طرا فاذا
جانبوا الصدق الذي من قاله
عزفت انفسهم عن كل من
وغدوا لم يرفعوا راسا بمن
من بني المجد الذي سيماهمو
بئس حال الدهر لابل اهله
رشقوني بسهام الكرب الـ
قصدوا حتفي لولا انني
قمر البطحاء مولانا ابي
شرف مروي المواضي والقنا
لوا الى من كان منهم ذا غنى
انا قد جبت القرى والمدنا
اكثر الناس ارقاء الدنا
بان ابريزا اذا ما امتحنا
كان من اهل المثاني والثنا
لهم الآداب كانت ديدنا
في وسيم الوجه يغني الفطنا
اهل حقد وسباب وعنا
ـسود حتى خفت ان افتتنا
في حمى من للمعادي سجنا
شرف مروي المواضي والقنا
شرف مروي المواضي والقنا
حدثت هذه الحادثة في مجلس شريف مكة في ديوانه وبحضور كثير من وجهاء القوم من الحجازيين ومن القادمين من الخارج، حيث تعقد امثال هذه الجلسات في مناسبات معينة.
ان امثال هذه الوشايات والفتن من الاعمال الخسيسة تتكرر دائما من اهل الفتن ومحبي الفساد ومن عملاء الاستعمار الذين يعملون خفية من وراء الستار.
لقد كان السيد ابن اشهاب دائماً يقظا فطنا لا يمر عليه شيء منها بل كان لمعارضيه بالمرصاد فلا يترك لهم المجال ابدا، وفي امثال هذه المواقف ينتهز الفرص لتحطيم كيدهم ويصدع بالقول فيفضح امرهم ونواياهم ومؤامراتهم. كانت كلماته قوية تصرع الباغي ببغيه والفاسق بفسقه حتى لا تتاح له الفرص مرة اخرى للعودة لامثال تلك الاعمال.
هذه القضية يمكن ان يقال عنها بالنسبة للسيد انها من القضايا العادية المألوفة التي تعترضهُ دائما في حياته. وهناك قضايا اخرى كبيرة وكثيرة يواجهها السيد برباطة جأش ورحابة صدر وبروح فيّاضة بالثبات حتى ولو كانت من أهل السلطة ومن بيدهم مقاليد الامور في الحكم واصحاب النفوذ في الدولة. فالسيد هو الرجل المعروف بالوضوح وقول الحق، وهي صفات التي امتاز بها وعرفت عنه.
بعد اداء فريضة الحج والعمرة وزيارة المراقد المقدسة في مكة المكرمة توجه الى المدينة المنورة للتشرف بزيارة الرسول الاعظم خير البشر سيدنا محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)ومراقد آل البيت(عليهم السلام).
عندما وصل السيد الى المقصورة المشرفة حيث مثوى الرسول الاعظم والنبي الاكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) اعترته هزة في نفسه وروحه سالت بها من مآقيه الدموع، فالقى قصيدته الغراء وانشدها بصوته الجهوري بعد اداء السلام وتلاه بالادعية الماثورة من آل البيت(عليهم السلام) تجاه الضريح الشريف، وكان المكان في الروضة المشرفة غاصاً بالزوار وبجمع غفير من الحجاج الزائرين، ومطلع القصيدة:
لذى سلم والبان لولاك لم اهوا
ولا ازددت من سلع وجيرانه شجوى
ولا ازددت من سلع وجيرانه شجوى
ولا ازددت من سلع وجيرانه شجوى
تقديرا لاعماله وخدماته وقيامه بالنهضة الاصلاحية لتوحيد كلمة المسلمين ونظراً لكفاحه لتحقيق الهدف السامي الاسلامي وجهاده المتواصل ومكانته العلمية العالية قررت الدولة تقليده اعلى الرتب الشرفية ومنحه اسمى النياشين، وقلده السلطان عبدالحميد الخليفة في حفلة استقبال مهيب في قصر الخلافة باستنبول نيشان الدولة الرفيعة وسيفا ذهبيا مرصعا بالجواهر الكريمة على الاصول الرسمية المتبعة في بهو قصر يلدز، والقى الخليفة عبد الحميد كلمة ضافية اشاد فيها باعمال السيد ابن شهاب وكفاحه وجهاده في سبيل المصلحة الاسلامية العامة مؤملا ان يكثر من العالم الاسلامي امثال السيد ابن شهاب. وختم الخليفة كلمته بالتقدير والشكر والاعتراف بما يبذله السيد ابن شهاب من اعمال موفقة وقيامه بالنهضة الاصلاحية. وكان الحفل بحضور الصدر الاعظم ونظار شؤون الدولة (الوزراء). ورد السيد بن شهاب بكلمة اسهب فيها عن الاوضاع وحالة المسلمين وكيفية مواجهة الغزو الاوروبي، وكانت كلماته مليئة بالحكم.
كان الهدف الاول من رحلات السيد ابن شهاب الواسعة هو دراسة وتقصي احوال المسلمين واوضاعهم الاجتماعية ومستواهم الثقافي ثم الاتصال المباشر بالزعماء المصلحين ورجال السياسة والمسؤولين والتفاهم معهم في سبيل تحقيق النهضة الاصلاحية والدعوة لمشروعه هذا وتطبيقها حسب الظروف المؤاتية وفي نطاق الامكانيات لدى كل قوم حتى يتسنى التطبيق على مراحل.
جاب السيد بن شهاب في رحلاته الشرق الاقصى وبلدان آسيا على الاجمال فزار بلدان الملايو وحل في سنغافورا ثم في الهند الشرقية (اندونيسيا) حالياً وقضى بها اربع سنوات، اسس فيها المعاهد العلمية بالاساليب والطرق الحديثة واوعز الى الشباب المثقف ممن حوله باصدار الصحف، حيث صدر اول جريدة باللغة العربية باسم الاقبال تولى ادارتها شاب متحمس ناهض هو محمد بن سالم بارجاء، وزمرة من الشباب الآخرين، واتخذ السيد بن شهاب من مدينة سورابايا مقرا لنشاطه ومنطلقا لاعماله، بعيدا عن عاصمة دولة الاستعمار الهولندي (باتافيا) جاكرتا حالياً، لغرس مبادئه وبث فكرته لتحقيق النهضة الاصلاحية من عام 1288 الى عام 1292هـ ، ومع ذلك لم يسلم السيد بن شهاب من ضغوط الاستعمار الهولندي ومضايقاته له.
زاول السيد بن شهاب التجارة، وكان من رجال الاقتصاد الناجحين وعلى رغم نجاحه فانه لم يستسغ الحياة المادية الصرفة، لانها تلهيه عن تأدية رسالته الاساسية. وابى الارتباط بالامور المادية التي تبعده عن عمله وتلهيه عن هدفه لتحقيق النهضة الاصلاحية، ولذلك قرر نهائياً ترك التجارة بدون رجعة، وبذلك يتسنى له مواصلة تأدية رسالته الاصلاحية ويتفرغ لها، بحيث لا تشغله مشاغل المادة، فالمادة في نظر السيد ابن شهاب وسيلة ولا يمكن ان تكون غاية، وليست المادة هي كل شيء في الحياة. المال وسيلة للخير اذا احسن التصرف به، وهو ايضا من دوافع الشر اذا اسيء التصرف فيه.
ففي خلال اقامته في الهند الشرقية اربعة اعوام وضع الشيء الكثير من التصاميم الاصلاحية الواسعة المبنية على الدراسات والمخططات السديدة على نهج برنامج النهضة الاصلاحية، فكانت النتيجة كما ذكرنا تشييد المعاهد العلمية وفتح المدارس واصدر الصحف وبناء جيل واع متحمس يشعر بالمسؤولية في مجتمعه، فأسست المطابع ونشرت الكتب لتغذية العقول بالآراء النيرة والافكار الاصلاحية.
رعى السيد بن شهاب هذا النبت والغرس حتى اثمر واينع، وتجمعت الاموال وسرت هذه الفكرة الى جميع بلدان الهند الشرقية من مدنها الى قراها، وشيد اول جمعية اسلامية في باتافيا (جاكرتا حالياً) عام 1900 باسم جمعية (خير) ثم بعد عام شيد اول مدرسة على النظام المعمول في تركيا والقاهرة ارسلت اول بعثة علمية من الطلبة لمواصلة دراساتهم في الجمامعات التركية، وسميت هذه المدرسة باسم (مدرسة جمعية خير) ثم توالى تشييد المدارس الاسلامية والمعاهد العلمية، وفي مدينة سورابايا اسست اول مدرسة على النظام الحديث باسم المدرسة الخيرية بهمة المغفور له السيد محمد احمد المحضار وزمرة من الشباب المثقف في ذلك العهد وبذلك تسابق الاخوان لتشييد المعاهد العلمية في جميع بلدان الهند الشرقية، واسس السيد محمد بن عقيل احد تلامذة السيد ابن شهاب اول مطبعة حديثة في مدينة سورابايا عام 1913 قبل الحرب العالمية الاولى سميت المطبعة باسم (المساعي الخيرة).
وكان السيد عبد الله بن علوي العطاس من كبار المعاضدين لهذا المشروع في طبع الكتب المدرسية للمدارس الاسلامية باللغة العربية والاندونيسية وكتب اخرى حسب الظروف والمتطلبات، ثم اعدت لاصدار اول جريدة اسلامية يومية ونجح المشروع وتم اصدارها وقد اسندت رئاسة تحريرها الى الاستاذ عمر سعيد جوكروامينوتو وهو من له علاقة مباشرة بالسيد ابن شهاب.
برز الاستاذ عمر سعيد جوكروامينوتو في المجتمع الاسلامي وتلألأ اسمه وشق طريقه مناضلاً مكافحاً ومجاهداً لتحقيق استقلال اندونيسيا والتخلص من براثن الاستعمار الهولندي وتولى زعامة حزب شركت اسلام باندونيسيا ورفع راية الجهاد ومقاومة الاستعمار الهولندي والكفاح للحصول على الحرية والاستقلال التام لاندونيسيا.
ان الكاتب والمؤرخ والمتفرغ لاستقصاء وقائع تاريخ جنوب شرقي آسيا والمتجرد عن العواطف ليكتب التاريخ من اجل التاريخ وحده لا يمكن له الا ان يصل الى نقطة واحدة اساسية، هي ان كل حركة اصلاحية او نهضة قومية او كفاح من اجل استقلال، كلها عائدة الى النهضة الاصلاحية التي دعا اليها السيد ابن شهاب وبذر بذورها في اواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
صدرت صحيفة (الامام) بهمة وتحت رعاية السيد محمد بن عقيل ثم صدرت مجلة الهادي في ماليزيا تحت رعاية السيد الهادي كما تولى هو رئاسة تحريرها، والسيد الهادي احد زملاء السيد ابن شهاب المخلصين ثم توالى بعد ذلك صدور الصحف وتأسيس الجمعيات وتشييد المدارس والمعاهد العلمية ونشر الكتب في جل المدن الكبيرة ثم القرى البعيدة.
رحلات السيد ابن شهاب رحلات عمل وكفاح مستمر وتنظيم، ودعوة الى النهضة الاصلاحية العامة ومقاومة للرعونات ونسف للاباطيل المنتشرة، باذلاً في سبيل ذلك جهده وكل طاقاته للمصالح العامة لوجه الله سعيا لمرضاته جل شانه. لم يفتر عزمه عن العمل ساعة طيلة حياته، حتى وافته المنية.
قطع في تنقلاته المسافات الشاسعة، وركب الاهوال الشاقة وتعرض لمقاومات عديدة فلم تثن من عزمه شيئا، وجاب البلاد من اقصى جنوب شرقي آسيا حتى عاصمة دولة الخلافة باستنبول ومن الكنانة مصر الى الهند حتى الشرق الاقصى.
عندما يبلغ مسامع القوم نبأ قدوم السيد بن شهاب، يهرع القوم من الادباء والشعراء لاستقباله والاجتماع معه للمزيد من الاستفادة في فنون الادب، وقد يلازمه بعض الطلبة ليغترفوا العلم من منهله العذب، ويستزيدوا من معارفه. اما العلماء وزعماء الامة والقادة ومن بيدهم مقاليد امور الدولة ورجالها فانهم جميعا يرحبون به ترحيبا حاراً.
اما صلاته كما قلنا فقد كانت واسعة، ففي عاصمة الخلافة كانت صلته بالسلطان عبد الحميد صلة وثيقة مباشرة، وبالصدر الاعظم ثم بنظارة الخارجية وبكثير من رجال الصحافة والعلماء. وفي مصر كانت صلته الأولى بعلماء الازهر الشريف وبالخديوي توفيق وطبعا بالادباء ورجال الصحافة. اما صلته بالخديوي توفيق باشا فكانت صلة زمالة واخاء، ولذا نجد ذكر الخديوي توفيق في كثير من قصائده الارتقيات. وكانت صلاته بالعلماء صلات توسمت بالابحاث العلمية واستمرت هذه الصلات بالمراسلات والمكاتبات كما أن صلاته بالزعماء الوطنيين الاحرار كانت صلات تفاهم لتوحيد الصف الاسلامي وتدعيم الوحدة الاسلامية في دولة الخلافة.
وفي الملايو كان السلطان ابو بكر بن ابراهيم سلطان مملكة جوهور يعتبر السيد بن شهاب مستشاره الخاص الامين، وكان السلطان يستشيره في كثير من اعماله ويستنير بآرائه مصغيا لاقواله وينفذ توجيهاته، وخطت مملكة جوهور في عهده خطوات كبيرة اصلاحية خصوصا في التربية والتعليم وازدهرت البلاد وانتعش الاقتصاد وتضاعف عدد المعاهد العلمية وتم ارسال بعثة علمية للدراسة في جامعات القاهرة واوروبا من ابناء المسلمين في مملكة جوهور للتوسع في العلوم والمعارف، وعادت البعثات العلمية فكان افرادها خير دعامة للبلاد والدولة.
اما في زنجبار فكان سلطانها برغش بن سعيد منصتا لنصائح وتوجيهات السيد بن شهاب، وفي عهده استتب الامن والسلام في البلاد واطمأن الشعب اطمئنانا بعد ان ذاق مرارة الفوضى، وعم الرخاء، غير ان الخلف عبث بالامر مستهترا، فاضطرب الامن وساد القلق والخوف بين الامة، ولو اقتفى الخلف طريقة سلفه وسار على النهج الذي سار عليه لما حدثت تلك الحوادث المأساوية والكوارث التي لم تكن في حسبانهم. لقد نصح السيد بن شهاب وحذر من عواقب الاعمال الاستهتارية غير المسؤولة لأنها تثير الحفائظ وتنذر بزوال الملك، والشاعر الاندلسي الحكيم يقول:
اعطيت ملكا فلم احسن سياسته
كذاك من لم يسوس الملك يخلعه
كذاك من لم يسوس الملك يخلعه
كذاك من لم يسوس الملك يخلعه
من الذين سلمهم الله من المجازر البشرية الجماعية السيد العلاّمة ابن سميط كان قاضي قضاة زنجبار وكان من الذين يحذرون رجال السلطة من تلك الاعمال التعسفية التي لابد ان تجر الى تلك المآسي. لجأ السيد ابن سميط الى جزر القمر وعين بنفس المنصب فيها، ولكنه لم يدم طويلا بعد لجوئه اذا وافته المنون فيها، ومن اللاجئين الشاعر الاديب السيد هادي بن احمد الهدار الذي تحول فيما بعد الى ابو ظبي بالامارات العربية المتحدة هو واسرته ولكن المنية عاجلته وتوفي ودفن بها.
من اصدق اصدقاء السيد ابن شهاب واقرب الزملاء اليه هو امير ظفار بجنوب الجزيرة العربية السيد فضل باشا بن علوي بن سهل اذ يجمع بينهما وحدة الهدف والمبدأ والغاية، وبينهما مجالس كثيرة. وقد ترك السيد فضل باشا امارة ظفار ورحل الى تركيا واستقر بها وبعد انهيار دولة الخلافة اختار بعض اولاد السيد فضل من مدينة اللاذقية السورية مقرا لهم ولاسرتهم، وهذه الاسرة معروفة في سوريا باسرة الشريف آل فضل، وهي اسرة كريمة معروفة في سوريا. ولم يكن بالامكان حصر او احصاء من عرفهم السيد وعرفوه في حياته. ينحصر حديثه معهم دائماً حول النهضة واصلاح الامة والبحث لحلول المشاكل الاجتماعية المنصبة على المسلمين والتي لا تحل الا بتوعية الشعب توعية علمية وتعليم الجيل الصاعد الذي يعيش بين تلك الامة الغافلة وتحت سلطة تلك السلطنات المتفاوتة التي ارهقها الضعف في جميع مستوياتها، ما عدا دولة الخلافة وهي ايضا تعاني مشاكل كثيرة عويصة داخلية معقدة ومشاكل خارجية مستعصية. اما السلطنات بشتى اوضاعها ومستوياتها فكلها معرضة لنفوذ خطر الاستعمار الزاحف واعاصيره الهوجاء لمحو الاسلام من الوجود، ولا يمكن تفادي هذه المشاكل وحلها الا بتثقيف الجيل الصاعد تثقيفا علميا وتوعيته توعية يشعر معها بالمسؤولية الملقاة على عاتقه.
ان الدول الغربية همها السيطرة على خيرات العالم باستعمار بلدانها، واستعباد شعوبها وفي مقدمة اهداف الاستعمار الغربي استئصال عروق دولة الخلافة لانها تحمل الشعار الاسلامي، فوجود دولة الخلافة مرتكزة في هذا العالم تعتبره دول الاستعمار حجر عثرة بل العدو اللدود لها، ولابد من استئصاله اذ في بقائه ووجوده تكمن قوة المسلمين وبهذه الدولة يعتز المسلمون، وبمحو هذا الرمز من الوجود تنفرط وحدة المسلمين فيتشتتون الى كتل شتى وجماعات متمزقة والى اقوام متفرقة، يعتز كل قوم بقوميته. ونجح الاستعمار في ازالة دولة الخلافة من الوجود وتألبت جموعه على الكيان الاسلامي فتمزق شمل المسلمين، وبذلك تحولت تركيا في عام 1924 بعد زوال دولة الخلافة الى جمهورية علمانية، وتقاسمت دول الحلفاء البلدان الاسلامية وجعلتها مستعمرة لها اضافة الى مستعمراتها، ثم اثارت بين القوم شعور القومية والعنصرية الضيقة، وهي الامور التي يحاربها السيد ابن شهاب.
وباختصار كانت رحلات السيد ابن شهاب جاهدة من اجل الدعوة الى النهضة الاصلاحية، وبحكم كفاحه المتواصل باخلاص كان شخصية عالمية مرموقة ذات اهمية قصوى وكل من اجتمع به اكن له كل اجلال واكبار.
لماذا اختار السيد ابن شهاب حيدر آباد؟
في اواسط القرن التاسع عشر الميلادي استشرى الضعف والهزال وعم الوهن في جميع مرافق السلطنات الاسلامية بما في ذلك الهند، بسبب جنوح السلاطين والحكام الى الترف والرفاهية والاسراف والاستهتار بالقيم وباموال الدولة لا شباع نهماتهم ورغباتهم، فآل وضعهم وسلطانهم وملكهم الى الانهيار والتضعضع، واصبح الحكام المسؤولون لا يهتمون بامور الدولة والمجتمع ولا الشعب ولا بمصالح الوطن كما تفرضهُ المسؤولية كما يجب وينبغي، فلقد فقد الحكام الشعور بالمسؤولية بوصفهم ولاة للأمور، وكان اقصى ما يفكرون فيه هو مصالحهم الخاصة وان تعيش اسرهم وعائلاتهم في بحبوحة الترف والدعة، ولا هم لهم غير انفسهم، بينما الشعب في جهل وفقر مدقع يكتنفه الامراض. وكل هذه الامور والاوضاع سهلت للمستعمر توسيع نفوذه المستمر للهيمنة على الاقتصاديات ثم فرض النفوذ السياسي في جميع المستويات بسهولة وبدون عوائق. فتساقطت البلدان الاسلامية كالاوراق الجافة الواحدة تلو الاخرى في احضان الدول الاوروبية الغازية، وكانت البرتغال واسبانيا وهولندا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا تتنافس للحصول على اكبر أرض ممكنة للاستيلاء والسيطرة عليها.
بسطت بريطانيا نفوذها على شبه القارة الهندية والجزر التابعة لها وصارت لها سيطرة تامة في عام 1857 وجردت السلطنات الاسلامية من كل نفوذها وسيطرتها بكل سهولة، وتم لبريطانيا فرض سيطرتها في جميع المجالات وبالاخص في الشؤون السياسية الخارجية والاقتصادية والمالية ولم يبق للسلطنات الاسلامية الا المظاهر. ثم حددت بريطانيا نوع الاسلحة التي يمكن للسلطنات الاسلامية امتلاكها، وهي لا تتعدى الاسلحة العتيقة التي مضى عليها الزمن وهي غير صالحة لسوى الشعارات ومظاهر الحفلات. اما العلاقات الخارجية فمحظورة كليا على تلك السلطنات مع اية دولة كانت الا باذن المستعمر لهذه السلطنات وهو المسؤول الوحيد عليها. وهكذا لم يبق لهذه السلطنات الا الشكليات المجردة من كل معنى لحقيقة الدولة، بل حتى الامور البسيطة ليست لتلك السطنات قدرة ولا نفوذ ولا طاقة مطلقا، ما عدا البعض منها اعطي له حق الاشراف على الامن الداخلي ولكن تحت هيمنة المستعمر.
اصيب المسلمون بصدمة قوية وذهول عظيم وفقدوا وعيهم ولم يعرفوا ماذا يصنعون، ليس لهم قدرة ابدا لمقاومة تلك الهجمة الاستعمارية الغازية، وما بيدهم من الامر شيء فاستسلموا كما استسلم الحكام وسلَّموا امورهم للغزاة المستعمرين، بمعاهدة صورية املاها المستعمر كما يشاء وكما يريد حسب مصالح المستعمر القوي على المغزو الضعيف الهزيل.
استمر الاستعمار وبقيت هذه السلطنات على شكلها فاقدة القوى والنفوذ والارادة، سوى ما يقدمه الغازي المستعمر من توافه الامور الداخلية التي لا تتجاوز الامور الثانوية التافهة جدا، كالمشاركة في مسيرة الاحتفالات او رفع الشعارات لتاييد دولة المستعمر الذي بيده السلطة العليا تشريعيا وتنفيذيا.
ماذا يعني وجود سلطان متربع على اريكة عرشه وهو فاقد القوى والنفوذ من كل شيء الا العيش في قصره بين خدمه وحشمه وجواريه وحرسه، وقد حددت اقامته.
نعم مع هذا كله لا يخلو من وجود بعض المقاومات التي تجر الى مناوشات صغيرة متفرقة غير منظمة ولا منسقة من الشعب، التي كانت تدل على ان هناك شعوراً حماسياً ووعياً بين افراد الشعب، ولضعف هذه المقاومة كانت قوة الاستعمار تجتاح هذه الحركات بقوة هائلة وبعنف هائل لسحق ذلك الشعور المتاجج في قلوب الشعب، حتى لا يفكروا يوما بالقيام بامثال تلك المقاومات، وبهذه السياسة وامثالها استطاعت بريطانيا الامساك بزمام الامور فاستقرت هيمنة بريطانيا وسيطرتها ونفوذها على كافة ارجاء الهند فاستأثرت بخيراتها.
من دهاء بريطانيا ومكرها المعروف انها لا تريد محو هذه السلطنات وجلها اسلامية، ولكنها ابقت هذه السلطنات رمزاً للديمقراطية البريطانية واجلالها لتلك الشعوب. وحافظت بريطانيا على هذه السلطنات على حالتها المتضعضعة باسم الحماية واحترام حقوق الشعب، وبجانب هذا كانت بريطانيا تبث روح العداوة والبغضاء والشحناء بين السلاطين بعضهم لبعض وبين شعوبهم واذكاء روح العصبية والقومية بين شعوب الهند من جهة، وبين المسلمين والهندوكيين من جهة اخرى، وتورط المسلمون في الخلافات الفرعية الدينية والمسائل الثانوية الفارغة ووقعوا في هاوية المتاهات والنزاعات سنين طويلة بل واستمرت الى اليوم بعد زوال بريطانيا وحصلت الهند على الاستقلال ولكن بعد التقسيم الى باكستان والهند وسريلانكا واخيرا الى بنغلاديش وربما تظهر دويلات وحكومات جديدة في المستقبل القريب، اذ ان هذه الخلافات والنزاعات ستستمر الى الابد بسبب دهاء سياسة بريطانيا ولن تهدأ ابدا هذه الخلافات، اذ لا نهاية لها وستستمر وتبقى مشتعلة وقد ذهب ضحيتها عشرات الالوف من المسلمين قديما وحديثا.
