الطرمّاح بن عديّ الطائي عند معاوية وله لسان طلق
الطرمّاح هو أخو حجر بن عديّ، كان من كبار أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، وكان رجلاً مفوّهاً طوالاً، ورسوله إلى معاوية، وروى المفيد في "الاختصاص": كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد يا عليّ لأضربنّك بشهاب قاطع لا يدكنه الريح [ في بعض النسخ: 'لا يذكيه الريح'.] ولا يطفئه الماء إذا اهتزّ وقع، وإذا وقع نقب، والسلام.
فلمّا قرأ عليّ عليه السلام كتابه دعا بداوة وقرطاس ثمّ كتب: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد يا معاوية فقد كذبتَ، أنا عليّ بن أبي طالب، وأنا أبو الحسن والحسين، قاتل جدّك وعمّك وخالك، وأنا الّذي أفنيتُ قومك في يوم بدر ويوم الفتح و يوم اُحد، وذلك السيف بيدي، تحمله ساعدي بجرأة قلبي كما خلّفه النبيّ صلى الله عليه و آله بكفّ الوصيّ، لم أستبدل باللَّه ربّاً وبمحمّد صلى الله عليه و آله نبيّاً وبالسيف بدلاً، والسلام على مَن اتّبع الهدى'.
ثمّ طوى الكتاب ودعا الطرماح بن عديّ الطائي، فقال له: 'خذ كتابي هذا فانطلق به إلى معاوية وردّ جوابه'، فأخذ الطرماح الكتاب، ودعا بعمامة فلبسها فوق قلنسوته، ثمّ ركب جملاً بازلاً [ بزل البعير: فطرنا به أي انشقّ، فهو بازل ذكراً كان أو اُنثى، وذلك في السنة التاسعة، وربّما بزل في السنّة الثامنة.] فتيقاً [ جمل فتيق: إذا انفتق سمناً، وفي بعض النسخ: فنيقاً - بالنون - والفنيق: الفحل المكرّم.] مشرفاً عالياً في الهواء، فسار حتّى نزل مدينة دمشق، فسأل عن قوّاد معاوية، فقيل له: مَن تُريد منهم؟ فقال: اُريد جَروَلاً [ الجرول - كجعفر -: الحجارة.] وجهضماً [ الجهضم: الضخم الهامة، المستدير الوجه، والرحب الجنبين، الواسع الصدر.] وصلادة [ صلد يصلد - كشرف يشرف -: بخل، وصلد: أي صلب، ورجل صلد: أي بخيل.] وقلاوة، وسوادة وصاعقة [ ولعلّه أراد بتلك الأسماء خواصّ معاوية أو خدمه، ويكون ذلك نبزاً واستهزاءً بهم، أو الجرول صفة أبي المنايا، والجهضم صفة أبي الحتوف،وهلمّ جرّاً.] أبا المنايا، وأبا الحتوف، وأبا الأعور السلمي، وعمرو بن العاص، وشمر بن ذي الجوشن، والهدى بن محمّد بن الأشعث الكندي؟
فقيل: إنّهم يجتمعون عند باب الخضراء، فنزل وعقل بعيره وتركهم حتّى اجتمعوا فركب إليهم، فلمّا بصروا به قاموا إليه يهزؤون به، فقال واحد منهم، يا أعرابي، أعندك خبرٌ من السماء؟ قال: نعم، جبرئيل في السماء، وملك الموت في الهواء، وعليّ في القضاء. فقالوا له: يا أعرابي، من أين أقبلتَ؟ قال: من عند التقيّ النقيّ إلى المنافق الرديّ، فقالوا: يا أعرابي، فما تنزل إلى الأرض حتّى نشاورك؟ قال: واللَّه ما في مشاورتكم بركة، ولا مثلي يشاور أمثالكم. قالوا: يا أعرابي فإنّا نكتب إلى يزيد بخبرك - وكان يزيد يومئذٍ وليُّ عهدهم - فكتبوا إليه: أمّا بعد يا يزيد، فقد قدم علينا من عند عليّ بن أبي طالب أعرابي له لسان يقول فيما يملّ، ويكثر فما يكلّ، والسلام.
فلمّا قرأ يزيد الكتاب، أمر أن يهوّل عليه، وأن يقام له سماطان بالباب بأيديهم أعمدة الحديد، فلمّا توسّطهم الطرماح، قال: مَن هؤلاء كأنّهم زبانية مالك، في ضيق المسالك، عند تلك الهوالك؟
قالوا: اُسكت هؤلاء أعدّوا ليزيد، فلم يلبث أن خرج يزيد، فلمّا نظر إليه، قال: السلام عليك يا أعرابي، قال: اللَّه السلام المؤمن المهيمن، وعلى ولد أمير المؤمنين. قال: إنّ أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام. قال: سلامه معي من الكوفة. قال: إنّه يعرض عليك الحوائج، قال: أمّا أوّل حاجتي إليه فنزع روحه بين جنبيه، وأن يقوم من مجلسه حتّى يجلس فيه من هو أحقّ به وأوْلى منه. قال له: يا أعرابي، فإنّا ندخل عليه فما فيك حيلة، قال: لذلك قدمت، فاستأذن له على أبيه، فلمّا دخل على معاوية، نظر إلى معاوية والسرير، قال: السلام عليك أيّها الملك. قال: وما منعك أن تقول: يا أمير المؤمنين؟ قال: نحن المؤمنون فمن أمرك علينا؟ فقال: ناولني كتابك، قال: إنّي لأكره أن أطأ بساطك. قال: فناوله وزيري. قال: خان الوزير وظلم الأمير. قال: فناوله غلامي. قال: غلام سوء اشتراه مولاه من غير حلّ، واستخدمه في غير طاعة اللَّه. قال: فما الحيلة يا أعرابي؟ قال: ما يحتال مؤمن مثلي لمنافق مثلك، قُم صاغراً فخذه، فقام معاوية صاغراً، فتناوله ثمّ فضّه، وقرأ ثمّ قال: يا أعرابي كيف خلّفتَ عليّاً؟ قال: خلّفته واللَّه جلداً، حريّاً، ضابطاً، كريماً، شجاعاً، جواداً، لم يلق جيشاً إلّا هزمه، ولا قرناً إلّا أرداه، ولا قصراً إلّا هدمه. قال: فكيف خلّفتَ الحسن والحسين؟ قال: خلّفتهما عليهماالسلام صحيحين، فصيحين، كريمين، شجاعين، جوادين، شابّين، طريّين مصلحين للدنيا والآخرة. قال: فكيف خلّفت أصحاب عليّ؟ قال: خلّفتهم وعليّ عليه السلام بينهم كالبدر وهم كالنجوم، إن أمرهم ابتدروا، وإن نهاهم ارتدعوا.
