الفور والتراخي في فريضة الحج
إنّ الأحكام الشرعية تبتنى على كلٍّ من الأمر
والنهي ، اللذين بهما يتمّ التفريق بين ما أرادته الشريعة المقدسة من
حلال ، وما وضّحته من حرام ونهت عنه ، وبالتالي يتسنى
للمكلّف ـ إذا ما عرف ذلك ـ الخروج عن عهدة التكاليف
الشرعية ، التي ترتبت عليه بحكم كونه مسلماً مطيعاً منقاداً لتعاليم
السماء .
والبابُ الوحيد إلى ذلك هو الطاعة ، التي
تتحقق بامتثاله أوامر الله تعالى وبانتهائه عمّا نهى عنه ، وإلاّ عُدّ
عاصياً يستحق العقاب في الدنيا وفي
الآخرة .
والذي يعنينا ويهمنا في هذه المقالة المختصرة ـ
التي أحاول أن اُبعدها مهما أمكن عن التطويل في ذكر الخلافات العريضة ،
التي لا ينجو منها أي موضوع سواء أكان اُصولياً أم فقهيّاً
أو . . . ـ هو الأمر دون النهي ، وبالذات الأمر المطلق
دون المعلّق على شيء سواء أكان هذا الشيء شرطاً أو صفة . . وما
يدور حوله من أنّه مبنيٌّ على الفور أو التراخي أو لا يعني هذا ولا ذاك ، وإنما هو لطلب الحقيقة والماهية
فقط ، أو أنّه يدل على القدر المشترك بين الفور والتراخي . .
ثم الانتقال بعد ذلك ببيان موجز إلى واحد من آثار هذه المسألة وهو :
فريضة الحج ، وهل هي مبتنية على الفور أو على التراخي ، والتعرض
إلى أقوال الفرق الإسلامية وآراء فقهائها في هذا الخصوص .
فقد اتفقت كلمة الفقهاء وأهل اللغة على أن
الأمر يدل على الوجوب إذا ما خلا من القرينة ، التي قد تصرفه وتبعده عن
الوجوب ، الذي هو حقيقة فيه .
لغةً «الأمر حقيقة في الإيجاب بمعنى الإلزام
وطلب الفعل وإرادته جزماً» .
وشرعاً «الأمر حقيقة شرعية في الوجوب ،
الذي يترتب على مخالفته استحقاق الإثم والعقاب»1 .
قال تعالى :
{ أفعصيت أمري}2ولا معصية بلا وجوب : { فليحذر الذين يخالفون عن
أمره}3 .
فالذم والتحذير
والتهديد والوعيد . . كلها تتوجه لمن أعرض وتولى عمّا وجب عليه
أداؤه . . وكما أن ذيل الآية هو الآخر {
. . أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم} يبين أنّ الفتنة والعذاب الأليم يترتبان على مخالفة
الأمر . وهذا قد يُعدّ أدلّ نصٍّ على أن الأمر يقتضي
الوجوب .
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله) :
«لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة» فلولا تفيد انتفاء
الأمر لوجود المشقة ، وانتقل إلى الندب حيث لا مشقة فيه . والأمر
هنا للإلزام والوجوب لو وقع .
والوجوب ثابت للأمر ـ سواء أكان ثبوته بالوضع
أم بالانصراف لغلبة الاستعمال ـ ولا يحمل على الندب إلاّ بقرينة ، هذا
وإن الوجوب أيضاً ثابت للأمر سواء أكان الأمر مطلقاً أم كان مقيداً بوقت معين
أو معلقاً على شرط أو صفة . . ولكن الأمر المطلق اُفرد دون غيره;
لأنه محل النزاع والخلاف في مسألة الفور والتراخي اللذين هما محل
كلامنا .
الفور لغةً : مِن فار
يفور فوراً وفوراناً ، وهو مأخوذ من قولهم : فار الماء يفور
فوراً : أي خرج من الأرض متدفقاً ، ومن فارت القدر أي اشتدّ
غليانُها ، وسارع ما فيها إلى الخروج . . ثم استعمل في الحالة
التي لا بطء فيها . . فالفور : العجلة والسرعة ، ولهذا
يعبّر بالفور عن الغضب والحدّة; لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن غضب
عليه ، وهو مصدر; يعبر به عن أول الوقت ، فيقال : أتيتُ من
فوري ، ورجعتُ من فوري ، وفعلتُ ذلك من فوري ، وفوراً وفور
وصولي ، أي في الوقت نفسه أو في أول الوقت ، وقبل سكون الحالة أو
الأمر الذي أنا فيه ، والذي لا يتحمل الابطاء ولا
التراخي .
وفي
الآية { . . ويأتوكم من
فورهم . .} أي من وقتهم أو
ساعتهم . .4 .
وأما اصطلاحاً :
فالمقصود بالفور هو : كون الأداء في أول أوقات الإمكان5 أو
المبادرة إلى تنفيذ الأمر بمجرد سماع
التكليف مع وجود الإمكان ، وإلاّ كان المكلّفُ
مؤاخَذاً .
التراخي لغةً : مصدر تراخى من
رخا . . . رخاءً : أي اتسع فهو رخو ، ورخِي الشيء
رُخاً ورُخاءً أي صار رِخواً وليناً ومنه الآية {
فسخرنا له الريحَ تجري بأمره رُخاءً حيث
أصاب} أي تجري لينةً طائعةً . .
ويُقال : أرخى له العِنانَ أي خلاّه
وشأنه . . وتراخى : فتر ، وتأخر ، وتباطأ ،
ولهذا يقال : تراخى عن الأمر : أي تقاعد وتقاعس عنه . وتراخت
السماء : أبطأت بالمطر . . وتراخى ما بينهما :
تباعد . . فيقال : إن في الأمر تراخياً ، أي : امتد
زمانه ، وفي الأمر تراخي ، أي : إن فيه فسحةً
وامتداداً . .6 .
وأما اصطلاحاً : فهو كون
الأداء متأخراً عن أول وقت الإمكان إلى مظنة الفوت7 .
أو تخيير المكلف بين الأداء فوراً عند سماع
التكليف ، وبين التأخير إلى
وقت آخر مع ظنّه على أدائه في ذلك الوقت 8 .
وأخيراً فالفور إذن ضد التراخي
بالضبط .