المرحلة الاُولى
ونخوض هذه المرحلة عبر طرح
السؤال التالي: هل أن الرؤية تلازم
الجسمية أم لا؟
يجيب الطرفان على هذا السؤال
بالإيجاب، وليس بوسع أحد أن ينكر هذا
التلازم، فكل ماهو مادي يُرى بالعين، بل
أن رؤيته واجبة كلما تحققت شروط الرؤية،
بمعنى أن حاسة البصر عندما تكون سالمة
والمانع بينها وبين المرئي مفقود من البعد
المفرط أو الحجاب أو نحو ذلك، فليس بوسع
هذه الحاسة حينئذ أن لا تراه ، لأن انعكاس
صور الأشياء في حدقة العين أمر قهري لا
اختيار للإنسان فيه، وكل ما لا نراه فإما
معدوم أو موجود غير مادي، كالفكر والروح،
فلا مفر عن الإقرار بالتلازم بين الرؤية
والجسمية، ولذا فسّرت الرؤية قديماً
وحديثاً بنحو ملازم للجسمية وكون المرئي
في جهة مقابلة، فقديماً قيل: إن الرؤية
تحصل لأجل شعاع يصدر من العين ويقع على
المرئي، وقد أبطل العلم الحديث هذا
التفسير، وجاء بتفسير جديد يقول: إن
الرؤية عبارة عن شعاع ينطلق من الأشياء
فيخترق الشبكية ويكون سبباً في تحقق الرؤية،
ولازم كلا التفسيرين أن يكون المرئي جسماً
واقعاً في جهة مقابلة للعين.
والمسألة عند هذه النقطة لا
خلاف فيها، إنّما يظهر الخلاف بين الطرفين
حينما نأتي لمعرفة حقيقة التلازم بين
الرؤية والجسمية، هل هو تلازم عرضي طارئ
كتلازم الضحك مع الإنسان أم هو تلازم ذاتي
يتصل بماهية الرؤية والجسمية، بحيث لا
يمكن الانفكاك بينهما كاستحالة انفكاك
المعلول عن العلّة؟
حيث يؤمن الأشاعرة بأن تلازم
الرؤية والجسمية من النوع الأوّل، وأنّ
انفكاك الرؤية عن الجسمية ووقوعها على
وجودات غير مجسمة أمر ممكن ، كما هو انفكاك
الضحك عن الإنسان أمر ممكن لا يستلزم
مستحيلاً من المستحيلات، وإن كانت العادة
قد جرت في العالم الذي نحن فيه على
تلازمهما، ويصرّح الأشاعرة بأنّ: «ما لا
يتعلق بها الرؤية، بناءً على جري العادة
بأنّ الله تعالى لا يخلق فينا رؤيتها، لا
بناءً على امتناع ذلك، وما ذكره الخصم
مجرد استبعاد» [1] ، فليس هناك قانون
عام يحكم بأن ما لا يرى في الدنيا لا يرى في
الآخرة أيضاً.
ويأتي الأشاعرة بهذا الجواب
دفاعاً وإتماماً لدليلهم العقلي على جواز
رؤية الله القائل: بأن العلّة في رؤية
الأشياء هي الوجود، والوجود صفة مشتركة
بين الواجب والممكن، فيلزم من ذلك جواز
رؤية كل موجود ، وقد تحققت هذه الرؤية لبعض
الموجودات في الدنيا وانتفت عن موجودات
اُخرى لم تجر العادة على رؤيتها، فيبقى
أمرها على الجواز العقلي، ولعلّ الله يأذن
برؤيتها بنحو من الأنحاء في الآخرة، ومن
جملتها رؤية الله سبحانه وتعالى نفسه. ثم
يتمم الأشاعرة استدلالهم على ذلك بالآيات
والأحاديث التي يظهر منها تحقق رؤية الله
في الآخرة [2] .
