سوره تکاثر، آيه 8
في قوله تعالى: "ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم" |التكاثر: 8|.
تفرّعت آراء ذوي الأفهام، وتشعّبت أفكار المفسّرين والعلماء الأعلام، في تفسير معنى النعيم الذي يسأل عنه العباد يوم القيامة، منهم من يقول إنّه: نعمة شرب الماء البارد، ومنهم من يقول: نعمة الرقود تحت الظل، ومنهم من يقول: نعمة الأسودين، الماء والتمر، ومنهم من يقول: نعمة الصحة والأمن، إلى ما هنالك من الأقوال المختلفة المعاني، والألفاظ المتفرقة المباني، حتى إن أبا حنيفة التجأ سائلاً إلى أبي عبدالله"عليه السلام"عن معنى هذا النعيم، كما رواه الطبرسي في تفسيره |9ـ 10: 534 ط. دار إحياء التراث العربي|عن العياشي بإسناده في حديث طويل قال: 'سأل أبو حنيفة أبا عبدالله"عليه السلام" عن هذه الآية، فقال"عليه السلام" له: ما النعيم عندك يا نعمان؟ قال: القوت من الطعام والماء البارد. فقال"عليه السلام": لئن أوقفك الله يوم القيامة بين يديه حتى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها، وشربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه. قال: فما النعيم جعلت فداك؟ قال"عليه السلام": نحن أهل بيت النعيم الّذي أنعم الله بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألّف الله بين قلوبهم، وجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداء، وبنا هداهم الله للإسلام، وهي النعمة التي لا تنقطع، والله سائلهم عن حق النعيم الّذي أنعم الله به عليهم، وهو النبيّ"صلى الله عليه وآله" وعترته'.
وروى القندوزي في 'ينابيع المودة' |ص111|: عن الحافظ أبي نعيم بسنده عن جعفر الصّادق"عليه السلام" في هذه الآية قال"عليه السلام": 'النعيم، ولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه'. وعن الحاكم بن أحمد البيهقي قال: حدثنا محمد بن يحيى الصوفي، قال: حدّثنا أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل، قال: حدّثني إبراهيم بن العبّاس الصولي الكاتب بالأهواز سنة سبع وعشرين ومائتين قال: كنا يوماً بين يدي عليّ بن موسى الرضا"عليه السلام"قال له بعض العلماء: إن النعيم في هذه الآية هو الماء البارد، فقال له الرضا"عليه السلام" بارتفاع صوته: 'كذا فسّرتموه أنتم، وجعلتموه على ضروب، فقالت طائفة: هو الماء البارد، وقال آخرون: هو النوم، وقال غيرهم: هو الطعام الطيب، ولقد حدّثني أبي، عن أبيه جعفر بن محمد"عليهم السلام"إذ أقوالكم هذه ذكرت عنده فغضب، وقال: إنّ الله عزّوجلّ لا يسأل عباده عما تفضّل عليهم به، ولا يمنّ بذلك عليهم، وهو مستقبح من المخلوقين كيف يضاف إلى الخالق، جلت عظمته ما لا يرضى للمخلوقين؟ ولكن النعيم: حبّنا أهل البيت وموالاتنا، يسأل الله عنه بعد التوحيد لله ونبوّة رسوله"صلى الله عليه وآله" لأن العبد إذا وافى بذلك أدّاه إلى نعيم الجنة الذي لا يزول. قال أبي موسى"عليه السلام": لقد حدّثني أبي جعفر، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب"عليهم السلام" قال: قال رسول الله"صلى الله عليه وآله": يا عليّ إن أوّل ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك وليّ المؤمنين بما جعله الله وجعلته لك، فمن أقرّ بذلك وكان معتقده، صار إلى النعيم الّذي لا زوال له'.
وفي المناقب أيضاً عن الأصبغ بن نباتة، عنه |أي الرضا"عليه السلام"| قال"عليه السلام": 'نحن النعيم الّذي كان في هذه الآية'. وأيضاً عن الباقر"عليه السلام" قال: 'ما هو الطعام والشراب، ولكن هو ولايتنا'. وأيضاً عن الكاظم"عليه السلام" قال: 'نحن نعيم المؤمن، وعلقم الكافر'.
