مكانه
بما أنّ إبراهيم وإسماعيل استفادا
من صخرة في بناء البيت، حتّى انتهيا، حيث
بدَءا (واجهة البيت). فقد تركاها
ملاصقة للبيت ثمّ طافا به، ولم أعثر على شيء يدل على أنّهما ـ بعد
انتهاء عملهما ـ نقلا الصخرة إلى موضع يبعد أذرعاً عن البيت نفسه.
وإنّما تركاها حيث انتهيا في واجهة البيت، وعند هذا الحدّ تقف الأخبار ساكتة
عمّا جرى للصخرة بعد ذلك حتّى غيّر أهل الجاهلية مكانها فأبعدوها عن البيت 26
ذراعاً أو أكثر قليلا حيث مكان المقام الآن وهو مدار الطواف، وإنّما
أقول : مدار الطواف أو المطاف; لأنّه لم يكن قبل الإسلام ذكر للمسجد
الحرام، وكلّ ما هناك هو مدار للطواف، فالطواف هو المتعارف عندهم حول الكعبة.
ثمّ أعاده رسول الله إلى مكانه السابق وبعده أرجعه عمر إلى حيث هو الآن. هذا
ما تقوله المصادر التي تيسّرت لي. بينما ورد في الجواهر عن ابن سراقة أنّ ما
بين باب الكعبة ومصلّى آدم أرجح من تسعة أذرع، وهناك كان موضع مقام
إبراهيم (عليه السلام)وصلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم)عنده حين فرغ من طوافه ركعتين، وأنزل عليه {واتّخذوا من مقام إبراهيم
مصلّى } ثمّ نقله إلى الموضع الذي هو
فيه الآن، وذلك على عشرين ذراعاً من الكعبة لئلاّينقطع الطواف بالمصلّين
خلفه، ثمّ ذهب به السيل في أيام عمر إلى أسفل مكّة فأُتي به، وأمر عمر بردِّه
إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ونحوه
في أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)هو الواضع له هنا ما عن ابني
عنبسة وعروية..انتهى ما ورد في الجواهر.5
فهذا الكلام واضح في أنّ رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس عمر بن الخطاب، الذي وضع الصخرة في
المقام الحالي. ولكن المشهور تأريخيّاً وروائيّاً غير هذا حيث إنّ العديد من
روايات أهل البيت وروايات غيرهم تؤكّد أنّ المقام (الصخرة) كان لاصقاً بالبيت
بعد أن أعاده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحوّله عمر إلى حيث
هو الآن.
ففي الكافي والفقيه: كان موضع
المقام الذي وضعه إبراهيم عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتّى حوّله أهل
الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكّة ردّه إلى الموضع الذي وضعه
إبراهيم (عليه السلام)إلى أن ولّي عمر بن الخطاب فسأل الناس: مَن منكم
يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال بعض: أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع فهو عندي فأتاه به
فقاسه
ثمّ ردّه إلى ذلك
المكان.
وفي مضمرة ابن مسلم وصحيحة
إبراهيم بن أبي محمود المرويّتين في الكافي عن الإمام الرضا ما يدلّ على أنّ
محلّ المقام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير محلّه في
أيام الأئمّة (عليهم السلام)إلى الآن.
وفي تفسير القمّي في سورة
الحج: أنّ المقام كان في زمن إبراهيم يلصق بالبيت...
وفي الدُرّ المنثور كما عند
الأزرقي في أخبار مكّة عن المطلب بن أبي وداعة وعن آخر: أنّ سيل أم نهشل في
أيام عمر احتمل المقام من محلّه، فسأل عمر عن محلّه، فزعم المطلب أنّ عنده
مقياس محلّه، فوضع في محلّه الآن.
وفي الدرّ المنثور أيضاً أخرج
البيهقي في سُننه عن عائشة: أنّ المقام كان في زمن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) وزمان أبي بكر ملتصقاً بالبيت ثمّ أخّره عمر بن
الخطاب.