في عهد الاستعمار البريطاني كانت بريطانيا تشعل بعمد هذه الخلافات المذهبية بين المسلمين وتبث السموم، فتتفاقم الفرقة والعداء وتنتشر الفوضى في البلاد بين العباد، وهنا ينجح مخطط السياسة البريطانية، فيخشى السلطان على نفسه وعلى ضياع عرشه ولا يجد لنفسه مأمناً سوى الالتجاء والتودد الى الحاكم المقيم البريطاني طالبا الحماية والامن، ويجد الحاكم البريطاني مجالا فسيحا لفرض حمايته حفاظا على مكانة السلطان وبقاء عرشه، لئلا يتعرض في المستقبل لمشاكل اخرى تزعزع عرشه ومكانته.
كانت سلطنة حيدر آباد الاسلامية من تلك السلطنات المحمية غير انها تتمتع بنوع من النفوذ المحدود وفي الصلاحيات الداخلية، وتمتاز سلطنة حيدر آباد عن غيرها من السلطنات بدهاء سلطانها الذي استطاع ان يحافظ على كيان دولته بنوع من الصبغة الدولية لصلته الوثيقة بدولة الخلافة في استنبول ولارتباطه ارتباطا عائليا باسرة سلاطين تركيا. وعلى رغم ان بريطانيا تنظر الى هذه الامور بعين السخط وعدم الرضا عن هذه الارتباطات الاسرية، فانها بقيت تراقب بحذر شديد شخصية السلطان خصوصا وان لحيدرآباد موقعاً مهماً في القارة الهندية.
سكان حيدرآباد جلهم من غير المسلمين، لان بريطانيا فتحت باب الهجرة لغير المسلمين للاستيطان بها، كما فعلت بفلسطين حيث اتاحت لليهود الاستيطان بها وكما فتحت باب الهجرة للصينيين للاستيطان في سنغافورا وهي جزء لا يتجزأ من الوطن الملايوي، واصبحت اليوم دولة صينية محضة مستقلة على رغم المسلمين، حيث اجتثت وسلمت قطعة من وطنهم للصينيين.
على رغم ان بريطانيا بسياستها ارادت اشعال روح العنصرية بين الاهالي فقد ظل الكل يعيشون متمتعين بالحرية ورغد العيش في امن واستقرار وهيمنت على الجميع العدالة تحت ظل هذه الحكومة.
لسلطنة حيدرآباد قوة برية محدودة مزودة باسلحة لا باس بها ولكن دون المستوى اللازم لدولة مستقلة ذات سيادة، وكثير من فرق هذه القوات هم من ابناء جنوب الجزيرة من الحضارم بوجه خاص. ولوقوع حيدرآباد في وسط شبه القارة الهندية لم يكن لها قوة بحرية. اما القوات الجوية فلا يمكن لها امتلاكها، لانها بموجب المعاهدة مع بريطانيا واقعة تحت الحماية البريطانية.
كانت حيدر آباد قبل غزو الانجليز ووقوعها تحت حماية التاج البريطاني دولة مستقلة ذات سيادة تامة واسعة النفوذ تتمتع كما تتمتع سائر الدول والحكومات المستقلة بجميع مالها وما عليها من حقوق وواجبات دولية وعلاقات وحصانة دبلوماسية وسياسية، ان غزو بريطانيا للهند واحتلالها وسيطرتها عليها جردت باسلوب خفي جميع السلطنات الهندية من كل صلاحيتها وحقوقها ثم فرضت عليها بموجب اتفاقية مجحفة، إملاء القوى الطاغي على الهزيل الضعيف، وتختلف الاتفاقيات المفروضة على السلاطين باختلاف الاوضاع والظروف المتعلقة بمصالح بريطانيا الاستعمارية، فتمنح البعض شيئا لا تمنحه الآخر، فيتمتع بعض السلاطين بحكم ذاتي محدود المعالم بينما لا يتمتع غيره بهذه الميزة. ما عدا سلطنة حيدر آباد التي كانت تتمتع بنفوذ حكم ذاتي داخلي قائم بذاته له كيانه الخاص تحت الحماية البريطانية المتمثل في الوالي البريطاني العام الحاكم المقيم في الهند. وليس لحيدر آباد كما قلنا الحق في العلاقات او الاتصالات الخارجية. وبذلك انقطت صلات حيدر آباد مع الخارج الا بطريق الوالي البريطاني، ومع كل ذلك فان صلات سلطان حيدر آباد بالخلافة التركية ظلت مستمرة ولكن بصفة سرية، وباعتبار ان لسلطان حيدر آباد ارتباطاً عائلياً باسر سلاطين تركيا، وهذه الاتصالات تسير بشكل سري ولا تمر عبر البروتوكولات الرسمية وبدون علم الوالي البريطاني المقيم، انقطعت كل علاقات حيدر آباد بالدول الاخرى سياسياً واقتصادياً، اذ ان كل هذه الامور في قبضة بريطانيا، فهي وحدها التي لها الحق في ادارة السياسة والعلاقات الخارجية والدفاع ضد الاعتداءات الخارجية.
وضع حيدر آباد التعليمي والتربوي
المدارس والمعاهد العلمية والتربوية موجودة في بعض مناطق سلطنة حيدر آباد، وفيها ايضا جامعتان: الاولى (الجامعة العثمانية) اسسها النواب عثمان علي خان، فنسبت الجامعة اليه، تخليدا واحياء لذكره، تضم هذه الجامعة كليات الهندسة والعلوم والطب والطب البيطري وطب الاسنان والاقتصاد والحقوق والفلسفة وغيرها.
والجامعة الثانية هي (الجامعة النظامية الاسلامية) اسسها عثمان سلطان حيدر آباد وهي جامعة اسلامية محضة شبيهة بالجامعة الازهرية في مصر والحوزة العلمية في النجف الاشرف وقم والجامعات الدينية في تونس والمغرب العربي. وتقوم الجامعة النظامية بتدريس الدراسات العليا لابناء المسلمين عموما بمن فيهم من الوافدين من الخارج.
وفي حيدرآباد مؤسسة علمية للبحوث والدراسات باسم (دائرة المعارف العثمانية) تضم هذه المؤسسة مكتبة كبيرة فيها من الكتب المطبوعة والمخطوطة الشيء الكثير ولا تقل هذه المكتبة عن المكتبات العالمية في لندن وباريس والفاتيكان والكونغرس الامريكي في واشنطن، اما المخطوطات ففيها النادر منها وقد جمعت اصلاً ونقلاً وتصويراً من بلدان العالم، فحوت ما لا تحويه المكتبات في البلدان العربية. وتقوم هذه المؤسسة باحياء كتب التراث الاسلامي من المخطوطات بعد مراجعتها ودراستها وتحقيقها تحقيقا علميا دقيقا، يقوم بها علماء متخصصون، وكذلك اعادة طبع الكتب القيمة النادرة. وقد طبعت هذه المؤسسة العديد من الكتب النفيسة القيمة وقد يصل الكتاب الواحد الى عدة مجلدات صخمة، ككتب التاريخ والتفسير ودواوين الشعراء الاقدمين الى غير ذلك. وقد زرت هذه المؤسسة واطلعت على سير اعمالها في زيارتي للهند عام 1982، واجتمعت برجالها المسؤولين فيها، وكان لي مع العلامة المحقق السيد عبدالله المدحج عدة لقاءات وجلسات اطلعني فيها على سير الاعمال وكيف تحقق الكتب وتدرس لتكون صالحة للطباعة، وقد بهرتني تلك الخدمات العلمية وما تبذله هذه المؤسسة من جهود الباحثين والمحققين العاملين فيها، وحقا انها تعجب.
بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) وانتصار بريطانيا مع حلفائها، ثم خروجها من الهند عام 1947([92]) تأسست على اثره دولة الجمهورية الهندية ودولة باكستان وجمهورية سري لانكا (سيلان).
ما لبثت سلطنة حيدرآباد الواقعة في القسم الهندي ان استولت عليها الهند بقوة السلاح بعد نشوب معركة غير متوازنة ثم احتلال الهند لهذه السلطنة حيث ادمجت رسمياً في الجمهورية الهندية واعتقل السلطان وجميع اسرته وكل المسؤولين في السلطنة وصودرت الاموال والممتلكات وازيلت كل الشعارات التي لها علاقة بسلطنة حيدر آباد البائدة، وهكذا انتهى تاريخ سلطنة حيدر آباد الطويل الذي عاش فترة طويلة من الزمن واصبح في مضامين سجلات التاريخ، لا غير.
اختيار السيد ابن شهاب حيدرآباد مركزاً لحركته
يتساءل الكثير ممن عرف السيد ابن شهاب بهذا السؤال : لماذا اختار السيد ابن شهاب الهند وبالخصوص مدينة حيدرآباد مكاناً لهجرته ومقراً لمركز حركته النهضة الاصلاحية ولم يختر اماكن اخرى ربما تكون اكثر ملاءمة بموجب نظرهم من هذا العالم الواسع الكبير؟ لماذا لم يختر مصراً او العراق او سوريا او افغانستان او غيرها وهي كثيرة وملائمة لمركز جهاده ومستوى المهمة التي يقوم بها؟ هذا السؤال وامثاله كثيراً ما يتردد على السنة السائلين والمستفهمين كما يدور بخلد المستغربين.
لم يتعرض السيد ابن شهاب ـ حسب اطلاعنا ـ الى ذكر شيء من اسباب ودوافع اختياره حيدر آباد مقرا لدار هجرته ومركزا لاعماله، والمعروف ان الاسباب والدوافع التي جعلته يختار مدينة حيدرآباد مركزا لاعماله تفضيله لهذه المدينة بالخصوص دون غيرها من المدن العالمية الذي يعود الى عدة عوامل استراتيجية اساسية لتحقيق برنامجه (النهضة الاصلاحية) ليكون في قلب القارة الهندية وعلى الوسط الحساس وبالقرب من المناطق الشمالية من البلدان العربية وايران وافغانستان والى الجنوب من المناطق الواسعة من بلدان الملايو والفلبين والسيام (تايلاند) وبورما واندونيسيا ثم بالقرب من بلدان افريقيا الشرقية.
في عهد الاحتلال البريطاني للهند كانت حيدر آباد البلد الوحيد الذي يتمتع باستقلال داخلي تحت الحماية البريطانية، كما ذكرنا قبلا. وللسيد ابن شهاب وجهة نظر في هذه السلطنة الاسلامية، واذا كانت حيدر آباد واقعة تحت مخالب الحماية البريطانية، فانها كانت لا تزال تتمتع بحكم ذاتي داخلي، ومن هذا المنطلق تراءى له ان هذه السلطنة يمكن لها ان تكون نواة لدولة اسلامية في المستقبل اذا احسن تصريفها وتنسيق اداراتها لتكون دولة اسلامية قوية لها مكانتها واعتبارها بين دول العالم بجانب دولة الخلافة التي تتعرض لغزو دول الغرب، وكل هذه الامور متوقفة على شيء واحد اذا اريد تطوير هذه السلطنة لتكون دولة ذات سيادة بمعنى الكلمة، فلا بد من تحسين ادارتها وقيادتها وتثقيف شعبها تثقيفا عالياً وازالة الجهل وآثاره من الشعب ازالة تامة ليحافظ على كيانه، ووجوب بذل الجهد الاقصى بقيادة رشيدة وتوجيهات قيادية حكيمة مع المحافظة التامة على القيم الاخلاقية ثم التدعيم التام لهذه السلطة لتكون الممثلة للقوة الاسلامية، جنباً إلى جنب مع دولة الخلافة، حتى اذا تعرضت احداها لمشكلة من المشاكل التي تعترضها تكون الاخرى عنصرا قويا من عناصر القوى الاسلامية، ولاجل ذلك يجب المحافظة على كيان سلطنة حيدرآباد وتقويته ودعمه ليكون الحصن الحصين للمسلمين، فان لم يبذل الجهد ويستغل المسلمون هذه الفرصة فلا ريب ان هذه القوى الاسلامية المتبقية بما فيها من ضعف ووهن ستتعرض للزوال والتلاشي والفناء خصوصاً ان تلك القوى الاسلامية محاطة بالاعداء من كل جانب ابتداء من الهندوكيين في الداخل وانتهاء بقوى الاحتلال والاستعمار البريطاني، وكل هذه القوى مجتمعة او متفرقة تسعى جاهدة وبتشابك الاهداف لمحو وازالة كل المثل الاسلامية من الوجود حتى لا يكون للاسلام اثر.
من هذا المنطلق وعلى هذا الاساس السياسي، كان للسيد ابن شهاب نظرية بعيدة وفكرة وجوب الابقاء على سلطنة حيدر آباد والمحافظة عليها وتطويرها تطويرا كما تحتمه متطلبات الزمن الحاضر لتستطيع ان تخطو خطوات ثابتة متتابعة ومتناسقة نحو التقدم صناعياً واقتصاديا لتكون عونا ودعامة للمسلمين.
لو فرضنا ان السيد ابن شهاب اختار مكانا آخر غير حيدرآباد في اية بقعة من بقاع هذا العالم الواسع، لجاء نفس السؤال والاستفهام السابق، لماذا اختار هذا المكان؟ ولماذا لم يختر غيره من البلدان الكبيرة ليكون مركز انطلاق في كفاحه لتحقيق النهضة الاصلاحية التي ينطلق من اجلها؟
لم يختر السيد ابن شهاب حيدر آباد صدفة او بصفة ارتجالية او بترغيب او دعوة من احد، لكنه اختارها نتيجة لدارسة دقيقة وبعد تقصي حقيقة الاوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وسبر غور البلاد واحوال المواطنين فيها ثم التنسيق مع كل ما يرتبط بدعوته (النهضة الاصلاحية). وبعد التحري الدقيق في سلسلة رحلاته الطويلة وتجاربه الكثيرة رأى ووجد من حيدرآباد اصلح مكان مناسب لمركز انطلاقته في دعوته (النهضة الاصلاحية).
سألني الاستاذ علوي بن عبد الله العطاس وهو من الاخوة الذين يهمهم أمر حركة النهضة الاصلاحية، سألني مستفهما عمن يصرف هذه النفقات الباهضة لحركة السيد ابن شهاب ومن هم الذين يمولونه بالمال ؟ فان تنقلاته ورحلاته الطويلة مستمرة وهذه الحركات كلها تتطلب ميزانية كبيرة من المال، وليس من السهل أن يقوم أحد بهذه النفقات سوى حكومات او هيئات عالمية تمولها دولة.
فهل له ميزانية خاصة تدر له بما يكفيه للعمل والقيام بهذه المهمة ؟ فاجبته باختصار: لا ذا ولا ذاك كما تحسب، فلا دولة ولا هيئة تصرف عليه، فان صرفت عليه دولة او هيئة، فقد قيدته وتقيد بها فكان بوقا لها وهو يحارب ذلك ويحارب التبعية والانقيادية لصالح دولة او هيئة، فقد عرضت عليه دولة الخلافة مراكز سامية فرفضها جملة وتفصيلا، هو حر يحب الحرية ويكافح من اجل الحرية ولاجل الحرية فحسب ولذلك فهو يحارب التقليد والمقلدين والتبعية واذناب التابعين والذين لا يستخدمون عقولهم التي توجهم الله بها. إنه يصرف من ماله الخاص ومن ممتلكاته الخاصة، انه صاحب همة عالية قعساء وصاحب مبدأ لايحيد عنه وعقيدة يستميت في الدفاع من أجلها وله هدف يكافح لتحقيقه، انه يشعر بالمسؤولية، شأنه في ذلك شان المكافحين المصلحين من السابقين واللاحقين الذين يؤدون الرسالة ويخدمون الامة ويقومون بواجبهم لا يرجون تقديرا ولا جزاءً من احد من البشر. ولماذا نجح الدعاة السابقون ؟ قلت للسائل وسالته مستفهما. فاجابني فورا : لقد اقتنعت. ثم استطردت قائلاً : لا يمكن ان نبني نظرياتنا على الاوضاع الحالية او ان نجعل المادة منتهى آمالنا وغاية مطلبنا، وان الدول ترصد ميزانية خاصة للدعاية لاغراضها السياسية، وكذلك تفعل بعض الهيئات تنفق بسخاء للدعاية ولهدف معين. فالذي يعمل لمصلحة دولة او هيئة انما هو آلة صماء تسخره الدولة كما تريد ويعمل هو بدافع المادة، بينما الآخر يعمل ويكافح ويستميت من اجل عقيدته ومبدأه وهدفه السامي وهو وجه الله تعالى وطلب مرضاته.
سبب اختيار حيدرآباد
في تجوال ورحلات السيد ابن شهاب كلما وصل بلدا مكث فيه فترة من الزمن لدراسة الاوضاع وتقصي احوال القوم فكريا واجتماعيا وكانت نتيجة دراسته الطويلة وتقصيه الدقيق انه وجد حيدرآباد البلد الذي يمكن المكوث فيه، طبعا في ذلك الوقت، للامور التالية:
اولاً: ان حيدرآباد سلطنة اسلامية وان كانت واقعة تحت الحماية البريطانية، فهي تتمتع بسلطة داخلية او ما يطلق عليه الاستقلال الداخلي. يحكمها سلطان مسلم مثقف تثقيقا عاليا وواسع الاطلاع وان الروح الاسلامية لدى حكام البلد قوية وفي مستوى عال.
ثانياً: ان الامن والاستقرار مستتب في البلد ويتمتع المواطنون جميعا بما لا تتمتع به الشعوب الاخرى في باقي البلدان.
ثالثاً: ان الروح الاسلامية لدى المواطنين المسلمين تدل على وعيهم.
رابعاً: مجال العمل الاسلامي في حيدرآباد اوسع للامور السابقة ذكرها.
خامساً: انتشار المعاهد الاسلامية ووجود الجامعات فيها، التي لها مكانتها المرموقة ومستواها العالي، في الوقت الذي لا يوجد في مستواها جامعات اُخرى في كثير من البلدان الآسيوية والافريقية في ذلك الوقت.
سادساً: محافظة السلطنة على التراث والكيان والآثار الاسلامية محافظة تامة.
سابعاً: تجاوب المواطنين المسلمين والحكام مع دعوة السيد ابن شهاب.
هذه هي الاسباب والدوافع التي دفـعت السيد بن شهاب لاختيار حيدرآباد دون غيرها من البلدان مقرا ومركزا لانطلاق دعوته (النهضة الاصلاحية)، ومن هذه الحيثيات استوطن حيدر آباد وآثر الحياة فيها مفضلا إياها على المدن الهندية الاخرى مثل بومباي ومدراس ودلهي، او غيرها من المدن، غير ان حيدر آباد سلطنة اسلامية والروح الاسلامية متوقدة في افرادها المواطنين.
وصل السيد بن شهاب الى حيدر آباد عام 1302هـ الموافق للعام الميلادي 1884 وكان عمره آنذاك (40) عاما، اي انه قد وصل الى مرحلة النضوج، فاستقر فيها بقوة عزمه وصلابة ايمانه ليبدأ من هذا المهجر الجديد بناء صرح النهضة الاصلاحية العامة، ومن هذا البلد بدأ الشعاع ينير افق العالم في المهجر الشرقي وجنوب الجزيرة. ولم يشعر في مهجره بالغربة، على رغم اختلاف العادات والمآكل واللغة الدارجة، ولم يطل وقته حتى اتقن اللغة الاُردية والهندية اتقانا تخاطبا وكتابة وكانه احد ابناء الهند. فاستطاع الاندماج معهم اندماجا تاماً وكانوا يجلونه اجلالا فعظموه واكرموه لان في شخصيته رمز الجهاد الصادق والاخلاص، وروابط المبدأ والهدف هي التي جمعت بينهم.
قدموا له القصور العظيمة، فشكرهم على ذلك التقدير، ورفض سكن القصور وقد وضعوا بين يديه كل الصلاحيات، فردها شاكرا ومقدرا لتلك العواطف النبيلة، وعندما علم السلطان قيمة السيد ابن شهاب واخلاصه في اعماله وكفاحه مما رفع اليه من تقارير من وزرائه ومستشاريه عن هذا السيد، قرر ان يتخذ السيد مُعيناً لهُ في إدارة السلطنة، واسند إليه منصب رئاسة الوزراء لسطلنة حيدرآباد ووضع بين يديه مقاليد الحكم، ورغبة السلطان لقبول هذا العرض، ولكن السيد رفض هذا العرض السلطاني شاكرا له حسن ثقته به وقال: ما كان هدفي تبوؤ مركز من مراكز الدولة وان عظم،جئت مكافحا ضد الاستعمار بكل صورة وجميع او ضاعه واشكاله، لا مستسلما لحمايته.
اكبر السلطان موقفه الصلد ومبدأه، وراى فيه الشخصية الفذة العظيمة التي يتجلى فيها الاخلاص ومثال التقوى، وازداد ثقة به فاجلّه وعظّمه.
عرض السلطان على السيد ابن شهاب ان يكون فردا من الاسرة السلطانية برتبة امير وعرض عليه الزواج باحدى الاميرات في القصر السلطاني، وقيل هي بنت السلطان نفسه، ليكون في المستقبل وليا للعهد السلطاني، فرفض السيد رفضا باتا باسلوب حكيم ملؤه التقدير. فانه لو اراد الاقتران بامرأة واتخاذها زوجة له لاختار من بنات الشعب وهي المفضلة لديه، لا الاميرات ولا من بنات الذوات، بل لم يدر بخلده امثال تلك السفاسف.
آثر الحياة الشعبية البسيطة فاستاجر بيتا في حي من الاحياء الشعبية الآهلة، واصبح هذا البيت البسيط مقصدا للجميع، وازدهر الحي الذي اختاره لسكناه فاصبح منطقة ذات اهمية قصوى يتوارد الناس اليه يوميا حتى ضاق المكان بهم.
بدأ عمله اثر وصوله واستقراره في البيت الذي اختاره بايجار شهري، بالذهاب الى المناطق غير الاسلامية، مناطق الهندوكيين، ومناطق المنبوذين (الباريا) PARIAحسب تعاليم الديانة الهندوكية، وطبقة الباريا هم المحرومون من جميع الحقوق البشرية. اختلط السيد بهم وتحدث معهم بلسانهم، وجعل بينه وبينهم روابط ودية ورغبهم لتحسين اوضاعهم الاجتماعية والخروج من هذا الوضع الحقير الى وضع افضل في الحياة كما يتمتع سائر البشر في الحياة الاجتماعية، وتطوير اوضاعهم كما يدعو اليه الاسلام، وبشرهم بهذا الدين الذي يرفع قدر البشر الى مستوى مرموق، وبدأ السيد يعلمهم ويهديهم الى النهج القويم، فاستقبلوا دعوته في بدء الامر بالريب والحذر والقلق وساورهم الخوف من انتقام رجال الدين البراهما ( BRAHMA ) وطبقة الجنود الساتريا ( SATRIA ). وما زال القوم في تريثهم من الخوف والخشية، الا ان نفرا منهم لبى وقبل دعوة السيد فاسلم ونطق بالشهادتين، واذا بالآخرين يرون اخاهم الذي اسلم حديثا يدخل المكان المعد للصلاة في صف واحد مع غيره جنبا الى جنب بدون تفرقة، ولم يكونوا من قبل يعيشون بمثل تلك الحرية والمساواة. هذه الحادثة اعتبرها طبقة الباريا بمثابة انقلاب عظيم في مجرى حياتهم اليومية والاجتماعية، وبعد فترة قصيرة من الوقت ومع تطور اوضاع من اسلم من جماعتهم اقبل منهم عدد لا باس به لاعتناق الاسلام بعد ان تبين لهم حق عدالة الاسلام، واصبحوا بعد ذلك يتمتعون بكامل حريتهم ومساواة حقوقهم مع الغير، كما اسلم عدد من الهندوكيين من طبقة البراهما والساتريا بعد ان تبين لهم عدالة الاسلام، اسلموا طائعين عن وعي وادراك وفهم.
