مسائل حول الفضائل
المقدمة
الحمد لله و سلام علي عباده الذين اصطفي.
وبعد: فقد عُرف شيخنا العلّامة المحدّث أبواليسر، جمال الدين السيّد عبدالعزيز بن محمّد الصدّيق الحسني الغماري المغربيّ الطَّنجيّ
[
وُلد رحمه اللَّه في شهر جمادى الأولى سنة "1338ه" بثغر طنجة من بلاد المغرب الأقصى من والدين شريفين. طلب العلم في صغره بمسقط رأسه، ثمّ في سنة "1355ه" سافر إلى القاهرة فأخذ عن أكابر شيوخها، ونشر أبحاثاً علميّةً جمّةً، وألّف الكتب والرسائل العلميّة المختلفة.
وقد حُبّب إليه علم الحديث حتى بلغ فيه مرتبة المجتهدين النقّاد، وكانت جُلّ مؤلّفاته فيه، وما زال أمره قائماً على ذلك حتّى بعد عودته إلى طنجة. إلى أن توفّاه اللَّه تعالى فيها بعد صلاة عصر يوم الجمعة خامس شهر رجب الأصبّ سنة "1418ه".
فشيّع جثمانه يوم السبت - بعد أن غُسل بماء زمزم - في موكبٍ عظيمٍ شارك فيه عشرات الآلاف من المشيّعين، ودُفن بالزاوية الصدّيقية بطنجة.
وكنّا قد ترجمنا له رحمه اللَّه بترجمةٍ أبسط من هذه في العددين الثالث والخامس من مجلّة "علوم الحديث" فراجع.] رحمه اللَّه تعالى بولائه الخالص ومودّته التامّة لأهل البيت الكرام عليهم الصلاة والسلام، وكان يُجاهر بتفضيل عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام على سائر الصحابة؛ في كتبه ومصنّفاته، وله في ذلك مناضلات ومناقحات وردود قويّة على النواصب اللئام - قبّحهم اللَّه وأخزاهم -.
فمن ذلك أنّه ردّ على أبي بكر بن العربيّ المالكيّ الأندلسيّ المعافريّ كلامه في شرحه على سنن الترمذيّ الموسوم ب "عارضة الأحوذيّ" الذي رام به صرف الأحاديث النبويّة الواردة في فضل أميرالمؤمنين عليه السلام، وتأويلها والتقليل من شأنها بإبداء شُبهٍ واهيةٍ لا تنطلي إلّا على السُذّج الذين يُحسنون الظنَّ بابن العربيّ وأضرابه من النواصب، فانبرى شيخنا ابن الصدّيق لتفنيدها ودكّ أساسها الخاوي - كما ستقف عليه قريباً إن شاء اللَّه تعالى -.
وقد انتزعنا كلامه في الذبّ عن حديث الموالاة، أو الغدير، وحديث عليّ منّي وأنا من عليّ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ وحديث المنزلة؛ من كتابه "السوانح" له، وهو مجلّد ضخم يقع في "579" صفحة من القطع الكبير، توجد منه عندنا نسخةٌ مصوّرة عن خطّ المصنّف رحمه اللَّه، أهداها إلينا ولده البارّ السيّد عبدالمغيث الصدّيق أعزه اللَّه وسلّمه.
وهو كتاب اشتمل على فوائد جَمّةٍ تتعلّق بمختلف المواضيع العلميّة من تفسير وحديث وفقهٍ وتصوّف وتاريخ ومسائل أخرى كثيرة، وهي سوانح عرضت وخواطر خطرت للمؤلّف أثناء التلاوة لكتاب اللَّه تعالى والقراءة لحديث النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله أو مطالعة كتابٍ، جمعها لئلّا تضيع مع تطاول الأيّام - كما قال في خطبة الكتاب - وقد فرغ من تقييدها ظهر يوم الأربعاء سابع عشر شهر شعبان سنة "1394ه" بطنجة.
وقد ألحقنا بذلك كلامه في "تفضيل عليّ عليه السلام على الصحابة" وهو مجرّد من كتاب "الاختيارات" له رحمه اللَّه، وهو في مسائل مختلفةٍ من أبواب العلم في الأصول والفروع وغير ذلك ممّا اختاره وكان عليه عمله فيما يدين اللَّه تعالى به، ولم يبيّض منها سوى مسائل معدودةٍ إذ لم يمهله الأجل، فلم يزل سائره في المسودّة.
