احراق باب فاطمة و ضربها بالسوط
قال ابن قتيبة الدينوري: وخرج عليّ عليه السلام يحمل فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على دابة ليلاً في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، وكانوا يقولون: يا بنت رسول اللَّه، قد مضت بعيتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول عليّ عليه السلام: 'أفكنت أدع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في بيته لم أدفنه وأخرج اُنازع النّاس سلطانه؟'.
فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما اللَّه حسيبهم وطالبهم'، وساق الكلام إلى أن قال - بعد ذكر عدم بيعة عليّ عليه السلام -: فأتى عمر أبا بكر، فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ - وهو مولى له -: اذهب فادع لي عليّاً. قال: فذهب إلى عليّ عليه السلام فقال له: 'ما حاجتك؟'، فقال "قنفذ": يدعوك خليفة رسول اللَّه، فقال عليّ عليه السلام: 'لسريع ما كذّبتم على رسول اللَّه'، فرجع فأبلغ الرسالة، قال: فبكى أبو بكر طويلاً، فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلّف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقُنفذ: عُد إليه، فقل له: خليفة رسول اللَّه يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدّى ما أمر به، فرفع عليّ عليه السلام صوته فقال: 'سُبحان اللَّه لقد ادّعى ما ليس له'، فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة، فبكى أبوبكر طويلاً، ثمّ قام عمر فمشى، ومعه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة عليهاالسلام فدقّوا الباب، فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: 'يا أبت، يا رسول اللَّه، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب، وابن أبي قحافة'.
فلمّا سمع القوم صوتها وبكاءها انصرفوا باكين، وكادت قلوبهم تنصدع وأكبادهم تنفطر، وبقي عمر ومعه قوم، فأخرجوا عليّاً عليه السلام، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع، فقال: 'إن أنا لم أفعل فمه؟'، قالوا: إذاً واللَّه الّذي لا إله إلّا هو نضرب عنقك. فقال: 'إذاً تقتلون عبد اللَّه، وأخا رسوله!'. قال عمر: أمّا عبد اللَّه، فنعم، وأمّا أخو رسوله فلا، وأبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: ألا تأمر فيه بأمرك؟ فقال: لا اُكرهه على شي ء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق عليّ عليه السلام بقبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يصيح ويبكي وينادي: 'يا ابن اُمّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني'. [ الإمامة والسياسة 13:1.]
و في ذلك قال سليم بن قيس: فقال أبو بكر لعمر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذاً، فأرسله وأرسل معه أعواناً وانطلق فاستأذن على عليّ عليه السلام، فأبى أن يأذن لهم، فرجع أصحاب قُنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والنّاس حولهما - فقالوا: لم يؤذن لنا. فقال عمر: اذهبوا فإن أذن لكم، وإلّا فادخلوا بغير إذن، فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة عليهاالسلام: 'احرج عليكم أن تدخلوا علَيَّ بيتي بغير إذن، فرجعوا، وثبت قُنفذ الملعون، فقالوا: إنّ فاطمة قالت كذا وكذا، فتحرّجنا أن ندخل بيتها بغير إذن، فغضب عمر، وقال: ما لنا وللنساء.
ثمّ أمر اُناساً حوله أن يحملوا الحطب، فحملوا الحطب، وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل عليّ و فاطمة وابنيهما عليهم السلام، ثمّ نادى عمر حتّى أسمع عليّاً عليه السلام وفاطمة: واللَّه لتخرجنّ يا عليّ، ولتبايعنّ خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وإلّا أضرمت عليك النّار، فقالت فاطمة: 'يا عمر، ما لنا ولك؟'. فقال عمر: افتحي الباب، وإلّا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: 'يا عمر، أما تتّقي اللَّه، تدخل علَيَّ بيتي؟!'، فأبى أن ينصرف، ودعا عمر بالنّار فأضرمها في الباب، ثمّ دفعه فدخل، فاستقبلته فاطمة عليهاالسلام وصاحت: 'يا أبتاه يا رسول اللَّه'، فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت: 'يا أبتاه!'، فرفع السوط فضرب به ذراعها، فنادت: 'يا رسول اللَّه، لبئس ما خلفك أبو بكر وعمر'، فوثب عليّ عليه السلام فأخذ تلابيبه، ثمّ نتره فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمّ بقتله، فذكر قول رسول اللَّه وما أوصاه به، فقال عليه السلام: 'والّذي كرّم محمّداً بالنبوّة يابن صهّاك: لولا كتاب من اللَّه سبق، وعهد عهده إليَّ رسول اللَّه لعلمت أنّك لا تدخل بيتي'.