بينما آمن أهل التنزيه المحض
باستحالة انفكاك الرؤية عن الجسمية ، وأن
ما يوجب ادراك الأشياء «من حيث كانت
موجودة يوجب ادراكها من حيث كانت متحيزة ،
لأنه ليس للوجود في هذا الباب من الاختصاص
ما ليس للتحيّز، وللتحيز من الاختصاص ما
ليس للوجود، وبيّنا أن القول بأنها تدرك
من حيث كانت متحيزة يسلم ويصح، والقول
بأنها تدرك من حيث كانت موجودة لا يصح» [3] ،
فإنّ «ما قدمنا ذكره من أن ما يصح أن يراه
الرائي يجب أن يراه يبطل هذا القول، وما
قدمناه من أن الرائي لا يصح كونه رائياً
لمعنى يبطله أيضاً، وما قدمناه الآن من أن
الرائي يرى الجوهر واللون لما يختصان به،
لا لوجودهما، يبطله أيضاً» [4] ، و«أن
غرض هذا القائل بقوله أن كل موجود يصح أن
يرى، اثبات كون القديم تعالى مرئياً، ومتى
عول في ذلك على الوجود وسائر ما قدمناه
لزمه أن يكون الذي لأجله وجب ذلك فيه
حدوثه، لأن عند حدوث المرئي يصح أن يرى
وقبل حدوثه يستحيل ذلك فيه ، وهذا يبطل القول
بأنّه تعالى يرى أو يصح كونه محدثاً إن كان
مرئياً، فقد صح بهذه الجملة أن الادراك
يتعلق بالشيء على ما يختصّ به من الصفات
مما هو عليه في ذاته» [5] .
فالنزاع في المرحلة الاُولى
يرجع الى تحليل العلاقة بين الرؤية
والجسمية، وهل أن الرؤية البصرية مما
يستحيل وقوعه على غير الأجسام أم لا؟
النظرية الأشعرية مبنية على الامكان ،
ونظرية التنزيه المحض مبنية على
الاستحالة، ومعرفة الحق في المسألة تقتضي
تحليل العلاقة بين الرؤية والمرئي
تحليلاً عميقاً نتوصل من خلاله الى ما
يمكن أن يكون سبباً للاستحالة أو الإمكان.
والبحث كل البحث يجب أن ينصب
على أهم دليل عقلي ذكره الأشاعرة على
نظريتهم وهو قولهم: إن مصحح الرؤية هو
الوجود، وهو أمر مشترك بين الممكن
والواجب، فلابدّ وأن نراهما معاً. وصحة
النظريتين معاً منوطة بصحة هذا الدليل
وسقمه، وها نحن نورد تقريرين لهذا الدليل;
أوّلهما لسعد الدين التفتازاني وثانيهما
لابن تيمية.
فقد كتب التفتازاني يقول:
«تمسك المتقدمون من أهل السنّة
في إمكان الرؤية بدليل عقلي. تقريره: أنا
نرى الجواهر والأعراض بحكم الضرورة
كالأجسام والأضواء والألوان والأكوان،
وباتّفاق الخصوم. وإن زعم البعض منهم في
بعض الأعراض أنها أجسام وفي الطول الذي هو
جواهر ممتدة أنه عرضه. وردّ بأنه يدرك
الطول بمجرد تأليف عدة من الجواهر في سمت،
وإن لم يخطر بالبال شيء من الأعراض.
وقد يستدلّ على رؤية القبيلين
بأنا نميز بالبصر بين نوع ونوع من الأجسام
كالشجر والحجر ، ونوع من الألوان كالسواد
والبياض من غير أن يقوم شيء منها بآلة
الإبصار.
وبالجملة، لما صحت رؤيتهما
وصحة الرؤية أمر يتحقق عند الوجوب وينتفي
عند العدم، لزم أن يكون لها علة، لامتناع
الترجيح بلا مرجح، وأن يكون تلك العلة
مشتركة بين الجوهر والعرض لما مرّ من
امتناع تعليل الواحد بعلتين، وهي إما
الوجود وإما الحدوث، إذ لا ثالث يصح
للعلية، والحدوث أيضاً غير صالح لأنه
بالعدم وهو اعتباري محض أو عن الوجود بعد
العدم. ولا مدخل للعدم فتعين الوجود، وهو
مما يشترك فيه الواجب، لما مرّ في مبحث
الوجود عبارة عن مسبوقية الوجود، فلزم صحة
رؤيته وهو المطلوب» [6] .