وقد بسط رحمه اللَّه الكلام على هذه المسألة في كتابه مقدّمة "الإفادة بطرق حديث النظر إلى عليّ عبادة" المطبوع في العدد الثالث من مجلّة "علوم الحديث" فراجع إن شئت.
ونحن إذ نقوم بإعداد هذه المسائل للطبع - قياماً ببعض ما لشيخنا علينا من حقٍّ - نسأل اللَّه العليّ العظيم ربّ العرض الكريم أن يتغمّده بواسع رحمته ويُسكنه فسيح جنّته ويُجزل له الأجر والمثوبة بكفاحه عن جدّه أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالبٍ عليه الصلاة والسلام، وأن يجعله في زمرة أحبّائه وأوليائه، إنّه سميع مجيب، وصلّى اللَّه على محمّد وآله الطاهرين.
وكتب الُمجاز منه
الحسن بن صادق الحسيني آل المجدد الشيرازي
كان اللَّه له
هزيع ليلة الجمعة 1422/1/4ه
احاديث الولاية و تبليغ براءة و المنزلة و تفضيل علي والردّ على ابن العربيّ في عارِضة الأحْوذيّ
بسم الله الرحمن الرحيم
للعلامة المحدث السيد عبدالعزيز بن محمد بن الصديق الغماري المغربي
مسألة:
حديث: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه
[
أنظر فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 1/ 399-430.] لم يرد مثله في فضل أحدٍ من الصحابة، وهو قاضٍ وحاكمٌ بأنّ مَنْ كان النبيّ صلى الله عليه وآله وليّه فعليٌّ وليّه كذلك.
فتكون النتيجة: أنّ عليّاًعليه السلام وليُّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، وعدوّ كلّ منافقٍ ومنافقة.
ولمّا صعب هذا الحكم على النواصب - قبّحهم اللَّه تعالى - من جهة علي عليه السلام، ووقف شجىً في حلوقهم؛ لجأوا إلى تكذيبه، والطعن فيه، وعدم ثبوته بالمرّة، وأعماهم بغضهم لعليّ عليه السلام عن صحّته، بل وتواتره - كما سترى - حتّى الحفّاظ منهم، لاسيّما الأندلسيّون.
وقد وقفتُ على ردّ جماعةٍ من حفّاظ النواصب لهذا الحديث، منهم أبو بكر بن العربيّ المعافريّ، فقد قال في "عارضته"
[
عارضة الأحوذيّ بشرح صحيح الترمذي: 173/13.]- بعد قول الترمذيّ في هذا الحديث: حسنٌ صحيح
[
سنن الترمذيّ بشرحه عارضة الأحوذيّ: 165/13.]-:
قلنا: هذا حديث |ضعيف| مطعونٌ فيه، قال أبو عيسى فيه: حسن إنّما الصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال يوم غدير خُمٍ: إنّي تاركٌ فيكم ثقلين أوّلهما، كتاب اللَّه |فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب اللَّه واستمسكوا به، فحثّ على كتاب اللَّه|، ثم قال: أذكّركم اللَّه في أهل بيتي - ثلاثاً -.
قلت: والمطعون فيه - حقّاً - هو المعافريّ، قائل هذا الهُراء الباطل، والسخف الهزيل، فهذا الحديث تواتر وبلغ درجة القطع بأنّ الرسول صلى الله عليه وآله قاله يوم غدير خُم، وقد جمع الإمام محمد بن جريرٍ الطبريّ رحمه اللَّه تعالى طُرقه في مجلّدٍ ضخمٍ.
وأمّا الآن فيكفي أن نذكر لك أنّ الحافظ السيوطيّ رحمه اللَّه تعالى ذكره في "الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة"
[
الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة: 76.] من حديث:
1 - زيد بن أرقم.
2 - وعليّ عليه السلام.
3 - وأبي أيّوب الأنصاريّ.
4 - وعمر.
5 - وذي مرّ.
6 - وأبي هريرة.
7 - وطلحة.
8 - وعُمارة
[
كما في "نظم المتناثر" و"إتحاف ذوي الفضائل المشتهرة" أيضاً، وفي "الأزهار المتناثرة": عمّار.]
9 - وابن عبّاسٍ.
10 - وبُريدة.
11 - وابن عمر.
12 - ومالك بن الحُوَيْرِث.
13 - وحُبْشيّ بن جُنادة.
14 - وجَرِيرٍ.
15 - وسعد بن أبي وقّاصٍ.
