إذا أردنا ان نستشرف الافاق المستقبلية لمصير الإمة الإسلامية فإنها متقومة بالصحوة الاسلامية المعاصرة وتعاظمها وتناميها الحضاري. فلابد حينئذ من التعرف على ما تعنيه الصحوة الاسلامية ودراسة أسبابها الداخلية والخارجية لكي يمكننا بالتالي تحديد مواضع اقدامنا والانطلاق نحو المستقبل برؤية واقعية ومنهج علمي مدروس ومن ثم تحديد الدور الكبير الذي يجب أن تنهض به المؤسسات الدينية واللجان العلمية وعلماء الاسلام في هذا البناء الحضاري المستقبلي. أما الصحوة الاسلامية فهي الظاهرة الاجتماعية التي تعني عودة الوعي للأمة واحساسها بذاتها واعتزازها بدينها وكرامتها واستقلالها السياسي والاقتصادي والفكري وسعيها للنهوض بدورها الطبيعي في بناء حضارة الانسان باعتبارها خير امة اخرجت للناس. ولهذه الصحوة المباركة أسباب وجذور تاريخية ينبغي أن نسلط الأضواء عليها:
1ـ الاسباب الداخلية: ونعني بها امتلاك الامة الاسلامية لمقومات حضارية ومخزون تراثي وفكري ونظريات اجتهادية متكاملة متمثلة بالدين الاسلامي الحنيف، الذي يمتاز بشموله للقيم والافكار والعقيدة والشريعة والأخلاق في شؤون الدنيا والاخرة. ان الدين الاسلامي قد حلّ مشكلة الانسان بكل ابعادها النفسية والجسدية والدنيوية والاخروية مما جعل الانسان المسلم والذي يستلهم من الاسلام سلوكه في الحياة يعيش حالة من الاستقرار والطمأنينة، فهو يرسم للانسان الآفاق العامة للاخلاق بتنمية الضمير الانساني الحرّ ودوره في صيانة الانسان من الامراض الاخلاقية والسلوكية واكتساب الفضائل والصفات الحميدة، مع تصعيد حالة الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، وايجاد التماسك في الروابط والعلاقات الاجتماعية، كما ويخلق من الانسان فرداً اجتماعياً قادراً على المساهمة في تربية المجتمع مع إحياء الجانب الروحي والمعنوي فيه، فالاسلام استطاع ان يستوعب حاجة الانسان ويعطيه دوره الطبيعي في خلافة الله سبحانه في الارض. ان هذا البعد لمسيرة الانسان التي نادى بها الاسلام سواء كان في التصور العقدي أو التشريع المتكامل أو الاخلاق الفاضلة للفرد والمجتمع كلها ساعدت على ان تكون منطلقاً لهذه الصحوة.
2ـ الاسباب الخارجية: لقد افتتنت الامة المسلمة بالحضارة المادية الواردة من شرق الارض وغربها وغلبت على أمرها امام هذا الهجوم الفكري الوافد الجديد وساهم في ذلك انحسار الاسلام من الناحية الميدانية بفعل عوامل متعددة ولمدة طويلة، وكذلك غياب القيادة الامينة وانشغال حكام المسلمين بالامور الشخصية وضمور روح الامر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث ساعدت هذه العوامل على مضاعفة جهل الامة بروح الاسلام اضافة إلى الشعارات البراقة التي رفعها المستعمرون في تحرير المسلمين وتطويرهم، وتزامن ذلك مع التطور التكنولوجي الذي استخدمه الغزاة كدليل لاثبات تطورهم ورقيهم الحضاري. كل هذا الضعف والجهل والخلط بين الحضارة والثقافة والعلم، ادى بالامة ان تقع تحت هيمنة الحضارة الحديثة، بل ان الكتّاب والمثقفين قد افتتنوا بها ونظّروا لها. وبعد مدة ليست بالقصيرة؛ زالت الاقنعة وانكشف زيف الحضارة المعاصرة وكذب ادعيائها وبعد الويلات والأزمات التي حلت بالامة شعرت بأنها مغلوبة ومستغلة لقوى نهبت ثرواتها وامكاناتها واتضح لها ان الجميع يريدون سلب خيراتها واذلالها وابعادها واستعمارها عن قيمها وعقيدتها وفكرها الاسلامي. كما اتضح بأن الصراع الحضاري الحالي كان صراع منافع لم يجن منه المسلمون إلا مزيد من الهزائم والتأخر والرجعية. هذه الحقائق فتحت عيون كثير من الضحايا المغلوبة المقهورة مما دفعها للبحث عن منقذ، فانبرى بعض العلماء والمصلحون المفكرون لمواجهة هذا التحدي والصراع الحضاري المعاصر. ونتيجة لردود الفعل الحاصلة من الاحتكاك الحضاري والمواجهة العنيفة بين الاسلام والحضارة المادية لمقاومة الهيمنة الفكرية والسيطرة الاجنبية باسم الاسلام واحساساً بمسؤولية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله مما مهد لهذه الصحوة انطلاقتها في عصرنا الحاضر.