للسيد ابن شهاب اساليب كثيرة في بث دعوته، فانه يركز اهتمامه بالشباب وقضاياه، وينتهز في أي فرصة تتاح له جمع الشباب، وكانوا يميلون اليه، لانهم وجدوه متجاوباً ومثالاً طيباً وقدوة حسنة، فركنوا اليه يترددون عليه لاستماع توجيهاته القيمة، في محاربته الجهل، وبث روح الاعتزاز بنفس الانسان الذي خلقه الله وكرّمه.
درّس كثيراً من الشباب، بمختلف طبقاتهم الاجتماعية والطبقية، فكوّن من هذه المجموعة من الشباب (كوادر) واعية متنورة حتى صاروا خير نواة يعتمد عليهم لتعزيز حركته (النهضة الاصلاحية). وبعد مرحلة التثقيف المطلوب اختار ثلاثين منهم ممن بلغ الوعي والنضوج بعد تلقينهم وتدريبهم واعطائهم الدروس حتى يمكن الاعتماد عليهم، فارسلهم الى الاقاليم البعيدة والارياف التي تكاد تكون منقطعة عن المناطق الهندوكية، للاتصال بالشعب مباشرة من جميع طبقاته لدعوتهم وهديهم الى الاسلام بأسلوب حكيم لين مع عدم المس بمشاعرهم الحساسة، حتى يعوا ويفهموا ويدركوا حقائق الامور بدون اكراه. فاهتدى من اهتدى منهم الى الاسلام كما اهتدى غيرهم من المتدينين بالاديان الاخرى.
اما بالنسبة للمجتمع الاسلامي فكان البرنامج الذي وضعه السيد ابن شهاب قد ركز على تثقيف وتعليم الجيل الصاعد، وتكوين المسلم الواعي الذي يشعر بالمسؤولية وصالح المجتمع العام.
يتوافد طلاب العلم من الشباب الى بيت السيد ابن شهاب لتلقي المزيد من المعلومات والاستفادة مما يلقيه عليهم من دروس وتوجيهات هادفة، فكان منزل السيد ابن شهاب كمعهد علمي يكتض بالسامعين. ولما ضاق بهم المكان، كان السيد يلقي توجيهاته في المعاهد العلمية اسبوعيا، اما بيته فيكتض بالوافدين من جميع المستويات والطبقات من وجهاء القوم وكبار رجال المجتمع والعلماء ورجال الدين، وفي بيته كثيراً ما يتطرقون الى احاديث سياسية واوضاع المسلمين في العالم واحوالهم الاجتماعية غير المرضية، ذلك أن اوضاع المسلمين مرتبط بعضها ببعض.
وعلى كل لم يكن السيد وحده في الميدان، فله من تلامذته واتباعه من يسدون الفراغ كالسيد محمد بن عقيل وغيره من الذين ملأوا المناطق في ذلك الوقت مجاهدين ومكافحين لتحويل سير الامور وتنوير العقول وتغيير الاوضاع للوصول الى مستوى افضل، وهو الهدف الاسمى.
نعم، يوجد في عصر السيد ابن شهاب دعاة، ولكن القليل جدا منهم من يحسن التأدية بالاسلوب المقبول الناجح، هذا وهناك كثير من الدعاة من وعّاظ السلاطين، همهم المال وجمعه.
لقد تطورت حيدرآباد بوجود السيد ابن شهاب واعوانه المكافحين في جميع مرافق الحياة الاجتماعية وفي نظام السلطنة، حتى تكونت لسلطنة حيدرآباد شخصية مرموقة ذات قيمة في مستوى الحكومات، واصبحت دولة لها قيمتها ومكانتها، وطالبت حيدرآباد بالمزيد من الحرية والاستقلال وتطوير قواتها المسلحة الدفاعية الى مستوى يمكنها من امتلاك احدث الاسلحة الدفاعية، وبعد كفاح طويل تمكنت حيدر آباد من تحسين اوضاعها التسليحية وان لم تصل الى المستوى المطلوب، ولكن التطوير حصل على رغم المشاكل والمعاكسات خصوصا من جهة بريطانيا.
كانت معالم حيدرآباد خصوصاً المباني كلها تتسم بالشعارات الاسلامية، بادية فى كل شيء في البلد، وتطور سير التعليم في جميع المستويات من الابتدائية حتى الصفوف العليا في الجامعات المركزة على الدروس الاسلامية وبروح اسلامية بعيدة عن العصبية التقليدية، وشيدت المباني الحديثة على غرار الطراز الاندلسي والايراني، وانتظم سير الحكم واستتب الامن وشعر الشعب بالرفاهية والاستقرار وبما يبهر القادم عندما يشاهد معالم البلد واوضاعه الاجتماعية وحياة المواطنين المرفّهة. وفتحت سلطنة حيدرآباد باباً لمن يريد الالتحاق من المسلمين بالقوات المسلحة الدفاعية بدون نظر الى القوميات ولا تمسك بالعنصريات، وما دام الملتحق مسلماً فله الحق التام بالالتحاق بالقوات المسلحة. واقبل الشباب المسلم المتحمس من كل مكان خصوصاً من ابناء جنوب الجزيرة العربية، تلبية لهذا النداء.
في مجال التربية والتعليم، ضوعفت الجهود لترقية مستوى التعليم في جميع المراحل بادخال التحسينات وتوسعة المعارف، وفتحت مدارس جديدة في كل حي من احياء البلد، وشيدت المعاهد العالية في كل ولاية من ولايات حيدر آباد، ودعمت الجامعات بمدرسين جلبوا من كثير من البلدان، وتطورت الاوضاع التعليمية والاجتماعية والاقتصادية، وازدادت الصلات وثوقا بدولة الخلافة وشعر المسلمون بالاعتزاز.
ومن هذا المرتكز دعا السيد ابن شهاب جميع المسلمين في شبه القارة الهندية وجميع بلدان جنوب آسيا شعوبها وحكّامها ووجهاءها وزعماءها ومن بيدهم مقاليد الامور للاتحاد والتآزر ونبذ الرعونات والخلافات المذهبية المصطنعة التي استحوذت على عقول رجال الدين اصحاب العقول الجامدة المتعصبة الذين انشغلوا بالامور التافهة التي لا نهاية لها، وتركوا الامور المهمة، ففتحوا المجال لاعداء الاسلام.
ان اهتمام السيد بالمسلمين بصفة عامة، جعلته يسعى السعي الحثيث للم شعث المسلمين وتوحيد صفوفهم، وتعدى حدود المنطقة التي اتخذها مركزاً لاعماله الى جميع مناطق المهاجر الشرقية التي هي في حاجة ماسة الى من يوقض شعورهم واحساساتهم. يقول في قصيدة له يخاطب المسؤولين المسلمين:
ومتى تخاذلنا واهمل بعضنا
واصابنا الفشل الذي يقفوه ذل
ان افتراق المسلمين اذاقهم
ضيم الهضيمة([93]) بعد عظم الشان
بعضا خلعنا خلعة الايمان
واضطهاد ليس بالحسبان
ضيم الهضيمة([93]) بعد عظم الشان
ضيم الهضيمة([93]) بعد عظم الشان
فعلام فرقتنا التي القت بنا
ولم التنافر والتباغض بيننا
والحقد وهي مدارك النقصان
في هوة الاهمال والخذلان
والحقد وهي مدارك النقصان
والحقد وهي مدارك النقصان
واذا بالحركات الاصلاحية تفور وتشتعل في كل بقعة من بقاع المهاجر الشرقية من ماليزيا وسنغافورا والهند الشرقية، وفي اواخر القرن التاسع عشر ارسلت اول بعثة علمية للالتحاق بالجامعات التركية في استنبول ثم تتابع بعد ذلك سفر البعثات العلمية الى تركيا ومن افرادها من واصل دراسته العليا في بلجيكا او فرنسا.
في عام 1898 اجتمع ثلة من الشباب المتنور بجاكرتا منهم السادة محمد الفاخر المشهور وعيدروس بن احمد بن شهاب وعبد القادر بن حسين بن شهاب وجماعة آخرون وتباحثوا لتطبيق وتنفيذ الدعوة للنهضة الاصلاحية وتبلور الاجتماع بتأسيس اول جمعية نظامية على الاسلوب الحديث كالحزب الوطني بمصر بقيادة المرحوم مصطفى كامل او الاتحاد والترقي في تركيا.
وسميت هذه الحركة في جاكرتا باسم (جمعية خير) ووضعت كل الاستعدادات لتحقيق هذا القرار وتم وضع القانون الاساسي، وهكذا تاسست الجمعية وبرزت للحياة قوية صلدة، وها هي باقية الى يومنا هذا تؤدي رسالتها التعليمية والتثقيفية. وبعد اربع سنوات من الجهد المتواصل تم تشييد اول مدرسة وارساء اول معهد للعلوم على الطريقة النظامية المتبعة في بلدان دول العالم باسم مدرسة جمعية خير، لان هذه المدرسة تابعة للجمعية المذكورة وذلك في عام 1900، وتم تاسيس المدارس في الضواحي والارياف والمدن المجاورة بجاوا الشرقية ثم توسعت الى انحاء جاوا الأخرى فتم تشييد جمعية ومدرسة باسم (الجمعية الخيرية) و(المدرسة الخيرية). وهكذا توالى تاسيس وتشييد المعاهد العلمية ودور العلم في كل بلد وكل قرية في المهجر الشرقي، وفيما يلي نذكر ما انبتته تلك البذور التي بذرها السيد وبالاخص في المهاجر الشرقية حيث انبتت وازدهرت واينعت في كل منطقة من تلك المناطق الواسعة، ونذكر هنا مثالاً بسيطاً لهذه اليقظة والازدهار المتواصل من عام 1898 الى عام 1920 أي خلال 22 عاما فقط. اما بعد عام 1920 فقد انتشرت الصحف والاحزاب السياسية والجمعيات الخيرية والمعاهد العلمية في كل بقعة وهي تتسابق وتتنافس في الاعمال الخيرية والتربوية ومحاربة الاستعمار، ولمن اراد المزيد في هذا الموضوع الى الوقت الحاضر عليه ان يراجع مؤلفاتنا في هذا الموضوع.
1898 نشوء اول فكرة لانشاء اول جمعية اسلامية.
1900 ارساءبناء مدرسة جمعية خير.
1905 اعتراف حكومة الهند الهولندية بحركة جمعية خير.
1906 اول صحيفة اسلامية صدرت في سنغافورا.
1906 ثم صدرت مجلة (ميدان فربايي) من جاوا.
1908 تاسيس مدرسة الاقبال في سنغافورا.
1908 جمعية الاخلاق الفاضلة (بودي اوتومو بجاكرتا).
1909 الجمعية الادبية فاداغ سومترا.
1910 دار المتعلمين.
1910 جمعية الشباب الجاويين.
1911 مدرسة حياة القلوب ماجالينكا جاوا الغربية.
1911 الشركة التجارية الاسلامية صولو.
1911 جمعية شركت اسلام.
1912 مدرسة الجنيد، سنغافورا.
1913 جمعية ثمرات الاخوان.
1914 مدرسة السقاف، سنغافورا.
1914 صدور اول صحيفة يومية للوفد الاندونيسي (اوتوسان انديا).
1914 الحزب الديمقراطي للهند الشرقية.
1914 جمعية الارشاد.
1915 المدرسة الدينية فاداغ.
1915 المجلس العلمي.
1916 مؤسسة الحفاظ على التراث فاداغ.
1916 منظمة اتحاد الموظفين.
1916 المدرسة الاسلامية بيناغ ماليزيا.
1916 مجلة الاسلام صولو.
1916 جمعية اعانة المتعلمين جاوا الغربية.
1916 صدور جريدة (نيراجا) اليومية (NERACA)
1917 جمعية اتحاد العلماء جاوا الغربية.
1917 منظمة اتحاد عمال معامل السكر.
1917 مدرسة الهادي مالاكا ماليزيا.
1917 مدرسة المشهور فيناغ ماليزيا.
1918 اللجنة الخيرية الوطنية الجاوية باندوغ.
1918 جمعية الحسنى.
1918 حزب النبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم).
1918 صحيفة خلاصة الاخبار، جاكرتا.
1918 جمعية انقاذ المستضعفين.
1919 اتحاد عمال الهند الشرقية.
1920 صحيفة نور الاسلام فكالوغن جاوا الوسطى.
1920 اتحاد معلمي المدارس الاسلامية.
1920 اتحاد الطلبة المسلمين.
1920 جريدة الاقبال سورابايا.
1920 جريدة القسطاس سورابايا.
بعد غياب السيد ابن شهاب عام 1922 وتواريه عن اعين الناس حاولت سلطنة حيدرآباد ان تحافظ على الاوضاع وعلى مكانتها كما هي، باذلة كل جهدها في سبيل ذلك، ولكن السلطات البريطانية بعد القضاء على دولة الخلافة الحاملة شعار الاسلام، اتجهت إلى ازالة كل سلطة أو حكم يتسم بروح الاسلام ومقاومة كل حركة اسلامية لئلا تعود الى الوجود فكرة الخلافة الاسلامية بعد زوالها عام 1922. واستمرت في محاربة الاسلام بخطوات متتابعة مستمرة حتى نشوب الحرب العالمية الثانية، وبحكم كون شبه القارة الهندية مستعمرة لبريطانيا التي انضمت إلى الحلفاء ضد دول المحور، جندت بريطانيا مئات الالوف من الهنود بجميع اديانهم وارسلتهم الى ميدان القتال. وبعد انتهاء الحرب بانتصار الحلفاء على اليابان في الشرق 14 / 8 / 1945 سنحت الفرصة لتمزيق شمل شعوب شبه القارة الهندية باحياء النعرات الدينية والعنصرية لتمزيق هذه القارة التي تضم ملياراً من البشر، بينما الهندوكيون والاشتراكيون واصلوا سيرهم لمواكبة النهضة الاستقلالية. وكان غاندي وجواهر لال نهرو من زعماء حزب المؤتمر ومن رواد المطالبين بالاستقلال بينما كان القائد الاعظم محمد علي جناح يسعى لتكوين دولة اسلامية للمسلمين في شبه القارة الهندية. وفي عام 1947 أي بعد عامين من انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد مفاوضات تم تجزئة شبه القارة الهندية الى الجمهورية الهندية وجمهورية باكستان الاسلامية وجمهورية سيلان (سري لانكا)، ومنطقة كبيرة واسعة تركت للتنازع بين المسلمين والهندوكيين بتعمد وهي اقليم كشمير، إذ ان كلاً من الدولتين تدعي احقيتها في هذا الاقليم الغني، وتتنافس الدولتان للسيطرة على هذا الاقليم مما جر الى مشاكل ونزاع ومناوشات مسلحة. وقد استولت الجمهورية الهندية على جزء منها واستولت باكستان على الجزء الآخر واصبح الشعب الكشميري هو الضحية إذ جزّئ وطنه وهو محكوم من الدولتين.
اشتدت عداوة الهندوكيين ضد المسلمين بعد قيام دولة باكستان وقد جرّت الى مناوشات ثم اصطدامات مسلحة محلية محدودة على الحدود بين البلدين حتى جاءت قضية البنغال وقامت الهند بتأييد البنغاليين للانفصال التام عن باكستان
خصوصا وان موقع البنغال في الشرق يفصله الف كيلو متر عن باكستان الغربية وبينهما جمهورية الهند، وارسلت حكومة الهند جيشا بكامل الاسلحة والعتاد لتدعيم البنغاليين للانفصال من باكستان وانتهت المصادمات بتأسيس جمهورية بنغلاديش، فظهرت جمهورية جديدة في القارة الهندية.
هكذا تم تجزئة شبه القارة الهندية الى جمهوريات متفرقة وربما ياتي يوم تتجزأ فيه جمهورية الهند الحالية الى جمهوريات اخرى، فالبوادر تدل على ان التمزق حاصل، فحوادث السيخ والضحايا الكثيرة المتسلسلة لا يمكن اعتبارها هينة، فالمصالح مختلفة والعقائد الدينية متضادة ثم ان أيدي الاستعمار فعالة لتمزيق كل القوى الموجودة في آسيا التي لا تماشي مصالح الاستعمار. وظلت الجمهورية الهندية بشتى اساليبها المبطنة وغير المبطنة تحاول ازالة كل ماله علاقة بالاسلام لئلا يكون للمسلمين تلك الشخصية وكيانها الفذ في المجتمع الهندي ومحو كل المقومات الاسلامية في الجمهورية الهندية، فعندما سنحت الفرصة لجمهورية الهند بغزو حيدر آباد لم تترك هذه الفرصة تمر سدى، فاجتاحت حيدر آباد على حين غرّة بقواتها الهائلة، وبعد ان رتبت سياستها الخارجية، لئلا تثير العواطف العالمية، وبتأييد ورضا من دول الاستعمار وقضي على آخر معقل اسلامي في آسيا.
الاسلام محارب من كل الجهات وبكل الوسائل من جميع الفئات والاديان والعقائد والمصالح، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. ولكن متى يعي المسلمون هذا الخطر المحدق بهم؟ والمؤسف ان من المسلمين عملاء للاستعمار، بوعي أو غير وعي وهم يعملون لمصالحهم الخاصة وان كانت في ضرر المسلمين اجمع.
النهضة الاصلاحية
نجح السيد ابن شهاب رائد النهضة الفكرية في المهجر الشرقي نجاحا باهرا، فهو باعث الفكر الحر للنهضة الاصلاحية بين تلك الشعوب في اواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي، في عصر الانحطاط الفكري والاقتصادي والاجتماعي بين المسلمين بسبب سيطرة الاستعمار وهيمنة النفوذ الاوروبي.
ادرك السيد ابن شهاب خطورة الواقع الأليم على المسلمين الذي وصل الى اسوأ حال في كل المستويات، ففكر ثم فكر ووضع اُسسا قوية متينة مبنية على التجارب التاريخية، وباشر عمله على الاسس الفكرية المدروسة التجارب السياسية فأرسى كل ذلك على قواعد قوية فبدأ من القواعد الشعبية، أي انه بدأ التغيير الاساسي من الشعب.
لم يعدم العالم الاسلامي آنذاك من مصلحين ورواد فكر سليم، يكافحون بكل قواهم لتغيير الاوضاع المتأزمة، كانوا يعملون حسب طاقاتهم ومقدورهم امام تلك المواقف الخطرة، وتصدوا لمكافحة الجهل والاُمية بين الامة واتخذوا مختلف الوسائل لتحقيق اهدافهم.
انطلاقا من هذا الاساس، اساس التغيير الجذري، تمكن السيد ابن شهاب من البدء في مرحلته الاولى لنهضته الاصلاحية لايجاد تغيير شامل كامل في الافكار ثم في الاوضاع باعداد جيل من الشباب المثقف المتنور الشاعر بالمسؤولية لبلورة الوعي والمفاهيم والافكار في حياة الامة الاجتماعية.
من المعلوم ان الطرق شاقة والسبل وعرة للوصول الى الهدف، فالمسافة بعيدة، ولكن بوجود الجيل المثقف اصحاب الروح الوثابة والنفوس الواعية، كل هذه العراقيل تصبح سهلة وهينة، بجانب وجود مخططات مدروسة لمواجهة كل تلك المشاكل التي لابد من مواجهتها.
فالسيد ابن شهاب بحق زعيم النهضة الاصلاحية ورائدها وقائدها فهو واضع الاسس الثابتة بجهده ومؤازرة زمرة ممن كانوا معه طيلة هذا الكفاح المرير، حتى استطاعوا انقاذ الامة من الجهل والذل والتبعية والجمود والمسكنة التي سيطرت على العقول والافكار بسبب الرواسب من القنوط والتحجر الفكري المتوارث فيها.
ان الوضع العام في جنوب الجزيرة العربية والمهاجر الشرقية عبارة عن وجود مجموعة كتل شتى من البشر يعيشون في اطار تفكير ضيق المعالم من العقيدة، يحسبون ان ما هم عليه هو من صميم تعاليم الدين الحنيف، والكيِّس منهم من تهمه المادة فسعى في طلبها وجمعها ليكون متمولا غنيا، وجل هؤلاء ممن يعيشون في المهجر وتوفق البعض كما فشل آخرون.
اما المتنورون والمثقفون وهم القلة القليلة فيعيشون في معزل إذ هم لا يطيقون الحياة في ذلك المجتمع الذي لا يلائمهم، ففضلوا الانعزال والسكوت حتى إذا جاء صوت الدعوة الاصلاحية والفجر الجديد للصحوة الفكرية التي يدعو اليها السيد ابن شهاب، وجدوا فيها متنفسا ومكانا يقفون عليه، فلبّوا الدعوة وانخرطوا في سلكه وكانوا من خيرة رجال النهضة الاصلاحية.
كان السيد، وكما ذكرنا، في المرحلة الاولى من هذه الحركة الاصلاحية يركز على محاربة الجهل وتحرير الافكار والعقول من الاوهام والتبعية العمياء التي عشعشت في عقول ونفوس جل الشعوب المستعمرة آنذاك، فوضع الامور في موضعها الحقيقي الصحيح كما تقتضيه حتميات التطوير السليم.
اما الخطوة الاخرى من المرحلة الثانية من هذا البرنامج فقد ركز فيها على الاقتصاد والصناعة الحرة التي لا تخضع لرأي حاكم أو مصلحة هيئة، أو نفوذ سلطان أو هيمنة مستبد يخشاه الناس رهبة وخيفة، ان التركيز في هذا الحال على الاقتصاد والصناعة باعتبارها مرتبطة ارتباط وثيقا بالمجتمع والمصالح الشعبية العامة فلا يمكن اعتبارها مستقلة في ذاتها.
فالحركة الاصلاحية هذه تهدف الى ايجاد صحوة فكرية عامة، ولا يتم ذلك إلاّ بتثقيف العقول وصقلها وتقويم سير الافكار واستبدال المفاهيم العامة بما هو اسلم، خصوصا في النواحي التربوية المبنية على الاسس الحكيمة والمبادئ السليمة، وبذلك يمكن انقاذ الامة من المهانة والتأخر والفقر والجهل.
اما الاوضاع العامة لسلاطين المسلمين وحالة الحكام في ذلك الوقت فعلى العموم تعتبر غير مرضية، مهما تفاوتت اوضاعها ومستواها، فهذه السلطنات كلها بوجه عام هزيلة ضعيفة، كيانها مزعزع، مجتمعها مترهل، عاجزة عن العمل الجدي فضلا عن مجابهة الغزاة الغربيين الذين اجتاحوا العالم شرقا وغربا عسكريا واقتصاديا، ولضعف السلطنات الاسلامية وقعت لقمة سائغة للاحتلال الاستعماري وصارت مستعمرة أو صارت تحت حماية القوي الغازي. والسلاطين والحكام بقوا في لهوهم سادرين. والشعب هزيل ضعيف. مستوى التعليم منحط ما عدا الامور الفقهية والمسائل الخلافية الفرعية المختلف فيها، وذهب آخرون الى التصوف والابتعاد من امور الدنيا، وتركوا الاقتصاد فاستولى عليه الغير.
هناك البعض من الفقهاء الذين يدعون انهم ورثة الانبياء من وعاظ السلاطين، الذين وضعهم السلطان ليكونوا حراسا لا متيازاته ودعاة لانحرافاته وغطاء لسياساته، فيما يبررون فيه للظالم ظلمه وفيما يتحركون به من اثارة للمشاعر الدينية الشعبية البدائية لمصلحته وفيما يواجهون من خلاله القوى الاسلامية الثائرة التي تعمل على ان تتحدى السلطان في ظلمه وفي انحرافه.