16 - وابي سعيدٍ.
17 - وأنسٍ.
18 - وجُنْدَع الأنصاريّ.
19 - وعن عدّةٍ من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أنّهم سمعوا رسولَ اللَّه صلى الله عليه وآله يقوله.
وعن اثْنَي عشر رجلاً منهم:
20 - قيس بن ثابتٍ.
21 - وحبيب بن بُديل بن وَرْقاء.
وعن بِضْعَة عشر رجلاً، منهم:
22 - يزيد أو زيد بن شراحيل الأنصاريّ.
واستدرك الكتّانيّ على السيوطيّ في "نظم المتواتر"
[
نظم المتناثر من الحديث المتواتر: 124 - إتحاف ذوي الفضائل المشتهرة: 169.] حديث:
23 - البَرَاء بن عازِبٍ.
24 - وأبي الطّفَيْل.
25 - وحُذيفة بن أُسَيْدٍ الغِفاريّ.
26 - وجابرٍ.
فمَنْ قال في حديثٍ رواه العدد من الصحابة: إنّه مطعون فيه، فهو جاهل، قصير النظر، ضعيف العقل، ضيّق العطن، إذ قد حكم العلماء الحفّاظ على أقلّ من هذا - رواةً - بالتواتر، وقطعوا بثبوته.
أمّا ابن حزمٍ، فكثيراً مّا نراه يقول في "المحلّى" عن حديثٍ رواه خمسة أو ستّة: إنّه متواتر، ومع مذهبه هذا فإنّه لا يُثبّت حديث الغدير ويضعّفه - كما فعل في رسالة المفاضلة بين الصحابة -.
وكذلك ابن تيميّة، فإنّه يضعّف هذا الحديث ولا يثبّته، أو لعلّه يثبّته في "فتاواه" بدون زيادة: اللّهمّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه فلا أدري أيّ ذلك قال، فقد طال العهد بكلامه، والحديث ثابت بهذه الزيادة أيضاً.
ومَنْ تكلّم في هذا الحديث بالضعف وعدم الثبوت؛ فذلك لأنّه سيفٌ قاطعٌ لرقاب النواصب، وسهمٌ صائبٌ لقلب كلّ مُعرِضٍ عن موالاة الإمام عليه السلام وحبّه.
فلمّا تعارض النصّ والهوى، وكان الرجوع عن الهوى يحتاج إلى عظيم التقوى؛ حاولوا الرجوع على النصّ بالإبطال، وعدم الثبوت، وأنّى لهم ذلك، ومازاد بذلك إلّا الوقوع في المهالك.
وأمّا قولك أيّها المعافريّ - متعقّباً على الترمذيّ في حكمه على حديث الموالاة بالصحّة والحُسن معاً -: حديث مطعونٌ فيه، فأَبِنْ لي مَنْ طعن فيه، وأظهر مَنْ ردّه وضعّفه، فإنّك لا تجد إلى ذلك سبيلاً، ولن تستطيع له وصولاً.
نعم، ربّما أفصحتَ عن ابن حزمٍ، ونحن نراك - كثيراً - تتّبع ابن حزمٍ في هفواته، وتُعرض عنه في صحيح أقواله وآرائه.
وما أراك قلّدتَ في هذا الحديث إلّا هو، ولا أتّبعتَ إلّا قوله، وهو معذور، وأنت موتور.
وحيث لم نظفر لطعنك في الحديث دليلاً نفنّده، ولا برهاناً نُبطله ونزيّفه، فيكفي في إبطالنا لقولك ودعواك ما ذكرناه جملةً، وما أوردناه من الرواة لحديث الغدير ممّا هو على تواتره أعظم حجّة.
ولو بيّنتَ وفصّلت لَعُدْنا على تفصيلك وبيانك بردٍّ مفصّل مبيّنٍ }وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به{.
مسألة:
وما دُمنا مع ابن العربيّ الفقيه - غفر اللَّه تعالى له - فينبغي أن نذكر أنّه كان يُصيبه شبه الجنون عندما يمرُّ به شي ءٌ في فضل آل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، ويطير صوابه، ولا يملك قلمه عن الردّ بالجهل، والطعن بما يُضحك.
وإذا لم يجد ما يُساعده على الطعن والردّ؛ سكت وأعرض عن ذكر المناقب وشرحها، وبيان الفضائل وصحّتها، ويكتفي بذلك، ويري فيه ما يُقرّ عينه، ويُثلج صدره فإن لم يُصبها وابلٌ فطلٌّ .