وكتب ابن تيمية يقول:
«اختلف الناس في ما يجوز رؤيته،
فقال بعضهم : المصحح للرؤية أمر لا يكون
إلاّ وجودياً محضاً، فما كان وجوده أكمل
كان أحق أن يرى. وقال آخر: بل المصحّح لها
ما يختصّ بالوجود
الناقص الذي هو أولى بالعدم ،
مثل كون الشيء محدثاً مسبوقاً بالعدم، أو
ممكناً يقبل العدم ، كان قول من علّل إمكان
الرؤية بما يشترك فيه القديم والحادث،
والواجب والممكن ، أولى من هذا فإن الرؤية
وجود محض، وهي إنّما تتعلق بموجود، لا
بمعدوم، فما كان أكمل وجوداً، بل كان
وجوده واجباً، فهو أحق بها مما يلازمه
العدم، ولهذا يشترط فيها النور الذي هو
بالوجود أولى من الظلمة. والنور الأشد
كالشمس لم يمتنع رؤيته لذاته، بل لضعف
الأبصار; فهذا يقتضي أنا نعجز عن رؤية الله
مع ضعف أبصارنا، ولهذا لم يطق موسى رؤية
الله في الدنيا. لكن لا يمتنع أن تكون
رؤيته ممكنة، والله قادر على تقوية
أبصارنا لنراه.
وإذا قيل : هي مشروطة باللون
والجهة ونحو ذلك ممّا يمتنع على الله ، قيل
له: كل ما لابدّ منه في الرؤية لا يمتنع في
حق الله، فإذا قال القائل: لو رؤي للزم
كذا، واللازم منتف ، كانت إحدى مقدمتيه
كاذبة، وهكذا كل ما أخبر به الصادق الذي
أخبر بأن المؤمنين يرون ربهم كما يرون
الشمس والقمر، كل ما أخبره به وظن الظان أن
في العقل ما يناقضه ، لابدّ أن يكون إحدى
مقدماته باطلة.
فإذا قال: لو رؤي لكان متحيزاً،
أو جسماً ، أو كان في جهة، أو كان ذا لون،
وذلك منتف عن الله، قيل له: جميع هذه
الألفاظ مجملة لم يأت شرع ينفي القياس
سماها حتى تنفى بالشرع. وإنما ينفيها من
ينفيها بالعقل فيستفسر عن مراده، إذ البحث
في المعاني المعقولة، لا في مجرد هذه
الألفاظ.
فقال: ما تريد بأنّ المرئي
لابدّ أن يكون متحيزاً فإن المتحيّز في
لغة العرب التي نزل بها القرآن يعني به ما
يجوز غيره، كما في قوله تعالى: (أو
متحيّزاً الى فئة) [7] ، فهذا تحيّز
موجود يحيط به موجود غيره الى موجودات
تحيط به، وسُمي متحيزاً، لأنه تحيّز من
هؤلاء الى هؤلاء. والمتكلمون يريدون
التحيّز ما شغل الحيّز والحيّز عندهم
تقدير مكان، ليس أمراً موجوداً ، فالعالم
عندهم متحيّز ، وليس في حيّز وجودي، و
المكان عند أكثرهم وجوديّ.
فإذا اُريد بالمتحيّز ما يكون
في حيّز وجودي منعت المقدمة الاُولى، وهو
قوله: كل مرئي متحيّز ، فإن سطح العالم
يمكن أن يرى، وليس في عالم آخر. وإن قال : بل
اُريد به لابدّ أن يكون في حيّز، وإن كان
عدمياً، قيل له : العدم ليس بشيء، فمن جعله
في الحيّز العدمي لم يجعله في شيء موجود.
ومعلوم أنه ما ثَمّ موجود إلاّ الخالق
والمخلوق، فإذا كان الخالق بائناً عن
المخلوقات كلّها لم يكن في شيء موجود. وإذا
قيل: «هو في حيّز معدوم» كان حقيقته أنّه
ليس في شيء. فلِمَ قلت: إن هذا محال؟ وكذلك
إذا قال: «يلزم أن يكون جسماً»، ففيه إجمال
تقدم التنبيه عليه. وكذلك إذا قال: في جهة
، فان الجهة يراد بها شيء موجود، وشيء
معدوم. فإن شرط في المرئي أن يكون في جهة
موجودة كان هذا باطلاً برؤية سطح العالم،
وإن جعل العدم جهة قيل له: إذا كان بائناً
عن العالم ليس معه هناك غيره فليس في جهة
وجودية. وإذا سميت ما هنالك «جهة» وقلت: «هو
في جهة» على هذا التقدير، منعت انتفاء
اللازم، وقيل لك: العقل والسمع يدلاّن على
ثبوت هذا اللازم، لا على انتفائه» [8] .
