الإتجاهات والآراء في مسألة
الرؤية
لقد تشتتت الآراء والاتجاهات
في هذه المسألة حتى بلغت حد الافراط ،
بحيث إنّك حينما تطالع كتاب مقالات
الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري تجده يعرض
في هذه المسألة تسعة عشر رأياً. فقد كتب
يقول:
«واختلفوا في رؤية البارئ
بالأبصار على تسع عشرة مقالة ; فقال قائلون:
يجوز أن نرى الله بالأبصار في الدنيا
ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في
الطرقات.
وأجاز عليه بعضهم الحلول في
الأجسام، وأصحاب الحلول إذا رأوا إنساناً
يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه.
وأجاز كثير ممّن أجاز رؤيته في
الدنيا، مصافحته وملامسته ومزاورته
إياهم، وقالوا إن المخلصين يعانقونه في
الدنيا والآخرة إذا أرادوا ذلك، حُكي ذلك
عن بعض أصحاب مضر وكهمس. وحُكي عن أصحاب «عبدالواحد
بن زيد» أنّهم كانوا يقولون: إنّ الله
سبحانه يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله
أفضل رآه أحسن. وقد قال قائلون: إنّا نرى
الله في الدنيا في النوم فأمّا في اليقظة
فلا. ورُوي عن رَقَبة بن مَصقلة أ نّه
قال: رأيت ربّ العزّة في النوم فقال:
لأكرمنّ مثواه ـ يعني سليمان التيمي ـ
صلّى الفجر بطُهر العشاء أربعين سنة.
وامتنع كثير من القول إنّه يُرى في الدنيا
ومن سائر ما أطلقوه، وقالوا: إنّه يُرى في
الآخرة.
واختلفوا أيضاً في ضرب آخر،
فقال قائلون: نرى جسماً محدوداً مقابلاً
لنا في مكان دون مكان.
وقال زهير الأثري : ذات الله عزّ
وجلّ في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن
نراه في الآخرة على عرشه بلا كيف، وكان
يقول: إنّ الله يجيء يوم القيامة الى مكان
لم يكن خالياً منه، وأ نّه ينزل الى
السماء الدنيا ولم تكن خالية منه.
واختلفوا في رؤية الله عزّ وجل بالأبصار
هل هي إدراك له بالأبصار أم لا؟ فقال
قائلون: هي إدراك له بالأبصار وهو يُدرك
بالأبصار. وقال قائلون: يُرى الله سبحانه
بالأبصار ولا يُدرك بالأبصار. واختلفوا في
ضرب آخر: فقال قائلون: نرى الله جهرة
ومعاينة، وقال قائلون: لا نرى الله جهرة
ولا معاينة. ومنهم من يقول : اُحدّق إليه
إذا رأيته، ومنهم من يقول: لا يجوز التحديق
إليه. وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد:
إن الله لا يُرى بالأبصار، ولكن يخلق لنا
يوم القيامة حاسّة سادسة غير حواسّنا هذه فندركه
بها، وندرك ما هو بتلك الحاسّة. وقالت
البكرية: إن الله يخلق صورة يوم القيامة
يُرى فيها ويكلّم خلقه منها. وقال الحسين
النجّار: إنّه يجوز أن يحوّل الله العين
الى القلب، ويجعل لها قوّة العلم فيعلم
بها ويكون ذلك العلم رؤيةً له، أي علماً له.
وأجمعت المعتزلة على أنّ الله لا يُرى
بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب؟ فقال
أبو الهذيل وأكثر المعتزلة: إن الله يرى
بقلوبنا بمعنى إنّا نعلمه بها، وأنكر ذلك
الفوطي وعبّاد. وقالت المعتزلة والخوارج
وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية: إن
الله لا يُرى بالأبصار في الدنيا والآخرة،
ولا يجوز ذلك عليه. واختلفوا في الرؤية لله
بالأبصار ـ هل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا
محال ـ على مقالتين:
فقال قائلون: يجوز أن يُرى الله
سبحانه في الآخرة بالأبصار وقال(؟) نقول:
إنّه بتاتاً وقال(؟) نقول: إنّه يرى
بالأبصار. وقال قائلون: نقول بالأخبار
المرويّة وبما في القرآن أ نّه يُرى
بالأبصار في الآخرة، بتاتاً يراه
المؤمنون. وكل المجسمة إلاّ نفراً يسيراً
يقول بإثبات الرؤية، وقد يُثبت الرؤية من
لا يقول بالتجسيم» [2] .
هذا ما قاله أبو الحسن الأشعري،
ولكننا يمكننا أن نرجع بعض الآراء الى بعض
ونختصرها جميعاً في ثلاثة اتجاهات أساسية
هي:
1 ـ اتّجاه يقول بإمكان الرؤية
الحسّية في الدنيا والآخرة، وهؤلاء هم
المجسّمة الذين جعلوا الله سبحانه وتعالى
على صفة سائر مخلوقاته من حيث الجسمية،
فلما جعلوه جسماً كسائر الأجسام كان من
الطبيعي أن يؤمنوا برؤيته كما يحصل ذلك
لأي جسم آخر بلا فرق بين الدنيا والآخرة.
2 ـ واتّجاه آخر حاول التوسط
فمنع الرؤية في الدنيا وأجازها في الآخرة
مع نفي الكيفية، وهو رأي الجمهور المتمثل
بأهل السنّة والجماعة من أتباع المذاهب
الأربعة الذين حاولوا التخلص من التجسيم
مع الاحتفاظ بالرؤية بهذه الكيفية.
3 ـ واتّجاه ثالث آمن باستحالة
الرؤية في الدنيا والآخرة، وهو ما عليه
المعتزلة والإمامية وآخرون.
فالأوّل تجسيم محض ، والثالث
تنزيه محض، والثاني متوسط بينهما حاول أن
يأخذ من كل طرف طرفاً.
ولابدّ من التذكير هنا بأن
البحث كل البحث يقع في الرؤية البصرية،
أما ما يتحدث عنه الوالهون بحب الله
سبحانه وتعالى من الرؤية القلبية
الوجدانية فخارج عن محل البحث، كقول
الإمام علي(عليه السلام) : «ما رأيت شيئاً
إلاّ ورأيت الله قبله ومعه وفيه وبعده» [3] ،أو
قول الإمام الحسين(عليه السلام): في دعاء
عرفة: «عميت عين لا تراك عليها رقيباً» [4] .