وقد استطاع هؤلاء ان يعمقوا في ذهنية الامة التخلف، ويدفعوا بالمجرمين الى مستوى القداسات، وان يثيروا الفتن المذهبية داخل الحياة الاسلامية حتى تعمقت الحواجز بين المسلمين بحيث حالت بينهم وبين اللقاء في مواطن الاتفاق، وذلك من خلال التأكيد على المفردات الصغيرة والآفاق الضيقة التي تحبس كل مسلم في دائرته الخاصة كما لو كانت دينا مستقلا ينفصل عن الدين الذي يلتزمه الآخر. ولا تزال المسألة تتحرك في نطاق الاثارة الدينية التي تتحول الى كتلة من المشاعر العدائية فيما تنطلق به من الوسائل المثيرة على صعيد الواقع السياسي في الساحة الاسلامية، بما يحرك الكثير من العصبيات التي تحرك الكثير من الحروب الداخلية المدمرة بين المسلمين وزرع الاحقاد فيما بينهم على مدى المستقبل الذي يتغذى من مفردات الاحقاد الكامنة في حركة التاريخ في الماضي.
ولذلك فلابد من العمل من اجل تحديد مواقعها، ومحاصرة خطواتها، والتخفيف من تأثيرها المعنوي على المجتمع الاسلامي بتعرية ملامحها الحقيقية، واظهارها بمظهرها الصحيح، ثم اختيار العناصر التي تتميز بالتقوى والكفاءة والصلابة في ممارستها العملية، وتربية الدُعاة على الارتفاع إلى مستوى المسؤولية فيما هي حاجة الاسلام في جميع المواقع والاوضاع([94]).
فوعاظ السلاطين هم الحاشية والبطانة يستغلهم السلطان والحاكم لمنافعه الخاصة الذاتية، فتأييدهم تقوية لمركز الحاكم، فالسلطان يتاجر بهم ولا يتورع وعاظ السلاطين في تبرير مفاسد الحكام باصدار الفتاوى بوجوب طاعة اولي الامر واتباع اوامرهم، ثم يشغلون الشعب بتوافه الامور في مسائل فقهية خلافية.
ان هذه الثلة من البطانة الفاسدة والمتاجرين بالدين هم اول المناوئين والمقاومين لكل حركة اصلاحية، خشية منهم على مراكزهم ومكانتهم لئلا تتزعزع وينفضح امرهم امام الملأ، وحفاظا على مراكزهم ومكانتهم، فبذلوا جهدا كبيرا ضد كل حركة جديدة بكل ما اوتوا من قوة ومكر وحيلة، لئلا يعي الشعب وينقاد الى هذه الحركة الجديدة. فتكونت كتلتان: كتلة الاصلاح في جهة وكتلة المقاومة المضادة للاصلاح في جهة اُخرى وتجابهت الكتلتان ونشب بينهما صراع مرير، مما وعرقل مسيرة دعوة النهضة الاصلاحية. والمعلوم ان الاصلاح لا يكون إلاّ في مواطن الفساد، والمفسدون هم المناوئون للصلاح والاصلاح.
استطاع السيد ابن شهاب ومن معه من رواد النهضة تحطيم المناوئين تحطيما شل نفوذ الحاكم الجائر والسلطان الباغي وانفضح ادعياء العلم ووعاظ السلاطين والمتاجرون بالدين والمفتون بتحليل الحرام وتحريم الحلال.
انهارت قوى البغي والعدوان امام الزحف الخاطف لحركة النهضة الاصلاحية واستطاع الشعب بعد ان نال كل حريته ان يقول للظالم: ظلمت، فاتق الله، ويقول لادعياء العلم والمتاجرين بالدين امامهم جهارا: انكم المتلاعبون والمتاجرون بالدين فويل لكم، ويقول الشعب للمحسن: احسنت، وللمسيء: أسأت، امام امر واقع لا مهرب منه. وعلم البطانة الخطر المحدق بهم الذي لا مفر منه، وحاول المتاجرون بالدين التزلف الى رجال حركة النهضة، فلم يجدوا لهم موضع قدم فالشعب الواعي حال دون اتصالهم برجال النهضة.
انهم رأوا تلك الكراسي التي تربعوا عليها قد زالت من ايديهم وان نفوذهم قد تلاشى، فالجو قاتم امامهم والعاصفة الهوجاء اجتاحت مكانتهم ولا يدرون ماذا يعملون. فقدوا كل شيء حتى مستقبلهم.
ان نجحت الدعوة الاصلاحية في مكان فان امكنة اخرى لا تزال في اوضاعها التقليدية خاضعة للتقاليد المتخلفة والعبودية بفعل العقول المتحجرة ممن يقال عنهم (قادة).
ان سوء الحالة المسيطرة على المجتمع بحكم تلك الاوضاع واختلاف موازين المعيشة سبب الضعف العام في العقول والتفكير، وتبلور الى جمود وخمول وتحجر. ولا تزال دويلات السلاطين مبعثرة والشعب يعيش في خوف ورهبة. المتنورون عاجزون لأنهم فقدوا طاقتهم الفكرية واصبحوا كالعضو الاشل، والشعب تاه واصبح لاهياً مضللاً قد تراكمت عليه المشاكل فاشغلته عن اموره المهمة الرئيسة فحاد عن السبيل القويم.
تلك الحالة غير مرضية لرواد الاصلاح، والمسلمون في ذلك الوقت يعانون من سلسلة من المآسي كأنهم بين فكي ذئب، حكام طغاة يدعون الاسلام وهم ابعد الناس عن الاسلام بل بافعالهم يحاربون الاسلام. إذاً يجب مواصلة الكفاح لسحق تلك الاوضاع المتردية بالدعوة الاصلاحية باستمرار وبدون توقف لان المرحلة طويلة والمشاكل كثيرة والمقاومون يعارضون كل اصلاح.
بدأ العمل للدعوة الاصلاحية من الجذور، إذ لا يصلح المجتمع ما لم يصلح الفرد ولا صلاح للاسرة إلاّ بصلاح الفرد وبصلاح الاسرة يصلح المجتمع، وهكذا يتدرج الاصلاح الى معالم الدولة، فلا يمكن اصلاح مجتمع وافراده فسدة، ولا اصلاح دولة إذا كان مجتمعها فاسداً مهلهلاً، فاصلاح المجتمع بدون اصلاح الفرد مجهود ضائع.
التربية الفكرية:
يعتبر اسلوب التربية الفكرية من الاسس المهمة لاثارة مشاعر الوعي لدى الشعب وتربيته تربية صالحة لصقل العقول وتهذيب الافكار وتحريرها من العبودية، حتى تتوسع المدارك للتعرف على نهضة الحضارات العالمية منطقيا بدون تعصب بصورة متسلسلة من بدء التاريخ الى يومنا هذا، بشكل يشمل كل المناحي من علوم واقتصاد وادب وفلسفة وقانون واجتماع وصناعة وشعر وغيرها لاستلهام محاسنها ودرء مفاسدها.
لا شك ان الحوادث العالمية التي يحدثنا التاريخ عنها تعطي بكثرتها الباحث مقاليد التصدي من خلال المجال الواسع لانتقاء المثال الطيب ليحتذى به ولتطبيقه في هذا العصر.
كما ان التيارات الفكرية التي عصفت بالعالم اتخذها بعض الحكام مرتكزا لتثبيت عرشه بالقوة وكبت الافكار والآراء الحرة وبتر رؤوس مخالفيه.
والفترة الزمنية التي عاشها السيد ابن شهاب ووضع فيها اسس تربيته الفكرية كانت كلها فترة كفاح ونضال مليئة بالمآسي تارة وبالمفاجآت السارة تارة اخرى شان كل كفاح ونضال، هبوط وارتفاع، ولا ريب ان الصحوة الفكرية فى تلك الفترة كان لها خطورتها ومفعولها الايجابي الأمر الذي ضمن لها النجاح والازدهار باكتمال فصولها، ونمت الحياة الفكرية في روح الشعب عقلياً وثقافياً.
ان الحضارات الغربية كما يفهمها ذوو العقول الراجحة، بما في تلك الحضارة من المفاسد التي يجب درؤها صيانة للمثل الاخلاقية العليا، لا يمكن الاعتقاد انها بجملتها فاسدة يجب محاربتها وطمس معالمها لانها اتت من الكفار وديار المشركين، بناء على منطق من يقول: ان كل ما جاء من الكافر والمشرك فهو فاسد ومحرم اتباعه وانتهاج نهجه، ولا ريب ان هذا القول فاسد لانه منطق معكوس من اساسه لا يقول به إلاّ صاحب عقل مأفون أو فكر مفلس.
لا جرم ان في كل عصر من عصور التاريخ يوجد متملقون لولاة الأمور وبطانة فاسدة للولاة والسلاطين يمالئونهم على ما يشتهون، وأمثال هؤلاء موجودون الى الآن في زمننا هذا.
كان لهذه الدعوة الاصلاحية صدى عظيم رددته الاجواء في المهجر الشرقي وتعاظمت حركة النهضة الاصلاحية متجاوبة لاحقاق العدالة الاجتماعية وتطبيق مفهوم الحرية التي تكفل كرامة الانسان. وانتشرت دور العلم والتعليم واقبل الشعب بكل طبقاته لانتهال العلم من معينه الصحيح، وتثقف الجيل الصاعد من الشباب تثقيفا علميا اخرجته من رواسب مفاهيم وعقليات الماضي التي يحميها ويدعمها النفوذ الخارجي والاستعماري.هل الاصلاح لا يتم الا بالثورة المسلحة ؟
لم يفكر السيد ابن شهاب بوما او يخطر بباله استحسان اللجوء الى الثورة المسلحة واتخاذ العنف والقوة لتحقيق اهداف النهضة الاصلاحية مهما استعصت الامور بسبب المعارضين والمقاومين، فانه لا يؤمن ان الاصلاح يجب ان يكون بالقوة والعنف او الاعتماد على الثورة والارهاب، ولكنه يؤمن ببث الوعي ونشر العلم بين الشعب ودعم كل ما يجب دعمه واصلاح ما يمكن اصلاحه. كان يحب أن تبدأ حركة النهضة الاصلاحية من الجذور بفتح المدارس لتثقيف الشعب وبث روح اليقظة والشعور بالمسؤولية حتى يتمكن كل واحد ان يشق طريقه في الحياة ضمن النهضة الاصلاحية الشاملة لكل الجوانب الحيوية من اقتصاد وتصنيع لتتكون قوة مانعة.
ان الاصلاح بالثورة معناه السعي للوصول الى الهدف بالقوة والعنف والاكراه أو باراقة الدماء، ومهما قيل عن الثورة وتبريرها، فانها قد تجر الى تدمير ما عمّر ونهب ممتلكات وتشريد عوائل، والانقلاب هو وضع العكس مكان المعكوس. ولا يتم ذلك الا بالقوة والعنف، والوقائع شاهدة وكثيرة. فالسيد ابن شهاب كان يتخذ اسلوب التطوير ( EVOLUSION ) المبني على التطوير الطبيعي تثقيفا وتوعية، والتطوير يتطلب المرونة والحكمة. ومن هذا منطلق وعلى هذا الاساس يعاكس سلوك سياسة العنف والثورات ( REVOLUSION ) التي تجر الى الفوضى والى مزيد من الضحايا البشرية، فالبناء صعب والتخريب سهل.
الاحزاب السياسية
ظهرت الاحزاب السياسية في الدول الاوروبية الديمقراطية للحفاظ على حرية الفرد، وبوجود الحرية الفردية المتمثلة في الاحزاب في الدول الديمقراطية ينعدم الاستبداد والحكم الفردي او الحزب الواحد. وليس للشعب إلا الانصياع للاوامر والحكم الاستبدادي الشبيه بحكم الاستعمار، الشعب مكره على طغيان رجل من قومه وبني جنسه. كما يكذب ذلك المستبد ان الشعب كله لا يريد سواه فنال من اصوات شعبه بمعدل 99 بالمئة بينما شعبه المكبوت لا يعلم من سير الانتخاب شيئا ولم يسمع الا بالبيان الذي قيل عنه نتيجة الانتخاب، وحقيقة الامر ان الشعب يضمر للحاكم كل الكراهية ولكنه مغلوب على امره. دعايات ملفقة مزورة لا يصدقها حتى الجاهل، فالسيد لا يرى من تأسيس الاحزاب لتدعيم دعوته بطرقها واساليبها ما يناسب او يماشي سبل دعوته، فله في ذلك رأيه الخاص، ويرى ان التطوير على خطوات اجدى وانفع واكفل للنجاح المطلوب، فدعوته كانت دعوة سلمية تثقيفية تربوية مبنية على الوعي ولا يمكن ان تدخل عليها صفة الاكراه، لان الاكراه يثير الضغائن والاحقاد ويتسبب في قيام حركة معاكسة، والاكراه لن يغير العقائد، ولكن الفهم والوعي والادراك هو الذي يغير معالم الافكار والعقائد عند المدرك والواعي فيرى الحق حقا والباطل باطلا ويستطيع التفريق بين الحسن والقبح، ثم ان الجهل لا يحارب بقوة السلاح وانما بتشييد معاهد العلم لتنوير الاذهان وتغذية الارواح بالوعي وتحرير النفوس من التبعية العمياء لكيون الفرد عالما فاهما، ومتى تثقف القوم تطور المجتمع تلقائيا بذاته وسارت احوال المجتمع من حسن الى احسن، فلا جهل ولا فقر ولا مرض.
ولذا فان السيد يحذر دائما من الانسياق وراء العواطف التي كثيراً ما تجر الى مشاكل، وتضر ولا تنفع. وكان يحث على تحكيم العقل والأناة والصبر في جميع الاعمال، لانه الكفيل بالنجاح. فالحق هو الحق ولا يشترط ان يكون مع الاكثرية او مع الاقلية.
يقول السيد ابن شهاب: ما ابتلي المسلمون بشيء كما ابتلوا بالجهل والامية فالجهل يجر الى قصر النظر وضيق البصيرة والى اتباع الهوى والانفعالات بدوافع العاطفة ففقدوا القدرة على سيطرة النفس بسبب الجهل، فحادوا عن الصراط.
فتلك هي الامراض التى جرَّت المسلمين للانزلاق الى مهاوي الانحلال والتشتت في شتى المتاهات.
وليس الجهل فقط عند من لا يقرأ ولا يكتب، ولكن الجهل يكون أيضاً بالاوضاع وحقائق الامور، فكم من قارئ وهو متعصب لفكرة شاذة، وكم من قارئ يكفِّر من يقول ان الارض كروية وان الوصول الى الفضاء كذب صريح. وآخرون بعكسهم تماما يرون الاسلام في صورة المسلمين. اولئك الذين يحرمون تدريس علم الجغرافيا في مدارسهم والفلسفة عندهم منافسة لعلم الله، واعتقدت هذه الفئة ان الاسلام يحارب العلوم وان الدين عبارة عن طقوس وعادات من رواسب البدائية، لانهم لم يروا المسلمين الا في صورة من يحرمون الجغرافيا والفلسفة وخالوا ان ذلك هو الاسلام لضيق افقهم وتأثرهم بالغرب بدون روية، وظنوا ان كل شيء من اوروبا هو الحق وما سواه باطل، وفاتهم ان الاسلام شيء وان المسلمين شيء آخر فلم يفرقوا بين الدين وبين معتنقي الدين. متوهمين ان الاساطير من اسس التعاليم الاسلامية وحسبوا ان الاسلام دين تافه لا يستطيع مجاراة الزمن، ولم يفطنوا انه اذا قام المتدين بارتكاب جريمة فعليه العقاب، لا كما يتخيل أن المتدين إذا ارتكب جريمة فان الدين دين اجرام.
هكذا مني الاسلام بهؤلاء المفرطين والمفرّطين بين متعصب ضيق الافق ينكر كروية الارض ودورانها واختراق الفضاء وبين من انجرف مع اوروبا بخيرها وشرها يرى الخير كله في اوروبا.
هولندا وحركة السيد ابن شهاب
لم تتمالك حكومة هولندا الاستعمارية في الهند الشرقية نفسها امام هذا النشاط المتواصل الذي اثاره السيد ابن شهاب في دعوته الى النهضة الاصلاحية وخشيت هولندا من مغبة هذه الحركة التي ستقوض حكمها ومصالحها في الهند الشرقية، واتخذت هولندا كل التدابير سراً للحد من هذا النشاط المتواصل، خشية من عواقب هذه الحركة لانسياق الشعب لهذه الفكرة الجديدة، مع ان السيد لم يمكث في الهند الشرقية سوى اربع سنوات متتالية، رأت هولندا كيف احتوى السيد ابن شهاب جملة كبيرة من المثقفين المتنورين واثار فيهم الحماس وروح النضال، وكيف استطاع ان يؤثر فيهم وفي افكارهم التي تمخضت على اثر ذلك عن روح الكراهية للاستعمار بكل انواعه واشكاله، واحتدم الغليان والتبرم من الوضع الحاضر الاستعماري فاصدر الوالي العام مندوب التاج الهولندي المقيم بجاكرتا امره للمستشرق الهولندي ومستشار الوالي الهولندي الخاص الذي يرأس ادارة الشؤون الاسلامية، وكان ذلك بتوصية خاصة من وزير المستعمرات الهولندية لما وراء البحار بتقديم تقرير ضاف شامل عن أنشطة السيد ابن شهاب لقمع تلك الحركة قبل استفحالها باتخاذ كل التدابير اللازمة، لاعادة استتباب الامن والطمأنينة في ربوع الهند الشرقية، وكان اول عمل قامت به حكومة الاستعمار الهولندي مضايقة السيد ابن شهاب باعتباره اجنبيا في هذه البلاد ولا يحق للاجنبي ان يمارس اي نشاط سياسي أو ما يخالف الدستور الاستعماري الهولندي او ما يثير القلاقل او يحدث الهرج في الافكار التي تزعزع الطمأنينة العامة باي اسلوب من الاساليب الاستفزازية وبلبلة العقول مما يجر الى عدم الاستقرار واضطراب الامن العام. كما بدأت الحكومة تختطف رجال الحركة للاستنطاق بتهمة العمل والمحاولة لاثارة القلاقل في البلد بتحريك شعور الشعب ضد الدولة وتم اعتقال رجال النهضة الاصلاحية في سورابايا ومالاغ وبنداواسا والصولو وجاكرتا من اسر وعائلات معروفة في الحركة من بيت آل حداد والمحضار وآل العطاس وآل السقاف وآل شهاب وآل الحبشي وغيرهم.
وبنصيحة من المستشرقين الهولنديين الذين يعملون في ادارة الشؤون الاسلامية أنه لابد من ايجاد حركة اخرى مقابلة للنهضة الاصلاحية لتكون منافسة لها ومعاكسة لكل عمل من اعمال النهضة الاصلاحية واتهامها بالمروق من الدين ونشر البدع اختارت الحكومة الهولندية بطريقة غير مباشرة جماعة ممن يسيرون في ركاب الاستعمار ومن ورائهم مطبلي الدولة، فبرزت الى الوجود هذه الحركة التي تدعمها حكومة الاستعمار بالمال لتسهيل امورها ولتعكير الافكار وضرب المسلمين بعضهم ببعض حتى تنشق كلمة المسلمين وتتفرق وحدتهم وتتمزق عراهم وتتشتت افكارهم باثارة المسائل الفقهية الخلافية، وغذت حكومة هولندا هذه الحركة المعارضة بالآراء والافكار والاموال محاولة جعل المسلمين كتل متناحرة، ومهمايكن فقد استفادت هولندا من هذا الوضع في تعكير الافكار وبلبلتها كما فتحت هولندا للحركة (الاحمدية) القاديانية التي تمولها بريطانيا المجال الواسع في اندونيسيا لزيادة تعكير الاوضاع وبلبلة الافكار. لينشغل المسلمون في تلك المسائل الخلافية.
اجتمع رجال حركة النهضة الاصلاحية وتشاوروا فيما بينهم في كيفية مجابهة المكر الاستعماري الهولندي المتزايد، واشار بعض الحاضرين من رجال الحركة ممن لا يتمالك صبره قائلاً : لابد من تغيير وتحويل اسلوب دعوتنا الاصلاحية من اسلوب السلم الى طريقة العنف والقوة ومجابهة القساوة بقساوة مثلها او اشد منها، لتتسم حركتنا بالقوة والعنف وليعرف الجميع اننا لسنا ضعفاء كما يتخيلون ويريدون هضم الضعيف، واذا عرفوا اننا اقوياء حسبوا لنا الف حساب. ندعو جميع العمال والموظفين ان يقاطعوا الدولة ويتوقفوا عن العمل لشل حركة الدولة وارهاقها في المشاكل بدلا من محاولتها لمحاربتنا، فلنسبقها بمهاجمة المراكز الحساسة للدولة .
ولكن هذا الاقتراح والتفكير لم يجد قبولا حسنا لدى السيد ابن شهاب وعارض كل اسلوب للعنف، بحجة ان المسلمين لا يزالون ضعفاء لا يملكون سلاحا ومعنويتهم لم تتبلور الى قوة روحية كاملة، والاقدام الى العنف والمسلمون في تلك الحالة يعد من الاعمال التهورية التي لا تنتج إلا سوء العاقبة ويفضل السيد ابن شهاب مضاعفة النشاط الحركي ودعوة اولئك العملاء الذين أمروا لمعارضة النهضة الاصلاحية وتوعيتهم ومخاطبتهم بالاسلوب الذي يمكنهم من قبول دعوة الحركة الاصلاحية فيرعووا ويهتدوا ونجعل حكومة الاستعمار الهولندي في مأزق ونذكرها بان الخلافات بين الامة لا تعود على الجميع الا بالضرر الجسيم.
ان مخطط حكومة الاستعمار الهولندي في جزر الهند الشرقية لتحطيم حركة النهضة الاصلاحية التي يقودها السيد ابن شهاب وان كانت قد اثرت في بعض النواحي على هذه الحركة باعتقال بعض رجالها واستنطاق الاخرين، غير ان حركة النهضة ظلت تسير في طريقها بقوة اكبر وهمة اعظم، واستطاعت ان تزحف كالسيل العارم الجارف مكتسحة دعاة المعارضة والمقاومة وعملاءها الى ناحية وهم صاغرون مبهوتون، وتبين للملأ طريق الباطل الزائف من الحق الناصع.
ان السبيل الوحيد لدرء المفاسد هو تثقيف الشعب تثقيفا علميا وتوعيته توعية تجعله يشعر بالمسؤولية ويسعى للوصول الى الغاية المنشودة بكل ما عنده من قوة.
ان اختلاف وجهات النظر في العمل للوصول الى الغاية لا يستوجب التنافر او التناحر، فالهدف واحد والغاية واحدة، هي هي. وبدل ذلك يجب ان يركز على الاخلاص في العقيدة والمبدأ ومن لا يخلص لعقيدته ومبدئه فلا خير فيه وهو من الذين يسهل شراء ضمائرهم ويكونون عملاء للاستعمار ضد بني قومهم ووطنهم لمصالح المستعمر. يقول السيد ابن شهاب في هؤلاء الذين لا يخلصون في مبادئهم ما يلي :
من ليس يخلص في مبدا ارادته
ومن له من هوى الاغراض شائبة
يهوي به الحظ في اهوى مهاويه
فكيف يرجو فلاحا في تناهيه
يهوي به الحظ في اهوى مهاويه
يهوي به الحظ في اهوى مهاويه
ومن هنا يتجلى ان السيد ابن شهاب كان يعارض التهوّر في الاعمال، خصوصاً ما يكون بالعنف والقوة لقلب نظام الحكم لانقاذ الوضع المتردي مهما كان الامر وكما يحسبه البعض ميئوساً منه، وكل ميئوس منه يجب بتره والاستغناء عنه كليا، نجد ان السيد يخالف هذه الفكرة بتاتا، كما سبق ان بيناه. ولم تكن فكرة معارضة السيد للعنف قد جاءت عفوية بسبب المكر الاستعماري او تلقائيا، ولكن فكرة الدعوة سلميا كانت متخمرة لديه وفي ذهنه منذ عنفوان شبابه وهو في المرحلة الاولى من مراحل حياته اي منذ عام 1280هـ ، عندما كان يفكر في حالة قومه التي لا ترضيه، قومه الذين يعانون الجهل والفقر والمرض والجمود الذي خيم على عقولهم وافكارهم. يرى كل ذلك ويحز في نفسه الما موجعا، فلم يصبر فتكلم وناقش، وأخذ يستنهض همم بعض الشباب بالحديث والخطب والكتابة، وكثيرا ما تبلورت احساساته في قصائده في كثير من المناسبات.