ولمّا وصل إلى مناقب عليّ عليه السلام لم يجد من "عارضته" البارده القصيرة شيئاً يتكلّم به على أحاديث مناقبه عليه السلام، ومرّ بها مرّ الكرام بِلَغْوِ الكلام.
ولكن لمّا وجد الفرصة في أن يُدخل في الكلام على هذه المناقب ما قال له عقله العاطل وفهمه الفاسد: إنّ فيه ما يُقِلّ من قيمة بعض تلك الأحاديث الواردة في ذلك؛ سارع في التعليق عليها بالردّ والتقليل منها، وتهوين أمرها.
كما فعل في كلامه على حديث حُبْشيّ بن جُنادة: عليٌّ منّي وأنا من عليٍّ، ولا يُؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليٌّ
[
أنظر: فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 387/1.] فإنّه علّق على هذا الحديث بقوله: قال علماؤنا: وكان المعنى في ذلك أنّ سيرة العرب قد كانت سبقت واستقرّت أنّه إذا عقد عهداً أحدٌ منهم لا يُحلّه إلّا هو أو أحدٌ من قرابته، فتذكّر النبيّ صلى الله عليه وآله ذلك بعد إرسال أبي بكرٍ، فأرسل عليّاً بذلك حتّى لا يبقى للعرب عليه حجّةٌ يتعلّقون بها، يقولون: عَقَدَ معنا فلا يُحلّ العقد إلّا هو، فأذن اللَّه تعالى له في ذلك مصلحةً قرّرها، وحكمةً في حُكمٍ من الشريعة أمضاه بها وأمضاها
[
عارضة الأحوذيّ بشرح صحيح الترمذي: 169/13.] "انتهى".
فانظر كيف ضاق صدره - غفر اللَّه تعالى له - من هذا الحديث الذي يدلّ على مرتبة عليّ عليه السلام العالية، ومكانته من الرسول صلى الله عليه وآله المكانة السامية، فردّه بما يدلّ على جهله أو تجاهله.
من ذلك حكمه بالظنّ على النبيّ صلى الله عليه وآله بأنّه ما أرسل عليّاًعليه السلام ليبلّغ عنه سورة براءة إلّا لأجل ما جرت به عادة العرب في ذلك.
وهذا باطل يقيناً، وأحوال الرسول صلى الله عليه وآله لا يُخْبَرُ عنها بالرأي والظنّ والعقل، بل يُحتاج فيها إلى التوقيف، وإلّا كان فاعل ذلك داخلاً في قوله صلى الله عليه وآله: مَنْ كذب عَلَيَّ متعمّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَه من النار
[
هذا حديث متواتر، أنظر: الأزهار المتناثرة: 31 - 30، إتحاف ذوي الفضائل المشتهرة: 94 - 92.]
ثم إنّ الرسول صلى الله عليه وآله جاء بالدِّين الذي يُبطل عادة العرب في جميع شؤونهم، لا سيّما في العقود، فكيف يتّبع عادتهم، ويطيع أمرهم، ويسلك سبيلهم في أعظم إنذارٍ بعثه اللَّه تعالى به إليهم للبراءة منهم ومن جميع أمورهم؟!!
ويا تُرى لو لم يكن بَعَثَ عليّاً - قريبه - لتبليغ هذه البراءة، هل كان يجوز التخلّي عنهم بسبب عادتهم في كون العقد لا يُحلّه إلّا هو أو قريبه، فيعذرهم ويترك أمر اللَّه تعالى لأجل عادتهم؟ القول بهذا هو الجهل بعينه، والتقوّل على اللَّه ورسوله صلى الله عليه وآله بما هو ضلال وكفر من غير شكٍّ.
على أن أبا بكرٍ - رضي اللَّه عنه - كان قريبَ الرسول صلى الله عليه وآله، لأنّه يجتمع معه في مُرّة بن كعبٍ، والعرب كانوا يكتفون في القرابة - التي يتعلّق بها في أمثال هذه الأمور من العصبيّة وغيرها - بهذا، فكان يكفي إرسال أبي بكرٍرضى الله عنه بسورة براءة لو كان المراد بإرسال عليّ عليه السلام بدله هو القرابة والعصبيّة، وهذا معروف من أمر العرب، مشهورٌ من حالهم، حتّى إنّهم كانوا يحاربون ويقاتلون في جانب مَنْ يَمُتُّ إليهم بأدنى صلةٍ من القرابة.
