عود الى التحذير
فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ ، وَسُوءِ
عَاقِبَةِ الْكِبْرِ ، فَإِنَّهَا
مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى ،
وَمَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى ، الَّتِي
تُسَاوِرُ [2700] قُلُوبَ
الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ
الْقَاتِلَةِ ، فَمَا تُكْدِي [2701] أَبَداً
، وَلاَ تُشْوِي [2702] أَحَداً ، لاَ
عَالِماً لِعِلْمِهِ ، وَلاَ مُقِلاًّ في
طِمْرِهِ [2703] . وَعَنْ ذلِكَ مَا
حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ
بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ ،
وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الايَّامِ
الْمَفْرُوضَاتِ ، تسْكِيناً
لاََطْرَافِهِمْ [2704] ، وَتَخْشِيعاً
لاَِبْصَارِهمْ ، وَتَذلِيلاً
لِنُفُوسِهِمْ ، وَتَخْفِيضاً
لِقُلُوبِهِمْ ، وَإِذْهَاباً
لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ ، ) وَ( لِما فِي ذلِكَ
مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ [2705]
بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً ، وَالْتِصَاقِ
كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالاَْرْض
تَصَاغُراً ، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ
بِالْمُتُونِ [2706] مِنَ الصِّيَامِ
تَذَلُّلاً; مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ
صَرْفِ ثَمَرَاتِ الاَرْض وَغَيْرِ ذَلِكَ
إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ .
انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هذِهِ الاَفْعَالِ
مِنْ قَمْعِ [2707] نَوَاجِمِ [2708]
الْفَخْرِ ، وَقَدْعِ [2709] طَوَالِعِ
الْكِبْرِ !
التعصّب المذموم
والتعصّب الممدوح
وَلَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُأَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ
لِشَيْء مِنَ الاَْشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ
عِلَّة تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلاَءِ ،
أَوْ حُجَّة تَلِيطُ [2710] بِعُقُولِ
السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ ; فَإِنَّكُمْ
تَتَعَصَّبُونَ لاَِمْر مَا ) لا( يُعْرَفُ
لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ . أَمَّا
إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ
لاَِصْلِهِ ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي
خِلْقَتِهِ ، فَقَالَ : أَنَا نَارِيٌّ
وَأَنْتَ طِينِيٌّ . وَأَمَّا
الاَْغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ [2711]
الاُْمَمِ ، فَتَعَصَّبُوا لاِثَارِ
مَوَاقِعِ النِّعَمِ [2712] ، فَقَالُوا : (نَحْنُ
أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا
نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [2713] . فَإِنْ كَانَ
لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ
تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ ،
وَمَحَامِدِ الاَْفْعَالِ ، وَمَحَاسِنِ
الاُْمُورِ ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا
المُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ
بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَيَعَاسِيبِ [2714] الْقَبَائِلِ
; بِالاَْخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ [2715] ،
وَالاَْحْلاَمِ [2716] الْعَظِيمَةِ ،
وَالاَْخْطَارِ الْجَلِيلَةِ ،
وَالاثَارِ المَحْمُودَةِ . فَتَعَصَّبُوا
لِخِلالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ
لِلْجِوَارِ [2717] ، وَالْوَفَاءِ
بِالذِّمَامِ [2718] ، وَالطَّاعَةِ
لِلْبِرِّ ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ ،
وَالاَْخْذِ بِالْفَضْلِ ، وَالْكَفِّ عَنِ
الْبَغْيِ ، وَالاِْعْظَامِ لِلْقَتْلِ ،
وَالاِْنْصَافِ لِلْخَلْقِ ، وَالْكَظْمِ
لِلْغَيْظِ ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي
الاْرْض .
وَاحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالاُْمَمِ
قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُـلاَتِ [2719]
بِسُوءِ الافْعَالِ ، وَذَمِيمِ
الاَْعْمَالِ . فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ ، وَاحْذَرُوا
أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ . فَإِذَا
تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ [2720]
حَالَيْهِمْ ، فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْر
لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأنـَهُمْ ،
وَزَاحَتِ الاعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ ،
وَمُدَّتِ [2721] الْعَافِيَةُ
بِهِ ) فيه( عَلَيْهِمْ ، وَانْقَادَتِ
النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ ، وَوَصَلَتِ
الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ
الاِْجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ ،
وَاللُّزُومِ لِلاُلْفَةِ ،
وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا ، وَالتَّوَاصِي
بِهَا ، وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْر كَسَرَ
فِقْرَتَهُمْ [2722] ، وَأَوْهَنَ [2723]
مُنَّـتَهُمْ [2724] ; مِنْ تَضَاغُنِ
الْقُلُوبِ ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ ،
وتَدَابُرِ النُّفُوس ، وَتَخَاذُلِ
الاَْيْدِي . وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ
الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
قَبْلَكُمْ ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ
التمْحِيص [2725] وَالْبَلاَءِ ؟
أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَـلاَئِقِ
أَعْبَاءً ، وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً
، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً .
اتَّخْذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عِبِيداً
فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ ،
وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ [2726] ،
فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ
الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ ، لاَ
يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاع ، وَلاَ
سَبِيلاً إِلَى دِفَاع . حَتَّى إِذَا رَأَى
اللهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ
عَلَى الاَْذَى فِي مَحَبَّتِهِ ،
وَالاِحْتَِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ
خَوْفِهِ ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ
الْبَلاَءِ فَرَجاً ، فَأَبْدَلَهُمُ
الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ ، وَالاَْمْنَ
مَكَانَ الْخَوْفِ ، فَصَارُوا مُلُوكاً
حُكَّاماً ، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً ، وَقَدْ
بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ
مَا لَمْ تَذْهَبِ الامَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ
.
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ
كَانَتِ الاَْمْلاَءُ [2727] مُجْتَمِعَةً ،
وَالاَْهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً ،
وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً ، وَالاَْيْدِي
مُتَرَادِفَةً ، وَالسُّيُوفُ
مُتَنَاصِرَةً ، وَالْبَصَائِرُ نَافِذَةً ،
وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً . أَلَمْ
يَكُونُوا أَرْبَاباً [2728] فِي أَقْطَارِ
الاَْرَضِينَ ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ
الْعَالَمِينَ ! فَانْظُرُوا إِلَى مَا
صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ ،
حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ ، وَتَشَتَّتَتِ
الاُْلْفَةُ ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ
وَالاَْفْئِدَةُ ، وَتَشَعَّبُوا
مُخْتَلِفِينَ ، وَتَفَرَّقُوا
مُتَحَارِبِينَ ، قَدْ خَلَعَ اللهُ
عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ ،
وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ [2729]
، وَبَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ
عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ ) منكم( .
الاعتبار بالامم
فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِإِسْمَاعِيلَ وَبَنِي إِسْحَاقَ وَبَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ .
فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ [2730]
الاَْحْوَالِ ، وَأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ [2731]
الاَْمْثَالِ !
تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ
تَشَتُّتِهِمْ ، وَتَفَرُّقِهِمْ ،
لَيَالِيَ كَانَتِ الاَْكَاسِرَةُ
وَالْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ ،
يَحْتَازُونَهُمْ [2732] عَنْ رِيفِ
الافَاقِ ، وَبَحْرِ الْعِرَاقِ ،
وَخُضْرَةِ الدُّنْيَا ، إِلَى مَنَابِتِ
الشِّيحِ ، وَمَهَافِي [2733] الرِّيحِ ،
وَنَكَدِ [2734] الْمَعَاش ،
فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ
إِخْوَانَ دَ بَر [2735] وَوَبَر [2736]
أَذَلَّ الاُْمَمِ داراً ، وَأَجْدَبَهُمْ
قَرَاراً ، لاَ يَأْوونَ [2737] إِلَى
جَنَاحِ دَعْوَة يَعْتَصِمُونَ بِهَا ،
وَلاَ إِلَى ظِلِّ اُلفَة يَعْتَمِدُونَ
عَلَى عِزِّهَا . فَالاَْحْوَالُ
مُضْطَرِبَةٌ ، وَالاَْيْدِي مُخْتَلِفَةٌ ،
وَالْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ; فِي بَلاَءِ
أَزْل [2738] ، وَأَطْبَاقِ جَهْل ! مِنْ بَنَات
مَوْؤُودَة [2739] ، وَأَصْنَام
مَعْبُودَة ، وَأَرْحَام مَقْطُوعَة ،
وَغَارَات مَشْنُونَة [2740] .