ومن الاسباب الخارجية كذلك حالة الصراع والتهافت بين الحضارات الحديثة من اجل السيطرة على العالم الثالث، والنتائج المريرة التي جنتها البشرية من تلك الصراعات والظلم الواضح والصريح الذي عانت منه، مما دفع الشعوب إلى أن تثأر لكرامتها وتحفظ وحدتها الفكرية والسياسية والاقتصادية بحثاً عن البديل الذي يكفل لها الخلاص من التجارب المظلمة التي مرّت بها تحت نير القوى المستكبرة المتلبسة بشعار الحضارة والتطور، فوجدت الشعوب المسلمة في الاسلام المنقذ الاكبر والأمل العظيم فراحت تثأر له وتدافع عنه وتطالب به وتثأر لكرامتها المهدورة تحت وطأة التسلط الأجنبي، فترى ثورة هنا وهناك مطالبة بالحرية والإستقلال وبناء الحضارة الإسلامية على أرض الإسلام.
هذه هي الصحوة وهذه يعض أسبابها، فهي لم تكن عملاً مفاجئاً بل كانت تعبيراً عن معاناة الشعوب الاسلامية منذ ان خضعت بلادها لهيمنة الاجنبي وفرضت عليها احكام غير اسلامية وحكام ضعاف، بهدف بث سموم الحضارة المستوردة في المجتمعات الاسلامية، فأخذت هذه الشعوب تتحسس بوجود حالة من التناقض الكبير بين إيمانها برسالتها وعقيدتها من جهة والذي يملي عليها نوعاً من الحياة الدينية والالتزامات الشرعية المنبثقة من الشريعة الاسلامية وبين المد الحضاري الجديد الذي يعمل على سلخها من هويتها وعقيدتها والتزامها من جهة اخرى ولذلك ظلّت الحضارة الغربية تراوح وتراوغ على السطح ولن تنفذ إلى اعماق المجتمع الاسلامي، في مقابل المد الاسلامي الذي استقر في ضمير الامة، فانطلقت صيحات الرفض من المخلصين والمصلحين والدعاة من أبنائها الواعين وفي بقاع مختلفة من العالم الإسلامي لكل ما هو غريب عن جسم الامة وفكرها وقيمها الحضارية الخالدة.
وقد تنبأ لهذه الصحوة اساتذة الاجتماع والسياسة والمصلحون والمفكرون فهذا المفكر الشهيد السيد قطب يبشر بالصحوة في كتابه «المستقبل لهذا الدين» وكذلك استاذ العلوم السياسية حامد ربيع، بل ان جميع القيادات الفكرية والسياسية العالمية توقعت هذه الصحوة منذ ستّين عاماً، فالاستاذ سميث في جامعة مونتريال له كتاب «الاسلام اليوم» صدر في الخمسينات، لفت نظر المسؤولين في بلاده إلى هذه الصحوة، وكذلك المستشرق العالم الانكليزي مونتكوملي وات اصدر كتاباً سنة 1964 بحث فيه الاسلام في العصور الوسطى وتوقع الصحوة ووصفها بأنها سوف تقود إلى أيديولوجية رابعة تحكم العالم المعاصر في نهاية القرن العشرين. على ان اخطر وثيقة بهذا الخصوص تعود إلى عالم روسي هو زوجانوسكي حيث كتب في اعقاب الثورة الشيوعية محاولاً تقييم تلك الثورة ومتسائلاً متى وأين تأتي الثورة العالمية الثالثة مشيراً إلى الثورتين الفرنسية والشيوعية والى ان كل منهما قد فشلت من ناحية معينة وان العالم بحاجة إلى ثورة قادمة تستطيع ان تصحح من مسارات الحركة الانسانية، ثم تنبأ بأن تلك الثورة لن تأتي إلاّ من العالم الاسلامي وكان هذا التنبؤ عام 1919.