لم تكن فكرة النهضة الاصلاحية موجهة لناحية خاصة، وانما كانت الدعوة عامة تشمل الاقتصاد والتجارة والصناعة وكلها مبنية على اساس التثقيف والتعليم والوعي. وعلينا ان ندرس هذه الامور والقضايا دراسة وتحقيقا لئلا يفوتنا شيء او يغيب عن اذهاننا او ننسى ان عصر السيد ابن شهاب الذي نشأ وترعرع وعاش فيه يخالف عصرنا الذي نحن فيه الآن فالفرق بينهما شاسع، ولكل عصر مقاييسه الخاصة ولكل زمان اوضاعه وظروفه، فلا يمكن مقارنة او مساواة عصر بعصر قبله او بعصر بعده، فعصر البخار غير عصر الكهرباء.
السيد ابن شهاب ودولة الخلافة
من المعلوم ومما لا يخفى على احد ان سياسة السيد ابن شهاب كانت ترتكز على دعم دولة الخلافة التركية، لتكون الخلافة الرمز الاول للكتلة والوحدة الاسلامية، ولن تكون الخلافة قوية اذا لم يؤيدها ويدعمها المسلمون، والدعم والتأييد لن يكونا الا بالعلم والفهم والوعي. على ما بلغته دولة الخلافة في ذلك الوقت من وهن ومع ما تعانيه من مشاكل داخلية وقلاقل وثورات تغذيها دول اوروبا، ومع هذا الوضع المتردى فان دولة الخلافة لا تزال تتمتع بقسط وافر من المحبة والاجلال في قلوب المسلمين، وهذا القسط من محبة وتقدير المسلمين يخشاه العدو ويحسب له كل حساب، يحاول ازالة تلك المحبة والاجلال. يقول السيد ابن شهاب انه مادام المسلم مسلما فلا يمكن له لن يكون سلبيا لا يكترث بامر المسلمين ولا بدولة الخلافة التي هي رمز وحدة المسلمين، او يقف كالمتفرج، بل عليه الاهتمام بامر المسلمين ودعم دولة الخلافة.
في نفس ذلك العصر كانت هناك ايضا بعض دويلات وسلطنات وامارات اسلامية هشة متناثرة مستضعفة وكلها واقعة على رغم منها تحت الاستعمار بشكله المباشر او غير المباشر او واقعة تحت حمايات دول غربية قوية، وتتفاوت مستويات الحماية بموجب مصلحة الدول الحامية وبمقدار القوة والضعف لتلك السلطنات والامارات. ومن الطبيعي ان القوي هو الذي يحكم ويفعل ما يريد، والضعيف هو دائما المحكوم عليه، والشاعر يقول:
ملخصه ان القوى محكم
وحاصله ان الضعيف مسخر
وحاصله ان الضعيف مسخر
وحاصله ان الضعيف مسخر
مهما كانت الامارات والدويلات الاسلامية صغيرة وضعيفة ومترهلة، فلا يمكن طمسها او ازالتها من الوجود ولكن يجب دعمها لتكون نواة صالحة وتصبح دولة قوية ذات كيان اقتصادي قوي، فمن الضروري اذن رعايتها ودعمها واصلاح ما فسد فيها لتطويرها في جميع المجالات خصوصا التربوية والتعليمية والاقتصادية بالتدريج حتى تبلغ المستوى المطلوب وتملك مستلزمات الدفاع، وهذه المعالجة ليست سهلة وتحتاج الى فترة طويلة قد تكون عسيرة. وترتكز وسائل النهضة الاصلاحية على الاسس التالية :
1 ـ تعميم التعليم والتربية بصفة عامة.
2 ـ ارسال البعثات التعليمية الى الجامعات العالمية.
3 ـ عدم الاقتصار على العلوم الدينية.
4 ـ رفع مستوى الاقتصاد والاتجاه الى الاقتصاد الحر.
5 ـ الاهتمام بالتصنيع والانتاج.
6 ـ التسويق العالمي للمصنوعات والمنتوجات.
لقيت هذه الدعوة تجاوبا وترحيبا حارا من اوساط المثقفين بل حتى من الامراء وبعض السلاطين، اما الخليفة عبد الحميد فقد وعد بتنفيذ هذه الفكرة التي نالت منه موقع الاستحسان وكذلك خديوي مصر الذي كان من اول المؤيدين لهذه الفكرة بعد الخليفة عبد الحميد وبتقدير عظيم. ويجد القارئ هذه المحاورات في الرسائل المتبادلة بينهم. اما سلطان حيدر آباد فقد وضع كل الامكانيات تحت تصرف السيد ابن شهاب كما ذكرناه في موضع آخر.
يتساءل البعض من الاخوة لماذا كانت وجهة نظر السيد ابن شهاب تتجه الى المهاجر الشرقية فقط دون الاتجاه نحو الغرب والمهاجر الغربية حيث فيها عدد كبير من المسلمين؟
كان اتجاه هجرة السيد نحو الشرق بحكم هجرة اسلافه السابقين نحو الشرق بعكس بعض اهل الشام من لبنانيين وسوريين كانت هجرتهم نحو الغرب الى الاميركيتين الشمالية والجنوبية، ولا نجزم انه لم يكن له صلات واتصال بوجهاء المهاجرين في المهجر الغربي، اما اتصاله بسلاطين المغرب العربي فهناك وثائق تؤكد صلاته بهم وكذلك مساعدات ملوك المغاربة ماديا للاسر العلوية بجنوب الجزيرة.
ان السلطنات والامارات الاسلامية جلها او كلها في المهجر الشرقي، وكان اتجاه نظرة السيد الى المهاجر الشرقية لتنفيذ مشروعه الذي يتضمن الاتصال المباشر بالمسؤولين فيها للتباحث معهم فيما يمكن التفاوض فيه لا صلاح ما يمكن اصلاحه وتطويره الى مستوى افضل وانهاض شعوبها.
نجد من بين مراسلاته ومكاتباته العديدة للزعماء ورؤساء الدول والسلاطين والامراء والمسؤولين وقادة الشعوب والادباء والشعراء ورجال الصحافة مساجلات ممتعة وجلها يدور في موضوع النهضة والاصلاح والتعليم والاقتصاد للسير فيها الى مستوى احسن. وتتسم مراسلات السيد بروح النصح والتوجيه لمصالح العامة.
خمسون عاماً قضاها السيد ابن شهاب في كفاح مرير ونضال من اجل توعية امته، انه وقت قصير بالنسبة للتاريخ، ففي خلال هذه الفترة الوجيزة من التاريخ استطاع ان يقدم الشيء الكثير من الاعمال الجبارة والمنجزات، فطور الافكار وانار العقول.
ان النهضة التي اثارها ودعا اليها بمفهومها الواسع ترتكز على دعامتين:
الاولى: الاتجاه نحو المسلمين، المبني على التثقيف والتربية والتعليم والاقتصاد لرفع مستواهم العام علميا وفكريا.
الثانية: الاتجاه نحو غير المسلمين، بالاتصال المباشر بالافراد والجماعات للتحدث معهم ومحاورتهم ومباحثتهم بالطرق العلمية على جميع المستويات الفكرية والثقافية والنفسية لتنوير اذهانهم ودعوتهم الى الاسلام، حتى يقبل الواحد منهم عن يقين ووعي وايمان.
ففي كل هذه الاحوال يختلف اسلوب الدعوة باختلاف مستوى ومبلغ ثقافة السامع والمخاطب وادراكه، الذي يمكن التفاهم والتحاور والتخاطب معه، حيث يختلف الخطاب مع المثقف والمتعلم عن التخاطب مع التاجر والاقتصادي او العامل او الطالب، فلكل منهم الاسلوب الخاص الذي يروقه ويفهمه ويدركه.
اسلم واهتدى الى الاسلام بعض اساتذة الجامعة ونفر من التجار وشخصيات بارزة مرموقة وجمع من طبقة المنبوذين (الباريا) في الهند، وكان هؤلاء خير سند للدعوة الاسلامية.
اما اعماله للمسلمين فباقامة المعاهد العلمية وتشييد المدارس والمعاهد فغير العقليات وطور الافكار وقادهم للتحرر، فأعاد للانسان كرامته وحرمته وشخصيته بعد ان ضل اسيرا للجمود.
اعقب نهضته الفكرية هذه بالنهضة الاقتصادية، فأثار همم القوم لابدال بيع السلع في الاسواق بالتصنيع والاستيراد والتصدير، فالمواد الخام موجودة والايدي العاملة موجودة. وكان كثير من القوم يستشيرونه، وكان في الامور الاقتصادية يحيلهم الى رجال الاقتصاد، لتنوير المستشيرين في تطوير اوضاع الاقتصاد من وضعه الحالي الى وضع احسن ليستطيع السيطرة على الاقتصاد العام، الذي يشمل التجارة بانواعها والصناعة بفروعها والزراعة بشتى مرافقها على اسس سليمة وكان يمنع الغش والمكر والخداع والاحتكار، فكل هذه الاعمال اجرامية. ففي الاقتصاد مسؤوليات لان الاقتصاد اساس قوة الشعب وتقدم البلاد، والشعب الذي لا يملك اقتصاديات بلاده يعتبر ضعيفا متخلفا.
يقول العلامة السيد محمد احمد الشاطري: ان السيد ابن شهاب قام باصلاحات في حضرموت وخارجها، باخماد نار الفتن التي تقع بين القبائل المسلحة بحضرموت، كما قام بصلح بين سلطنتين في جنوب الجزيرة، القعيطي والكثيري عام 1294هـ اثر حروب اهلية بين السلطنتين دامت سنتين تضرر منها الشعب، فاخمد ابن شهاب النار بحكمته السياسية.
يرى السيد ابن شهاب وجوب اصلاح العقيدة وتصحيحها وتنقيتها مما رسب في الاذهان، خدمة للعدالة الاجتماعية في الاسلام([95]).
ان السيد ابن شهاب من اعلام هذا الدور، لانه الشخصية التي توفر فيها العلم والادب والاصلاح والسياسة والتمسك بمبادئ الاسلام ثم الزعامة القوية في المجتمع الذي يعيش فيه، فاستحق بهذا ان يوضع في مصاف الابطال مع العلم بأن هناك شخصيات كثيرة عظيمة انجبتها البلاد في هذا الدور ولكن لم يلمع منها احد في كل الصفات التي لمعت في شخصية ابن شهاب([96]).
ولابن شهاب آراء وافكار في مفاهيم عصره ومجتمعه ويتجلى هذا في مؤلفاته وقصائده فقد دعا ابن شهاب الى وجوب اصلاح العقيدة وتصحيحها.
ولابن شهاب ثورة على التقليد الذي يجعل العقول متجمدة ومرتبطة بالاشخاص لا بالتشريع([97]).
خطوات التطور في المهاجر الشرقية في مجال التربية والتعليم كانت وليدة النهضة الاصلاحية منذ عام 1282هـ وكلها سلسلة متشابكة بعضها مع بعض.
كتب الاستاذ المجاهد زعيم الجنوب العربي ورئيس رابطة ابناء الجنوب مقدمة مطولة لكتاب (تاريخ الدولة الكثيرية) للاستاذ السيد محمد بن هاشم المطبوع بمصر عام 1947 نثبت هنا الصفحة الاولى من المقدمة لعلاقتها بالسيد ابن شهاب والاعتراف بزعامته الاصلاحية.بسم اللّه الرحمن الرحيممقدمة
ثلاثة نفر في هذا القطر الحضرمي سيذكرون إذا دبج تاريخه الحديث كطليعة لقادة الفكر الجديد، وزعماء النهضة الإصلاحية، ودعاة انقلاب، انقلاب يشمل كافة مرافق الحياة، وينفخ الروح في هذا الجسد الذي افتقدها منذ مئات السنين، وعاش بعيداً عنها في عالم غير عالمها، إن أمكن أن تكون لجسد من غير روح حياة. اللهم إلا إذا جاز أن يعُد من الأحياء جدث عصمته الأقدار من الفناء بعد فراق روحه إلى دار البقاء.
هذا النفر أو هذه السلسلة الذهبية النيرة; تبدأ بالسيد أبي بكر بن عبد الرحمن بن شهاب، ثم بالسيد محمد بن عقيل، وأخيراً بالسيد محمد بن هاشم، مؤلف هذا الكتاب القيم الذي يقدم لنا اليوم الجزء الأول منه.
لن يستطيع ـ ولو أراد ـ أي متصدر لتاريخ النهضة الحضرمية ان ينكر أو يتجاهل هذه الحقيقة الخالدة، وهي أن هذا النفر من الأفذاذ هم قادة لواء النهضة الحضرمية الحديثة، وواضعوا أسسها، وأول من حاول إزالة الغشاوة عن أعين قومهم، وبالتالي أول من واجه العاصفة التي لابد وأن يواجهها كل مجدد، يهدف إلى إمالة قومه عن نهج اعتادوه أو جهالة أنسوا إليها أو تقاليد ابتدعوها، فأصبحت منهم بمثابة الدين الذي لا يأتيه الباطل من أي الجهات; أو فتن متراكمة بعضها فوق بعض، استكانوا لها، فاطمأنوا إليها فصارت جزءاً من حياتهم، لا هم يستطيعون التخلص منها، ولا هي ترتاح إلى الابتعاد عنهم.
ولذلك فهم يعجبون أيما عجب لهذه الصرخات التي يجأر بها أفراد، هم في معتقدهم أقرب الى الضلال منهم إلى الهدى، حادوا عن النهج القويم واتبعوا الهوى، فكل ما يأتون به باطل وكل ما ينادون به ضلال.
هذه هي العاصفة التي واجهها محمد بن هاشم، ومن قبله محمد بن عقيل، ومن قبلهما أستاذهما أبو بكر بن شهاب، وغيرهم من رجالات الفكر الحضرمي فما ضعفوا وما استكانوا، وما تلجلجت بهم الخطى، أو خارت منهم العزائم.
من اهم مصالح اعداء الاسلام الاساسية تبني ورعاية وجود الفرق والمذاهب بين المسلمين، واتخاذها ذريعة لتحطيم المسلمين وتمزيق شملهم باذكاء نار الفتن والعداوة والشحناء فيما بينهم، وهكذا سيق المسلمون الى هاوية الفرقة والتناحر والى الذل والمهانة بدون شعور منهم وهم لاهون غافلون عما يفعله الاعداء.
واستمر الانحلال والانقسام والتجزئة الى كتل وجماعات شتى متفرقة تقتسمها الاهواء والنزعات الهدامة في كل ناحية من نواحي الحياة وتتجاذبها العواطف، والمسلمون فخورون بهذا الوضع لعقيدتهم ان موقف كل منهم هو الصحيح، حتى ان الانسان متى يمم جهة من الجهات فسيجد نفس الوضع والحالة، حتى جات حركة النهضة الاصلاحية لتصحيح تلك الحالة والاوضاع بالسعي لتوعية وتفهيم المسلمين بما حل بهم من الامراض الاجتماعية الفتاكة التي منوا بها، ودعوتهم بالحسنى لنبذ الاحقاد والخلافات والانضواء تحت ظل الخلافة التركية ليكونوا كتلة واحدة. وكانت الخطب من رجال النهضة الاصلاحية تلقى في كل مناسبة ليكونوا الحصن الحصين امام عدوان الاعداء. وفي هذا الصدد يقول السيد ابن شهاب من قصيدة طويلة نقتطف منها:
والاجتماع اجل حصن رادع
والمؤمنون كما اتانا في حد
ومتى تخاذلنا واهمل بعضنا
واصابنا الفشل الذي يقفوه ذل
ان افتراق المسلمين اذاقهم
وهنت عزائمنا واصبح هازئاً
فعلام فرقتنا التي القت بنا
ولم التنافر والتباغض بيننا
ها كل طائفة من الاسلام مذ
وبان سيدنا الحبيب محمدا
وامام كل منهم في دينه
فالهنا ونبينا وكتابنا
والكعبة البيت الحرام يؤمها
وصلاة كل شطرها وزكاته
افبعد هذا الاتفاق يصيبنا
نزغ ليفتننا من الشيطان
عبث الخصوم وسورة العدوان
يث الصادق المصدوق كالبنيان
بعضا خلعنا خلعة الايمان
واضطهاد ليس بالحسبان
ضيم الهضيمة بعد عظم الشان
بخمولنا الوثني والنصراني
في هوة الاهمال والخذلان
والحقد وهي مدارك النقصان
عنة بوحدة فاطرالاكوان
عبد الاله رسوله العدناني
اخذا وردا محكم القرآن
لم يتصف بالخلف فيها اثنان
قاصي الحجيج لنسكه والداني
حتم وصوم الفرض من رمضان
نزغ ليفتننا من الشيطان
نزغ ليفتننا من الشيطان
سيد الناس من يجد ويسعى
يخدم الشعب فهو يجلب نفعا
والسخيف الذي تصدر بالمـ
حاسب أن من سواه تراب
ليت هذا السخيف كان حمارا
للنبيل الذي تقدم ذكرا
في رقي العباد دنيا واخرى
مستجدا لهم ويدفع ضرا
ـال او العلم فازدرى الناس كبرا
وهو من بينهم تكون تبرا
للنبيل الذي تقدم ذكرا
للنبيل الذي تقدم ذكرا
لقد تخرج من مدرسة ابن شهاب زعماء افذاذ، وعلماء وادباء وشعراء وهم الذين واصلوا كفاح النهضة الاصلاحية وحافظوا على اسسها ومبادئها.
وما هذه التطورات العظيمة الملموسة التي يشاهدها الكل في جميع المستويات الا اثر من آثار تلك النهضة الاصلاحية، وما هذه المدارس ودور العلم والمستشفيات وملاجئ الايتام والمطابع والجرائد ودور النشر كلها إلا حصيلة النهضة الاصلاحية التي وضعت بذورها في اواخر القرن التاسع عشر، فلم تذهب تلك الجهود المبذولة سدى ( 1230 هـ / 1889م ).
هذا النجاح الذي احرز لم يكن سهلاً ولا كانت الطرق التي سلكها السيد ابن شهاب مفروشة بالورود والازهار، ولكنه تعرض لمشاكل عويصة ومقاومة عنيفة حتى من قومه وبني جنسه بل حتى ممن يدعون العلم من رجال الدين المتملقين للحكام ورجال الاستعمار، تأييداً للظالم على ظلمه والطاغي على طغيانه والمستبد على استبداده، لم يردعهم ضمير ولا رادع، وهان لهم تقليب الحقائق وجعلوا الباطل حقا والحق باطلا، وما مني المسلمون ببلوة مثل وجود هذه الفئة التي مزقت شمل المسلمين بدعوى انهم ورثة الانبياء فيثيرون الخلافات، وكأن تلك الخلافات هي من اُسس الدين الحنيف ويتهمون غيرهم بالمروق من الدين والزندقة لان غيرهم لم يكونوا على طريقتهم، وفيهم يقول الشاعر الافغاني :
شر المصائب في الدنيا باجمعها
وان يضوع بهم والقلب يلعنهم
واقبح الناس دجالون قد مردوا
بئست حياة رجال لا خلاق لهم
ينافقون بلا حق ولا ادب
بان يجامل بعض الناس بالكذب
من النفاق عقود الماس والذهب
على النفاق لأهل الجاه والرتب
ينافقون بلا حق ولا ادب
ينافقون بلا حق ولا ادب
القومية والوطنية
لا يمكن الاستخفاف بالامر الواقع وهو انه بعد زوال دولة الخلافة عام 1923 اتجهت الشعوب والامم التي تطالب بالاستقلال والحرية الى الدعوة الى القومية والوطنية، ونالت تلك الدعوة بشعاراتها الخلابة المزيد من تأييد الشعوب المستضعفة، ونالت هذه النغمة الحساسة تجاوبا خصوصامن طليعة الشباب المتحمس والطلبة المتحفزين في كثير من البلدان الاسلامية في ذلك الوقت، وكان صداها يدوي في كل محل وتتجاوب ردود الفعل بقوة تبشر بالنجاح، اعقبها تأسيس الاحزاب السياسية باندفاع وحماس من القوميين والوطنين، حتى اننا لا نجد مجتمعا اسلاميا الا والاحزاب الوطنية هي البارزة، وصفحات الصحف مليئة باخبارها وكلها في ذمة التاريخ بل لا تزال الحركات القومية والوطنية هي البارزة الى يومنا هذا ابتداء من الحزب الوطني المصري بقيادة مصطفى كامل ومرورا بالاحزاب الوطنية في الاقاليم العربية والاسلامية الى الحزب الوطني الاندونيسي بقيادة الزعيم الراحل احمد سوكارنو عام 1928 الذي انضوى الشعب الاندونيسي تحت لوائه.
يقول بعض المؤرخين ان حركات القومية والدعوة الى الوطنية بعد الحرب العالمية الاولى كانت اقوى وابلغ من الدعوة الى الدين. فالحركات القومية والوطنية الجديدة طغت على كل المفاهيم الاخرى في العالم، وتطورت الاشتراكية بجميع مفاهيمها والشيوعية بكل اتجاهاتها الماركسية واللينينية بجانب الليبرالية والديمقراطية وغيرها وكلها لا يمكن لها التخلي عن الصبغة القومية والوطنية بل لا يمكن لها التحرر من الروح والطابع الوطنيين فالأحزاب الشيوعية في الصين او في يوغوسلافيا او في الهند او غيرها كلها مرتبطة بالقومية، وهذا دليل على ان القومية غريزة في النفوس. فالشعور بالقومية والاعتزاز بالوطنية يحتلان المكان الاول في النفوس على رغم ان الشيوعية مثلا تدعي انها عالمية الاتجاه لا تعترف بالقوميات ولا الوطنيات ولا الجنسيات ولا العنصريات، لانها نبتت على اساس فكرة عالمية في المبدأ والغاية، ولكن الواقع الحتمي الذي لا غبار عليه ان روح القومية والوطنية لدى الافراد تغلب على المبادئ والاتجاهات الاخرى، ولا غرابة ان نرى الخلافات مستعرة بين مفاهيم الاحزاب الشيوعية نفسها، فيوغوسلافيا والصين وغيرها تسير في اتجاه معاكس للاتحاد السوفييتي رائد الشيوعية. واساس الخلاف هو تمسك كل من الصين ويوغوسلافيا بقوميته ووطنيته وربما جر ذلك الى عداوة وقطيعة بل والى مناوشات وحروب كما حدث بين الصين وفيتنام الشمالية وبين روسيا والصين الشعبية على الرغم ان كلاً منها تدين بالشيوعية.
ولهذا نجد ان الدعوة الى الاسلام مهما نالت من القبول والتأييد، فان الصبغة القومية متغلبة على النفوس في مستوى الافراد او في مستوى الجماعات، فالاحزاب الاسلامية الموجودة لا تتحرك الا في نطاق محدود ومع ذلك تتقيد بالقومية، كالحزب الاسلامي الاندونيسي. ثم اننا لا نجد من الثلاثة والعشرين من الدول العربية من تسمت باسم الاسلام بل نجد الصبغة القومية هي المتغلبة، كجمهورية مصر العربية، والجمهورية العربية السورية، والمملكة العربية السعودية، والجمهورية اليمنية وقد تضيف بعض تلك الحكومات كلمة شعبية وديمقراطية كاليمن الجنوبي سابقاً والجزائر وليبيا وغيرها من الدول العربية البارزة ما عدا موريتانيا، ومهما قيل من ان دين الدولة هو الاسلام تبقى كلمة العربية هي البارزة. وهذا دليل ان الاقليميات قد تغلغلت في النفوس والمشاعر والاحساس، مع ان الاسلام دين واحد لا يعترف بفوارق العنصريات.
والمحاولات التي يحاولها رواد الاصلاح بجعل المسلمين جميعهم ينضوون تحت راية واحدة ودولة واحدة، هي محاولات شاقة ولا نقول مستحيلة، خصوصاً بعد انهيار دولة الخلافة وحلول القومية والوطنية محلها وزوالها وتبعثر المسلمين الى قوميات واقليميات شتى وذلك بسبب انهزام المسلمين امام الغزو الخارجي الجارف.
وهذا بحث قد تداولته اقلام الكتاب والباحثين، ولو استرسلنا في هذا الموضوع لخرجنا مما نحن بصدده، ولكننا تعرضنا له لعلاقته بفكرة النهضة الاصلاحية.
