أدلّة الاتّجاه الأوّل القائل
بالتجسيم والرؤية
وأصحاب هذا الاتجاه هم المجسمة
القائلون بأنّ الله سبحانه وتعالى جسم
كسائر الأجسام قابل للرؤية والمشاهدة في
الدنيا والآخرة ، مع التشبيه والتكييف،
وليس بين أيدينا الآن مصادر محايدة تذكر
أصحاب هذا الاتجاه وتراثهم الفكري،
وإنّما هناك نقولات وذكر لبعض أسمائهم في
مصادر غيرهم، كما مرّ في كلام الأشعري عن
مضر و كهمس. والظاهر أنّ هذا الاتجاه قد
اندحر بصورة مبكرة بعدما اتّضح بطلانه
ومخالفته الصريحة للعقل والوجدان والكتاب
والسنة، وقد بلغ بالقبح حدّاً بحيث أصبح
أصحاب الاتّجاه الثالث القائل بالتنزيه
يرمي أصحاب الاتّجاه الثاني بالتجسيم
والتشبيه، وإن كان هؤلاء يعدّون أنفسهم من
أهل التنزيه ويعلنون براءتهم من التجسيم
ويقولون بنفي الكيفية عن الله سبحانه
وتعالى. فنجد في بعض المؤلفات أسماء أشخاص
ينسبون الى التجسيم، وحينما تطالع آراءهم
تجدهم يقولون بنفي الكيفية ويعتبرون ذلك
كافياً لنفي التجسيم عنهم والحاقهم
بالتنزيه، بينما يصر أهل التنزيه على
ادراجهم في قائمة المجسمة اعتقاداً منهم
بأنّ نفي الكيفية لا يكفي في نفي التجسيم
كما سنرى ذلك تفصيلاً فيما بعد.
ولم أعثر على مصدر يبين أدلة
الاتّجاه الأوّل فيما ذهب إليه من القول
بالتجسيم الصريح سوى وجوه ذكرها
الباقلاني المتوفى سنة ( 403 هـ ) في كتابه
تهميد الأوائل وتلخيص الدلائل ، دون أن
يذكر مصدرها، بصيغة إن قالوا قلنا، أو قيل
لهم، ولا نعلم هل أنها مذكورة في تراثهم
فعلاً وقد عثر عليها ونقلها عنهم، أم أنها
وجوه افتراضية ذكرها لنقض كل المداخل
المحتملة لاثبات الجسمية؟ فقد كتب يقول:
«إن قال قائل: لم أنكرتم أن يكون
القديم سبحانه جسماً ؟ قيل له: لما
قدّمناه من قبل وهو أن حقيقة الجسم أنّه
مؤلف مجتمع، بدليل قولهم: رجل جسيم وزيد
أجسم من عمر، وعلماً بأنهم يقصرون هذه
المبالغ على ضرب من ضروب التأليف في جهة
العرض والطول ولا يوقعونها بزيادة شيء من
صفات الجسم سوى التأليف، فلما لم يجز أن
يكون القديم مجتمعاً مؤتلفاً وكان شيئاً
واحداً ثبت أنه تعالى ليس بجسم. فإن قالوا:
من أين استحال أن يكون القديم مجتمعاً
مؤتلفاً؟ قيل لهم: من وجوه:
أحدها: أن ذلك لو جاز عليه لوجب
أن يكون ذا حيِّز وشغل في الوجود، وأن
يستحيل أن يماسّ كلّ بعض من أبعاضه وجزء من
أجزائه غير ما ماسّه من الأبعاض وأجزاء
الجواهر أيضاً من جهة ما هما متماسان، لأن
الشيء المماس لغيره لا يجوز أن يماسّه
ويماسّ غيره من جهة واحدة وليس يقع هذا
التمانع من المماسة إلاّ للتحيّز والشغل،
ألا ترى أن العرض الموجود بالمكان إذا لم
يكن له حيّز وشغل لم يمنع وجوده من وجود
غيره من الأعراض في موضعه؟ وإذا ثبت ذلك،
وجب أن تكون سائر الأبعاض المجتمعة ذا
حيّز وشغل، وما هذه سبيله فلابدّ أن يكون
حاملاً للأعراض ومن جنس الجواهر
والأجسام، فلما لم يجز أن يكون القديم
سبحانه من جنس شيء من المخلوقات، لأنه لو
كان كذلك لسد مسدّ المخلوق وناب منابه
واستحق من الوصف لنفسه ما يستحقه ماهو
مثله لنفسه، فلما لم يجب أن يكون القديم
سبحانه مُحدثاً والمحدث قديماً ثبت أنه لا
يجوز أن يكون القديم سبحانه مؤتلفاً
مجتمعاً.