أمّا السيّد السبزواري
فقد جاء بشيء لم يسبقه أحدٌ إليه ـ حسب اطّلاعي ـ فقد ميّز بين
مقامين لإبراهيم الخليل، حين ذكر أنّ هناك مقامين (مقام
قدمي ـ مقام عبادي) كما صرّح به في الفائدة الثالثة من مهذّب
الأحكام، حيث قال: لإبراهيم الخليل (عليه السلام)مقام صلاة وعبادة في
مسجد الكوفة، ومسجد السهلة، وبيت المقدس، وبعيد في الغاية أن لا يكون له مقام
صلاة وعبادة في المسجد الحرام ولا بدع في ذلك، فإنّ كثرة تفاني الخليل في
مرضاة خليله لا يقتضي إلاّ ذلك، والظاهر أنّ المقام الفعلي كان مقام صلاته
وعبادته، وكان مقام قدميه أي:
الصخرة ملصقاً بجدار البيت فكان له (عليه
السلام) مقامان..
المقام القدمي..المقام
العبادي.
فجمع في الجاهلية بين المقامين،
وفرّق بينهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)لمصالح، ثمّ جمع
بينهما وقرّره
المعصومون (عليهم السلام)لمصالح كثيرة فيكون
منتهى الطواف ومحلّ
صلاته مقامه العبادي لا مقامه القدمي ويقتضيه الاعتبار. ولعلّ
اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)على التفريق بينهما لئلاّ يخضع
العوام وضعفة العقول لقدميه (عليه السلام)في مقابل التخضّع لله تعالى
وبيته، ولئلاّ يكون له استقلال في قبال البيت الشريف بل يكون ملصقاً به ومن
تبعاته تبعية آلات البناء وأدواتها لنفس البناء.
وقد ذكر أيضاً في الفائدة الثانية أنّه: يظهر من الأخبار
أنّ الصخرة التي عليها أثر قدمي الخليل المسمّى بالمقام قد تغيّر محلّه عمّا
كان عليه، ففي صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «كان موضع المقام
الذي وضعه إبراهيم (عليه السلام)عند جدار البيت فلم يزل هناك حتّى حوّله
أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم، فلمّا فتح النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)مكّة ردّه إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (عليه
السلام)فلم يزل هناك حتّى ولّي عمر
فسأل الناس: مَن منكم يعرف المكان الذي فيه المقام؟ فقال رجل: أنا قد أخذت
مقداره بنسع (حبل عريض يُشدّ به الرحال) وهو عندي، فقال: إئتني به، فأتاه
فقاسه ثمّ ردّه إلى ذلك المكان». وفي روضة الكافي عن علي (عليه السلام):
«لو أمرتُ بمقام إبراهيم (عليه السلام)فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... لتفرّقوا
عنّي».
وقال الشهيد الثاني في
المسالك:
الأصل في المقام أنّه العمود من
الصخر الذي كان إبراهيم (عليه السلام) يقف عليه حين بنائه البيت، وأثر
قدميه فيه إلى الآن.. ثمّ بعد ذلك بنوا حوله بناءً، وأطلقوا اسم المقام على
ذلك البناء بسبب المجاورة حتّى صار إطلاقه على البناء كأنّه حقيقة
عرفية.
وهذا واضح في أنّه لم يكن هذا الموضع مقاماً عبادياً قبل
نقل الصخرة إليه، ولا موضع دعاء إبراهيم (عليه السلام) حين دعا لأهله
كما ورد.
بقي شيء هنا: وهو أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) حينما صلّى ركعتي الطواف هل صلاّهما عند الموضع نفسه الذي وُضعت فيه
الصخرة في الجاهليّة، أم أنّه بعد أن أرجع الصخرة إلى حيث كان موضعها زمن
إبراهيم (عليه السلام)صلّى الركعتين عندها؟ لم أجد جواباً صريحاً على
ذلك، لا في الأخبار التأريخية ولا في الروايات، وكلّما هناك أنّه أعاد الصخرة
إلى حيث كانت أيام إبراهيم (عليه السلام)، وأنه مشى أو تقدم بعد طوافه
نحو المقام وأدّى الركعتين اللّهم إلاّ أن نقول : إنّ الفعل «مشى» أو
«تقدم» يدلّ على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم)أدّى الركعتين عند
المقام الحالي قبل أن ينقله إلى موضعه السابق الذي ليست هناك مسافة بينه وبين
نهاية الشوط الأخير لملاصقته للبيت، هذا وأن الأخبار لم تذكر لنا أن هذا
المقام هو المقام العبادي أو موضع دعاء إبراهيم (عليه
السلام)لأهله6 ـ وإن كان هناك من يذكر أن
دعاءَه لهم كان عند جبل كداء.؟..