ومن يقرأ هذين التقريرين يلمس
فيهما فجوة واضحة وعجزاً بيّناً، ففي
التقرير الأوّل نجد التفتازاني يصل الى أن
علّة رؤية الجواهر والأعراض هي الوجود، ثم
يستنتج من ذلك صحة رؤية الله سبحانه
باعتباره من جملة الوجود، وهنا تكمن
الفجوة الواضحة والعجز البيّن، فإنّه عمم
حكم الوجود الممكن على الوجود الواجب بلا
دليل، لوضوح أن مجرد الاشتراك في الوجود
بين الممكن والواجب لا يكون دليلاً كافياً
لتعميم الحكم بالرؤية، لاحتمال ـ على
الأقل ـ أن يكون للواجب حكم آخر في هذه
المسألة غير حكم الممكن، وحينئذ تبقى فكرة
«أن الوجود هو العلّة للرؤية» بلا دليل،
لعدم ثبوت دليل عليها في واجب الوجود،
وخروج هذا المصداق عنها، أو العجز عن
إقامة الدليل على شمولها لمصداق من مصاديق
الوجود وهو الوجود الواجب يعرّضها
للتزلزل، وهذا ما يسلّط الضوء على الفكرة
الأشعرية الاُخرى ـ التي مرّ ذكرها ـ
القائلة : بأن عدم رؤيتنا لبعض الموجودات
لا يعود الى امتناعها عن الرؤية، وإنّما
يعود الى أن أبصارنا قد كيّفت بنحو تبصر
بعض الموجودات دون بعض، فإذا ارتفع هذا
التكييف وكيّفت بنحو آخر أصبح بالامكان أن
ترى ما لم تكن تراه أولاً، فإنّ هذه الفكرة
هي الاُخرى تبقى دعوى بلا دليل ، فبأي دليل
نجعل علّة عدم رؤية الروح ـ مثلاً ـ ضعف
البصر لا الامتناع وكون الروح من ماهية
اُخرى يستحيل عليها الرؤية؟ فكما يحتاج
القائل بالامتناع الى دليل يدلّ عليه،
كذلك يحتاج القائل بضعف البصر الى دليل
يدل عليه.
وقد طرح ابن تيمية في تقريره
الفكرتين معاً، دون أن يطرح دليلاً على
أيٍّ منهما، وزاد على كلام التفتازاني
بقوله: «إن الرؤية وجود محض وهي إنّما
تتعلق بموجود لا بمعدوم»، وهذا مما لا
نقاش فيه، وإنّما النقاش في كلامه التالي
، حيث أكمل قائلاً: «فما كان أكمل وجوداً،
بل كان وجوده واجباً فهو أحق بها ممّا
يلازمه العدم»، فإنّ النقاش يقع في هذه
الملازمة، فبأي دليل يتاح لابن تيمية ان
يثبت أن الوجود الأكمل أحق بالرؤية من
الوجود الناقص؟
فقد يكون مقتضى الأكملية
التنزّه عن الرؤية لا الوقوع تحتها فضلاً
عن أن يكون أحق بها ، لما يشوب الرؤية من
شوب الجسمية والتحيّز والوقوع في جهة
مقابلة للرائي، وهاهي الروح وجود أكمل من
البدن، وهي لا ترى والبدن يرى، وهاهو
العقل وجود أكمل من المخ، وهو لا يرى والمخ
يُرى، فالأكملية ـ طبقاً للشواهد
الموجودة ـ تلازم عدم الرؤية وتحاول
التنزّه عنها، فبأي دليل نقول: إنّ أكملية
الواجب تجعله أحق بالرؤية من الممكن، ونحن
نرى هذه الشواهد العكسية؟ وبأي دليل نفسر
عدم رؤية الروح والعقل بقصور البصر الحالي
عن ادراكهما وأنّ الله سيمنح الإنسان قدرة
بصرية متطورة يتاح له بفضلها رؤية الروح
والعقل والخالق نفسه سبحانه وتعالى؟ فإن
هذا بحد ذاته يحتاج الى دليل وبرهان، وهو
أشبه بالمصادرة على المطلوب، فإنّ البحث