ويدلّ على ذلك أيضاً أنه لو كان
القديم سبحانه ذا أبعاض مجتمعة لوجب أن
تكون أبعاضه قائمة بأنفسها ومحتملة
للصفات ولم يخل كل بعض منها من أن يكون
عالماً قادراً حياً أو غير حي ولا عالم ولا
قادر، فإن كان واحد منها فقط هو الحي
العالم القادر دون سائرها وجب أن يكون ذلك
البعض منه هو الإله المعبود المستوجب
للشكر دون غيره، وهذا يوجب أن تكون
العبادة والشكر واجبين لبعض القديم دون
جميعه، وهذا كفر من قول الاُمّة كافة، وإن
كانت سائر أبعاضه عالمة حية قادرة وجب
جواز تفرّد كل شيء منها بفعل غير فعل
صاحبه، وأن يكون كل واحد منها إلهاً لما
فعله دون غيره، وهذا يوجب أن يكون الإله
أكثر من اثنين وثلاثة على ما تذهب إليه
النصارى، وذلك خروج عن قول الاُمّة وكل
اُمّة أيضاً على أن ذلك لو كان كذلك لجاز
أن تتمانع هذه الأبعاض ويريد بعضها تحريك
الجسم في حال ما يريد الآخر تسكينه، فكانت
لا تخلو عند الخلاف والتمانع من أن يتم
مرادها أو لا يتم بأسرها أو يتم بعضه دون
بعض، وذلك يوجب إلحاق العجز بسائر الأبعاض
أو بعضها والحكم لها بسائر الحدث على ما
بيّناه في الدلالة على إثبات الواحد، وليس
يجوز أن يكون صانع العالم محدثاً ولا شيء
منه، فوجب استحالة كونه مؤلّفاً.
فإن قالوا: فكذلك فجوّزوا تمانع
أجزاء الإنسان إذا قدر وأراد وتصرف كل شيء
منها بقدرة وإرادة غير إرادة صاحبه، قيل
له: لا يجب ذلك ولا يجوز أيضاً تمانع
الحيين المحدثين المتصرفين بإرادتين وإن
كانا متباينين، لقيام الدليل على أنه لا
يجوز أن يكون محلّ فعل المحدثين واحداً،
واستحالة تعدي فعل كل واحد منهما لمحل
قدرته، والتمانع بالفعلين لا يصح حتى يكون
محلهما واحداً ، فلم يجب ما سألتم عنه.
فإن قالوا : ولِمَ أنكرتم أن
يكون الباري سبحانه جسماً لا كالأجسام،
كما أنه عندكم شيء لا كالأشياء؟ قيل له:
لأن قولنا «شيء» لم يُبنَ لجنس دون جنس ولا
لإفادة التأليف، فجاز وجود شيء ليس بجنس
من أجناس الحوادث وليس بمؤلّف، ولم يكن
ذلك نقضاً لمعنى تسميته بأنه شيء، وقولنا
«جسم» موضوع في اللغة للمؤلَّف دون ما ليس
بمؤلَّف، كما أن قولنا: «إنسان» و«محدَث»
اسم لما وُجد عن عدم ولما له هذه الصورة
دون غيرها، فكما لم يجز أن نُثبت القديم
سبحانه مُحدَثاً لا كالمحُدَثات وإنساناً
لا كالناس قياساً على أنه شيء لا
كالأشياء، لم يجز أن نثبته جسماً لا
كالأجسام، لأنه نقض لمعنى الكلام وإخراج
له عن موضوعه وفائدته.
فإن قالوا: فما أنكرتم من جواز
تسميته جسماً وإن لم يكن بحقيقة ما وُضع له
هذا الاسم في اللغة؟ قيل لهم: أنكرنا ذلك،
لأن هذه التسمية لو ثبتت لم تثبت له إلاّ
شرعاً، لأن العقل لا يقتضيها بل ينفيها إن
لم يكن القديم سبحانه مؤلّفاً، وليس في
شيء من دلائل السمع من الكتاب والسنّة
وإجماع الاُمّة وما يُستخرج من ذلك ما يدل
على وجوب هذه التسمية ولا على جوازها
أيضاً، فبطل ما قلتموه.
فإن قالوا: ولم منعتم من جواز
ذلك وإن لم توجبوه؟ قيل له: أما العقل فلا
يمنع ولا يُحرّم ولا يُحيل إيقاع هذه
التسمية عليه تعالى وإن أحال معناها في
اللسان، وإنما تحرم تسميته بهذا الاسم
وبغيره مما ليس بأسمائه لأجل حظر السمع
لذلك، لأن الاُمّة مُجمعة على حظر تسميته
عاقلاً وفَطناً وإن كان بمعنى من يستحق
هذه التسمية; لأنه عالم وليس العقل والحفظ
والفطنة والدراية شيئاً أكثر من العلم،
وإجازة وصفه وتسميته بأنه نور وأنه ماكر
ومستهزئ وساخر من جهة السمع وإن كان العقل
يمنع من معاني هذه الأسماء فيه، فدل ذلك
على أن المراعي في تسميته ماورد به الشرع
والإذن دون غيره، وفي الجملة فإن الكلام
إنما هو في المعنى دون الاسم فلا طائل في
التعلل والتعلق بالكلام في الأسماء.