وبعد هذا العرض المختصر لاسباب الصحوة الاسلامية، فلابد من المحافظة على هذه الصحوة وترشيد تناميها لتؤدي دورها المستقبلي وتعطي ثمارها في نشر الحضارة الاسلامية في كل أرجاء العالم بعيداً عن الإرهاب والعنف والتطرف، حتى تبشر بمستقبل زاهر للاسلام وللشعوب المحرومة من ابسط الحقوق الانسانية والحرية والاستقلال، وعليه فلابد من تسليط الاضواء على العقبات والمعوقات التي يمكن ان تعرقل هذا الوعي الجديد والمهد الحضاري الاسلامي لكي نتوقاها ونعالجها في مهدها ولكي لا تبقى عوامل مانعة من تأثير الصحوة ونموها مما يجعل الامة تراوح في مكانها.
ولذلك فيمكن ان نحدد الموانع والمعوقات للصحوة بالعوامل الداخلية والخارجية. اما العوامل الفكرية الداخلية فنقول وبأيجاز ان عدم الفهم الواعي والعميق للفكر الاسلامي بالفكر الوسطي المتزن من قبل المسلمين وللظروف التي أشرنا إلى بعضها سالفاً ونتيجة لغياب القادة الربانيين عن التطبيق الصحيح للإسلام والفهم السليم لظروف ومتغيرات الزمن المعاصر الذي تمر به الأمة والأسباب التي دفعتهم إلى اتخاذ مواقف استثنائية مما جعل منهج الإسلام من الناحية التطبيقية والسياسية والاجتماعية غير واضح المعالم واستنتاج دراسة معمقة بهذا الصدد يحتاج إلى جهد وتأمل. وكنتيجة لذلك فقد غاب الفهم والوعي الحقيقي الصحيح ولمدة طويلة مما جعل النظرية الاسلامية في بعدها التطبيقي والاجتماعي والسياسي غير واضحة في أذهان كثير من علماء المسلمين اللهم إلا القليل منهم وانعكس ذلك على آرائهم الاجتهادية وتجلى ذلك من خلال اهتمامهم بالقضايا العبادية والشؤون الفردية بشكل كبير مع اهمال واضح لقضايا الامة الكبرى المعاصرة، اضافة إلى ان دخول بعض المندسين لتشويه حقيقة الاسلام وتأثر بعض البسطاء بالفكر المنحرف كل ذلك أوجد حالة التطرف في فهم الاسلام وعقائده مثل الإرهاب والغلو والسلوك المتطرف كالانعزال عن المجتمع لحفظ الهوية الشخصية الإسلامية.
كما ان فهم الصراع مع اعداء الاسلام واعتبارهم بأنهم جميعاً من أهل دار الحرب وبأن صراعنا معهم بأنه صراع مسلح ومواجهة قتالية، أقول إن هذا الفهم دائماً ما ضيع علينا في تاريخنا فرصاً كثيرةً لتقريب العديد من الشعوب إلى الاسلام وضمّها إلى خندق المسلمين، بل وفقدنا فرصة الاستفادة من الكثير من افكار الاسلام السمحة.
لذلك وفي سبيل الوصول إلى منهج متكامل لابد لنا من دراسة الاسلام دراسة موضوعية يمكن الاستعانة بها لتأسيس حضارة اسلامية متسامحة تتمشى مع متطلبات العصر وتتطابق مع معطيات الواقع المعاصر بعيداً عن التمسك بالقشور والحرص على الجوهر من خلال استيعاب روح الشريعة والاعتماد على النصوص الصحيحة كي نتلمس الحلول الناجحة ضمن الخطوات التالية:
1ـ الاهتمام بالعقل ودوره وأثره في تحديد البعد الشرعي على ضوء مقاصد وغايات الاحكام، وبواسطة العقل والاجتهاد ندرس الحالة المتطورة ومدى انطباقها مع الشريعة السمحاء في قواعدها العامة مع ملاحظة العناصر المتغيرة في الواقع كي نغير من أساليبنا على ضوء سنن التغيير ولتنسجم بذلك مع الواقع (إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم).