ثمّ قال سليم بن قيس: بعد ما وثب عليّ عليه السلام على عمر فأخذ بتلابيبه، ثمّ نتره فصرعه، ووجأ أنفه ورقبته، وهمّ بقتله، فأرسل عمر يستغيث، فأقبل النّاس حتّى دخلوا الدار، وثار عليّ عليه السلام إلى سيفه، فرجع قُنفذ إلى أبي بكر وهو يتخوّف أن يخرج عليّ عليه السلام بسيفه، لما قد عرف من بأسه وشدّته، فقال أبو بكر لقُنفذ: ارجع، فإن خرج، وإلّا فاقتحم عليه بيته، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم النّار، فانطلق قُنفذ الملعون فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وثار عليّ عليه السلام إلى سيفه، فسبقوه إليه، وكاثروه وهم كثيرون، فتناول بعض سيوفهم فكاثروه، فألقوا في عنقه حبلاً وحالت بينهم وبينه فاطمة عليهاالسلام عند باب البيت، فضربها قُنفذ الملعون بالسوط، فماتت حين ماتت، وإنّ في عضدها كمثل الدُملُج من ضربته لعنه اللَّه.
ثمّ انطلق بعليّ عليه السلام يُعتل [ انطلق" بالبناء للمجهول، و"يُعتل" بالبناء للمجهول، أي يجذب جذباً، ويجرّ جرّاً عنيفاً.] عتلاً حتّى انتُهيَ به إلى أبي بكر، وعمر قائم بالسيف على رأسه، وخالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجرّاح، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، والمغيرة بن شعبة، واُسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسائر النّاس حول أبي بكر، عليهم السلام، الحديث. [ كتاب سليم بن قيس: 37.]
وفي "تفسير العيّاشي" أورد حديثاً عن أحدهما "الامام الباقر أو الامام الصادق" عليهماالسلام، فيه: 'فأرسل إليه الثالثة ابن عمٍّ له لعمر رجلاً يقال له قُنفذ، فقامت فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عليها تحول بينها وبين عليّ عليه السلام فضربها فانطلق قُنفذ' الحديث. [ تفسير العيّاشي 307:2.]
والعجب من ابن أبي الحديد من ترديده في تلك المصائب المؤلمة لفاطمة عليهاالسلام بقوله: فأمّا حديث التحريق، وما جراه مجراه من الاُمور الفظيعة، وقول من قال: إنّهم أخذوا عليّاً عليه السلام يُقاد بعمامته والنّاس حوله، فأمر بعيدٌ، والشيعة تنفرد به، على أنّ جماعة من أهل الحديث قد رووا، وسنذكر ذلك. [ شرح ابن أبي الحديد 21:2.]
وقال في موضع آخر من كتابه: فأمّا الاُمور الشنيعة المستهجنة الّتي يذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة، وإنّه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدُّملج، وبقي أثره إلى أن ماتت، وإنّ عمر ضغطها بين الباب والجدار فصاحت: 'يا أبتاه، يا رسول اللَّه'، وألقت جنيناً ميّتاً، وجعل في عنق عليّ عليه السلام حبلٌ يُقاد به، وهو يعتلّ، وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان، وإنّ عليّاً لمّا اُحضر سلموه البيعة، فامتنع، فتهدّد بالقتل، فقال: 'إذن تقتلون عبد اللَّه، وأخا رسول اللَّه!!'، فقالوا: أمّا بعد عبداللَّه فنعم، وأمّا أخو رسول اللَّه فلا، وإنّه طعن في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر الّتي اجتمعوا عليها، وبأنّهم أرادوا أن ينفّروا ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليلة العقبة. قال ابن أبي الحديد: فكلّه لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه، وإنّما هو شي ء تنفرّد الشيعة بنقله. قال ابن ابى الحديد: فكلّه لا اصل له عند اصحابنا و لا يثبته احدٌ منهم و لا رواه اهل الحديث و لا يعرفونه إنّما هو شي ءٌ تنفرد الشيعة بنقله. [ المصدر المتقدّم: 60.]
أقول: العجب منه كيف ينكر حديث التحريق وما بعده، ويزعم أنّه ممّا انفردت به الشيعة، مع رواية الجوهري له، وكونه من الثقات المأمونين عند ابن أبي الحديد [ المصدر المتقدّم: 60.] وقد رواه غير واحد من رواتهم أيضاً مطابقاً لما روته الشيعة، منهم إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال: حدّثنا أحمد بن عمرو البجلي، قال: حدّثنا أحمد بن حبيب العاملي، عن أبي عبداللَّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام 'واللَّه ما بايع عليّ عليه السلام حتّى رأى الدُّخان قد دخل عليه بيته'. [ راجع شرح نهج البلاغة "للخوئي" 373:3.]
