الجماعة بالاستدارة من الناحية التأريخية
بعد فتح مكة وقدوم المسلمين من
المدينة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعفو النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) عن أهل مكة بقوله: فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف، لا تثريب
عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ... فاذهبوا فأنتم الطلقاء>20
.
خرج أهل مكة كأنما نشروا من
القبور ودخلوا في الإسلام. وفي تلك الفترة من الزمان لم تكن ساحة المسجد
الحرام واسعةً كما نرى نحن الآن، بل كانت ضيّقة جدّاً. هذا من جهة، ومن جهة
أخرى كان عدد من قدم مكّة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)أكثر من
عشرة آلاف نسمة، كما كان عدد أهل مكة في سنة الفتح أكثر من ألفين، فصار عدد
القادمين والمقيمين أكثر من 12 ألف شخص.
هنا سؤالان:
1 ـ أكان المصلّى في ذلك
الزمان لهذا الجمع الغفير، نفس المسجد الحرام أو مكاناً آخر؟
2 ـ ماهي كيفية إقامة الصلاة
بالجماعة في تلك السنة؟ أكانت بالاستدارة، أم كانت تقام في جهة من الجهات
الأربع للكعبة المشرّفة؟.
ولأجل أن يتّضح المطلب للقارئ
الكريم لابدّ من أن أشير إلى جانب من تأريخ توسعة المسجد الحرام في صدر
الإسلام والقرون اللاحقة له:
قال باسلامة المكي: كان المسجد
الحرام منذ بنى إبراهيم الخليل مع ابنه إسماعيل (عليهما السلام)الكعبة
المعظمة إلى أن آل أمر مكة المكرمة إلى قصي بن كلاب الجدّ الخامس لنبيّنا
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)عبارة عن فسحة واسعة حول الكعبة المعظمة، لم
يكن حول الكعبة المعظمة دور مشيدة، أو جدار محاطة بالمسجد الحرام، حيث كانت
القبائل التي قطنت مكة من عمالقة، وجرهم، وخزاعة، وقريش، وغيرهم يسكنون شعاب
مكة ويتركون ما حول الكعبة المعظمة احتراماً لها وتعظيماً لشأنها ... فلمّا
آل الأمر إلى قصي واستولى على مكة ... جمع قصي قومه بطون قريش وأمرهم أن
يبنوا بمكة حول الكعبة المعظمة بيوتاً من جهاتها الأربع ... فبنت قريش دورها
حول الكعبة المعظمة وشرعت أبوابها إلى نحو الكعبة المعظمة، وتركوا للطائفين
مقدار مدار المطاف، وجعلوا بين كلّ دارين من دورهم مسلكاً شارعاً فيه باب
يسلك منه إلى المطاف، وجعلوا بناء الدور مدوّرة ولم تكن مربعة الشكل، حتى لا
يكون بينها بين الكعبة المعظمة شبه في البناء من جهة التربيع>21.
وقال إبراهيم رفعت پاشا في
كتابه مرآة الحرمين: ذكر الأزرقي والإمام أبو الحسن الماوردي وغيرهما أن
المسجد الحرام من عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)وأبي بكر ليس عليه
جدار يحيط به، وكانت الدور محدقة به من كل جانب وبين الدور أزقة يدخل منها
الناس، وكانت حدوده حدود المطاف الآن، وهوعلى ذلك من عهد إبراهيم (عليه
السلام)>22.
وأنت أيها القارئ الكريم ترى
أن الساحة كانت بمقدار حدّ المطاف (5/26 ذراعاً) ولا يمكن إقامة صلاة الجماعة
في أحد الجهات الأربع عند كثرة الناس.
ويأتي ما يؤيّد هذا المطلب إن
شاء الله.