ويكفي في الدلالة على ذلك قول خديجة - رضي اللَّه تعالى عنها - لورقة بن نوفل - لمّا أتت إليه بالنبيّ صلى الله عليه وآله: يا ابن عمّ، اسمع من أبن أخيك، فقال له ورقة: يا أبن أخي، ماذا ترى؟ والحديث في الصحيح
[
صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: 1/ 3-4.]
مع أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لم يكن ابن أخ ورقة، ولكن كان والدُ النبيّ صلى الله عليه وآله - عبدُ اللَّه بن عبد المطّلب - وورقة في عدد النسب إلى قصيّ بن كلابٍ الذي يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثيّة في درجة أخوّته.
والمقصود أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله لو أرسل أبا بكرٍرضى الله عنه لكان كافياً للعرب في إثبات الحُجّة عليهم في حلّ العقد، لأنّ أبا بكرٍ يُعتبر من قرابته عندهم، ولكنّه لمّا لم يُرسله وأرسل عليّاًعليه السلام دلّ ذلك على خصوصيّةٍ له عليه السلام، ومنقبةٍ من مناقبه، وفضيلةٍ من فضائله التي امتاز بها عن سائر الصحابة رغم أنف ابن العربيّ وغيره من النواصب.
ويدلّ على هذا قوله صلى الله عليه وآله: عليٌّ منّي وأنا من عليّ، ولا يُؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ فإنّه لو كان المراد في ذلك هو القرابة لما حصرصلى الله عليه وآله الأمر في الأداء عنه في عليٍّ وحده، إذ لا معنى له، ولقال: لا يؤدّي عنّي إلّا أحد قرابتي، فدلّ تخصيصه بالتبيلغ على الخصوصيّة له، ومكانته الخاصّة من النبيّ صلى الله عليه وآله، وذلك ما يدلّ عليه قوله صلى الله عليه وآله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى .
فهذا الحديث يبيّن المراد والسبب في إرساله صلى الله عليه وآله عليّاً بسورة براءة إلى المشركين دون غيره من الصحابة، لأنّ فيها تبليغاً وإنذاراً من اللَّه عزّ وجلّ، وهذا أمرٌ لا يقوم به إلّا النبيّ صلى الله عليه وآله أو مَنْ يقوم مقامه في ذلك عند غيبته، كما كان شأن هارون مع موسىعليهما السلام، فإنّه كان يخلفه في قومه عند غيبته، كما أخبر تعالى عن ذلك.
وهذا أيضاً ممّا يؤيّد ما قلناه سابقاً من أنّ عليّاًعليه السلام أدرك وبلغ درجة مقام النبوّة التي تُنال بالكسب.
فهذا الموضع الأوّل الذي نفث فيه ابن العربي - غفر اللَّه له - نُصْبَهُ وكلامه على أحاديث مناقب عليّ عليه السلام في شرح الترمذيّ.
والموضع الثاني، في كلامه على حديث: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه وقد بيّنّا مافيه في المسألة السابقة.
والموضع الثالث، في كلامه على حديث: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيَّ بعدي
[
أنظر: فضائل الخمسة من الصحاح الستّة: 1/ 364-347.]
فقد أبى أن يأخذ هذا الحديث على عمومه، فقال: أراد به أنت خليفتي بالمدينة عند سفره قبلها، كما كان هارون خليفة موسى حين سفره إلى المواعدة، قال ذلك له النبيّ صلى الله عليه وآله تأنيساً وبياناً لفضله، حتّى قال أهل النفاق: خلّفه كراهيةً فيه.
فإن قيل: فقد قال: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، فلمّا كان هارون أفضل الناس بعد موسى كان عليٌّ أفضل الناس بعد النبيّ صلى الله عليه وآله.
قلنا: إنّما كان هارون أفضل الناس لأنّه كان نبيّاً، وعليٌّ ليس بنيّ.
فإن قيل: فيلزم أن يكون خليفةً بعده.
قلنا: مات هارون في حياة موسى، وكان الخليفة بعد موسى يوشع بن نون، وإنّما المراد استخلافه المتقدّم - كما بيّناه -.
فإنّ قيل: فقد قال النبيّ صلى الله عليه وآله: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ مَنْ والاه الحديث.
قلنا: هذا حديث |ضعيف| مطعونٌ فيه
[
عارضة الأحوذيّ: 13/ 172-173.] "انتهى".