و أيضاً روى أحمد بن عبدالعزيز، قال: لمّا بُويعَ لأبي بكر كان الزبير والمقداد يختلفان في جماعة من النّاس إلى عليّ عليه السلام، وهو في بيت فاطمة، فيتشاورون ويتراجعون اُمورهم، فخرج عمر حتّى دخل على فاطمة عليهاالسلام وقال: يا بنت رسول اللَّه، ما من أحد من الخلق أحبّ إلينا من أبيك، وما من أحد أحبّ إلينا منك بعد أبيك، و أيم اللَّه، ما ذاك بما نعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بتحريق البيت عليهم.
فلمّا خرج عمر جاؤوها، فقالت: 'تعلمون أنّ عمر جاءني، وحلف لي باللَّه إن عُدتم ليحرقنّ عليكم البيت، و أيم اللَّه! ليمضينّ لما حلف له، فانصرفوا عنّا راشدين'، فلم يرجعوا إلى بيتها، وذهبوا فبايعوا لأبي بكر. [ شرح ابن أبي الحديد 45:2.]
وفي "العقد الفريد" لابن عبدربّه الأندلسي: أنّ عمر بن الخطّاب جاء إلى بيت فاطمة بقبس من نار، يُريد أن يُحرقه على مَن فيه، فلقيته فاطمة عليهاالسلام فقالت: 'يابن الخطّاب، أجئت لتحرق دارنا؟'، قال: نعم، الحديث. [ راجع: العقد الفريد 259:4.]
فكما ترى هذا الحديث عامّي، و ليس من منفردات الشيعة الامامية، و حيث انّ عليّاً عليه السلام لم يخرج من دار فاطمة لأنّ دارها داره أيضاً، وعمر حلف بالتحريق لو بقي في دارها عليهاالسلام أحد، وحيث كان عليّ عليه السلام في دارها عليهاالسلام ودار نفسها فإنّه أبرّ حلفه وأحرق بيت فاطمة عليهاالسلام، فليس إنكار ابن أبي الحديد هنا في محلّه، و قوله: إن نسبة التحريق لبيت فاطمة عليهاالسلام أو تهديده بالتحريق من منفردات الشيعة الامامية غير صحيح، بل الحق كما عن الشيعة ان التحريق و لا اقل تهديد عمر بالتحريف لبيت فاطمة عليهاالسلام قطعي و مسلم عن رواة الشيعة مجمع عليه، وصحيح وحقّ ووقع كما وقع.
و ممّا يؤيد ذلك أن عمر بن خطاب حين حكومته و ولايته أغرم جميع عمّاله غير قُنفذ مكافأة له: قال سليم بن قيس في كتابه: أنّ عمر بن الخطّاب اُغرم في بعض السنين جميع عمّاله أنصاف أموالهم لشعر أبي المختار [ كتب أبو المختار بن أبي الصعق إلى عمر هذه الأبيات:
ألا أبلغ أمير المؤمنين رسالة++
فأنت أمير اللَّه في المال والأمر
وأنت أمين اللَّه فينا ومن يكن++
أميراً لربّ النّاس يسلم له صدري
فلا تدعن أهل الرساتيق والقرى++
يخونون مال اللَّه في الأدم الحمر
إلى آخر أشعاره، راجع كتاب سليم بن قيس: 96.] ولم يغرم قُنفذ العدوي شيئاً، وقد كان من عمّاله، وردّ عليه ما أخذ منه، وهو عشرون ألف درهم، ولم يأخذ منه عشره ولا نصف عشره، إلى أن قال سليم: فلقيت عليّاً عليه السلام فسألته عمّا صنع عمر؟ فقال: 'هل تدري لِمَ كفَّ عن قنفذ ولم يغرمه شيئاً؟'، قال: 'لأنّه هو الّذي ضرب فاطمة بالسوط حين جاءت لتحول بيني وبينهم، فماتت عليهاالسلام وإنّ أثر السوط لفي عضدها مثل الدُملُج'. [ المصدر المتقدّم: 97.]
وقال سليم بسند آخر: انتهيت إلى حلقة في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ليس فيها إلّا هاشمي غير سلمان، وأبي ذرّ ومحمّد بن أبي بكر، وعمر بن أبي سلمة، وقيس بن عبادة، فقال العبّاس لعليّ عليه السلام: ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذاً كما أغرم جميع عمّاله؟ فنظر عليّ عليه السلام إلى من حوله ثمّ اغر و رقّت عيناه ثمّ قال: 'شكراً له ضربهً ضربها فاطمة بالسوط، فماتت وفي عضدها أثره كأنّه الدُملج'. [ كتاب سليم بن قيس: 98.]
