وقفة قصيرة مع «وافقت ربي!»
ذكر في سبب
نزول { واتّخذوا من مقام
إبراهيم مصلّى } ما
رواه البخاري وغيره عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث، قلتُ: يا رسول الله، لو
اتّخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: { واتّخذوا من
مقام إبراهيم مصلّى }...>42.
أكتفي بما يخصّ موضوعنا
من تلك الفقرات الثلاث وهو الصلاة عند مقام إبراهيم لأبين باختصار أن مثل هذا
الادعاء لايصح أبداً وهو مردود ـ حتّى على فرض صحّة سند الرواية فكيف والسند
فيه ما فيه ـ لأسباب منها :
1 ـ حتّى لو
أنّ الصلاة ـ دعاءً كانت أو بأي شكل كانت تؤدى ـ لم تكن
من مناسك الحجّ التي بيّنها الله تعالى لإبراهيم (عليه السلام)، فإن هذا
الإدّعاء باطل; لأنّ الأحكام الشرعية ومن ضمنها مناسك الحجّ التي شرعها الله
تعالى لنبيّه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)والتي منها ركعتا الطواف
عند مقام إبراهيم أحكام تمّت صياغتها من قبل الله تعالى وفق ملاكاتها الخاصّة
ولا تجري وفق رغبات وأهواء أشخاص، وكم هو خطير مثل هذا المنحى أن تجري
الأحكام والقوانين وتصاغ وفق ماتقتضيه رغبات فرد أو أفراد، ومثل هذا لا يصحّ
في سنّ القوانين والانظمة الوضعية
التي ينأى أصحابها جهد إمكانهم عن مثل هذا المنحى والنهج. فما بالك بالله
تعالى خالق كلّ شيء حيث سنّ لمخلوقاته أنظمة وتشريعات وأحكاماً وفق معرفته
الدقيقة بما يصلحها، وهو ليس بحاجة إلى أن ينتظر فلاناً يشتهي شيئاً فينزل
فيه قرآناً، ويشرع وفق رغبته حكماً يلزم النّاس جميعاً بالامتثال له، أو
يتوقف عن التشريع أو لايلتفت ـ معاذ الله ـ إلى حكم
مادام فلان لم يرغب أو يصرح بما يحب.
هذا لو قلنا : إنّ
صلاة الطواف لم يشرع فيها حكم ولم تكن من مناسك الحجّ الإبراهيمي، فكيف يكون
الأمر إذا عرفنا أن مناسك الحجّ ومن ضمنها هذه الصلاة سنّت في عهد
إبراهيم (عليه السلام)؟!
2 ـ ليس من
المعقول أن إبراهيم يؤذن بالحجّ تلبية لأمر الله تعالى دون أن يعرف معنى
مضامين الحجّ ومناسكه، التي عليه أن يبلغ النّاس بها ويعلمهم. فلا بدّ
في الرتبة السابقة أن يعرف تفصيلا هذه المناسك (المواضع والأفعال). والآية
التالية التي تحكي دعاء إبراهيم وإسماعيل {...وأرنا
مناسكنا... }>43 خير بيان لما نقول. فهذا صاحب التفسير الكبير الرازي يقول
في هذه الآية:
في أرنا
قولان : الأوّل: معناه علمنا
شرائع حجّنا إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو النّاس إلى حجّه، فعلمنا
شرائعه وما ينبغي لنا أن نأتيه فيه من عمل وقول... الثاني: أظهرها لأعيننا حتّى نراها... قال
الحسن: إنّ جبريل (عليه السلام)أرى إبراهيم المناسك كلّها حتّى بلغ
عرفات، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال:
نعم...
وهذان هما القولان
المعتبران عند الرازي حيث يقول: فمن قال بالقول الثاني قال: إنّ المناسك هي
المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحجّ كمنى وعرفات والمزدلفة ونحوها،
ومن قال بالأول قال: إنّ المناسك هي أعمال الحجّ كالطواف والسعي والوقوف>44...
وعن قتادة فأراهما الله مناسكهما الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات ومن جمع
ورمي الجمار حتّى أكمل بها الدين>45.
3 ـ ...أخبرني
محمّد بن إسحاق قال: لمّا فرغ إبراهيم خليل الرحمن من بناء البيت الحرام جاءه
جبريل فقال: طف به سبعاً فطاف به سبعاً هو وإسماعيل...، فلمّا أكملا سبعاً هو
وإسماعيل صليا خلف المقام ركعتين.
قال: فقام معه جبريل فأراه المناسك كلّها... ثمّ أمر إبراهيم أن يؤذّن في
النّاس بالحج..
4 ـ قول رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع: (خذوا عنّي مناسككم
لعلي لاألقاكم بعد عامي هذا) فبيّن لهم (صلى الله عليه وآله وسلم)
المناسك مواضع وأفعالا ولم يترك منها شيئاً فمضى يبينها لهم واحدة واحدة وهم
يقتدون به.
5 ـ الرواية
المنسوبة إلى جابر، فقد قال ابن جريج: أخبرني جعفر بن محمّد عن أبيه، أنّه
سمع جابر بن عبدالله يحدّث عن حجّة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)قال:
لما طاف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بالبيت، ذهب إلى المقام، وقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): { واتّخذوا من
مقام إبراهيم مصلّى }
وصلى ركعتين. وهناك غيرها من الروايات المشابهة>46.
6 ـ رواية الترمذي: لما
قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة دخل المسجد فاستلم الحجر ثمّ
مضى عن يمينه (جعل البيت عن يساره) فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثمّ أتى المقام
فقال: { واتّخذوا من
مقام إبراهيم مصلّى }>47... وهناك من يقول: صلاهما وتلا قوله تعالى { واتّخذوا... } أو
أنّها نزلت عليه حين فعلهما>48.
7 ـ قراءة من
قرأ الآية: { واتّخذوا... }
فعلا ماضياً وهم نافع وابن عامر والذماري وشريح>49.
فهذه القراءة على فرض صحتها تحكي حالة كانت معروفة وموجودة عندهم، كانوا يتّخذون من المقام مصلّى.
فليس اتّخاذ المقام مصلّى حالة وجدت تحقيقاً لرغبة طارئة.
فهذه الأسباب هي التي
تحضرني الآن وقد يكون هناك غيرها تبين بطلان القول المنسوب إلى عمر بن الخطاب
في أنّ الصلاة في المقام جاءت تلبية لرغبته أو موافقة لها.