2ـ على علماء المسلمين ان يتحروا الحق والحكم من الشريعة بملاحظة النصوص الصحيحة المعتمدة وبعد دراسة موضوعية لظروف النص ومتطلبات المرحلة الراهنة.
3 ـ دراسة الافكار ومناقشتها بعيدا عن الخلافيات المرتكزة في الذهن أو الافكار السابقة ومن ثم تحرى الدليل لاثباتها دون التبني التقليدي لاراء الفقهاء السابقين والذي يضيع علينا سلامة الاستنتاج. كالاخذ بالروايات الضعيفة والاستدلال بدليل لا يقاوم بقية الادلة القطعية أو التغافل عن دليل ينبغي ان يوضع في الصدارة لتحيل الرأي الشخصي على الاسلام وامثلة ذلك في الفقه الاسلامي كثيرة. وعلى ضوء ذلك لابد ان نعيش حالة الاختصاص لان الاجتهاد المطلق في ضمن الظروف الموضوعية يكاد ان يكون مستحيلاً.
4 ـ تجاوز الحالة الروتينية للفقه الفردي كما في باب العبادات والتي تكاد تكون قد اكتمل البحث فيها، والتأكيد على دراسة فقه الأولويات أي فقه الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لرسم المنهج المتكامل في هذه الحقول.
5 ـ محاولة دراسة الموضوعات دراسة مبنية على المنهج المقارن لان الدراسة الاسلامية على ضوء مذهب معين دون بقية المذاهب الاخرى قد يضيّع علينا نتاج عقول واجتهادات وابداعات في مجالات مهمة، بعيداً عن التعصب والتقليد الأعمى الذي يعمل ويكرس على تعطيل وقتل روح الابداع والانطلاق إلى آفاق رحبة وواسعة.
6 ـ دراسة الواقع الموضوعي ومحاولة التمييز بين القضايا العلمية والمناهج التي يمكن توظيفها لصالح الاسلام وبين الامور التي لها جذور حضارية مخالفة.
7 ـ التأكيد على المنهج العقلي والتجريبي وتقبل النقد في مسألة المنهج والاسلوب والابتعاد عن التبرير الغيبي للمواقف والاساليب الخاطئة التي لا تمت إلى الغيب بصلة.
وذلك لأن الغيب له قداسة في النفوس واثر كبير في علاج الكثير من القضايا النفسية للفرد والمجتمع من خلال بعث الامل والتسامي بالحياة الانسانية وربطها باليوم الاخر وتعميق الرضا بقضاء الله وقدره في نفس الانسان. فالغيب مصدر قوة للانسان في سلامة مسيرته في هذه الحياة الصعبة، ان ما نرفضه هو ابعاد الانسان عن السنن الاجتماعية التي رسمها الله عز وجل وتعطيل التفكير بها وهذا خلاف ما اراده الله تعالى للمسيرة الانسانية. فمعرفة السنن والنواميس والقوانين الالهية يجنبنا الكثير من المواقف الخاطئة في مسيرتنا ويختصر الطريق علينا للوصول إلى الاهداف من خلال التجارب الناجحة المنسجمة مع السنن الالهية.
8 ـ دراسة التاريخ دراسة إيجابية وواعية حية لنستنبط منه سنن الحياة ولنعتبره ميدانا لدراسة اطروحة الاسلام والعوامل التي ادت إلى النجاح أو الفشل في تعليقه في مسيرته الكبرى ولنبتعد عن السلبيات وعوامل الفشل في بعض مناهج المسلمين وخططهم في هذه المسيرة.
