رفق و تعاهد
فقد شهدت قطاعات الامة جميعا صورا من التعاهد لأمرها و الرفق بها و رعاية شؤونها، و التسوية في العطاء بين جميع حملة التابعية للدولة الاسلامية التي تجسدها هذه النصوص:
'المال مال الله يقسم بينكم بالسوية لا فضل لأحد على أحد'.
'و ايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه، و لأقودن الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحق و إن كان كارها' [ جورج جرداق/روائع نهج البلاغة/ص 163.الخزامة: حلقة من شعر توضع في وترة أنف البعير يشد بها زمامه و يسهل قياده.]إلى جانب هذا و ذاك، شهدت الامة التي قادها أمير المؤمنين "ع" بمختلف قطاعاتها من ألوان التدبير لشؤونها، و الرعاية لامورها، و الحدب عليها ما حقق لها الكرامة و السعادة و الحرية، و هذه صور منها:
'عن الحكم قال: شهدت عليا، و قد اتي له بزقاق من عسل، فدعا اليتامى و قال: ذوقوا و العقوا، حتى تمنيت أني يتيم، فقسمه بين الناس و بقي منه زق، فأمر أن يسقاه أهل المسجد' [ البلاذري/أنساب الأشراف/ج 2/ص 136.]و عن هارون بن عنترة عن زاذان قال:
'انطلقت مع قنبر غلام علي "ع" فاذا هو يقول: قم، يا أمير المؤمنين! فقد خبأت لك خبيئا.قال "ع": و ما هو، ويحك! ! قال: قم معي.فقام فانطلق به إلى بيته، و إذا بغرارة مملوءة من جامات ذهبا و فضة.فقال: يا أمير المؤمنين! رأيتك لا تترك شيئا إلا قسمته فادخرت لك هذا من بيت المال.
فقال علي "ع": ويحك يا قنبر، لقد أحببت أن تدخل بيتي نارا عظيمة، ثم سل سيفه، و ضربها ضربات كثيرة، فانتثرت، ثم دعا بالناس، فقال: اقسموه بالحصص، ثم قام إلى بيت المال، فقسم ما وجد فيه، ثم رأى في البيت أبرا و مسال فقال: و لتقسموا هذا' [ ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم/ط 1385 ه/ج 2/ص 199. مسائل و مسل: جريد النخل الرطب.]و عن الحكم قال:
'إن عليا قسم فيهم الرمان حتى أصاب مسجدهم سبع رمانات، و قال: أيها الناس إنه يأتينا أشياء نستكثرها إذا رأيناها، و نستقلها إذا قسمناها، و إنا قد قسمنا كل شي ء أتانا.قال: و أتته صفائح فضة فكسرها، و قسمها بيننا'.
و عن علي بن ربيعة قال:
'جاء ابن التياح إلى علي بن أبي طالب "ع" فقال: يا أمير المؤمنين! امتلأ بيت المال من صفراء و بيضاء.فقال علي "ع": الله أكبر، ثم قام متوكئا على يد ابن التياح، فدخل بيت المال و هو يقول:
هذا جناي و خياره فيه*و كل جان يده إلى فيه' [ مثل يضرب، أراد به الإمام "ع" أنه لم يصب شيئا من مال المسلمين بل وضعه في موضعه.سبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص 117.]ثم نودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت المال و هو يقول: "يا بيضاء! و يا صفراء! غري غيري". حتى لم يبق فيه درهم و لا دينار، ثم امر بنضحه بالماء، فصلى فيه ركعتين "ع". و كان لشدة حرص الإمام "ع" على مصلحة الامة لرفع غائلة الفقر و الظلم عنها أنه التزم السيرـعبر أيام خلافته عليهاـوفقا للنهج الآتي:
'و لو شئت لا هتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، و لباب هذا القمح، و نسائج هذا القز، و لكن هيهات أن يغلبني هواي، و يقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، و لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، و لا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا، و حولي بطون غرثى، و أكباد حرى؟أقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، و لا اشاركهم في مكاره الدهر أو أكون اسوة لهم في جشوبة العيش؟' [ نهج البلاغة/من كتاب له إلى عثمان بن حنيف رقم 45.الجشب من الطعام: هو الغليظ الخشن.]'اشترى ثوبين، و أعطى أغلاهما ثمنا لقنبر خادمه و قال: إني سمعت رسول الله "ص" يقول: ألبسوهم مما تلبسون، و أطعموهم مما تأكلون' [ الثقفي/الغارات/ج 1/ص. 106.]
رقابة دقيقة لوضع السوق
و لقد كان الإمام علي "ع" حريصا على تجسيد العدالة الاقتصادية في مرافق الحياة الانسانية كافة، و من أجل ذلك فقد التزم خطة لمراقبة السوق من ناحية البيع و الشراء و طبيعة ما يعرض للبيع، للحيلولة دون التطفيف في المكاييل و التلاعب بالأسعار أو الغش، فعن الإمام الباقر "ع" قال:
'كان أمير المؤمنين "ع" كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، و معه الدرة على عاتقه، و كان لها طرفان، و كانت تسمى السبيبة، فيقف عليها سوقا سوقا فينادي:
يا معشر التجار! قدموا الاستخارة، و تبركوا بالسهولة، و اقتربوا من المبتاعين، و تزينوا بالحلم، و تناهوا عن الكذب و اليمين، و تجافوا عن الظلم و أنصفوا المظلومين، و لا تقربوا الربا "و أوفوا المكيال و الميزان بالقسط و لا تبخسوا الناس أشياءهم و لاتعثوا في الأرض مفسدين"' [ من سورة هود/85، راجع أمالي الصدوق، و تذكرة الخواص/ص 134، و أنساب الأشراف للبلاذري/ج 2/ص 129 مع اختلاف يسير في الألفاظ.]و عن أبي النوار قال:
'رأيت عليا "ع" وقف على خياط، فقال له: يا خياط! صلب الخيط، و دقق الدرز، و قارب الغرز، فإني سمعت رسول الله "ص" يقول: يؤتى يوم القيامة بالخياط الخائن و عليه قميص و رداء مما خاطه، و خان فيه، فيفتضح على رؤوس الأشهاد.ثم قال: يا خياط! إياك و الفضلات و السقطات فإن صاحب الثوب أحق بها' [ سبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص 116.]هكذا جسد الإمام أمير المؤمنين "ع" المخطط الاسلامي للعدالة الاجتماعية بأدق صورها، و هكذا عامل الامة بالرفق و الحب فعايش آمالها و آلامها حتى قطفت أروع ثمرات العدل في تاريخها كما كانت في عهد رسول الله "ص" سواء بسواء.