فقال له: يا أعرابي ما أظنّ بباب عليّ أحداً أعلم منك. قال: ويلك استغفر ربّك وصم سنة كفّارة لما قلت، كيف لو رأيت الفصحاء الاُدباء النطقاء، ووقعت في بحر علومهم لغرقتَ يا شقيّ. قال: الويل لاُمّك. قال: بل طوبى لها ولدت مؤمناً يغمز منافقاً مثلك. قال له: يا أعرابي، هل لك في جائزة؟ قال: أرى استنقاص روحك، فكيف لا أرى استنقاص مالك [ في بعض نسخ الحديث: 'استقباض روحك من جسدك فكيف باستقباض مالك'.] فأمر له بمائة ألف درهم.
قال: أزيدك يا أعرابي؟ قال: أسديداً سُد أبداً [ في البحار: أعطه نعمة تكون أبداً سيّداً للقوم، وفي بعض النسخ: 'سديداً، سديداً'.] فأمر له بمائة ألف اُخرى، فقال: ثلّثها فإنّ اللَّه فرد، ثمّ ثلّثها. فقال: الآن ما تقول؟ فقال: أحمدُ اللَّه واُذمُّكَ، قال: ولِمَ ويلك؟ قال: لأنّه لم يكن لك ولا لأبيك ميراث، إنّما هو من بيت مال المسلمين أعطيتنيه. ثمّ أقبل معاوية على كاتبه فقال: اُكتب للأعرابيّ جواباً فلا طاقة لنا به. فكتب: أمّا بعد يا عليّ فلأوجهنّ إليك أربعين حملاً من خردل مع كلّ خردلة ألف مقاتل، يشربون الدجلة ويسقون الفرات، فلمّا نظر الطرمّاح إلى ما كتب به الكاتب، أقبل على معاوية، فقال له: سوءة لك يا معاوية، فلا أدري أيّكما أقلُّ حياءً أنت أم كاتبك؟ ويلك لو جمعتَ الجنّ والإنس وأهل الزبور والفرقان كانوا لا يقولون بما قلت. قال معاوية: ما كتبه عن أمري.
قال: إن لم يكن كتبه عن أمرك فقد استضعفك في سلطانك، وإن كان كتبه بأمرك فقد استحييتُ لك من الكذب، أمِن أيّهما تعتذر ومن أيّهما تعتبر؟ أما إنّ لعليّ صلى الله عليه و آله دِيكاً أشتراً، جيّد العنصر يلتقط الخردل لجيشه وجيوشه، فيجمعه في حوصلته. قال معاوية: ومَن ذلك يا أعرابي؟ قال: ذلك مالك بن الحارث الأشتر، ثمّ أخذ الكتاب والجائزة وانطلق به إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأقبل معاوية على أصحابه، فقال: نرى لو وجهتكم بأجمعكم في كلّ ما وجّه به صاحبه ما كنتم تؤدُّون عنّي عُشرَ عشير ما أدّى هذا عن صاحبه. [ الاختصاص: 138.]
معاوية يستميل أبا اُمامة الباهلي بالإكرام ليردّه عن محبّة عليّ
روى المحدّث القمّي في "السفينة": أنّه دخل أبو اُمامة الباهلي على معاوية فقرّبه وأدناه، ثمّ دعا بالطعام فجعل يطعم أبا اُمامة بيده، ثمّ أوسع رأسه ولحيته طيباً بيده، وأمر له ببدرة من دنانير فدفعها إليه، ثمّ قال: يا أبا اُمامة، باللَّه أنا خيرٌ أم عليّ بن أبي طالب؟ فقال أبو اُمامة: نعم، ولا كذب، ولو بغير اللَّه سألتني لصدقتُ، عليّ واللَّه خير منك، وأكرم وأقدم إسلاماً، وأقرب إلى رسول اللَّه قرابة، وأشدّ في المشركين نكاية، وأعظم عند الاُمّة عناءً، أتدري مَن عليّ عليه السلام يا معاوية؟ ابن عمّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وزوج ابنته سيّدة نساء العالمين، وأبو الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة، وابن أخي حمزة سيّد الشهداء، وأخو جعفر ذي الجناحين، فأين تقع أنت من هذا، يا معاوية، أظننت أنّي ساُخيّرك على عليّ عليه السلام بألطافك وطعامك وعطائك، فأدخل إليك مؤمناً، وأخرج منك كافراً، بئسما سوّلت لك نفسك يا معاوية، ثمّ نهض وخرج من عنده فأتبعه بالمال، فقال: لا واللَّه لا أقبل منك ديناراً واحداً. [ سفينة البحار 669:1.]