أمراض الصحوة:
اما الامراض التي تمنع حيوية الصحوة الاسلامية والتي يجب التوقي منها وتحذير العاملين من آثارها السلبية فهي:
1-الفرقة: وهو مرض يتزامن مع مسيرة البشرية على وجه الارض وهو ناتج عن الفهم الخاطىء أو حب الذات أو اتباع الهوى أو النظرة السطحية أو عدم التمييز بين الاهم والمهم من الامور وغيرها من العوامل، وقد بلغت ظاهرة الفرقة ذروتها في هذا العصر فتحولت الخلافات الفكرية إلى معارك دموية تمزق اوصال الامة إلى اشلاء متفرقة، والمسلمون يكفر بعضهم البعض الاخر، كل ذلك يجري في اطار الجزئيات والامور السطحية في الوقت الذي تحولت امهات الامور والمسائل المرتبطة بمصير الامة ومستقبلها إلى امور هامشية. وبعبارة اخرى ان تعدد المدارس والمذاهب الفكرية الذي اريد له ان يكون وسيلة لتطوير الفكر الانساني والابداع في عالم الافكار، والعمل ضمن الدوائر المشتركة والاعتذار للآخرين في موارد الخلاف وحصرها في دوائر معينة كما صرح القرآن الكريم (قل يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ان لا نعبد الا الله). فقد صارت هذه المدارس مورداً للخلاف وإثارة الفتن في اوساط الامة حتى في الاساليب وطرق العمل.
وما زالت الامة حتى الان عاجزة عن حصر الخلاف بين المذاهب الاسلامية والمدارس الفكرية بالرغم من الشعارات ونداءات الوحدة التي رفعها المصلحون منذ قرون، كل ذلك بسبب الجهل والهوى وعدم الإخلاص وبسبب –أيضاً- فقدان اخلاقية التعامل مع الاختلاف خصوصاً مع سياسة تأجيج نار الفتنة التي يمارسها اعداء الاسلام. اننا لا نريد ان نغلق باب الاختلاف، لان الاختلاف من مستلزمات الانسان وطبيعته البشرية، بل نريد ان نعرف كيف نتعامل مع اختلاف الاراء، ونستثمرها بما يعود على الأمة الإسلامية بالنفع والفائدة.
2 ـالغرور: وهو مدخل للشيطان يزين للانسان عمله ويحقر في عينيه عمل غيره ولذلك فهو يعيش حالة الانفتاح والرضى بالنفس حتى يصل به الامر إلى عدم قبول اي نقد أو نصح من الاخرين بل يعيش بحالة لا ينقد فيها نفسه ولا يراقبها مع تبرير وتوجيه لكل ما يصدر منه شخصياً. والغرور قد يصيب الافراد والجماعات والطوائف فتنغلق الجماعة أو الطائفة على نفسها وتعيش حالة من اللامبالاة بالآخرين ولا تستجيب لاي نقد لانها تعتبره متوجها إلى الفكر والقيم والمبادىء، ان الموضوعية تقتضي ان الانسان المسلم الذي يريد الاصلاح وكذلك الجماعات والطوائف التي تريد ان تسير نهج التكامل العملي والميداني لخدمة الرسالة عليها ان تعتبر الحياة حقلا للتجارب مستفيدة من تجاربها واخطائها وكذلك الاستفادة من تجارب الاخرين ولتكن الطوائف صريحة في تعاملها مع افرادها وتعلن بصورة واضحة تجاربها الناجحة والفاشلة مع تبيان اسباب الفشل لمعالجتها من قبل اعضائها ومن قبل الطائفة نفسها، ويتم ذلك بشروط: 1) وعي الطائفة وعدم وصول الطائفة إلى اليأس نتيجة الصراحة. 2) ان يتحمل الافراد المسؤولية في العلاج ولا يتركوا المسؤولية على غيرهم ولا نعيش حالة النقد فقط فان العيش عبر مستوى النقد فقط فهي حالة مرضية وتبرير للمتقاعسين من العمل وبذلك يعرف اتباعها منها الموضوعية وتصاغ شخصياتهم على هذا الاساس من التفكير بعيدا عن المغالطات والإصرار على الخطأ.
وهذه من اهم معالم المجتمع الاسلامي الذي يعيش لله سبحانه بعيداً عن الغرور والعُجْب اللذين يشكلان اخطر الامراض الاخلاقية التي تواجه العاملين للاسلام، والطائفة الاسلامية التي تأبى مواجهة نفسها باخطائها لاصلاحها سوف تواجه خطر التقوقع على النفس والانعزال عن الامة والرضا بما عندها، فلا يمكنها الابداع والتطور وتظل تراوح في مكانها وبالتالي سيتساقط افرادها ويتمكن منها اعداؤها.