النعمة برسول اللهِ
صلى الله عليه وآله وسلم
فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِاللهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ
رَسُولاً ، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ
طَاعَتَهُمْ ، وَجَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ
أُلْفَتَهُمْ ; كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ
عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا ،
وَأَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا ،
وَالْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ [2741] فِي
عَوَائِدِ [2742] بَرَكَتِهَا ،
فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ ،
وَفِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ [2743]
. قَدْ تَرَبَّعَتِ [2744] الاُْمُورُ
بِهِمْ ، فِي ظِلِّ سُلْطَان قَاهِر ،
وَآوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ
غاَلِب ، وَتَعَطَّفَتِ الاُْمُورُ
عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْك ثَابِت .
فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ ،
وَمُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الاَْرَضِينَ .
يَمْلِكُونَ الاُْمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ
يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ ، وَيُمْضُونَ
الاَْحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا
فِيهِمْ ! لاَ تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ [2745]
وَلاَ تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ [2746] !
لوم العصاة
أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْأَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ ،
وَثَلَمْتُمْ [2747] حِصْنَ اللهِ
الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ ، بَأَحْكَامِ
الْجَاهِلِيَّةِ . فَإِنَّ اللهَ
سُبْحَانَهُ قَدْ امْتَنَّ عَلَى جَمَاعَةِ
هذِهِ الاُْمَّةِ فِيَما عَقَدَ بَيْنَهُمْ
مِنْ حَبْلِ هذِهِ الاُلفَةِ الَّتِي
يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا ، وَيَأْوُونَ
إلى كَنَفِهَا ، بِنِعْمَة لاَ يَعْرِفُ
أَحَدٌ مِنَ الْمخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً ،
لاَِنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَن ،
وَأَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَر .
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ
بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً ، وَبَعْدَ
الْمُوَالاَةِ [2748] أَحْزَاباً . مَا
تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الاِْسْلاَمِ إِلاَّ
بِاسْمِهِ ، وَلاَ تَعْرِفُونَ مِنَ
الاِْيمَانِ إِلاَّ رَسْمَهُ .
تَقُولُونَ : النَّارَ وَلاَ الْعَارَ
! كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِؤوا
الاِْسْلاَمَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً
لِحَرِيمِهِ ، وَنَقْضاً لِمِيثَاقِهِ
الَّذِي وَضَعَهُ اللهُ لَكُمْ حَرَماً فِي
أَرْضِهِ ، وأَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ .
وإِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ
حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ، ثُمَّ لاَ
جَبْرَائِيلُ وَلاَ مِيكَائِيلُ وَلاَ
مُهَاجِرُونَ وَلاَ أَنْصَارٌ
يَنْصُرُونَكُمْ إِلاَّ الْمُقَارَعَةَ
بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ
بَيْنَكُمْ .
وَإِنَّ عِنْدَكُمُ الاَْمْثَالَ
مِنْ بَأْس اللهِ وَقَوَارِعِهِ ،
وَأَيَّامِهِ وَوَقَائِعِهِ ، فَـلاَ
تَسْتَبْطِؤوا وَعِيدَهُ جَهْلاً
بَأَخْذِهِ ، وَتَهَاوُناً بِبَطْشِهِ ،
وَيَأْساً مِنْ بَأْسِهِ . فَإِنَّ اللهَ
سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ
الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلاَّ
لِتَرْكِهِمُ الاَْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ . فَلَعَنَ
اللهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي
وَالْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ الْتَّنَاهِي !
أَلاَ وَقَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ
الاِْسْلاَمِ ، وَعَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ ،
وَأَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ . أَلاَ وَقَدْ
أَمَرَنِيَ اللهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْي
وَالْنَّكْثِ [2749] وَالْفَسَادِ فِي
الاَْرْض: فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ
قَاتَلْتُ ، وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ [2750]
فَقَدْ جَاهَدْتُ ، وَأَمَّا الْمَارِقَةُ [2751]
فَقَدْ دَوَّخْتُ [2752] ، وَأَمَّا
شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ [2753] فَقَدْ كُفِيتُهُ
بِصَعْقَة [2754] سُمِعَتْ لَهَا
وَجْبَةُ [2755] قَلْبِهِ
وَرَجَّةُ صَدْرِهِ [2756] ، وَبَقِيَتْ
بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ . وَلَئِنْ
أَذِنَ اللهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ
لاَُدِيلَنَّ مِنْهُمْ [2757] إِلاَّ مَا
يَتَشَذَّرُ [2758] فِي أَطْرَافِ
الْبِلاَدِ تَشَذُّراً !