النهضة الاقتصادية
لم يقتصر دور السيد ابن شهاب على الحقل العلمي والناحية السياسية فقط بل كان كفاحه ابعد من ذلك. فدعوته الى النهضة الاصلاحية شملت النواحي الاقتصادية والصناعية أيضاً. كانت دعوته مبنية على اثارة الوعي في افراد الامة ليشعروا بالمسؤولية فكانت دعوته قوية التأثير نافذة المفعول لذا فقد تكللت بالنجاح.
يقول السيد ابن شهاب: ان الاقتصاد جزء لا يتجزأ من حياة امة متحضرة، فالحضارة والمدنية والتقدم لا تتوقف على نوع واحد من الفنون والعلوم كالادب فقط، وانما حضارة أية امة تشمل جميع نواحي حياتها ومتطباتها، بما في ذلك من العلوم والهندسة والآداب والاقتصاد والاخلاق والطب والصناعة، والقوة العسكرية، والمدارس، والجامعات، والبحوث العلمية. الى غير ذلك.
الامة المتحضرة تدرك عن وعي وفهم وعلم معنى الحرية، حرية الفكر، وحرية العمل القائمة على الرغبة والاستعداد وأن لا يكره المرء على عمل لا يريده. والايمان القوي البعيد عن التعصب والعقليّة المغلقة والافق الضيق هو الدافع الوحيد لثبات العقيدة والمبدأ.
يحث السيد ابن شهاب قومه على اعتماد الاعمال الحرة، مثل التجارة والصناعة والزراعة. كل امة تريد الحياة بمعانيها الحقيقية عليها أن تعوّل في المقام الاول على الاقتصاد.
كانت الحالة الاقتصادية كحالة التجارة والصناعة في اواخر القرن التاسع عشر لا ترضي كل غيور ممن يهمه امر قومه. الوضع الاقتصادي والصناعي لا يزال على حاله القديمة واصبح يعاني التقهقر امام التقدم الصناعي الاوروبي. فكيف يمكن لامة ان تطور اقتصادياتها وهي جامدة الفكر؟!
كان اغلب المسلمين مزارعين على الطريقة والاسلوب القديم وقليل منهم يمارسون التجارة وحالتهم الاجتماعية كما ورثوها من اجدادهم. صناعتهم لا تتعدى الصناعة التقليدية المحلية وهي محدودة. والقليل جداً هم ملاك عقارات واصحاب أراض، ويطلق عليهم اليوم كلمة اقطاعيون. حصلوا عليها بالإرث او كانوا حكاما استغلوا مناصبهم لاحتكار الاراضي وجعلوها لهم ولمصالحهم، او كانوا من شيوخ القبائل الذين لهم السيطرة والنفوذ ورثوها عن آباءهم. فالحياة الاجتماعية متأثرة بالحياة القبلية والعشائرية في كثير من بلدان المسلمين بينما سبقت اوروبا المسلمين بعد الثورة الفرنسية وخطت خطوات سريعة على صعيد الثورة الصناعية، واصبحت اوروبا تنتج والشعوب الاسلامية ليست اكثر من كونها شعوب مستهلكة فقط.
بالرغم من خصوبة تربة البلدان الاسلامية وغنى اراضيها بالمعادن لكنها لم ينتفع المسلمون منها لانها بقيت دفينة، فجاء الاستعمار الاوروبي واستخرج خيرات تلك الاراضي ولكنه احتكرها لنفسه. مرت سنوات عديدة والاستعمار يستخرج خيرات البلدان الاسلامية من معادن الفولاذ والحديد والرصاص والبترول، بينما الشعوب الاسلامية لا تتميز إلا بالفقر وعيش الفاقة، فالافراد فقراء المادة وفقراء العلم، واصبح الجهل يخيم عليهم. ولاتزال ثروات هائلة مدفونة تحت الارض الى اليوم، والناس يمشون عليها ويطؤونها ولا يعلمون عنها شيئاً.
هذه الامور كانت من المواضيع المهمة التي تمر على ذاكرة السيد ابن شهاب وكان يهتم بها اهتماما كبيرا، فيحاور زملاءه واصحابه وتلامذته لحل هذه القضايا التي يراها مستعصية، ويجب حلها من الاساس باجتثاث عروقها الفاسدة كليا. وكان السبب الرئيس فيها ان الجهل والفقر والمرض هي السائدة والمخيمة في المجتمع، فالأكثرية الساحقة من الناس يعانون الفقر المدقع، وهم سكان الاكواخ الذين يرتدون الاسمال البالية ولا يقدرون على ارسال اولادهم الى المدارس لطلب العلم، والمدارس في ذلك العهد كانت محدودة العدد، كما لا يستطيعون معالجة مرضاهم لدى الاطباء لان اجور العلاج باهضة. ولكن هناك قلة قليلة اثرياء يعيشون مترفين ويسكنون القصور الفخمة، ياكلون احسن الاطعمة في مجتمع غير متوازن. فقير لا يجد قوت يومه وغني يرمي مازاد من طعامه في المزابل وينثر الدنانير لملذاته.
يقول السيد ابن شهاب: لن تفلح امة اقتصادياتها بائرة وصناعاتها بدائية، وتجارتها ضعيفة. ان مقياس تقدم كل امة بمستوى تقدم اقتصادياتها، والاقتصاد ركن الحياة الذي يرفع المجتمع الى مستوى استقلالي رفيع، ويحفظ للانسان كرامته، فإنه يجب أن يعيش مع اسرته حياة كريمة هانئة.
يولي السيد ابن شهاب اهتمامه بالشباب المثقف ويدعوهم لمعالجة الامور الاقتصادية الضرورية للحياة للسير نحو حياة افضل وانجاح الكفاح ضد التخلف الاقتصادي، والاتجاه نحو الصناعة والتجارة والزراعة على ان يكون الاقتصاد اساساً بصفة عامة في حياتهم الكفاحية وأن يكونوا طموحين في اعمالهم الحرة. ان التحرك السياسي لا يجدي ولا يتم ما لم يكن التحرك الاقتصادي موازيا له، وبهذين التحركين تكون النهضة شاملة كاملة. ان الامة المتخلفة اقصاديا ستكون تابعة لدول اخرى متقدمة اقتصاديا. اذن يجب قبل كل شيء انجاح الكفاح ضد التخلف الاقتصادي للوصول الى المنهج المفضل اتباعه في الانتاج والتوزيع القائم على اساس علمي متين.
لا يمكن لامة تنشد الحياة ان تصل الى مستوى اقتصادي رفيع وقوي صالح للمجتمع ما لم تكن التنمية في مجال الصناعة والزراعة والتجارة ركنا متينا واساساً راسخاً قوياً، وتتمكن من تبوؤ المكان اللائق بها بين سائر الامم المتحضرة والمتقدمة صناعيا. ان العمل السياسي الناجح هو الذي يعتمد على الاقتصاد.
لا يفضل السيد ابن شهاب اندفاع الشباب الى الوظائف، ظاناً أنه لا امل له إلا في الحياة الوظيفية فقط. فبهذا يكون قد باع حريته واصبح يتعلق بغيره. على الشباب ان يندفع الى حب الاعمال الحرة في جميع المجالات ومرافق الحياة التجارية والصناعية والزراعية وان كانت في اول خطوات العمل وليس في هذه الاعمال شيء مستهجن وإن صغر فالصناعة والتجارة والزراعة الواسعة الكبيرة انها تبدأ من شيء بسيط مصحوب بالصدق والوفاء وحسن الخلق لكسب ثقة المعاملة.
نجح السيد ابن شهاب في مشروعه هذا في توعية الشباب للاتجاه نحو الاعمال الحرة، وكان ذلك ضمن نهضته الاقتصادية العامة وانخرط الكثير من الشباب في المعاهد المهنية والصناعية والحرفية، وتدربوا ونجحوا وشقوا طريقهم للاعمال الحرة واصبحوا فيما بعد من كبار رجال الصناعة واسسوا شركات مساهمة كبيرة في التجارة العامة واقاموا مصانع كبيرة للحديد والنسيج والاحذية وغيرها.
هذا النجاح الذي احرزته الامة هو نتيجة حث وتوجيه السيد ابن شهاب لامته وخصوصا الشباب منها وترغيبهم لممارسة العمل الحر وكان في دعوته دائما يضرب لهم الامثال بالناجحين في الواقع التاريخي مستدلا بحوادث ووقائع عالمية كثيرة في الغرب والشرق كل ذلك للترغيب في الاعمال الحرة.
قد يكون صاحب مهنة مغمورا مجهولا لا زبائن له إلا ما قل وندر، ولكن عندما نبحث عن أسباب تأخر عمله وندرس القضية، نجد نقاط الضعف تكمن في نفسه وروحه. فقد يكون السبب هو عدم عنايته بعمله وتهاونه واستهتاره بحقوق زبونه، أو انه لا يفي بما يعد فاساء الى عمله وفقد زبونه وخسر، ولم يثق به احد. اما الزبون فامامه طرق اخرى الى اصحاب آخرين للمهنة نفسها يسد بها موضع حاجته. والزبون المرتاح هو اكبر داعية.
هناك اصحاب مهن نجحوا في اعمالهم وبلغوا القمة ذلك لانهم اصحاب همم عالية يشعرون بالمسؤولية، يؤدون الامانة ويصـدقون في مواعيدهم فنالوا ثقة الجمهور. وهكذا نجح الكثير في المهاجر الشرقية في اعمالهم التجارية وأسسوا مصانع هائلة للنسيج وصناعة الاحذية والملابس الجاهزة بآلات حديثة لا للاستهلاك المحلي فحسب ولكن للتصدير وتسويق المنتجات في الاسواق العالمية.
النجاح والفشل في الاعمال يعود الى مدى مستوى المسؤولية والشعور بالوعي والطموح والروح الكبيرة. وآثر الناجحون منهم توسعة اعمالهم اعماله بالتخطي الى بلدان اخرى طلبا للمزيد من الكسب واصبحوا من كبار رجال الاقتصاد والصناعة في المهجر الشرقي وبذلك ازدهرت التجارة والصناعة.
هؤلاء هم الذين ساروا على نهج الخطة الاقتصادية التي وضعها السيد ابن شهاب، فاسسوا شركات صناعية وتجارية وزراعية. تولت هذه الشركات بناء العمارات التجارية والسكنية وفنادق فخمة ومطابع ودور للنشر تصدر الكتب والجرائد والمجلات باللغة العربية والاندونيسية، ومصانع للنسيج تنافس المصانع العالمية، حتى ان الوفد التجاري المصري عندما زار احدى تلك المصانع قال: انها تضاهي مصانع المحلة الكبرى للنسيج بمصر. اما المزارع فكانت تغطي مساحات واسعة من الأراضي وهي معدة لزراعة الشاي والقهوة والتبغ والقرنفل وتصدر حاصلاتها الى اوروبا وأميركا وبعضا منها الى الشرق الاوسط، وكانت هناك شركة ملاحة، وشركات تجارية للاستيراد والتصدير.
وكانت الشركات الاوروبية تحميها دولة الاستعمار، وتقدم لها كل التسهيلات وترعى مصالحها والدفاع عنها حفاظا على بقاء مراكزها الاقتصادية، فأن بقاءها يعتبر دعما لكيان الاستعمار، وكان الصراع والمنافسة قويين بين قوم لا دولة لهم وبين امة تحميها دولة.
وبنجاح المشروع الاقتصادي نجحت المشاريع الاخرى، وان كانت لم تبلغ المستوى المطلوب في ذلك الوقت.
كان لنداء السيد ابن شهاب صدى كبير في الاوساط المثقفة فقد تضاعف الاهتمام لدى المثقفين في بالمسائل الاقتصادية، فكانت النهضة الاقتصادية التي سار الكثير فيها على هذا النهج القويم فاصبحوا رواداً ومصلحين.
تمتاز هذه النهضة الاصلاحية من الناحية الاقتصادية بظاهرة حسنة، وهي اقبال الشباب لارتياد الاعمال الزراعية والصناعية الحرة وعدم الاكتفاء او الارتباط بالتوظيف فقط.
فالامة التي تنشد الفلاح في حياتها وتريد تبوّؤ المكان اللائق المحترم لها يجب ان تعتمد على نفسها اقتصاديا، وأن تكون حرة في تصرفاتها واعمالها وفي تنفيذ مشاريعها الانمائية بدون ارتباط خارجي إلا على اساس التكافؤ والمساواة في المصالح المشتركة. ولا يمكن لاية جهة من الجهات الاخرى استغلال خيرات الامة لصالحها فقط.
لم يكن النجاح في النهضة الاقتصادية نجاحا ساحقا وانما كان يسيراً في اول مراحله.
يقول السيد ابن شهاب: ان الامة المتفرجة على البضائع المستوردة في واجهات المعارض هي امة استهلاكية ولكن الامة الحية هي التي تلبس مما تصنع.
ويقول أيضاً: ان الامة القوية هي الامة المتفوقة اقتصاديا، صناعة وتجارة، تحكم نفسها بنفسها ولا يتحكم بها غيرها من الامم. الامة الضعيفة اقتصادياً تكون ضعيفة في تجارتها متأخرة في صناعتها، فهي دائما وابدا متعلقة بغيرها وفي حاجة ماسة الى سواها.
لم يكن المسلمون يملكون في ذلك الوقت مصانع بالمعنى المفهوم كالمصانع المتطورة الموجودة في اوروبا وأميركا واليابان. فان اقيم مصنع في احدى بلاد المسلمين فهو ملك لغيرهم وليس لهم شأن فيه، سوى ان المصنع أقيم في بلده تحت حماية الاستعمار. بلدان اوروبا وأميركا واليابان تنتج وبلدان المسلمين بمثابة اسواق لمنتجات تلك البلدان.
جاء الاستعمار غازيا بدافع اقتصادي، فاحتكر خيرات البلاد، ولم يكن غزوه ارتجاليا، ولكن كان مبنياً على دراسة وتخطيط.
لاح نجاح مشروع السيد ابن شهاب في اول مسيرته ولكن هذا النجاح لم يدم طويلاً فقد ارتطم العالم بحرب عالمية ضارية تعرض فيها الاقتصاد الحر للانهيار، اذ صودرت الممتلكات واممت التجارة فانقلبت الموازين.
وبعد هذه النظرة السريعة، نجد ان السيد ابن شهاب يرى ان الامة الاسلامية تعيش متخلفة اقتصاديا ومنهارة، عاجزة عن التحرك لتطوير حالتها الا4قتصادية الى مجتمع اقتصادي أفضل، لعجزها الناجم من عدة اسباب رئيسة، فهي ترى العراقيل الواهية امامها وكأنها عقبات كأداء لا يمكن تخطيها فاستسلمت ورضيت بحالتها.
يقول السيد ابن شهاب: ان الخطأ ناجم من الجهل الذي جر الى حب الانزواء والخشية، فوقعت الامة في تخلف اقتصادي مرير. والحل الاول و الوحيد هو التسلح بالعلم حتى يتمكن المرء من التحرك الحر على علم في إطار اقتصادي سليم وبذلك تحل مشاكل التخلف الاقتصادي الذي يعانيه المسلمون.
وهكذا شمر السيد ابن شهاب عن ساعد الجد ودشن حركة نهضته الاصلاحية اقتصاديا واجتماعيا وسياسياً، ووضع المنهج الاصلاحي السليم للحاق بركب الامم المتقدمة اقتصاديا، وهي شعوب اوروبا، وعليه يجب التخلص التام من روح الانزواء والخوف والتبعية، وازالة كل ما علق بالاذهان من فكرة خاطئة بان هذه الدنيا خلقت للكافر وان للمسلم الآخرة.
يرى السيد ابن شهاب ان المسلم يجب عليه ان يكون عالما مثقفا حراً قادراً على استثمار مواد بلاده الاولية، مستحوذاً على اقتصادها الكامل، ساعياً للتخلص التام من سيطرة الاقتصاد الاجنبي بنوعيه الرأسمالي والاشتراكي وعدم التقيد كليا بهذين النظامين مما يمكنه من الاتجاه إلى اقتصاد اسلامي سليم. ومتى استطاع المسلمون ان يطبقوا هذه النظرية الاسلامية، فانهم يقدرون على استيعاب القوة الكامنة لديهم، لتكوين شخصيتهم الاسلامية امام تلك القوى الاُخرى. وبذلك يحفظ المسلمون كيانهم الاقتصادي السليم، لان كلا الاقتصادين الرأسمالي والاشتراكي اقتصاد استعماري يصطدم مع النظم والمتطلبات الاقتصادية الاسلامية، واقتصاديات الامم المتخلفة والمحتلة والمستعمرة. فالاقتصاد الاستعماري من رأسمالي او اشتراكي يفرض الاحتكار للقوى الاقتصادية الاستعمارية لذا فالمسلمون في هذا الواقع الاليم يواجهون معركة ضارية ضد الاستعمار الاقتصادي في سبيل حصولهم على لقمة العيش.
وهكذا فان نظام الاقتصاد سواء كان رأسمالياً أو اشتراكياً هو نظام ريادة للاستعمار اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، حتى ان بعض المسلمين من ضعاف النفوس يشعر بانه ليس بالامكان للشعوب المتخلفة بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة منافسة الاقتصاد الغربي او اللحاق به فهو الذي قد بلغ اوج النجاح.
هذه نظرية خاطئة من اساسها، فالامة اليابانية استطاعت ان تكون لنفسها شخصية عالمية محترمة تبوأت بها مستوى عالياً اقتصاديا وصناعيا وسياسيا، وما حادثة 1905 ببعيدة إذ استطاعت ان تدحر قوة اوربية كبيرة([98]) واصبح لليابان كيان عالمي مرموق وشخصية محترمة.
إن نقطة الانطلاق الوحيدة لتطوير اوضاع الاقتصاد الاسلامي، هي قبل كل شيء تطوير التفكير لدى الشعوب الاسلامية، ولا يكون ذلك إلا بمحو الامية والارتشاف من مناهل العلم حتى تتفتح الاذهان فتوجد في عقلية المسلمين روح فياضة ونفسية مجاهدة على اساس علمي متين سليم، وأن يسلك المسلمون منهجا قويما يمكنهم من القفز في فترة قصيرة وباستخدام القدرات العلمية لديهم والوصول الى ارفع المستويات الاقتصادية العالمية بصورة سريعة منتظمة. ولا ريب ان المسلمين سيلاقون محاربة اقتصادية شرسة من الجهة المعادية ويتوقف نجاح المسلمين في هذا الصراع الاقتصادي على مدى قدرتهم الدفاعية وقوتهم في مجابهة العدو وجلادتهم امام تلك القوى التي تستنزف كل طاقات المسلمين الاقتصادية والمالية لترديهم في حضيض الخسران والوبال ويعود المسلمون الى خط التخلف الاقتصادي يعانون المتاعب والمشاكل الكثيرة العويصة. صراع من اجل البقاء. هذا شأن الانسان الحي الذي يريد الحياة الأفضل. ولن ينجح الانسان او يحق له أن ينتظر النجاح وهو مكتوف اليدين، ضعيف الروح منزو يجهل كل شيء.
الحياة جهاد، والجهاد علامة الحياة وهو مر ومرير. ولن يحصل النصر إلا بالجهاد والصبر والتضحية والجلادة امام كل القوى المعادية وعلى جميع المستويات ثم تطبيقه ليكون ركنا وحصنا قويا منيعا لانجاح الاقتصاد المنشود ورفع مستواه من وضعه الوضيع الاليم، وذلك في اطار اقتصادي اسلامي صحيح يقوم على اساس ايمان المرء بعقيدته الاسلامية الصحيحة وصلته باللّه تعالى، وانه هو وحده الرحمن الرحيم لمن اطاعه.
الامة المتأخرة اقتصاديا هي التي لا تملك زمام ثروتها الطبيعية من المعادن والزراعة، ولا تملك المصانع فهي امة متخلفة اقتصاديا وصناعيا، اذ تسيطر عليها القوى الرأسمالية. فهذه الامة وإن كانت في ظاهرها مستقلة لكنها في حقيقة امرها مستعمرة، متخلفة اقتصاديا، مكبلة بالقيود التي لا ترى. ولا تزيد هذه الامة في واقعها عن قطع الشطرنج على اللوحة حيث يضعها القوي وينقلها ويفعل بها كيفما شاء تبعا لمصالحه.
واخيرا نصل الى نتيجة أن العلم والادراك والفهم كفيل بجعل الانسان المسلم يشعر بواجبه ومسؤوليته التي القاها اللّه عليه. فهو مسؤول امام ربه، ماذا قدم في حياته لصلاح امته التي هو احد افرادها وجزء لا يتجزأ منها؟
ان هذه المسؤولية التي يشعر بها هي التي تجعله يؤدي واجبه نحو مجتمعه وامته متجردا عن الانانية وحب الذات مؤثراً لغيره على نفسه، وللصالح العام قبل مصالح نفسه الذاتية.
ان هذه هي الاخلاقية الحقة التي يجب ان يتحلى بها كل فرد مسلم في هذه الأرض تأدية لرسالة الاسلام طول حياته حتى يفارق هذا العالم.
وهل نجد الآن ولو جزءاً طفيفاً من هذه الاخلاقية لدى الانسان المسلم اليوم؟ سؤال يحتاج الى اكثر من جواب.
منهجه
لم يسلك السيد ابن شهاب في منهجه العملي والتفكيري الطرق التي يسلكها الزعماء والقادة السياسيون المحترفون او الذين يفرضون رأيهم بالقوة على الغير او كما يفعله بعض رجال الدين ممن لهم مآرب بالالتجاء الى التخويف والوعد والوعيد بعذاب السعير وسقره باصدار شتى الفتاوى التي لا يمكن الحياد عنها ولا مخالفتها والتي تقوم بتخدير العقول بالخوف والويلات والرهبة، حتى يكون المخدر منقادا كالسوام الصماء، منهار الشخصية فاقد الاحساس.
هذه الاوضاع الفاسدة هي التي غلّت الافكار وجمدت العقول. ومن هذا المنطلق اندفع السيد ابن شهاب وقام بدعوته الى النهضة الاصلاحية، لاصلاح الاوضاع الفاسدة وتقويم المعوج وتنوير ما فسد من الافكار المسمومة وتهذيب الشعب وتقويم وانقاذ الشباب لئلا يقع في الهاوية لتكوين مجتمع متعلم متنور واع يشعر بالمسؤولية فلا يتعدى احد على احد ولا يتلاعب الناس بالدين ولاكل من جاء يصدر الفتوى الا من كملت فيه الشروط مع الورع والتقوى بأن يقول الحق ويحارب الباطل.
يقول السيد ابن شهاب : ان باب الاجتهاد مفتوح لمن كملت فيه الشروط وهو أن يكون كفوءاً مع التمسك بالمبادئ الاخلاقية السامية ولا يعمل الا لمصلحة الامة. لا يتسورن احد الى مركز ليس هو من اهله فلا يدعي أحد انه طبيب أو حقوقي إلاّ من كان حائزاً لشهادة الطب أو الحقوق. ولكن في الدين اختلط الحابل بالنابل وهذا هو سبب الفساد الاجتماعي في الامة.
ان كم الافواه ومحاربة الحق أمر معروف من العصور القديمة اذ لا يبقى الحكم الا بالاستبداد والجور، فالطغيان والاستبداد بموجب عرفهم وسيلة لابقاء حكمهم والمحافظة عليه، فالاستبداد هو المسيطر على الاتجاهات الفكرية الحرة والمحارب لها.
والطغيان يورث الانفجار، ولذا نجد أن الثورات تحدث اثر الظلم والطغيان وقد تتطور الى سفك الدماء والى حروب طاحنة، وما اكبر امثال تلك الحوادث مما ملأ كتب التاريخ. وما اكثر من اهتموا بدراسة تلك الحوادث التاريخية وتحقيقها من مصادرها الاصيلة السليمة.
ونرى ان السيد ابن شهاب في خطواته واعماله لم يكن مرتجلاً أو متسرعاً أو عاطفياً ولكنه كان يعمل بروية وبعد تفكير عميق معتمدا على الدراسات ولا يستغني عن مبادلة وجهات نظره مع زملائه ومن كان معه في الامور، فالكل يشاركونه في الأعمال شاعرين بالمسؤولية نحو المجتمع مع عدم الاستهانة حتى بصغائر الامور، فان صغائر الامور قد تجر الى مشاكل مستعصية، وفي هذا المعنى يقول السيد ابن شهاب:
وإن النار أولها وميض
ويقفوها التهاب واشتعال
ويقفوها التهاب واشتعال
ويقفوها التهاب واشتعال
فالمنهج الاصلاحي الذي وضعه السيد ابن شهاب في استراتيجية النهضة الاصلاحية كان مبنياً على اساس متين وراسخ مبتدئاً فيه بالتربية والتعليم لاختيار الكوادر الصالحة، ولا عجب أذ نجح في اعماله في جميع مراحلها، ولذلك عرفت خطواته بالمدرسة الفكرية.
