ج ـ حديث عبدالله بن مسعود
روى البيهقي مسنداً عن ابن
مسعود(رضي الله عنه) أنّه كان يصلي فوضع
يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي(صلى
الله عليه وآله) فوضع يده اليمنى على
اليسرى [16] .
يلاحظ عليه: ـ مضافاً الى أنّه
من البعيد أن لا يعرف مثل عبدالله بن مسعود
ذلك الصحابي الجليل ماهو المسنون في
الصلاة مع أنّه من السابقين في الإسلام ـ
أنّ في السند هشيم بن بشير وهو مشهور
بالتدليس [17] .
هذه أهم الروايات التي أوردوها
في هذه المسألة، وهناك روايات اُخرى لا
تخلو كذلك من مناقشة في سندها أو متنها.
2 ـ أما ما استدلّوا به من وجوه
استحسانية كقولهم: وضع اليد على اليد أسلم
له من العبث وأحسن في التواضع والتضرع،
فإن الشريعة لو كانت تثبت بمثل هذه
الأقوال لاضمحل الدين، فالإنسان إنّما
وظيفته التعبد بالشريعة، ولو جعل مذاقه هو
المقياس للحلال والحرام أصبحت النتيجة
عكسية وهي تبعية الشريعة للإنسان بدلاً عن
تبعية الإنسان للشريعة، وقد يستحسن
الإنسان وجهاً وتخفى عليه وجوه اُخرى أهم
وأكبر، فمن أين نثبت أن الشريعة قد أمضت
هذا الوجه ولم تمض وجهاً استحسانياً آخر
خفي علينا وربّما كان أهم وأكبر؟ كالقول
الذي ذكره القرطبي في رد التكتف: بأنه من
باب الاستعانة وأنه ليس مناسباً لأفعال
الصلاة بسبب ذلك [18] .
نعم، الوجوه الاستحسانية تنفع
في تقرير وتثبيت وتأييد ما أثبتته الشريعة
بأدلة من الكتاب والسُنّة، فالاستحسان
ليس دليلاً وإنّما هو يأتي في مرحلة ما بعد
الدليل.
3 ـ إن مسألة التكتف في الصلاة
من موارد الابتلاء اليومي المتكرر، وقد
عاش المسلمون مع الرسول(صلى الله عليه
وآله)أكثر من عقدين من الزمن يصلي معهم
وبحضورهم كل يوم ما لا يقل عن خمس مرات،
ولو كان النبي(صلى الله عليه وآله) يصلي
بهذه الكيفية للزم من ذلك وضوح المسألة
لدى الصحابة بما فيه الكفاية، والأمر ليس
كذلك، فإن روايات التكتف محصورة بعدد من
الصحابة. ويكتنفها الغموض ومبتلاة
بأسانيد نوقش في أكثرها. وبأزاءها روايات
معارضة أنكرت ذلك. ومع حالة كهذه كيف يتاح
لنا التصديق بأن النبي(صلى الله عليه وآله)كان
يقبض بيمينه على شماله في كل صلواته أو
أكثرها كما يقتضي القول باستحباب ذلك في
الصلاة؟
4 ـ وردت في مقابل أحاديث القبض
أخبار تنفيه حتى قال القرطبي في بداية
المجتهد: «أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت
فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام ولم
ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على
اليسرى... ورأى قوم أن الأوجب المصير الى
الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة لأنها
أكثر...» [19] وعلى هذا فقه مالك الذي
يُعتبر فقيه المدينة لشدة تأكيده على عمل
أهل المدينة باعتباره عملاً متلقى عن
الصحابة، وهو في مظنة الإصابة.
ومن جملة الروايات المعارضة
للقبض في الصلاة حديث أبي حميد الساعدي
الذي رواه غير واحد من المحدّثين، ونحن
نذكره بنصّ البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي
عبدالله الحافظ:
فقال أبو حميد الساعدي: أنا
أعلمكم بصلاة رسول الله(صلى الله عليه
وآله)، قالوا: لِمَ، ما كنت أكثرنا له
تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلى،
قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله(صلى
الله عليه وآله) إذا قام الى الصلاة رفع
يديه حتى يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثم يكبر
حتى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلاً، ثم
يقرأ ثم يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه،
ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع
رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع
يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، حتى يعود كلّ
عظم منه الى موضعه معتدلاً، ثم يقول: الله
أكبر، ثم يهوي الى الأرض فيجافي يديه عن
جنبيه، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى
فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد،
ثم يعود، ثم يرفع فيقول: الله اكبر، ثم
يثني برجله فيقعد عليها معتدلاً حتى رجع
أو يقرّ كلّ عظم موضعه معتدلاً، ثم يصنع في
الركعة الاُخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من
الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما
منكبيه، كما فعل أو كبّر عند افتتاح
الصلاة، ثمّ يصنع مثل ذلك في بقية صلاته،
حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم
أخّر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقّه
الأيسر، فقالوا جميعاً: صدق، هكذا كان
يصلّي رسول الله(صلى الله عليه وآله) [20] .
والذي يوضح صحة الاحتجاج
الاُمور التالية:
أ ـ تصديق أكابر الصحابة [21]
وبهذا العدد لأبي حميد يدلّ على قوّة
الحديث، وترجيحه على غيره من الأدلّة.
ب ـ إنّه وصف الفرائض والسنن
والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا
عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين على
ذلك، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر
أنّه أعلمهم بصلاة رسول الله(صلى الله
عليه وآله)، بل قالوا جميعاً: صدقت هكذا
كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)يصلّي،
ومن البعيد جداً نسيانهم وهم عشرة، وفي
مجال المذاكرة.
ج ـ الأصل في وضع اليدين هو
الإرسال، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.
د ـ لا يقال إنّ هذا الحديث عام
وقد خصّصته أحاديث القبض، لأنّه وصف وعدّد
جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل
هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم
والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه
وعنهم.
هـ ـ بعض من حضر من الصحابة هذه
الحادثة قد روى أحاديث القبض، ولم يعترض
على أبي حميد الساعدي لعدم ذكره القبض .