فضل الوصي عليه السلام
أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِبِكَـلاَكِلِ [2759] الْعَرَبِ ،
وَكَسَرْتُ نَوَاجِمَ [2760] قُرُونِ
رَبِيعَةَ وَمُضَرَ . وَقَدْ عَلِمْتُمْ
مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه
وآله بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ،
وَالْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ . وَضَعَنِي
فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي
إِلَى صَدْرِهِ ، وَيَكْنُفُنِي فِي
فِرَاشِهِ ، وَيَمُسُّنِي جَسَدَهُ ،
وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ [2761] . وَكَانَ
يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلِّقمُنِيهِ ،
وَمَا وَجَدَ لِي كِذْبَةً فِي قَوْل ، وَلاَ
خَطْلَةً [2762] فِي فِعْل .
وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى الله عليه
وآله مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً
أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ
بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ، وَمَحَاسِنَ
أَخْلاَقِ الْعَالَمِ ، لَيْلَهُ
وَنَهَارَهُ . وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ
اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ [2763] أَثَرَ أُمِّهِ ،
يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْم مِنْ
أَخْلاَقِهِ عَلَماً [2764] ، وَيَأْمُرُنِي
بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ . وَلَقَدْ كَانَ
يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ [2765]
فَأَرَاهُ ، وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي . وَلَمْ
يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي
الاِْسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وآله وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا
. أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ ،
وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ .
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ
الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ
عَلَيْهِ صلى الله عليه وآله فَقُلْتُ : يَا
رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ ؟
فَقَالَ : هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ
مِنْ عِبَادَتِهِ . إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا
أَسْمَعُ ، وَتَرَى مَا أَرَى ، إِلاَّ
أَنـَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ ، وَلكِنَّكَ
لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر .
وَلَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ صلى الله عليه
وآله لَمَّا أَتاهُ الْمَلاَُ مِنْ قُرَيْش ،
فَقَالُوا لَهُ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّكَ
قَدِ ادَّعْيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ
آبَاؤُكَ وَلاَ أَحَدٌ مِن بَيْتِكَ ،
وَنَحْنُ نَسَأ لُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ
أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَاهُ ،
عَلِمْنَا أَنَّكَ نِبِيٌّ وَرَسُولٌ ،
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ
سَاحِرٌ كَذَّابٌ . فَقَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ : وَمَا تَسْأ لُونَ ؟
قَالُوا : تَدْعُولَنَا هذِهِ الشَّجَرَةَ
حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَتَقِفَ
بَيْنَ يَدَيْكَ ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ : إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ
شَيْء قَدِيرٌ ، فإِنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ
ذلِكَ ، أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ
بِالْحَقِّ ؟ قَالُوا :نَعَمْ ، قَالَ :
فَإِنَّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطلُبُون ،
وإِنِّي لاََعْلَمُ أَنَّكُمْ لاَ تَفِيؤونَ [2766]
إِلَى خَيْر ، وَإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ
فِي الْقَلِيبِ [2767] ، وَمَنْ
يُحَزِّبُ الاَْحْزَابَ . ثُمَّ قَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ : يَا أَيَّتُهَا
الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاخِرِ ،
وَتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ ،
فَانْقَلِعِي بعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي
بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللهِ . فَوَالَّذِي
بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لانْقَلَعَتْ
بِعُرُوقِهَا ، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ
شَدِيدٌ ، وَقَصْفٌ [2768] كَقَصْفِ
أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ ; حَتَّى وَقَفَتْ
بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى الله
عليه وآله مُرَفْرِفَةً ، وَأَلْقَتْ
بِغُصْنِهَا الاَْعْلَى عَلَى رَسُولِ اللهِ
صلى الله عليه وآله ، وَبِبَعْض أَغْصَانِهَا
عَلَى مَنْكِبِي ، وَكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ
صلى الله عليه وآله ، فَلَمَّا نَظَرَ
الْقَوْمُ إِلَى ذلِكَ قَالُوا ـ عُلُوّاً
وَاسْتِكْبَاراً ـ : فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ
نِصْفُهَا وَيَبْقَى نِصْفُهَا ،
فَأَمَرَهَا بِذلِكَ ، فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ
نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَال وَأَشَدِّهِ
دَوِيّاً ، فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ
اللهِ صلى الله عليه وآله ، فَقَالُوا ـ
كُفْراً وَعُتُوّاـ : فَمُرْ هذَا النِّصْفَ
فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ ،
فَأَمَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
فَرَجَعَ ; فَقُلْتُ أَنَا : لاَ إِلهَ إِلاَّ
اللهُ ; إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِن بِكَ يَا
رَسُولَ اللهِ ، وَأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ
بَأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ
بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً
بِنُبُوَّتِكَ ، وإِجْلاَلاً لَكَلِمَتِكَ .
فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ : بَلْ سَاحِرٌ
كَذَّابٌ ، عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ
، وَهَلْ يُصَدِّقُكِ فِي أَمْرِكَ إِلاَّ
مِثْلُ هذَا ! (يَعْنُونَنِي) وَإِنَّي لَمِنْ
قَوْم لاَ تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةُ
لاَئِم ، سِيَماهُمْ سِيَما الصِّدِّيقِينَ
، وَكَـلاَمُهُمْ كَـلاَمُ الاَْبْرَارِ ،
عُمَّارُ [2769] اللَّيْلِ
وَمَنَارُ النَّهَارِ . مُتَمَسِّكُونَ
بِحَبْلِ الْقُرْآنِ ; يُحْيُونَ سُنَنَ
اللهِ وسُنَنَ رَسُولِهِ ; لاَ
يَسْتَكْبِرُونَ وَلاَ يَعْلُونَ ، وَلاَ
يَغُلُّونَ [2770] وَلاَ
يُفْسِدُونَ . قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ ،
وَأَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ ![2700] تُساوِرُ
القلوبَ: تُوَاثِبُها وتُقاتلها .
[2701] أكْدَى الحافرُ:
إذا عجزَ عن التأثير في الارض والكُدية :
الارض الصلبة . أي لايعجز الشيطان عن التأثير
في النفوس .
[2702] أشْوَتِ الضربة: أخطأت المَقْتَل
اي لا تردّ مكيدته عن أحد ، لا عن عالم لعلمه
، ولا عن فقير لِطمْره .
[2703] الطِمْر ـ بالكسر
ـ: الثوب الخَلِقُ أو الكساء البالي من غير
الصوف .
[2704] الاطراف: الايدي
والارجل .
[2705] عِتاق الوجوه :
كرائمها ، وهو جمع عَتِيق ، من «عَتُق» إذا
رَقّت بَشَرته .
[2706] المُتون: الظهور
.
[2707] القَمْع: القهر .
[2708] النَوَاجم: من «نجَمَ»
إذا طَلَعَ وظهر .
[2709] القَدْع: الكفّ
والمنع .
[2710] تَلِيطُ وتلُوط:
أي تلصق .
[2711] المُتْرَف - على
صيغة اسم المفعول : المُوَسّع له في النعم
يتمتع بما شاء من اللذات .
[2712] «آثار مواقع
النعم»: ما ينشأ عن النِّعَم من التعالي
والتكبر .
[2713] سبأ: 35 .
[2714] اليَعَاسِيب ـ
جمع يَعْسوب ـ : وهو أمير النحل ، ويستعمل
مجازاً في رئيس القوم كما هنا .
[2715] الاخلاق الرغيبة:
المَرْضِيّة المرغوبة .
[2716] الاحلام: العقول
.
[2717] الجِوار ـ
بالكسر ـ: المجاورة بمعنى الاحتماء بالغير
من الظلم .
[2718] الذِمام: العهد .
[2719] المَثُلات:
العقوبات .
[2720] تفاوُت: اختلاف
وتباين .
[2721] مُدّت: انبسطت .
[2722] الفِقْرَة ـ
بالكسر والفتح ـ كالفَقارة بالفتح -: ما
انتظم من عَظْم الصُلْب من الكاهل إلى عَجْب
الذَنَب .
[2723] أوْهَنَ: أي أضعف
.
[2724] المُنّة ـ بضم
الميم ـ: القوة .
[2725] التمحيص:
الابتلاء والاختبار .