وفي تفسير الميزان |20: 353|: عن تفسير القمي بإسناده عن جميل عن أبي عبدالله"عليه السلام" قال: قلت له: "لتسألن يومئذ عن النعيم" قال"عليه السلام": 'تسأل هذه الاُمّة عما أنعم الله عليها برسوله، ثم بأهل بيته'.
وعن الكافي بإسناده عن أبي حامد الكابلي قال: 'دخلت على أبي جعفر"عليه السلام"فدعا بالغداء فأكلت معه طعاماً ما أكلت طعاماً أطيب منه قطّ ولا ألطف، فلما فرغنا من الطعام قال"عليه السلام": يا أبا خالد كيف رأيت طعامك؟ أو قال: طعامنا؟ قلت: جعلت فداك، ما أكلت طعاماً أطيب منه قطّ ولا ألطف [في المصدر: ولا أنظف قطّ.]، ولكن ذكرت الآية التي في كتاب الله: "ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم" فقال أبو جعفر"عليه السلام": إنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق'.
وفيه بإسناده عن أبي حمزة قال: كنا عند أبي عبدالله"عليه السلام" جماعة، فدعا بطعام ما لنا عهد بمثله لذاذةً وطيباً، واتينا بتمر تنظر فيه أوجهنا من صفائه وحسنه، فقال رجل: لتسألنّ عن هذا النعيم الذي تنعّمتم به عند ابن رسول الله، فقال أبو عبدالله"عليه السلام": 'إن الله عزّوجلّ أكرم وأجلّ أن يطعم طعاماً فيسوّغكموه ثمّ يسألكم عنه، إنما يسألكم عمّا أنعم عليكم بمحمّد وآل محمّد"صلى الله عليه وآله"'.
قال المؤلّف: أقول: وهذا المعنى مرويّ عن أئمه أهل البيت"عليهم السلام" بطرق اُخرى وعبارات مختلفة، وفي بعضها أن النعيم ولايتنا أهل البيت، ويؤوّل المعنى إلى ما قدمناه من عموم النعيم لكلّ نعمة أنعم الله بها بما أنها نعمة.
وبيان ذلك: أن هذه النعم لو سئل عن شيء منها فليست يسأل عنها بما أنّها لحم أو خبز أو تمر أو ماء بارد، أو أنها سمع أو بصر أو يد أو رجل مثلاً، وإنما يسأل عنها بما أنّها نعمة خلقها الله للإنسان، وأوقعها في طريق كماله، والحصول على التقرّب العبوديّ، كما تقدّمت الإشارة إليه، وندبه إلى أنّ يستعملها شكراً لا كفراً. فالمسؤول عنها هي النعمة بما أنّها نعمة، ومن المعلوم أنّ الدالّ على نعيميّة النعيم وكيفية استعماله شكراً، والمبيّن لذلك كلّه هو الدّين الّذي جاء به النبي"صلى الله عليه وآله" ونصب لبيانه الأئمة من أهل بيته، فالسؤال عن النعيم مرجعه السؤال عن العمل بالّدين في كل حركة وسكون. ومن المعلوم أيضاً أنّ السؤال عن النعيم الذي هو الدين، سؤال عن النبي"صلى الله عليه وآله" والأئمة من بعده، الذين افترض الله طاعتهم، وأوجب اتباعهم في السلوك إلى الله، الذي طريقه استعمال النعيم كما بيّنه الرسول والأئمة صلّى الله عليه وعليهم.
والى كون السؤال عن النعيم سؤالاً عن الدين، يشير ما في رواية أبي خالد من قوله: 'وإنما يسألكم عما أنتم عليه من الحق' وإلى كونه سؤالاً عن النعيم الذي هو النبي وأهل بيته صلّى الله عليه وعليهم، يشير ما في روايتي جميل وأبي حمزة السابقتين من قوله: 'يسأل هذه الاُمّة عما أنعم الله عليها برسوله ثم بأهل بيته'. وما في معناه... "الخ".
سوره نور، آيه 35
في قوله تعالى: "اللهُ نُورُ السَماوَاتِ والأرضِ مَثَلُ نُورِهِ كمشكاة فيهـا مـصـبـاحٌ"|النور: 35|.