عندما وصل السيد ابن شهاب الى المهاجر الشرقية لم يجد فيها معاهد عالية فضلا عن جامعات بالمعنى المعروف في العالم او على الاقل ما يساوي جامعة الازهر بمصر والزيتونة بتونس والجامعات الدينية بالمغرب والحوزات العلمية بالنجف وايران او بعض الاربطة الدينية في البدان الاخرى، وانما توجد كتاتيب بسيطة لصغار الاطفال، فأثارت هذه الاوضاع روح السيد ابن شهاب ومن هذا الاساس انطلق في دعوته الاصلاحية مبتدئاً بالتعليم العام وتطوير اساليبه مواكباً للتقدم ومتمشيا مع متطلبات الزمن المتجددة، التقدم وذلك بتأسيس معاهد عالية ثم جامعات تضم كليات الطب والهندسة والعلوم وغيرها مع ابقاء الحوزات الدينية العالية وتطويرها تطويراً لتكون في مستوى لائق للمركز الديني.
كان السيد ابن شهاب يعلم حقاً ان المسألة عويصة وليس من السهل ان يقوم منفرداً بحلها، وهو يعلم ان امثال تلك الاعمال لا تقوم بها الا الدول، وليس في زمنه دولة اسلامية إلا دولة الخلافة، وما سواها سلطنات هزيلة ضعيفة واقعة تحت حكم الاستعمار الغربي والشرقي، وحتى دولة الخلافة تعاني ما تعاني من ضغوط دول اوروبا. وامام تلك الاوضاع التي لا يمكن السكوت عنها، لابد من تحقيق الهدف بانتشال تلك المجتمعات المتخلفة من الحضيض ورفعها الى مستوى الامم المتحضرة، ويحتاج هذا المشروع الى مجهود عظيم قد يدوم عدة سنوات. فالعلم والوعي هو الاساس الوحيد لتبوؤ المكانة الحضارية العليا بين شعوب العالم المتحضر وبالعلم وحده يرتفع قدر الامم والشعوب الى القمم، ويستحيل على امة أن تنال الحياة بدون علم.
يقول السيد محمد احمد الشاطري احد رجال العلم الافذاذ حول هذا الموضوع: ان السيد ابن شهاب في الناحية العلمية كان يقوم بدور فعال في التوعية وفهم الاسلام وتعاليمه على الوجه الصحيح، فكان يعارض الممجدين للملوك من بني امية وبني العباس المعروفين بالاقطاع والاستغلال، والمناهضين للدعاة الى الثورة الاجتماعية الاسلامية الصحيحة من ائمة اهل البيت(عليهم السلام)، فهو مثلا يشجب الاعمال المادية التي يقوم بها معاوية بن ابي سفيان وشركاؤه من توريث الملك والسلطة، ومن تصرفاته الخاطئة ضد الامام علي بن ابي طالب([99]).
ويستطرد السيد الشاطري قائلاً: انه يوجد في ديوان السيد ابن شهاب قصائد ومقاطع عديدة يعالج بها النعرات والامراض الطائفية الاجتماعية.
واليوم ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين الميلادي، ماذا عن احوال المسلمين واوضاعهم؟ نرى امما متفرقة وشعوبا متمزقة ودولا شتى متجزئة الى 42 دولة بين جمهورية وملكية متوارثة وامارات وسلطنات هزيلة غير مستقرة في مهب الريح تتجاذبها الدول الكبرى صاحبة السلطة المطلقة والصولة النافذة بين شرقية وغربية.
هذا هو وضع المسلمين اليوم، اما وضع العرب فأمر وادهى، ان مجموع عدد العرب من الخليج الى المحيط يتجاوز المائة والستين مليونا بموجب الاحصاء التقريبي كما نشرته الصحف العربية. والعرب ممزقون الى 23 دولة بين دول تدين بالاشتراكية، والبعثية، والماركسية والرأسمالية وكلها اما تسيطر عليها القوى الشرقية او الغربية، والحكام يتبعون اهواءهم وما تقتضيه مصالحهم الذاتية، ولذا حدثت بينهم صراعات وتناحرات بحيث اصبحت حالتهم تمثل اسوأ الاحوال للقرون المظلمة حيث تستعبد الشعوب وتكم الافواه.
يتساءل المتنورون المتحمسون الذين عاشوا تلك الاوضاع المأسوية وأَضنتهم الفوضى والطغيان، هل من رجاء للبر والصلاح؟
يقول الاستاذ خالد محمد خالد في الصفحة 186 من كتابه (من هنا نبدأ) ما يلي: ( الحقيقة ان الحكومة الدينية اليوم وان ظفرت بهذه التسمية التي توهم ان لها صلة بالدين، لا تستلهم مبادئها وسلوكها من كتاب الله ولا من سنة رسوله، بل من نفسية الحاكمين واطماعهم ومنافعهم الذاتية ومن تلك الغرائز التي تصدر عنها في كل اتجاهاتها).
ثم يقول في صفحة 188: (فزعمها انها ظل الله في الارض وهو الامر الذي تستمد منه قوتها لا يلبث ان يتكشف زيفه وبهتانه، حين يكتوي الناس ببغيها ويلفحهم هجيرها فتفقد ثقتهم ويتضاءل احترامها في نفوسهم ).
يقصد الاستاذ خالد محمد خالد بقوله ذلك بعض الدول العربية الموجودة الآن منذ زوال الخلافة عام 1924، وهذه الدول التي تدعي انها دول اسلامية ودستورها القرآن هي من اساسها تخالف الاسلام افقيا وعموديا وتمارس الاستبداد المطلق وتتوارث الحكم مدعية انها حامية الاسلام.
سبق لنا ان قلنا قبل هذا ان السيد ابن شهاب في منهجه للنهضة الاصلاحية لا لايؤمن بالثورة المسلحة واراقة الدماء وهدر الارواح في اي عمل من الاعمال للوصول الى الهدف، ولكنه يؤمن بمنهجه ان النجاح والفوز لا يحصل الا بنشر العلم وبث الوعي بين الافراد باسلوب التطوير التدريجي، لان الثورة المسلحة واراقة الدماء، وتلك الخطوات من الاعمال العنفية مما يثير الاحقاد ثم يجر الى الظلم، فيفقد الهدف، في الوقت الذي يحتاج الناس الى صون تلك الدماء.
المنهج الذي اتخذه السيد ابن شهاب كان نتيجة دراسة وتحقيق من جميع الجوانب وبحث ما ينتجه ذلك من آثار. وبتلك الخطوات استطاع ان يكشف ما خفي من الامراض الاجتماعية، ووضع لمنهجه العملي الاساليب والطرق الكفيلة بالنجاح والتي يجب اتباعها والسير عليها.
يقول السيد عبد الله المدحج احد العلماء المحققين المقيم في حيدر آباد : ان الملامح البارزة في شخصية السيد ابن شهاب، الاخلاص والتضحية وتتجسد هذه الصفات النبيلة في روحه واضحة جلية. لقد اثبت التاريخ ان من كان في صف السيد ابن شهاب هو مع الحق والحق معه، ومن كان في غير صف السيد ابن شهاب بطبيعة الوضع والحال اما ان يكون من الحاقدين عليه او عميلا من العملاء لجهات معروفة ليكفل مصالح المستعمر. ونشهد ان الظروف التي مرت على السيد ابن شهاب كانت ظروف قاسية ولكنه استطاع التغلب عليها وهي التي جعلته شخصية عظيمة بارزة عملاقة لا يوازيه احد في عهده.
بذل السيد ابن شهاب جهودا جبارة لتطبيق المنهج الذي وضعه لانهاء الاساطير المستحكمة في عقول الشعب المغلوب على امره من سطوة المستبدين والظلمة والطغاة. فلم يترك مجتمعا موبوءاً بالفساد الا اتصل به، ولا جائرا الا نصحه ولا حاكما مستبدا او ظالما الا وعظه باسلوب حكيم وقول حسن، فاستطاع ان يردع الكثير منهم الى الصراط السوي والى الاعمال الخيرية بدون اراقة دماء ولا التجاء الى القسوة فقدروه وشكروه وأجلوه. ولو حذا غيره حذوه لكفيت الشعوب تلك الثورات والدماء المراقة.
عندما نراجع صفحات تاريخ السيد ابن شهاب يتبين لنا المنهج القويم الذي سلكه في حياته وجهاده لتحقيق الاهداف السامية، وتتراءى لنا الشخصية الفذة التي تتهاوى امامها كل القوى المعارضة، ذلك لان منهجه العملي كان مبنياً على اساس متين، ومعه خيرة من الشباب المثقف المتنور الذي هو عماد الحركة. ولا غرابة اذا تهاوى العملاء الواحد تلو الآخر امام هذه الجبهة الفولاذية.
ان المشكلة الاجتماعية انما تكمن في العقول المتحجرة والاتباع الذين يتبعون طريقة الببغاء تقليدا ولا يعرفون شيئا الا ترديد قول من سبقهم، فهو مقلد اعمى وبدون فكر ولا روية وعقل، لانه ببغاء. وازاء هذه المشكلة كان لابد للمنهج الذي وضعه السيد ابن شهاب اولا من إذابة تلك الاحجار الصلدة من تلك العقول، لتستطيع ان تقبل الحق ودعوة الحق على بصيرة وعلم ودراية، وبذلك تتوسع الافكار إلى مجال النظر والبحث. فالجمود الفكري لا يضر بالفرد صاحب العقل المتحجر ولكن يضر بالمجتمع، مما يجعل الامة لقمة سائغة للغزو الاستعماري واداة يستغلها المستعمر لمصالحه.
فالمنهج الذي وضعه السيد ابن شهاب يستوعب جميع مراحل النهضة الاصلاحية والمستويات السياسية والاقتصادية والتربوية والتعليمية وهذا المنهج لا يمكن ان يكون منهجا صامتا، ولكن يجب ان يطبقه عمل متواصل وكفاح مستمر بدون يأس ولا ملل.
والسيد ابن شهاب في جميع اعماله كان متأسيا بمن سبقه من عظماء الرجال بايمان قوي وصبر عظيم، والمنهج الذي سلكه وسار عليه متوقف على امرين :
الاول: تنوير العقول المتحجرة.
الثاني: التحرر الفكري من التبعيات.
هذا هو المنهج الاول الذي يربط ربطاً وثيقا بين الفكرة والعمل والذي بنيت عليه حركة النهضة الاصلاحية.
والحياة كما يقول الشاعر احمد شوقي، مبدأ وعقيدة وجهاد للوصول للهدف والغاية.
فكل انسان بدون عقيدة ولا مبدأ ولا هدف له في حياته هو امرؤ اشل في هذه الدنيا. وصاحب المبدأ والعقيدة هو الانسان الحي الذي يكافح ويستميت لمبدئه وعقيدته للوصول الى هدفه المنشود. والحياة صراع وكفاح بجميع انواعه ومتطلباته، وصاحب العقيدة والمبدأ هو الذي يشعر بالمسؤولية في هذه الحياة. فكل من التاجر والفلاح وطالب العلم ان لم يكن له مبدأ وهدف في حياته فهو الفاشل الحقيقي.
والمصلحون يجاهدون ويكافحون لا لانفسهم او لمصالحهم الذاتية ولكن للامة وللشعب وللصالح العام.
يقول الشيخ صالح بن سند الكثيري احد زعماء عشيرة آل كثير، في مناسبات
كثيرة عندما يذكر السيد ابن شهاب:
ان السيد ابن شهاب مصلح عظيم وزعيم عملاق، حارب الباطل فأزاله، فحطم الاصنام البشرية ورفع مستوى الشعب المستضعف الى مستوى رفيع ونصر المظلوم وقاوم الظالم ونشر العلم بين الشعوب، فلا غرابة ان ينهال الناس نحوه يلبون نداءه.الصحف والصحافة في نظرالسيد ابن شهاب
الصحف والصحافة في نظر السيد ابن شهاب هي اعظم وسيلة يجب اتخاذها في جميع الاعمال وبالاخص في سبيل الدعوة للنهضة الاصلاحية، ولا تختلف نظريته في الصحافة والصحف عن نظريات عظماء الرجال، كما يصفون الصحافة بانها القوة الرابعة، والسلطة غير المتوجة.
ولكن السيد ابن شهاب يشترط في الصحافة ان تكون حرة ولا تكون تحت سيطرة حاكم أو تأثير سلطان أو متزلفة، شانها في هذا شان المحدثين في العصور الماضية.
كان السيد ابن شهاب ممن يهتم بالصحف والصحافة، وكان يوجه توجيهاته إلى زملائه لشق الطريق واصدار الصحف، ففي عهده صدرت صحف ومجلات من سنغافورا وفينانخ (فلفلان) وجاكرتا وسورابايا وفكالوغن.
يقول السيد ابن شهاب: ان الصحفي يجب ان يكون ذا مبدأ وعقيدة راسخة يستميت في الدفاع عنها وعن الحق وتوعية الشعب والدفاع عن المستضعفين لا العكس وأن لا يكون بوقا لحاكم أو سلطان أو ارباب المصالح.
الصحفي والكاتب والداعي والزعيم كلهم في مستوى واحد على ان يكونوا نزهاء يدافعون عن الحق لانه حق ويحاربون الباطل لانه باطل.
إذا راجعنا صحف المهجر الشرقي منذ حين بروزها في عهد السيد ابن شهاب ثم بعد وفاته الى اندلاع الحرب العالمية الثانية نجدها في مستوى رفيع، وتلك الصحف المتخصصة في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الادب أو غيرها تتميز بابحاثها ومعالجتها للامور السياسية أو الاجتماعية أو الادبية. فجريدة الاقبال وحضرموت مثلاً وهي من ارقى الجرائد في المهجر الشرقي واوسعها انتشاراً تضاهي الجرائد المصرية ومثلها مجلة السلام والعرب وصوت حضرموت والنهضة الحضرمية والامام والرابطة وغيرها من المجلات الادبية لا تقل عن ارقى المجلات التي تصدر من مصر والشام بحثاً وتحريراً واخراجاً وتبويباً وطباعة، ولا تزال هذه الصحف محفوظة بايدي بعض الافراد. كما ان هناك مجلات فكاهية وانتقادية حرة مثل مجلة المكوى ومجلة برهوت ومجلة الترجمان وغيرها.
والصحفيون في المهجر الشرقي في ذلك الحين من الاحرار الذين لا يتقيدون بشيء إلاّ النزاهة، فهم احرار لا ينتمون إلى اية جهة من الجهات وغير متأثرين بشيء فلا تسيّرهم سلطة أو هيئة.
يقول السيد ابن شهاب: ان العدالة هي الحرية، وان الحرية هي العدالة، وحدة لا تتجزأ. فكيف يمكن لحاكم ان يحكم بالعدل ان لم يكن حرا وكان مقيدا لجهة من الجهات أو تحت سيطرة حاكم أو قوة نفوذ هيئة من الهيئات أو متأثرا بشيء؟ فهو في هذه الحالة لا يستطيع ان يحكم بالعدل. فالامام علي(عليه السلام) يقول: لا تكن عبدا لغيرك وقد جعلك الله حرا.
ان المستبد وارباب المصالح يكرهون الحرية ويحاربونها، وكل من يحارب الحرية فهو طاغ.
من هذه الامور تتجلى واضحة فكرة السيد ابن شهاب ومدى محاربته للاستبداد والطغيان من جميع جوانبه بلا هوادة.
مواقفه السياسية
السيد ابن شهاب من الذين لا يرون للقومية والوطنية مكانا في الاسلام، لان الاسلام هو العقيدة الوحيدة والمبدأ والهدف الذي يجمع المسلمين في بوتقة واحدة. فشمر عن ساعد الجد ورفع مشعل الدعوة للوحدة الاسلامية متشبثا بالخلافة الاسلامية رمز وحدة المسلمين، ففي نظره مهما تكن وضعية الخلافة الاسلامية، فان المحافظة على وجودها وبقائها واجبة. ووجودها كفيل بإثارة حمية الوحدة الاسلامية، وهي الرابطة التي تربط المسلمين من خلال الانضواء تحت لوائها. وبدون وجود كيان الخلافة الاسلامية سيتفرق المسلمون شذرا نحو قوميات مستوردة وعنصريات مختلفة متفرقة كاشلاء متناثرة وحينئذ يسهل على الاعداء استعبادهم لانهم فقدوا قوتهم المعنوية فانحلت كل الروابط التي تربطهم بالسند الاعظم الذي يأوون تحت ظله. ومن هذا المنطلق كان السيد ابن شهاب يدافع عن الخلافة ويرى وجوب المحافظة عليها وتأييدها تأييدا كاملاً ومقاومة كل التيارات الفكرية من مكر الاعداء التي تحاول فصل الدين عن الدولة. ولتحقيق فكرته التي يدعو اليها ويؤمن بها، دعا المسلمين اليها فجاب البلدان الاسلامية متنقلاً بين مدنها وقراها للاتصال بزعماء الامة وعلمائها للتفاهم معهم وللمحافظة على الجبهة الاسلامية الموحدة وسد طرق تلك التيارات الجديدة الوافدة الهدامة ومقاومة فكرة القومية وشعار الوطن للجميع والدين لله لتكون الدولة علمانية ومعنى ذلك القضاء على كيان الوحدة الاسلامية وازالة الخلافة من الوجود. ومسألة تدمير الخلافة امر متفق عليه، ولو لزم استخدام القوة لتحقيق هذا الهدف([100]).
نجح السيد ابن شهاب في دعوته للدفاع عن الخلافة في فترة من فترات زمانه ولكنه شاهد قبل وفاته متحسراً انهيار دولة الخلافة الاسلامية عام 1922 وبانهيارها ختمت الخلافة الاسلامية وانتهى دورها وتحقق هدف الاعداء ومنها تفرق المسلمون مع كل ريح يميلون فاستعمرتهم دول الغرب والشرق الشيوعي، وهو الواقع الذي كان يخشاه السيد ابن شهاب وقد وقع فعلاً على رغمه ورغم المسلمين اجمعين.
ماذا كان يقول السيد ابن شهاب عن الخلافة التي هي رمز الوحدة الاسلامية فلنسمع قصيدته التي وجهها إلى الخليفة عبد الحميد:
امير المؤمنين أجل غاز
خليفة عصرنا المرضي فينا
هو الطود المنيع المرتقى في
قرين عرائس المجد اللواتي
به تزهو المنابر حين تتلى
شآ ما شاء في العلياء حتى
وارعف سيف نقمته الى ان
يقود الخيل عادية عراباً
فتهوي كالبزاة العصم كراً
عليها من ذوي عثمان غر
إذا وردت بهم دأماء حرب
ولم يصدرن عن مثوى عدو
تؤمل من جلالته وتخشى
إذا اشتعلت سعير وغى عليهم
ولم يعبأ بهم لو لا ولولا
إذا ما استنفر الآساد يوما
ليوجف نحوه من كل صقع
مليك تعجز الايام عن ان
براه الله في المسكون عضبا
فصان مشاعر الاديان بيت
بسيط الارض في يده فيحيي
وما من مركز إلا وجدنا
نداه الغيث لكن ليت شعري
اخو ثقة بنفس ما اقتفت في
ومهما حل في فلك علي
ولم يرفع منارا منه إلاّ
سما في العز عن آباء صدق
ولم نعرف له الا اشتراء الـ
امير المؤمنين انعم صباحاً
فانت العروة الوثقى ولسنا
أتيت اليك من بلد بعيد
وقابل بالقبول مهاة خدر
تمد اكف معذرة وعجز
وكيف بحصر مالك من فخار
فانك زينة الدنيا جميعاً
ونشر ثناك قد زان النظاما
بقائم سيفه الدين استقاما
لدنيانا وللدين الاماما
حماه الجار يأمن ان يضاما
سمت إلا له عن ان تراما
شمائله وتهتز احتراما
على هام السها ضرب الخياما
تبوأ من ذرى المجد السناما
تثير النقع تحسبه ركاما
سنابكها الخوافي والقدامى
يرون تجشم الهول اغتناما
شهدت لهم بلجته اقتحاما
وفيه سوى اليتامى والايامى
ملوك الارض صفحاً وانتقاما
رأيت لهم برايته اعتصاما
فسوف يكون ان جحدوا لزاما
بدعوة دينه يمنا وشاما
خميسا تحت طاعته لهاما
تجيء بمثله بطلاً هماما
على الباغي إذا بحماه حاما
المقدس والمدينة والحراما
ويورد من يشاء به الحماما
شيات من علاه به وشاما
ايستويان ذا ذهب وذا ما
ترقيها الملالة والسآما
من الشرف استقل به المقاما
بأعلى منه كان له اهتماما
وكان لكل منقبة عصاما
ـفخار بباهض الاثمان ذاما
ودمت تقي من الدهر الكراما
نرى للعروة الوثقى انفصاما
لاقرئك التحية والسلاما
حياء منك تعثر واحتشاما
عن استقصائها المدح التماما
ولو حاولته خمسين عاما
ونشر ثناك قد زان النظاما
ونشر ثناك قد زان النظاما
هذا ما يحدث ونحن في عصر العلم ولا نزال نجد امثال هذه الغرائب ولا ندري كيف يقبل الانسان تلك الافكار العوجاء.
طغى شعور الاقليمية والاعتزاز بالقبلية والعشائرية بين الكثير من الشعوب الاسلامية. الم يكونوا يعلمون انهم يسيرون القهقرى عائدين إلى الجاهلية الاولى؟ فما اسوأ حظ المسلمين اليوم فقد ابتلوا بهذا الداء الوبيل.
هل للعناصر الخارجية دور في ادخال تلك المفاهيم المضللة المزخرفة بشعارات القبليات والعشائريات أو الاشتراكية أو الماركسية وكلها في طريق معاكس للاسلام.
خلا الجو للاستعمار فرتع ومرح فهيمن على الاقتصاد والخيرات وسيطر على سياسة البلاد، وإذا بتلك الشعوب المخدرة عقولها ترى الوافد الاوروبي كأنه رسول الرحمة.
الاموال تنهب، وليس للحكام إلاّ هدرها لملذاتهم بينما الشعب يعيش مكبوتاً مهدور الكرامة، واصبحت شعارات الدعوة للوحدة مجرد شعارات جوفاء لا تتعدى الاستهلاك المحلي، ولن يجتمع المسلمون تحت دولة واحدة مادامت الاوضاع كما هي الآن حيث الامر ليس للحكام، وانما هم للمستعمر الغربي أو الشرقي اطوع من بنانه، ولا يخيف المستعمر إلاّ التكتل الاسلامي، اما تجمعات المسلمين للصلاة والحج ففي نظر المستعمر ليست إلاّ طقوسا لن توحد المسلمين فلا خوف ولا خطر من صلاتهم وحجهم.
بدايات التصدع في هيكل دولة الخلافة:
ظهرت حركة جديدة في تركيا باسم (الاتحاد والترقي) تحت شعار العدالة والمساواة في عهد الخليفة عبد الحميد. قام بهذه الحركة زمرة من الشباب التركي المتأثر بالمدنية الاوروبية، وسرى مفعول هذه الحركة بين الاوساط الاسلامية وكان تأثيرها في العالم الاسلامي عظيما بين مؤيد ومقاوم. اما العالم الاوروبي فقد استقبل هذا النبأ بالترحيب والتأييد.
يقول بعض المؤرخين المسلمين: ان هذا الحادث كان بادرة تصدع في جسم دولة الخلافة، في الوقت الذي كانت دولة الخلافة تجابه القوة الاوروبية الغازية للعالم الاسلامي.