[2726] المُرَار ـ بضم
ففتح ـ: شجر شديد المَرَارة تتقلص منه شفـاه
الابل إذا أكلتـه ، والمراد هنـا عُصارته .
[2727] الاملاء ـ جمع
مَلا ـ: بمعنى الجماعة والقوم . والايدي
المترادفة المتعاونة .
[2728] أرباباً: سادات .
[2729] غَضارة النعمة:
سَعتها . وقَصَص الاخبار حكايتها وروايتها .
[2730] الاعتدال: هنا
التناسب .
[2731] الاشتباه: هنا
التشابه .
[2732] يَحْتَازُونهم:
يقبضونهم عن الاراضي الخِصْبة .
[2733] المَهَافي:
المواضع التي تهفو فيها الرياح أي تهب .
[2734] النَكَد ـ
بالتحريك ـ: أي الشدة والعسر .
[2735] الدَبَر ـ
بالتحريك ـ: القرْحة في ظهر الدابة .
[2736] الوَبَر: شعر
الجمال . والمراد أنهم رعاة .
[2737] لا يأوون: لم يكن
فيهم داع إلى الحق فيأووا اليه ويعتصموا
بمناصرة دعوته .
[2738] بلاء أزْل: على
الاضافة ، والازْل ـ بالفتح ـ: الشدة .
[2739] مَوْؤودة: من «وأد
بنته» ـ كوعد ـ: أي دفنها وهي حية .
[2740] «شنّ الغارة»:
صبّها من كل وجه .
[2741] «التَفّتِ
المِلّة بهم»: يقال التفّ الحبل بالحطب إذا
جمعه ، فملّة محمدصلى الله عليه وآله وسلم
جمعتهم بعد تفرقهم .
[2742] العوائِد : ما
يعود على الناس من الخيرات والنعم .
[2743] فَكِهِين: راضين
، طيبة نفوسهم .
[2744] تربعت: أقامت .
[2745] القَناة: الرمح .
وغمزها: جَسّها باليد لينظر هل هي محتاجة
للتقويم والتعديل فيفعل بها ذلك .
[2746] الصَفاة: الحجر
الصلد . وقَرْعها: صَدْمها لتكسر .
[2747] ثَلَمْتم: خرقتم
.
[2748] المُوَالاة:
المحبة .
[2749] النَكْث: نقض
العهد .
[2750] القاسطون:
الجائرون عن الحق .
[2751] المَارقة: الذين
مرقوا من الدين أي خرجوا منه .
[2752] دَوّخهُم:
أضعفهم وأذلهم .
[2753] الرَدْهة - بالفتح -: النُقْرَة في
الجبل قد يجتمع فيها الماء . وشيطان الرَدْهة:
ذو الثَدِيّة ، من رؤساء الخوارج وُجد
مقتولاً في ردهة .
[2754] الصَعْقَة:
الغَشِيّة تصيب الانسانَ من الهول .
[2755] وَجْبَة القلب:
اضطرابه وخفقانه .
[2756] رَجّة الصدر:
اهتزازه وارتعاده .
[2757] لادِيلَنّ منهم:
لامحقنّهم ، ثم أجعل الدولة لغيرهم .
[2758] يَتَشَذّر:
يتفَرّق .
[2759] الكَلاكِلُ:
الصدور ، عبّر بها عن الاكابر .
[2760] النَوَاجِمُ من
القرون: الظاهرة الرفيعة ، يريد بها أشراف
القبائل .
[2761] عَرْفُهُ ـ
بالفتح ـ: رائحته الذكيّة .
[2762] الخَطْلَة:
واحدة الخَطَل كالفرحة واحدة الفرح .
والخَطَل: الخطأ ينشأ عن عدم الروية .
[2763] الفَصِيل: ولد
الناقة .
[2764] عَلَماً: أي
فضلاً ظاهراً .
[2765] حِراء ـ بكسر
الحاء ـ: جبل على القرب من مكة .
[2766] تَفِيؤون:
ترجعون .
[2767] القَلِيب ـ
كأمير ـ: البئر . والمراد منه قَلِيب بَدْر .
[2768] القَصْف: الصوت
الشديد .
[2769] عُمّار ـ جمع
عامر ـ: أي يَعْمُرونه بالسهر للفكر
والعبادة .
[2770] يَغُلّون:
يخونون .