قال الطبرسي في تفسيره 'مجمع البيان' |7ـ 8: 142 ط. دار إحياء التراث العربيـ بيروت|: في قوله تعالى: "الله نور السماوات والأرض" اختلف في معناه على وجوه:أحدها:الله هادي أهل السماوات والأرض إلى ما فيه من مصالحهم، عن ابن عباس.
والثاني: الله نور السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم، عن الحسن وأبي العالية والضحاك.
والثالث: مزيّن السماوات بالملائكة، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء، عن ابّي بن كعب.
وقوله تعالى: "مثل نوره" فيه وجوه:
أحدها: أن المعنى: مثل نور الله الذي هدى به المؤمنين، وهو الإيمان في قلوبهم. عن ابّي بن كعب والضحاك، وكان أبي يقرأ: مثل نور من آمن به.
الثاني: مثل نوره الذي هو القرآن في القلب، عن ابن عبّاس والحسن وزيد بن أسلم.
والثالث: أنّه عنى بالنور: محمّد"صلى الله عليه وآله" وأضافة الى نفسه تشريفاً له، عن كعب وسعيد ابن جبير.
والرابع: أنّ نوره سبحانه: الأدلّة الدالّة على توحيده وعدله، التي هي في الظهور والوضوح مثل النور، عن أبي مسلم.
والخامس: أن النور هنا: الطاعة، أي مثل طاعة الله في قلب المؤمن، عن ابن عبّاس في رواية اُخرى.
وقوله تعالى: "كمشكاة فيها مصباح".
المشكاة: هي الكوّة في الحائط، يوضع عليها زجاجة، ثم يكون المصباح خلف تلك الزجاجة، ويكون للكوّة باب آخر يوضع المصباح فيه.
وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة، وهو مثل الكوّة، والمصباح السراج.
وقيل: المشكاة: القنديل، والمصباح الفتيلة.... 'إلى أنّ قال': وقد قيل أيضاً: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمّد"صلى الله عليه وآله"كما سمّي سراجاً في موضع آخر.
وقوله تعالى: "من شجرة مباركة" يعني: إبراهيم، لأن أكثر الأنبياء من صلبه "لا شرقية ولا غربية" لا يهودية ولا نصرانية. لأن النصارى تصلّي إلى المشرق، واليهود تصلّي إلى المغرب. "يكاد زيتها يضيء" أي يكاد محاسن محمّد"صلى الله عليه وآله" تظهر قبل أن يوحى إليه. "نور على نور" أي نبي من نسل نبي، عن محمّد بن كعب.
وقيل: إن المشكاة: عبد المطلب، والزجاجة: عبدالله، والمصباح: هو النبيّ"صلى الله عليه وآله" "لا شرقية ولا غربية" بل مكّية، لأن مكّة وسط الدنيا، عن الضحاك.
وروي عن الرضا"عليه السلام" أنّه قال: 'نحن المشكاة فيها، والمصباح: محمّد"صلى الله عليه وآله"يهدي الله لولايتنا من أحب'.