ولقد حاول البعض تبرير هذا الفشل والمراوحة باسم القضاء والقدر أو المحنة أو طريق ذات الشوكة وطريق الانبياء الصعب المستصعب منطلقين من فهم خاطىء لهذه المفاهيم العالية، اذ ان القضاء والقدر لا يستدعي التسليم للظروف والتواكل، وان المحنة نتيجة طبيعية لعمل المؤمنين وجهادهم ضد الظلم والفساد وليس الرضا بواقع الظلم أو الواقع السلبي للعاملين وعدم دراسة الاخطاء أو الاستفادة من تجارب الآخرين وعدم معرفة الظروف الموضوعية التي تحيط بالعمل والعاملين، بل وعدم الادراك الصحيح للسنن والاسباب الطبيعية.
3ـالسطحية: ان الفهم الاجمالي العام للاسلام والعشوائية التي يعيشها كثير من المسلمين في زمننا الحاضر، وردود الفعل الحماسية والمرتجلة التي تصدر تجاه الحالة المأساوية الإضطهادية التي تعيشها كثير من الشعوب الاسلامية في العالم بدأً بفلسطين والقدس والشيشان والفلبين وكشمير وأفغانستان وانتهاءاً بالعراق، وان كان نوع المقاومة والعمليات الاستشهادية عوامل مهمة لحفظ ماء الوجه وبقاء يقظة المسلمين وبعث روح الجهاد فيها، وظهور المنادي بالعودة إلى الاسلام، ولكنها لا تكفي لاحداث العملية التغييرية والانعتاق من الجمود الفكري والاجتماعي الشامل ما لم تمتلك التخطيط العميق وقيامها بالدراسات التي تناسب معطيات الزمن المعاصر وحاجات الواقع.
ومشكلتنا اننا نجهل حاجتنا الماسة إلى هذه الدراسة التجديدية والتحديثية معتمدين على الثوابت والأصول التي نمتلكها والتي لا يمكننا ان نترجمها إلى واقع عملي في ضوء الظروف الموضوعية التي يعيشها المجتمع المسلم اليوم. ان الكتاب والسنة والمصادر الأخرى للتشريع الاسلامي تضع امامنا الخطوط العامة التي بواسطتها يمكننا ان نضع المنهج الذي يحرك عجلة المجتمع الاسلامي على ضوء الاسلام وفق الحاجات المستجدة والمتطورة لمجتمع اليوم، وهذا يستلزم منا عمقا وادراكا ووعياً وانفتاحاً عمليا لهذه المستجدات وهذا ما تفتقر إليه الان. اننا بحاجة إلى منهج اخلاقي يستوعب حركة الفرد والمجتمع المعاصر وبلغة يفهمها ابناء اليوم، وعلينا ان نصوغ مفاهيمنا بطريقة تتماشى مع ذهنية مسلم اليوم والعمل الجاد على تنقية الفكر الاسلامي وكتب العقائد من البدع والانحراف والغلو وعلى الباحثين في المجال العقدي والفقهي ان يعلموا ان الاسلوب الذي يعالجون فيه المسائل الشرعية يحتاج إلى منهج جديد لتقويم القضايا الفكرية وبلغة تتماشى وذهنية الانسان المعاصر والتحديات التي يواجهها.
هذا المنهج التطوري الحداثي لا بد أن يكون منضبطاً بحدود وقيود التشريع مع تحديد المفاهيم والموضوعات المختلفة التي يحتاجها جيل المجتمع الاسلامي اليوم في جوانب الحياة المختلفة الدينية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية مع احكامها الشرعية التي تمثل رأي الاسلام وقوانينه التي يمكنها ادارة المجتمع وتغطية حاجاته التشريعية بكفاءة عالية.
ان من السطحية ان لا تحدد الامور التي تنال اهمية اكبر في سلم الاولويات في عملنا الاجتماعي التغييري أو الفكري وتتشاغل بالامور غير المهمة والهامشية مما يضيع علينا فرصا كبيرة لتحقيق اهدافنا وتحكيم رسالتنا.
4ـالارتجالية: ونقصد بها عدم التخطيط والدراسة للقضايا والاحداث والمواقف، والتعامل معها على اساس ردود الفعل والعواطف لا على اساس التعقل والتخطيط.
وللارتجالية الحماسية اثر كبير في ضياع الجهود والطاقات والفرص وكذلك ضياع للعمر والمال وبالتالي ضياع الامة كل ذلك نتيجة المواقف غير المدروسة، فالارتجالية آفة كبيرة مصدرها الجهل والتخلف وعدم التعقل وفقدان الحكمة والتدبر في الامور.