فانظر كيف ردّ فضيلة حديث: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى بكلّ ما استطاع من مُراوغة، وتحويل النصوص وصرفها عن معناها العامّ إلى معنىً بعيدٍ عن ظاهرها يجعلها معطّلةً عن الفائدة تماماً.
ولغيظه أو تغيّظه من هذه المناقب ينسى النصوص التي ترد عليه وتُبطل كلامه من إساسه، فإنّ قوله - في شأن حديث: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى -: أراد به أنت خليفتي بالمدينة؛ يُبطله ويردّه استخلافه صلى الله عليه وآله ابنَ أمّ مكتومٍ ثلاث عشرة مرّةً على المدينة باتّفاق أهل العلم، مع أنّ عليّاً لم يستخلفه عليها إلّا مرّةً واحدةً، فكان الأولى بقوله صلى الله عليه وآله: أنت منّي بمنزلة هاون من موسى هو ابن أمّ مكتوم - رضي اللَّه تعالى عنه - لا عليّ عليه السلام.
مع أنّه لم يقل صلى الله عليه وآله لابن أمّ مكتومٍ شيئاً من هذا، ممّا يدلّ على بطلان وفساد تأويل ابن العربيّ للحديث، فتنبّه لهذا؟
فهذا ما علّق عليه ابن العربيّ على أحاديث مناقب عليّ عليه السلام، وبهذا الأسلوب البغيض تكلّم عليها وشرحها، ومرّ بسائرها فلم يتكلّم عليه بشي ءٍ، بخلاف أحاديث مناقب عثمان رضى الله عنه فإنّه تكلّم على غالبها، واشار إلى ما فيها من المزايا والمناقب، فاعلم هذا.
مسألة
[
قد بسط المؤلّف رحمه اللَّه الكلام على هذه المسألة في مقدّمة كتابه "الإفادة بطرق الحديث النظر إلى عليٍّ عبادة" وهو مطبوع في العدد الثالث من مجلّة "علوم الحديث" الغرّاء - السنة الثانية، فراجع صفحة 261 - 248.]:
عليّ عليه السلام أفضل الصحابة، والترتيب الذي وقع في الخلافة لا يدلّ على أفضليّة السابق على اللاحق، لأنّ الترتيب الزمنيّ لا يدلّ على شي ءٍ من الفضل إلّا بدليلٍ، بل ربّما كان اللاحق أفضل من السابق.
وهذا نبيّناصلى الله عليه وآله هو آخر الأنبياء بَعْثاً، ومع ذلك هو سيّد الأنبياء وأفضلهم بإجماع المسلمين.
ثم إنّ الأحاديث الواردة في تفضيل عليّ عليه السلام بطريق النصّ لا يأتي عليها الحصر، ولا يتناولها الإحصاء.
والاشعريّة هم الذين أدخلوا هذا الدليل - على التفضيل - في كتبهم، وزادوا في الطين بلّةً أنّهم جعلوا ذلك ممّا يجب أن ينطوي عليه المسلم من عقيدة النجاة، والمخالف لها على خطرٍ عظيمٍ في عقيدته!
مع أنّ الأمر لا دخل له في العقيدة مطلقاً، والسلف من الصحابة ومَنْ تبعهم بإحسانٍ كان أغلبهم على خلاف هذا الأمر الذي جعله الأشعريّة من عقيدة أهل السُنّة.
وقد ترتّب على قولهم هذا أن صار - اليوم - الجمهور الغفير في البلاد الإسلاميّة يرى القولَ بتفضيل عليّ عليه السلام بدعةً منكرةً، وضلالاً في العقيدة، والقائل بذلك مبتدعٌ خارجٌ عن منهاج أهل السُنّة.
وأهل السُنّة - عندهم - هم الأشعريّة وحدهم، لأنّهم نشأوا على عقيدتهم، وأخذوها عن آبائهم بدون تحليلٍ ولا نقدٍ، ولا بحثٍ عن دليلٍ، فكلّ مَنْ أتى بخلافها يرونه ضالاًّ، بعيداً عن طريق الحقّ والصواب.
وفي الحقيقة هم الذين خرجوا عن الصواب، واتّبعوا من الأقوال مالا دليل عليه.
والعجب أنّهم يحرّمون التقليد في العقائد، فما بالهم قلّدوا هنا مَنْ بثّ فيهم هذا القول الذي اخترعه النواصب بدعوى أنّه عقيدة أهل السُنّة، والأمر للَّه.