محاولة التخلص من الخليفة باغتياله:
حاولت الايدي العابثة من عملاء الحلفاء اغتيال الخليفة عبد الحميد عام 1323هـ بقنبلة القيت عليه للتخلص منه وانهاء نفوذه واحداث قلاقل داخلية. لكن الخليفة نجا من حادث محاولة الاغتيال ولم يصبه مكروه. بدأت الصحف الغربية تزمر وتطبل لتلك النهضة لاجتثاث حكم الرجل المريض بدعوى ان الشعب التركي سئم الحكم الاسلامي ونهض الشباب المتنور للتخلص من الجهل والفقر والتأخر. كثر الهرج والمرج في ديار المسلمين وتعددت الاقاويل وتشعبت الظنون والتخرصات حول هذا الحادث والمدبر له وذهب اكثر القول استنادا إلى مجرى الحادث وتسلسله أنه من تدبير يهودي عميل للحلفاء، ولكراهية اليهود للخليفة ارادوا الانتقام والتخلص منه. وكان ذلك بعد اصدار الخليفة عبد الحميد مرسوما يقضي بمنع استيطان اليهود القادمين إلى فلسطين ومنع اليهود المقيمين من شراء أو تملك ارض حتى ولو كانت للسكنى، فكان لهذا المرسوم رد فعل لدى اليهود واضمروا الحقد على الخليفة وقرروا الانتقام منه بمساعدة بريطانيا، فحاكوا حوله المؤامرات، وبدأت الضغوط البريطانية على دولة الخلافة بشتى الوسائل ومنها فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولكن الخليفة عبد الحميد اصر على رفض كل مطلب يتعلق باليهود. لم ييأس اليهود من تحقيق رغباتهم بشتى الطرق، وباءت كلها بالفشل، ثم جاؤوا باساليب اخرى منها العمل مع المخابرات البريطانية والاستعانة بقوة المافيا للضغط على دولة الخلافة بطرق خفية من عدة جوانب، وما فتأت ان انكشفت المؤامرة، فهدد الخليفة عبد الحميد وانذر. فهل وقف اليهود عن مؤامراتهم ضد دولة الخلافة؟ لا، ولكنهم واصلوا سعيهم بدون توقف.
الحكومات الاوروبية كلها ما عدا المانيا في شخصية قيصرها (ولهلم) تكره الاسلام وتكره الخلافة الاسلامية وتكره عبد الحميد إلى اقصى حدود الكراهية لانه يسعى لاحياء الوحدة الاسلامية واعادة مجد الخلافة.
اما المانيا فكانت على طرفي نقيض مع الدول الاوروبية الاخرى في المصالح فارتبطت المانيا بدولة الخلافة لان العدو واحد، والمصلحة تقتضي التعاون امام العدو المشترك.
الخليفة عبد الحميد رجل طموح، قوى الارادة، ولكنه في دولة اخذ نجمها يميل الى الافول.
وجد ساسة اليهود الذين يحملون الجنسية البريطانية ولهم مكانة رفيعة في الدولة طريقا من ضعف دولة الخلافة لمحاربتها اقتصاديا حتى يكمل ضعف دولة الخلافة وتصبح عاجزة مما يدفع الشعب التركي الى الاستياء من وضع الدولة وتصبح الاوضاع المتردية مهيئة للقلاقل الداخلية. وبدأت دول اوروبا تحاصر دولة الخلافة اقتصاديا وسياسياً ثم اخذت اجهزة الاعلام الاوروبية واليهودية العالمية تحمل الحملات الشنعاء على دولة الخلافة وإلصاق التهم والتقوّل على الخليفة عبد الحميد وحاكوا حوله قصصا ملفقة من نسيج الخيال كقصص اسطورة ابن سبأ في التاريخ الاسلامي. وضعوا قصصا وحكايات عن حياته الخصوصية تضاهي اساطير حكايات الف ليلة وليلة عن الصبيان والغلمان والحريم والشراب واللهو والمجون، ومثلوا عبد الحميد بانه رجل تافه التفكير اهبل مختل العقل ثم لقبوه بالرجل المأفون والمريض عقليا ونفسياً. وانتشرت هذه القصص والترهات حتى صدق بها بعض المسلمين.
ما هو الهدف من نشر تلك الترهات والاقاويل؟
ان الهدف الوحيد من نشر تلك الاقاويل والترهات بصفة واسعة عالميا هو الحط من قدر رجل الدولة الاسلامية واهانته واسقاط اعتباره من اعين المسلمين انفسهم حتى تزول ثقة المسلمين فيه فيفقد حبهم له ثم يكرهونه ويأبون ان يكون الخليفة رجلاً مأفوناً بهذا المستوى السافل.
يقول اعداء الاسلام: انه ما دام للمسلمين دولة تجمعهم، فلهم قوة يستظلون تحتها، وستبقى قوتهم المعنوية عالية ما دام منار الخلافة عاليا يشع منه هذا الشعاع الاسلامي ويبث في قلوب المسلمين الشعور والاعتزاز بالوحدة، هذا الشعور هو ما تخشاه الامم من غير المسلمين لان الاسلام خطر عليهم ويجب ازالة وقلع هذا الخطر من جذوره المتمثل في دولة الخلافة التي بزوالها ستزول معنوية المسلمين وكل محاولة بعد ذلك لتوحيد المسلمين يجب تحطيمها ويكفي المسلمين سلطنات وامارات يحكمها اسر قبلية وعشائرية لا يجمعهم دين أو عقيدة اسلامية.
ومن هنا تتجلى اسباب محاولة اغتيال الخليفة عبد الحميد، ولما بلغ السيد ابن شهاب هذا النبأ جاش صدره بهذه القصيدة يهاجم فيها تلك الايادي الأثيمة العابثة التي تحاول المس بالخليفة.
غلت يد العادي الى صدره
والله جلت ذاته حافظ
خليفة الحق الذي اختاره
يدبر الكافر مكراً به
شلت يد القاصد بالسوء من
ما لبغاث الطير في جوها
وذلك الغادر لابد ان
اف له اف وتف لمن
اهكذا يصنع من يدعي
كلاّ ولكن هذه شيمة
لو انهم ممن يروم العلى
يستنصرون الصفر وهو الذي
اعجزهم ليث الشرى في الوغى
وما دروا ان الذي حاولوا
عليه من كيد العدا جنة
إثم تولت كبره امة
من شانها بث بذور الشقا
ان تذر بغيا في حمى حاكم
قبحا لها مدت خياناتها
آمنة من ان تجازى بما
علما بان الحر مستنكف
ان ادركت ما ادركت غيلة
والبحر قد يجزر لكنه
ايهاً امير المؤمنين اتئد
واضرب بسيف الحق واخضد به
وكن بحبل الله مستعصما
واحمده واجعل شكره ديدنا
ولنرفع الايدى وندع الذي
ان يمنح الاسلام عزابه
يعنوله البوذي في داره
وينصر السلطان نصرا به
مخلدا أيامه منعما
بحق روحانية المصطفى
وآله عمد الهدى غره
ورد كيد الخصم في نحره
حافظ دين الله في عصره
في بره الباري وفي بحره
واين مكر الله من مكره
تنفيذ امر الله في أمره
تطمع في نيل أَذى نسره
يكرع من مرّ جنى غدره
اغراه أو ساعد في نكره
شهامة النفس لدى فخره
للائث الخمر([101]) على شعره
لا قوه يوم الروع في مجره
في بيضه النصر وفي سمره
فاعملوا الحيلة في ختره
اذاه لا يطمع في ضره
صائغها الرافع من ذكره
يعرفها العالم من اسره
في الارض والنفخ على جمره
ظنت منال الربح في خسره
في عامر الملك وفي قفره
من جمه جاءته أو نزره
عن فعله السوء وعن اصره
فالليث لا يهجع عن وتره
في مده بحر وفي جزره
بالدين واحملهم على يسره
شوكة من يعمه في شره
وثق بما عودت من نصره
ان مزيد الفضل في شكره
لابر إلا وهو من بره
يعلو شعاع الحق من زهره
ويخضع الراهب في ديره
يجتث عرق البغي من جذره
ما شاء في مد مدى عمره
وآله عمد الهدى غره
وآله عمد الهدى غره
ماذا سيقول السيد ابن شهاب لو عاش إلى زماننا هذا، ورأى صروح الاسلام تدك دكّا بأيدي ابناء المسلمين وقد اصبحوا طوائف ممزقة وقوميات عديدة ما كانت معهودة ولا معروفة.
كان السيد ابن شهاب في ثباته كالطود الشامخ امام تلك التيارات الفكرية الوافدة من الغرب وذلك عائد في المرتبة الاولى الى التربية الحرة التي تربى وترعرع ونشأ عليها والى الدروس التي تلقاها من كبار اساتذته العلماء الاحرار، فليس غريبا ان يكون حرا قوي العزيمة في ممارسة اعماله وكفاحه طيلة ادوار حياته، وهو بدوره يدعو الى التحرر والى الحياة الفكرية الحرة المبنية على الايمان والعقيدة الصادقة الصحيحة.
الانقلاب التركي:
قام زمرة من الشباب التركي بثورة اطلق عليها في ذلك الوقت اسم (الانقلاب) كانت بمثابة نتيجة حتمية بسبب الضعف العام الذي اعترى دولة الخلافة اضافة الى الحملات الاوروبية اقتصاديا وسياسيا واعلاميا ضدها وحاولوا بكل قواهم تدمير حصن الخلافة الاسلامية.
على اثر الدعوة الجديدة من جمعية الاتحاد والترقي في تركيا وبقوة نفوذ المدنية والحضارة الاوروبية إلى شعوب البلدان الاسلامية تبلورت وظهرت في الاوساط الاسلامية فكرة (القومية) و(الوطنية) سعيا وراء التقدم ومجاراة لشعوب دول اوروبا التي اصبحت الرمز في الرقي والتقدم الاقتصادي والصناعي في اعين المسلمين.
لم تكن فكرة ازالة الخلافة أو ابدالها بجمهورية قد تخمرت آنذاك في اذهان رجال جمعية الاتحاد والترقي بل كان هدفهم اصلاح الاوضاع السياسية العامة في اطار دولة الخلافة برلمانيا، أي جعلها شبه علمانية ولكن مع الاحتفاظ بهيكل دولة الخلافة والانضواء تحت ظلها.
كان زعيم الحزب الوطني المصري ممن يؤمنون بهذا المذهب، الذي يمثل الاعتزاز بالقومية والوطنية المصرية تحت ظل الخلافة الاسلامية وكان من الداعين الى هذه الفكرة مع المحافظة على التقاليد الاسلامية والولاء التام لدولة الخلافة.
طغى شعور القومية والاعتزاز بالوطنية على الشعوب العربية والاسلامية في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين الميلادي وتبلور في كل الحركات السياسية والاجتماعية حتى في الامور الخيرية، وكانت الصحف العربية تثير في الشعب روح القومية في مصر والشام والعراق والحجاز وفي المهجر الاوروبي والاميركيتين، حتى في المهجر الشرقي محاولة بشتى اتجاهاتها السياسية وتنوع عقائدها غرس روح القومية هادفة إلى تطوير اوضاعها ومعالجة تخلفها للحاق بالركب الحضاري الغربي صناعياً واقتصادياً وثقافياً.
ان التأخر العام في البلدان الاسلامية سببه الأساسي تدني مستوى التعليم مما جر المسلمين الى التواكل والضعف والوهن وتخلفوا عن الركب الحضاري، وعليهم ينطبق قول شاعر المهجر الشرقي احمد السقاف:
ولنا المئات من السنين ونحن في
كتب التهجي لم نجاوز دالها حاول هؤلاء القوميون والوطنيون استدراك ما فات وتعويض ما فقد ليتمكنوا من مجارات الركب الاوروبي، فكان الاعتزاز بالقومية هو الدافع الاول لهم، حتى غدا الكل يفتخر بوطنيته وقوميته اكثر مما يفتخر بشيء آخر. ان هذا الشعور والاعتزاز بالقوميات هو الذي جزّأ العرب والمسلمين وفرقهم الى كتل اقليمية ضيقة والى قبليات وعشائريات لم تكن في حقيقتها سوى خيالات محضة. فالتقدم هو العلم. وعلى الرغم ان العرب تجمعهم لغة واحدة وثقافة واحدة وتراث واحد وتربة واحدة ووطن واحد ومصالح مشتركة بينهم، لكننا نرى التفرق والتمزق والخصام والعداء والشكوى من بعضهم على بعض حتى اريقت الدماء وازهقت الارواح وهدمت المدن واصبحت بعض الاسر بلا مأوى، ورملت النسوة وتيتم الاطفال. وحوادث الانقلابات الناجحة أو الفاشلة في البلدان العربية بعد الحرب العالمية الثانية هي دليل قاطع على ما نقول، وما الماساة اللبنانية المستمرة ببعيدة عنا وقد مضى عليها سنوات طويلة. فأين حكام العرب؟
نعم، حاول بعض الزعماء المصلحين من العرب بعد الحرب العالمية الثانية توحيد وجهات النظر العربية وتقريبها واعتمدوا لذلك طرقاً عديدة واساليب شتى، ولكن تلك الجهود باءت بالفشل في اول خطوة من المسيرة، وتكرر الفشل بعد ذلك حتى شك الناس في كل فكرة تدعو للوحدة والاتحاد وعند سماع كلمة (الدعوة والاتحاد) يقال عنها إنها فاشلة لكثرة الفشل المتلاحق، فملفات وزارات الخارجية للدول العربية وملفات الجامعة العربية وما تنشره الصحافة والاذاعات كلها شاهدة وناطقة على ما نقول، وعلى الجيل القادم ان يولي لهذا الموضوع اهتمامه ويدرس اسباب هذا الفشل.
البعض في عصرنا يعلل اسباب الفشل بفقدان الوعي وحب الذات وعدم الايثار والتهافت على السلطة وقيمومة الدول الغربية الراسمالية ودعمها لوجود دويلات عربية ممزقة. ولكن نفى آخرون هذه النظرية وقالوا انها نظرية واهية وحجتها جوفاء. إذا اراد العرب حقيقة الوحدة والاتحاد فمن يمنعهم؟ ولهم في الشعوب الاخرى على قلة عددهم وعدتهم دليل على امكانية الوحدة والاتحاد. وحركة الفيت كونغ الفيتنامية هي الدليل إذ كيف استطاعت هذه الزمرة الصغيرة دحر الولايات المتحدة بقوة جيشها البالغ ثمانمئة الف جندي بكامل اسلحتهم ومعداتهم الحديثة المدعومة بالاساطيل البحرية والجوية، لقد خرجت القوات الامريكية خاسرة فاشلة، وتوحد الشعب الفيتنامي في دولة واحدة شمالاً وجنوباً. وهناك امثلة اخرى في الشعب الماليزي أو الشعب الاندونيسي، فاندونيسيا توحدت على رغم تكوينها الجغرافي المؤلف من 13 الف جزيرة تفصلها المياه، ويتألف شعبها من عدة قوميات لكل منها لغته الخاصة به، وله ثقافته الخاصة، وعاداته واساليبه في الحياة. حيث بلغ مجموع لغاتها ولهجاتها عشرين لغة وثمانين لهجة مختلفة، تختلف كل لغة عن الاخرى حتى في احرف هجائها ومع كل ذلك توحدت تحت راية واحدة ودولة واحدة وتحت شعار (قوميات مختلفة في شعب واحد).
إذا القينا نظرة على التاريخ الاستعماري الاخير عام 1945 / 1949 نجد أنه كيف حاولت هولندا فرض ارادتها واشترطت في معاهدتها بتأييد من هيئة الاُمم لتسليم السلطة والسيادة لاندونيسيا بعد حروب دامت اكثر من ثلاث سنوات، ان تكون اندونيسيا فيدرالية تتألف من عدة حكومات، ولكن روح الوحدة الاندونيسية قوية، حيث نبذت اندونيسيا تلك الشروط واعلنت انها دولة واحدة ذات سيادة كاملة ولغتها واحدة هي اللغة الاندونيسية فالوطن واحد هو اندونيسيا والشعب واحد هو الشعب الاندونيسي. ومهما اختلفت الاحزاب الاندونيسية في مشاربها السياسية فانها لن ترضى التجزئة والتمزق والانفصال، وأن تقوم على اسس اقليمية أو عشائرية ضيقة أو على اساس لغة أو ثقافة معينة كما حدث لباكستان التي ما لبثت أن تحطمت وانشقت إلى دولتين هما باكستان وبنغلاديش.
وكذلك نجد مثلاً في الامة الماليزية، فعندما خرج الاستعمار البريطاني الذي جزأ الشعب الماليزي إلى تسع سلطنات واربع ولايات قائمة بذاتها، اجتمع السلاطين التسع وشخصيات ماليزية بارزة وتداولوا وتشاوروا فيما بينهم وقرروا تكوين دولة واحدة من مجموع هذه السلطنات والولايات باسم (دولة ماليزيا) عن وعي وادراك وقناعة وتضحية وبذلك تكونت دولة ماليزيا الموحدة، ولم يطمع أي سلطان باستئثاره بالحكم لنفسه دون غيره، وبقي السلاطين في اماكنهم حكاماً على ولاياتهم ضمن دولة ماليزيا الموحدة، ونوع الحكم فيها مستحدث في التاريخ وفي عرف انظمة الدول والحكومات، فقد اتفقوا على دستور لا هو ملكي بالمعنى المعروف بالتوارث ونظام ولاية العهد ولا هو جمهوري بالعرف المفهوم ولكن النظام المعمول به هو ان يتولى شخص زمام الحكم كل خمس سنوات بالتناوب بين السلاطين التسعة باسم ملك ماليزيا، لكنه لا يحكم مباشرة، فالحكم لمجلس الوزراء الذي يتم بانتخاب الشعب والوزراء مسؤولون امام البرلمان المتشكل من مندوبي الشعب، والملك يعتبر رمزاً للوحدة تطبيقاً للاجراءات البروتوكولية.
ما هو السبب في نجاح الماليزيين وهم قريبو عهد بالاستقلال؟
اما الهند التي تمثل شبه قارة بمجموع سكانها الالف مليون نسمة ثم الصين التي بلغت نفوسها اكثر من مليار ومئتي الف نسمة فيتكون كل من شعبيهما من مجموعة قبائل وعشائر وولايات واسعة مع تعدد القوميات واللغات والاديان والعقائد والثقافات والاحزاب والمذاهب والمصالح ومع كل ذلك بقي كل من الدولتين في اطاره الخاص دولة واحدة موحدة في نظام جمهوري.
هل ينطبق اليوم قول النبي محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين بهذه الكثرة الكثيرة من عدد نفوسهم انهم يشبهون غثاء كغثاء السيل، مساجدهم عامرة وقلوبهم خاوية، ممزقون مشتتون تسيطر عليهم الاهواء وحب الذات والاهتمام بالمصالح الشخصية، حكامهم يحكمون شعوبهم بالسياط والاغلال، والسجون غاصة بالابرياء يعيشون في حفر تحت الارض لا يرون الشمس ولا يعرفون النور ولا يعرفون نهارهم من ليلهم وينتهي امرهم بالقتل السري. بينما شعوب العالم تشاهد وتتفرج على هذه المسرحية مسرحية الحكم الاستبدادي، وعلى الشعب المبتلى الفقر والمرض.
في اواخر القرن التاسع عشر شكلت بريطانيا في منطقة عدن بجنوب اليمن قاعدة عسكرية لمحاصرة الجيش التركي وسلطنة لحج، قاوم السيد ابن شهاب هذا المشروع البريطاني مقاومة شديدة سياسياً واعلامياً وعلى مستوىً عالمي ومقاومة سياسة بريطانيا في منطقة عدن وما تبذلها من اموال ومواعيد خلابة لابناء جنوب الجزيرة ليست بالامر السهل واستشاطت بريطانيا من موقف السيد ابن شهاب المعادي لبريطانيا فألبت عليه الاُجراء والعملاء.
انهيار دولة الخلافة:
قضي الامر وانحازت دولة الخلافة إلى المعسكر الالماني في عام 1914 وتورطت في الحرب العالمية الاولى ضد الحلفاء، وانهارت تركيا ودخلت الحرب وهي ضعيفة فمنيت بالخسارة العظمى التي لا تعوض، واستسلمت للحلفاء صاغرة ذليلة وبدون أية مكاسب ورضخت مرغمة لتوقيع معاهدة الاستسلام بكل ما املى عليها الحلفاء المنتصرون وجردت تركيا من جميع قواها العسكرية وحددت سياستها الخارجية ومزقت البلدان التابعة لدولة الخلافة والتي كانت جزءا منها وتم ابدال الحروف العربية باللاتينية وبذلك قطعت كل العلاقات مع الامم الاسلامية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ومحيت الخلافة الاسلامية محواً تاماً وتحرك الاعتزاز بالقومية والوطنية التركية وتم تأسيس جمهورية تركيا الوطنية العلمانية، وما على تركيا المهزومة الضعيفة إلاّ الرضوخ لتوقيع تلك الشروط في وثيقة قيل عنها انها معاهدة صلح والحقيقة هي انها معاهدة استسلام للحلفاء وكان ذلك في عام 1917.
هذه المأساة القاسية كانت مأساة المسلمين اجمعين وضربة لهم وهم عزل لا يستطيعون تحريك شيء أو أن يفعلوا شيئاً سوى التأوه بينما احتفل الاعداء بعيد النصر بالقضاء على دولة الخلافة، وعلى اكبر حصن ومعقل اسلامي من الوجود.
وازدهرت بعد ذلك القوميات والدعوة اليها ورفع شعار الوطنية واقبل الناس الى هذه الفكرة بشعار: الدين لله والوطن للجميع.
لقد فوجئ المسلمون في عام 1921 بنبأ تطبيق شروط استسلام تركيا المجحفة واهمها الغاء دولة الخلافة وعزل الخليفة وتم محو كيان الخلافة الاسلامية من الوجود نهائياً.
تألم السيد ابن شهاب لذلك الخبر كما تألم المسلمون من رواد النهضة الاصلاحية.
تلقى السيد هذا النبأ السيئ برباطة جأش وتجلد، بيد أن التأثر غلب عليه فهد من صحته وظل يعاني آثار هذه المأساة التي اوهنت جسمه. وقال والألم يحز قلبه: ان الاعداء توصلوا إلى مبتغاهم. ومع هذه الضربات القاسية عليه ظل يساوره الامل ويتفاءل بامكانية استرجاع تركيا قوتها لتعود الى مكانتها الاولى.
فالسيد ابن شهاب الذي قضى حياته في الدفاع عن الخلافة بكل طاقته، لا يود ان يرى تمزق المسلمين بزوال دولة الخلافة. ولكن الواقع هو تطور الاحوال ونشوء جمهورية جديدة في الوجود هي جمهورية تركيا التي سارعت دول الحلفاء للاعتراف بها وتقديم كل المساعدات لها، ورفع الأذان ولم يعد يسمع له دوي كما كان يسمع من مآذن جوامع تركيا لا في العاصمة استنبول ولا في المدن التركية الاخرى، ولكن هذه الحالة لم تدم طويلاً حتى عاد الاذان من منارات المساجد.
ليس بغريب حدوث ووقوع امثال هذه الحوادث في العالم، فالقوي هو الذي يفرض ارادته ويحكم ويفعل ما يريد وليس للضعيف إلاّ الرضوخ، وبزوال دولة الخلافة تهافت الحلفاء لاحتلال البلدان الاسلامية وتقسيمها فيما بينهم واستعمروها واستعبدوا شعوبها وتشتت المسلمون كاليتامى لا اب لهم ولا راعي يرعاهم.
لم يعد يتحمل السيد ابن شهاب اكثر من هذه المآسي المؤلمة والاوضاع القاتمة والاحوال المظلمة فكان يعاني آلاما نفسية وتردت حالته الصحية حتى وافاه الاجل المحتوم بعد عام واحد من ذلك اليوم المشؤوم يوم محو وازالة الخلافة الاسلامية، وماساة العالم الاسلامي اجمع.
تعالت النغمة القومية والوطنية فانتعشت وازدهرت واحتلت مشاعر الشعوب الاسيوية والافريقية التي يطلق عليها آنذاك شعوب الشرق ويصطلح عليهم اليوم بشعوب العالم الثالث.
وها نحن الآن نشاهد كل امة تعتز بقوميتها ووطنيتها مما دفعها لشق طريقها من جديد للتحرر والكفاح من اجل مستقبل افضل محتذية حذو الشعوب الاوروبية معتبرة ان اوروبا مثال التقدم والحضارة والمدنية.