شهادة فاطمة ودفنها ليلاً
من أهم مظلوميّة عليّ عليه السلام تحملّه شهادة فاطمة عليهاالسلام في عنفوان الشباب و تجهيزها و دفنها ليلاً و خفاءً، و قد تواترت الأخبار من طريقي الخاصّة والعامّة أنّ فاطمة عليهاالسلام لسخطها على أبي بكر وعمر أوصت أن تدفن ليلاً لئلّا يُصلّيا عليها و لا يحضرا جنازتها. [ مرآة العقول 322 - 321 :5، وراجع: الشافي في الإمامة 114:4.]
في مرآة العقول في شرح الكافي للمجلسي عن "الشافي" للسيد المرتضى عن الطبري قال: أنّ فاطمة دفنت ليلاً ولم يحضرها إلّا العبّاس وعليّ والمقداد والزبير. [ المصدران المتقدّمان.]
و فيه أيضاً عن القاضي أبو بكر، بإسناده في تاريخه عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشة: أنّ فاطمة عاشت بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ستّة أشهر، فلمّا توفّيت دفنها عليّ عليه السلام ليلاً وصلّى عليها عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وذكر في كتابه هذا أنّ أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام دفنوها ليلاً وغيّبوا قبرها. [ المصدران المتقدّمان.]
و فيه أيضاً عن البلاذري في تاريخه: إنّ فاطمة لم تُر مُتبسمةً بعد وفاة رسول اللَّه، ولم يُعلم أبو بكر وعمر بموتها. [ المصدران المتقدّمان.]
وفي "الكافي": عن الحسين بن عليّ عليه السلام، قال: 'لمّا قُبضت فاطمة دفنها أمير المؤمنين سرّاً، وعفا على موضع قبرها، ثمّ قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنِّي، وَعَنِ ابْنَتِكَ وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار اللَّه لها سرعة اللّحاق بك، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وعفا عن سيّدة نساء العالمين تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ لي فِي التَّأَسِّيِ بسنَّتِك في فرقتك موضع تعزّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ نَفْسُكَ بَيْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي، بلى وفي كتاب اللَّه "لي" أنعم القبول، 'إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ'. قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ، وَأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ! واُخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول اللَّه، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَأَمَّا لَيْلِي فَمُسْهَّدٌ، وهَمَّ لا يبرج من قلبي أو يَخْتَارَ اللَّهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَ نْتَ فيها مُقِيمٌ. كُمَدٌ [ الكمد: الحزن الشديد.] مقيّحٌ [ القيح: المدّة لا يخالطها دم.] و هَمٌّ مَهيج سرعان ما فُرِّقَ بيننا وإلى اللَّه أشكو، وَسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا [ الهضم: الظلم والغصب.] فَأَحْفِهَا [ احفاء السؤال: استقصاؤه.] السُّؤَالَ، وَاسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ؛ فكَم مِن غَليلٍ مُعتلجٍ بصدرِها، لم تجد إلى بثّه سَبِيلاً، وَستَقُولُ ويَحكمُ اللَّه وَهُوَ خيرُ الحاكمين.
سَلَامَ مُوَدِّعٍ، لَا قَالٍ وَلَا سَئمٍ، فَإِنْ أَ نْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وَإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ الصَّابِرِين. [ وفي النهج روى الحديث إلى هنا مع تفاوت في بعض ألفاظه، فراجع الخطبة 202، ولفظ الحديث عن الكافي.] واه واهاً والصبرُ أيمَن وأجمَل، ولولا غَلبةُ المُستَولين لجَعَلْتُ المُقام واللَّبث لزاماً مَعكُوفاً، ولأعولتُ إعوال الثكلى عَلى جليل الرزيّة، فبعين اللَّه تُدفَنُ ابنتك سِرّاً وتُهضم حقّها، وتُمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يخلق منك الذِّكر، وإلى اللَّه - يا رسول اللَّه - المشتكى، وفيك يا رسول اللَّه أحسنُ العزاء، صلّى اللَّه عليك وعليها السلام والرضوان'. [ اُصول الكافي 458:1.]
من هذه الخطبة عند مدفن فاطمة عليهاالسلام تستفاد شدّة حزن عليّ عليه السلام و ألمه في ظلمهم على فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، اما ليس في تحمّل هذه الامور الا الصبر فى اللَّه تعالى و ارجاع الأمر إليه تعالى.