فإن قال قائل: ما أنكرتم أن يكون
جسماً على معنى أنه قائم بنفسه، أو بمعنى
أنه شيء، أو بمعنى أنه حامل للصفات، أو
بمعنى أنه غير محتاج في الوجود الى شيء
يقوم به؟ قيل له: لا ننكر أن يكون الباري
سبحانه حاصلاً على جميع هذه الأحكام
والأوصاف، وإنما ننكر تسميتكم لمن حصلت له
بأنه جسم، وإن لم يكن مؤلفاً، فهذا عندنا
خطأ في التسمية دون المعنى، لأن معنى
الجسم أنه المؤلف على ما بيّناه، ومعنى
الشيء أنه الثابت الموجود، وقد يكون جسماً
إذا كان مؤلفاً ويكون جوهراً إذا كان
جزءاً منفرداً، ويكون عَرضاً إذا كان مما
يقوم بالجوهر، ومعنى القائم بنفسه هو أنه
غير محتاج في الوجود الى شيء يوجد به،
ومعنى ذلك أنه مما يصح له الوجود وإن لم
يفعل صانعه شيئاً غيره إذا كان محدثاًويصح
وجوده وإن لم يوجد قائم بنفسه سواه إذا كان
قديماً ، وليس هذا من معنى قولنا «جسم»
و «مؤلَّف» بسبيل، فبطل ما قلتم.
فإن قالوا: ما أنكرتم أن يكون
معنى جسم ومعنى قائم بنفسه، وغير قائم
بغيره ومعنى أنه حامل للصفات هو معنى أنه
شيء، لأنه لو لم يكن معنى جسم ومعنى قائم
بنفسه وغير قائم بغيره، ومعنى أنه حامل
للصفات هو معنى شيء لجاز وجود شيء حامل
للصفات ليس بشيء وقائم بنفسه وغير قائم
بغيره وليس بجسم، ولو جاز ذلك لجاز وجود
جسم ليس بشيء ولا قائم بنفسه ولا حامل
للصفات، فلما لم يجز ذلك وجب أن يكون معنى
الجسم ما قلناه؟ يقال لهم: لو كان هذا
العكس الذي عكستموه صحيحاً واجباً لوجب أن
يكون معنى موجود محدث مؤلف مركب حامل
للأعراض معنى أنه شيء، لأنه لو لم يكن ذلك
كذلك لجاز وجود شيء ليس بموجود ولا مُحدث
ولا مؤلف ولا مركب ولا حامل للأعراض ولا
قائم بنفسه، ولو جاز ذلك لجاز وجود محدث
قائم بنفسه مركب مؤلف حامل للصفات ليس
بشيء ولا موجود، فلما لم يجز ذلك ثبت أن
معنى شيء غير معنى محدث مؤلف حامل
للأعراض، فإن لم يجب هذا لم يجب ما قلتموه.
مسألة: ويقال لهم: ما الدليل على
أن صانع العالم جسم؟
فإن قالوا: لأننا لم نجد في
الشاهد والمعقول فاعلاً إلاّ جسماً فوجب
القضاء بذلك على الغائب.
قيل لهم: فيجب على موضوع
استدلالكم هذا أن يكون القديم سبحانه
مؤلفاً محدثاً مصوراً ذا حيّز وقبول
للأعراض، لأنكم لم تجدوا في الشاهد
وتعقلوا فاعلاً إلاّ كذلك، فإن مرّوا على
ذلك تركوا قولهم وفارقوا التوحيد وإن أبوه
نقضوا استدلالهم» [7] .
ولو كان الوجود موجباً للرؤية
والتجسم في كل موجود كما تقول المجسمة
للزم من ذلك تجسيم الروح ورؤيتها ، وهم
حينئذ بين أمرين ، إما انكار وجود الروح
وإما الادّعاء بجسميتها، والأوّل يلزم
منه تكذيب القرآن الدال على وجود الروح،
والثاني يلزم منه كذبهم لثبوت عدم جسمية
الروح. وهذا المثال لا يوضّح بطلان فكرة
التجسيم فقط، وإنّما يوضّح تناقض فكرة
التجسيم مع جوهر الفكر الديني القائم على
أساس وجود عالم ما ورائي أسمى من المادة ،
وأن عدم جسمية ذلك العالم من جملة لوازم
سمّوه وتقدمه على المادّة.
إنّ المجسمة وإن كانوا يمثلون
اتّجاهاً منقرضاً إلاّ أن النقاش معهم
يهيئ الأرضية المناسبة للنقاش مع
الاتّجاه الثاني الذي فكك بين الرؤية
والجسمية فآمن بانتفاء الجسمية من جهة
وبإمكان رؤية الله بلا كيفية في الآخرة من
جهة ثانية، ولذا سننطلق في مناقشتنا مع
الاتّجاه الثاني من نقطة نفي جسمية الله
سبحانه وتعالى باعتبارها القاعدة
المشتركة بين القائلين بالتنزيه من أهل
الاتجاهين الثاني والثالث معاً .