معنى المقام
وهنا أيضاً وقع الخلاف
في معنى المقام، وقد ذكر الشيخ الطوسي في البيان أربعة
أقوال:
أحدها:
قال ابن عباس الحجّ كلّه مقام إبراهيم.
ثانيها:وقال عطا مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار.
ثالثها:وقال مجاهد: الحرم كلّه مقام إبراهيم.
رابعها:وقال السدي: مقام إبراهيم هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت
قدم إبراهيم حين غسلت رأسه. فوضع إبراهيم رجله عليه وهو راكب فغسلت شقّه ثمّ رفعته من تحته وقد غابت رجله في
الحجر، فوضعته تحت الشق الآخر فغسلته فغابت أيضاً رجله فيه فجعلها الله من
شعائره، فقال: {واتّخذوا من مقام إبراهيم
مصلى} وبه قال الحسن، وقتادة
والربيع، واختاره الجبائي، والرماني، وهو الظاهر في أخبارنا، وهو الأقوى;
لأنّ مقام إبراهيم إذا أطلق لا يفهم منه إلاّ المقام المعروف الذي هو في
المسجد الحرام. وفي المقام دلالة على نبوّة إبراهيم (عليه السلام); لأنّ
الله تعالى جعل الصخرة تحت قدمه كالطين حتّى دخلت قدمه فيها وكان ذلك معجزة
له>15.
يقول صاحب أحكام
القرآن : (... فمن النّاس من حمله على عمومه في مناسك الحجّ،
والتقدير : «واتّخذوا من مناسك إبراهيم في الحجّ عبادةً
وقُدوةً»..)>16
وهذا كما يبدو يتّفق مع ما ذهب إليه ابن عبّاس في الرأي الأوّل :
الحجّ كلّه مقام إبراهيم، «ومن
خصّصه قال : معناه موضعاً للصلاة المعهودة; وهو الصحيح...»>17
والشيخ الطوسي يذهب إلى
الرابع الذي أيّدته روايات أهل البيت (عليهم السلام)كما سنرى. كما أنّ
الفخر الرازي في تفسيره الكبير يذهب إلى هذا الرأي كما يظهر ذلك من قوله بعد
ذكر تلك الوجوه ويستعرض الأدلّة عليه: واتّفق المحقّقون على أنّ القول الأوّل
ـ كما هو ترتيب الأقوال عنده حيث كان الرابع عند الطوسي الأوّل عند
الرازي ـ أولى، ويدل عليه وجوه:
الأوّل: ما روى جابر أنّه (عليه السلام) لمّا
فرغ من الطواف. أتى المقام وتلا قوله تعالى { واتّخذوا من مقام إبراهيم
مصلى }
فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدلّ على أنّ المراد من هذه اللفظة هو ذلك
الموضع ظاهر.
وثانيها:
أنّ هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، والدليل عليه
أنّ سائلا لو سأل المكّي بمكّة عن مقام إبراهيم.. ولم يفهم منه إلاّ هذا
الموضع.
وثالثها: ما رُوي أنّه (عليه السلام) مرّ
بالمقام ومعه عمر، فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال:
بلى. قال: أفلا نتّخذه مصلى؟ قال: لم أُؤمَر بذلك. فلم تَغِب الشمس من يومهم
حتّى نزلت الآية.
ورابعها: أنّ الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين
حتّى غاصت فيه رجلا إبراهيم (عليه السلام)، وذلك من أظهر الدلائل على
وحدانية الله تعالى، ومعجزة إبراهيم (عليه السلام). فكان اختصاصه
بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به، فكان إطلاق هذا الاسم عليه
أولى.
وخامسها: أنّه تعالى قال {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} وليس للصلاة تعلّق بالحرم ولا بسائر المواضع إلاّ بهذا
الموضع، فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع.
وسادسها: أنّ
مقام إبراهيم هو موضع قيامه، وثبت بالأخبار أنّه قام على هذا الحجر عند
المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ، أعني : مقام
إبراهيم (عليه السلام) على الحجر يكون أولى، قال القفال: ومن فسر مقام
إبراهيم بالحجر خرج قوله {واتّخذوا من مقام إبراهيم
مصلّى} على مجاز قول الرجل: اتّخذت
من فلان صديقاً، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، ووهب الله لي منك
وليّاً مشفقاً. وإنّما تدخل «من» لبيان المتّخذ الموصوف وتميّزه في ذلك
المعنى من غيره، والله أعلم>18...