وقال باسلامة المكي في موضع
آخر من كتابه أيضاً:
إنه لم يكن قبل الإسلام ذكر
للمسجد الحرام وإنما كل ما يكون هو مدار الطواف حول الكعبة المعظمة، وذلك
لأنه لم يكن في التشريع الجاهلي صلاة يؤدونها حول الكعبة المعظمة وإنما كان
المعتاد عند العرب في جاهليتها الطواف حول الكعبة المعظمة فقط ... فلمّا جاء
الإسلام وانبثق نوره واعتنقه أفراد من أهل مكة كان من أسلم منهم يستخفي
بصلاته عن المشركين في داره وفي شعاب مكة لئلا يؤذوه، وذلك قبل الهجرة ولم
يصّل أحد منهم حول الكعبة المعظمة إلاّ على سبيل النادر ... ومكثت مكة على
هذا الحال إلى عام الفتح سنة ثمان من الهجرة. فلمّا فتح رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) مكة منع المسلمين من الهجرة بقوله: «لا هجرة بعد الفتح» فصار
بعد ذلك يقيم المسلمون صلاتهم حول الكعبة جهاراً، غير أنه كان سكّان مكة
قليلين جداً وهم عبارة عن عدد وجيز; لأن معظم أهلها قد التحقوا بعد الهجرة
بالجيوش الإسلامية لأداء فريضة الجهاد، والذب عن دين الإسلام ... ولذلك لم
يكن في العصر النبوي ولا في خلافة أبي بكر احتياج إلى توسعة المسجد الحرام;
لأن سعة مدار المطاف كان كاف لصلاة المسلمين المقيمين بمكة، ولم يقع فيه ضيق
على المصلين يلجئهم إلى توسيعه.
ولهذه الأسباب المتقدم ذكرها
لم يقع في المسجد الحرام زيادة ولا سعة ولا تغيير ولا تبديل>23.
وحينما كثر الحجاج والمقيمون
بمكة المكرمة، وقعت ولأول مرّة زيادة في المسجد الحرام في سنة 17 هجرية ثم
وقعت الزيادة الثانية في سنة 26 هجرية. وأما الزيادة الثالثة كانت في عهد عبد
الله بن الزبير سنة 65 هجرية وهي أكثر ما زيد في ساحة المسجد الحرام. لأن
الأزرقي روى أن مساحة المسجد الحرام في زمان ابن الزبير تسعة أجربة وشيء
....
وعليه فتكون مساحة الجريب
الواحد 3600 ذراع مربع وبذلك يكون مساحة المسجد الحرام في زمان ابن الزبير
اثنين وثلاثين ألف ذراع، وأربعمائة ذراع مربع وذلك حسب ما ذكره الأزرقي،
وبموجب ذلك صار سعة المسجد الحرام في عصر عبد الله بن الزبير نحو ربع مساحة
المسجد الحرام التي هو عليها في العصر الحاضر>24أو
تزيد قليلا>25.
وبما أن المسجد الحرام أفضل
بقاع الأرض وقبلة المسلمين في أرجاء العالم كلّه فقد تشرف الخلفاء والملوك
والسلاطين بعمارته وتوسعته، حتى أنه قد زيد في المسجد الحرام من سنة 17 هجرية
إلى سنة 306 هجرية، ثماني زيادات، ولا تزال هذه الزيادات والتوسيعات إلى
الآن.
ونلاحظ في الملحق رقم: 5 من
كتاب الأزرقي، أنه كانت مساحة المسجد الحرام قبل التوسعة في عام 1375 هجرية،
29127 متراً مسطحاً وبعد التوسعة التي حدثت في عام 1375 هجرية صار مجموع
مساحة المسجد 160168 متراً وهي مساحة تتسع لأكثر من 300 ألف من المصلين في
وقت واحد، يؤدون صلاتهم في سعة واطمئنان وفي إمكانهم مشاهدة الكعبة المشرفة
مهما بعدت أمكنتهم>26.
فتبيّن من جميع ذلك أن سعة
المسجد الحرام كانت في صدر الإسلام بمقدار حدّ المطاف (5/26ذراع)، ثم صارت
واسعةً على مرّ العصور إلى أن وصلت مساحة المسجد 160168 متراً.
وفي التوسعة الأخيرة بلغت
المساحة 356000 متراً وهي مساحة تتسع لأكثر من 770 ألف من المصلين في وقت
واحد>27.