كل البحث في أنّ الحقائق الماورائية بحد
نفسها هل تقبل الرؤية أم لا؟ والتفسير
بضعف البصر مبني على أ نّها قابلة
للرؤية، وهو أوّل الكلام وأصل البحث الذي
اتّضح أنّ النظرية الأشعرية لم تثبته
بدليل بعد، بل هي عاجزة عن اثباته بدليل،
فالدليل النقلي لا ينفع في المقام
لاحتياجه الى مرحلة سابقة تثبت أن الرؤية
ممكنة بحق الله وغير مستحيلة، وهذه
المرحلة لا يمكن أن تكون نقلية للزوم
الدور من ذلك، فلابدّ وأن يكون الدليل
عقلياً محضاً، والدليل العقلي لا يمكن
اقامته ، لأن العقل إنّما يحكم بناءً على
تحليل علاقة الرؤية بين الرائي والمرئي
طبقاً للنظام الكوني القائم فعلاً،
والأشاعرة يتحدثون عن نظام كوني آخر سيتيح
للمؤمنين رؤية واجب الوجود بلا حيّز ولا
كيفية ولا جسمية، ويدّعون أنّ التلازم بين
الرؤية والجسمية خاصية جرى عليها النظام
الكوني القائم، وليس أمراً حتمياً لا ينفك
عنه الوجود بحال من الأحوال، حتى في
الآخرة التي ستشهد حلول نظام كوني آخر
لا يتسم بهذا التلازم.
ولذا يلاحظ الباحث في طيّات
أفكارهم أن الجانب العقلي من النظرية
الأشعرية في مسألة الرؤية، لا يقوم على
دليل عقلي قائم بنفسه، وإنّما يدور بين
استبعادات وتقريبات وارسال للدعوى إرسال
المسلّمات واقامتها مقام الدليل ثم
البناء عليها، كقولهم: إنّ الوجود هو
المصحح للرؤية ، وإنّ ما لا نراه يعود الى
جري العادة لا الامتناع، وإنّ رؤية الله
في الآخرة سوف لا تستلزم حيّزاً ولا جسمية
ولا جهة، وإنّ كل شيء في الدنيا سوف يكون
بخلافه في الآخرة، وأحياناً يخالفون
ادّعاءهم بأنّهم يتحدثون عن رؤية ستجري في عالم
آخر، فيحاولون إثبات تلك الرؤية بشواهد من
هذا العالم، كقولهم: إن القديم سبحانه لما
كان رائياً لغيره فيجب كونه مرئياً من
نفسه ومن غيره [9] .
فإن كلامهم هذا مستفاد في روحه
من تلازم الرؤية مع الجسمية، والمفروض أ نّهم
يتحدثون عن رؤية من عالم آخر تنفك فيه
الرؤية عن الجسمية ويتساوى فيه الواجب مع
الممكن في امكان الرؤية، فإنّهم إما أن
يتقيّدوا بقوانين الرؤية في هذا العالم،
وإما أن لا يتقيّدوا بها كلّها، لأنها
قوانين متلازمة مع بعضها والأخذ ببعضها
يستلزم الأخذ بالباقي، مثال ذلك: انّ
الرائي لغيره يكون في عالمنا هذا مرئياً
من قبل نفسه وغيره لكونه جسماً، ولأجل
التلازم القائم بين الرؤية والجسمية، ولو
فرض أن قانون التلازم سوف يرتفع في الآخرة
فلا معنى حينئذ للاستدلال على رؤية الله
بأن الرائي لغيره لابدّ وأن يكون مرئياً
من قبل نفسه وغيره ، لأن قانون التلازم إذا
ارتفع فسترتفع معه لوازمه، والاصرار على
الاستدلال باللوازم والغاء الأصل سلوك
غير علمي يراد به الفرار من الدليل وهو
يستبطن الاذعان الخفي بتلازم الرؤية مع
الجسمية.
إنّ الحديث عن رؤية منفكة عن
الجسمية كالحديث عن مربع بلا زوايا.