ان العدو يعدُّ الدراسات والمناهج العملية ويضع الخطط لمواجهة الاسلام والمسلمين وعلينا بالمقابل ان نواجه مخططاته بدراسات ومناهج مبنية على التخطيط العقلي والعملي والموضوعي (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن).
وسائل العلاج:
اولاً: لا يمكننا الخروج من هذه الازمة الكبيرة التي تعيشها امتنا الا باعادة العقل إلى دائرة البحث والتحقيق واستنتاج الافكار والرؤى العملية الصحيحة المتناسبة مع حاجات العمل التغييري والتطويري والتحديثي اليوم، بعيداً عن التقليد الاعمى والتبعية للافكار من دون تدقيق أو تمحيص عملي، ونحتاج على هذا الاساس إلى انشاء مؤسسات للتحقيق العلمي والدراسات الاسلامية الحديثة، واستثمار التكنولوجيا الحديثة في خدمة الدعوة إلى الإسلام، ويمكن للمسلمين من اصحاب الاموال وذوي الاقتدار أن يخدموا الاسلام والدعوة إليه والحفاظ على مستقبل الامة وجهود العلماء لبلورة الفكر الاسلامي واعداد الكوادر العلمية من خلال مساهمتهم الجادة في دعم هذه المشاريع البناءة ولينالوا بذلك حظ الدارين ويضمنوا لامتهم مستقبلا حضاريا زاهرا ان شاء الله.
ثانياً: على علماء الاسلام والدعاة والمصلحين الواعين المستنيرين ان يتحملوا مسؤولياتهم في طرح الموضوعات النافعة ومعالجة القضايا التي تخص المسلم المعاصر وبصياغة جديدة وطرح حديث جذاب يرغب ولا يرهب ويتماشى مع الحالة الاجتماعية المتطورة.
ثالثاً: مسؤولية الطوائف والمذاهب الاسلامية في ان تتحد وتتوحد فيما بينها وعليها أن تعيش الواقع الموضوعي للامة وان تعيش روح التفاهم الفكري والحوار الموضوعي وان تمارس الاساليب الجذابة المبنية على فهم اسلامي عميق، وان تعمل باستمرار على تطوير هذه الاساليب وتعميق الافكار وتربية الجيل الاسلامي الجديد وانقاذ المسلمين من مخالب التفرق والجهل والكفر والفساد.
ان على الطوائف الاسلامية ان تتحاشى وبجدية حالة الفرقة والتمزق من خلال وضعها للاهداف الكبيرة امامها واستعدادها للتفاهم والحوار مع الاخرين والتنسيق فيما بينها بل ويمكن لها ان ترسم استراتيجية متطورة تتقاسم فيها الادوار والمهمات فتكون بذلك سببا لوحدة الامة وحصانتها وازدهارها لا عاملاً من عوامل تمزيقها والقضاء عليها.
ان العدو يحاول ان يستغل كل الفرص لهدم المجتمع الاسلامي وقد ينفذ من خلال اختلافاتنا، والتأريخ اثبت لنا ذلك، اذ عمل الاستكبار على استثمار الخلافات المذهبية بين الطوائف الإسلامية، أو الخلافات السياسية، لتمزيق شمل المسلمين والعمل على تفريقهم على مجتمعات صغيرة يسهل افتراسها والانقضاض عليها.
ومسؤوليتنا تتلخص في حفاظنا على وحدة امتنا بوحدة الفكر والتفاهم بين العاملين وصيانة الاهداف بالاساليب التي تتمشى مع روح العصر وبذلك نصون مستقبل امتنا، والا فالامر لا يبشر بخير وسيتحمل الجميع مسؤولية الهدم وضياع الجهود والطاقات واستغلال العدو لضعفنا وتمزقنا. ولذا فإنه من الأهمية بمكان أن نذكر بأهمية قيام العلماء والمفكرين والدعاة والمصلحين بتحمل مسؤولياتهم وأداء دورهم المرتقب بكل كفاءة واقتدار، حتى ينقذوا الأمة من والواقع المرير الذي وصلت إليه، ويحصنوها ضد التحدي الخطير المحدق بها.