وفي كتاب 'التوحيد' لأبي جعفر بن بابويه"رحمه الله" بالإسناد عن عيسى بن راشد عن أبي جعفر الباقر"عليه السلام" في قوله: "كمشكاة فيها مصباح" قال: 'نور العلم في صدر النبيّ"صلى الله عليه وآله"المصباح في زجاجة"، الزجاجة: صدر عليّ"عليه السلام" صار علم النبي"صلى الله عليه وآله" إلى صدر عليّ"عليه السلام"، علّم النبي"صلى الله عليه وآله" علياً"عليه السلام". "يوقد من شجرة مباركة": نور العلم. "لا شرقية ولا غربية": لا يهودية ولا نصرانية. "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار" قال: يكاد العالم من آل محمد"صلى الله عليه وآله"يتكلم بالعلم قبل أنّ يسأل. "نور على نور" أي: إمام مؤيد بنور العلم والحكمة، في أثر إمام من آل محمّد"صلى الله عليه وآله" وذلك من لدن آدم"عليه السلام" إلى أن تقوم الساعة. فهؤلاء الأوصياء، الذين جعلهم الله خلفاء في أرضه، وحججه على خلقه، لا تخلو الأرض في كل عصر من واحد منهم'. ويدلّ عليه قول أبي طالب في رسول الله"صلى الله عليه وآله":
أنت الأمين محمَّد++
قرم أغر مسوّد
لمسوّدين أطاهر++
كرموا وطاب المولد
أنت السعيد من السّعود++
تكنفتك الأسعد
من لدن آدم لم يزل++
فينا وصيّ مرشد
ولقد عرفتك صادقاً ++
والقول لا يتفند
ما زلت تنطق بالصواب++
وأنت طفلٌ أمرد [مجمع البيان 7ـ 8: 143 ط. دار إحياء التراث العربي.]وفي مناقب الحافظ ابن المغازلي الشافعي |ص201| قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب إجازةً، أنّ أبا أحمد عمر بن عبدالله بن شوذب أخبرهم قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن زياد، حدّثنا أحمد بن الخليل ببلخ، حدّثني محمّد بن أبي محمود، حدّثنا يحيى بن أبي معروف، حدّثنا محمد بن سهل البغداديّ، عن موسى بن القاسم عن عليّ بن جعفر قال: سألت أبا الحسن"عليه السلام" عن قول الله عزوجل: "كمشكاة فيها مصباح" قال"عليه السلام": "صلى الله عليه وسلم"المشكاة: فاطمة، والمصباح: الحسن والحسين "الزجاجة كأنها كوكب درّيّ" قال: كانت فاطمة كوكباً دريّاً من نساء العالمين. "يوقد من شجرة مباركة" الشجرة المباركة: إبراهيم."لا شرقية ولا غربية": لا يهودية ولا نصرانية. "يكاد زيتها يضيء"قال: يكاد العلم أن ينطق منها. "ولو لم تمسسه نار نور على نور" قال: فيها إمام بعد إمام. "يهدى الله لنوره من يشاء" قال: يهدى الله عزّوجلّ لولايتنا من يشاء.
ورواه أيضاً الإمام المظفر في كتابه 'دلائل الصدق' |2: 306|: من طريق الحسن البصري.
وفي تفسير 'الميزان' |15: 152 ط. دار الكتب الاسلامية| قال الطباطبائي: وفي 'التوحيد': وقد روي عن الصادق"عليه السلام" أنه سئل عن قول الله عزّوجلّ: "الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" فقال: 'هو مثل ضربه الله لنا، فالنبيّ"صلى الله عليه وآله" والأئمة صلوات الله عليه وعليهم من دلالات الله وآياته التي يهتدى بها إلى التوحيد ومصالح الدّين وشرائع الإسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم'.
ثم قال: أقول: الرواية من قبيل الإشارة إلى بعض المصاديق، وهو من أفضل المصاديق وهو النبي"صلى الله عليه وآله" والطاهرون من أهل بيته"عليهم السلام"، وإلاّ فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الأنبياء"عليهم السلام"، والأوصياء والأولياء.
وقد وردت عدّة من الأخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي"صلى الله عليه وآله" وأهل بيته"عليهم السلام"، وهي من التطبيق دون التفسير، ومن الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق، كرواية الكليني في 'روضة الكافي' بإسناده عن جابر عن أبي جعفر"عليه السلام"وفيها: 'أنّ المشكاة: قلب محمّد"صلى الله عليه وآله"، والمصباح: النور الذي فيه العلم. والزجاجة: عليّ أو قلبه. والشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية: إبراهيم"عليه السلام" ما كان يهودياً ولا نصرانياً. وقوله: "يكاد زيتها يضيء" الخ: يكاد أولادهم أن يتكلّموا بالنبوّة وإن لم ينزل عليهم ملك'.
وما رواه في 'التوحيد' بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر"عليه السلام" وفيه: 'أن المشكاة: نور العلم في صدر النبي"صلى الله عليه وآله". والزجاجة: صدر عليّ"عليه السلام" "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار": يكاد العالم من آل محمد"صلى الله عليه وآله" يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل. "نور على نور": إمام مؤيّد بنور العلم والحكمة في أثر الامام من آل محمد'.
وفي الدر المنثور |7: 201|: عن ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي"صلى الله عليه وآله" في قوله: "زيتونة لا شرقية ولا غربية" قال: قلب إبراهيم لا يهودي ولا نصراني.