والحديث عن نظام كوني في الآخرة سيشهد هذا
الانفكاك ادّعاء يحتاج الى اثبات، أو
بالأحرى سلوك يقصد به الفرار من الدليل
والبرهان. وقبول مثل هذا الادعاء يفتح
الباب لكل ادّعاء شاذ وغريب بحجة أن
النظام الكوني في الآخرة سوف يكون شكلاً
آخر.
صحيح أنّ النظام الكوني في
الآخرة سيأخذ صورة اُخرى، لكن بمعنى أن
يكون ذلك النظام أكمل وأتمّ من النظام
الفعلي، لا بمعنى أن الاُسس والقواعد سوف
تكون شيئاً آخر، وأن ماهو مستحيل سوف يكون
ممكناً وماهو ممكن سوف يكون مستحيلاً، في
النظام الأكمل سوف لا تكون الحرارة منفكة
عن النار ، وإنّما ستكون درجتها أعلى
وأكبر، الأيدي والأرجل في الآخرة هي نفسها
التي في الدنيا سوى أنّها سوف يطلب منها أن
تخبر عن أعمالها فتنطق بذلك وهكذا ، كما
يخبرنا بذلك القرآن الكريم، بما يفيد أنّ
الاُسس الكونية والقوانين الكلّية ثابتة
في الدنيا والآخرة، سوى أنّ هذه الاُسس
والقوانين سوف تأخذ صورة أكمل وأتمّ في
الآخرة. ولولا ذلك لأمكن الادّعاء بأنّ
الحرارة ـ مثلاً ـ في الآخرة سوف تنفك عن
النار بحجة أن التلازم الموجود في الدنيا
بينهما هو لأجل جريان العادة بذلك، وأنّ
كل شيء في الآخرة سوف يكون بشكل آخر.
إن تعلّق النظرية الأشعرية في
جانبها العقلي بالتخمينات وخلوّها من
الأدلّة العقلية الكافية يعود الى أ نّها
تدّعي شيئاً لا يقبل الإثبات العقلي، وهو
الرؤية الخالية من الجسمية، وهذا بحد ذاته
يكشف عن صحة نظرية التنزيه المحض القائلة
بامتناع انفكاك الرؤية عن الجسمية ، كما
سنرى تفصيل ذلك فيما بعد.
ولعلّ ذلك هو الذي جعل دعاة
النظرية الأشعرية يعتمدون على الأدلة
السمعية دون العقلية، كما في نهاية
الاقدام للشهرستاني [10] والمحصل
للفخر الرازي [11] ، أو يجعلون الأدلة
السمعية مقدمة على العقلية، كما في شرح
المقاصد للتفتازاني [12] ، والقليل
منهم من اعتمد المسلك العقلي ولم يلجأ الى
الأدلّة السمعية إلاّ على سبيل التقريب
كسيف الدين الآمدي [13] المتوفى سنة (631
هـ ).
وعندما يصل الباحث الى أنّ
النظرية الأشعرية في الرؤية لاتقبل
الإثبات العقلي يصبح في غنى عن أن يخوض في
الأدلة السمعية، إذ لا يعقل أن تتحدث نصوص
الكتاب والسنّة عن أمر غير ممكن ولا يقبل
التحقق في عالم الثبوت، وحتى لوفرضنا فيها
ما يدلّ على اثبات الرؤية في الآخرة، فإنّ
صيانة القرآن عن اللغو والباطل تقتضي منا
اعتبار تلك الأدلة من جملة المتشابه الذي
لابدّ من عدم ابتغائه، عملاً بالآية
السابقة من سورة آل عمران التي مرّ
ايرادها، ولابدّ من حمله حينئذ على وجوه
من الكناية والمجاز، وسيأتي مزيد
المناقشة معهم في بحث أدلّة القول
باستحالة رؤية الله سبحانه.
ولكننا مع ذلك ولغرض إغناء
البحث نجد ضرورة التطرق للآيات القرآنية
التي استدلّ بها الأشاعرة على أنّ الرؤية
ستقع في الآخرة، لننظر هل هناك آية قرآنية
ذات دلالة حتمية على الرؤية بنحو لا يقبل
الحمل على وجه آخر؟