صلاة و ضراعة
فلكثرة تعاهده لأمر الصلاة و التضرع إلى الله تعالى، يشير عروة بن الزبير في حديث له عن أبي الدرداء:
قال: 'شهدت علي بن أبي طالب بشويحطات النجار [ شويحطات النجار: اسم مكان خارج المدينة.]، و قد اعتزل عن مواليه، و اختفى ممن يليه، و استتر بمغيلات [ المغيلات: النخل الوارف الظلال.]النخل، فافتقدته، و بعد علي مكانه، فقلت: لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين و نغم شجي، و هو يقول: "إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، و كم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك.
إلهي! إن طال في عصيانك عمري، و عظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمل غير غفرانك، و لا أنا براج غير رضوانك".
فشغلني الصوت، و اقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب "ع" بعينه، فاستترت له و أخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ إلى الدعاء و البكاء و البث و الشكوى، فكان مما ناجى به الله تعالى أن قال:
"إلهي! افكر في عفوك، فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك، فتعظم علي بليتي".
ثم قال: "آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها، و أنت محصيها، فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، و لا تنفعه قبيلته و لا يرحمه الملأ إذا اذن فيه بالنداء". ثم قال: "آه من نار تنضج الأكباد و الكلى، آه من نار نزاعة للشوى، آه من لهبات لظى".
قال أبو الدرداء، ثم أمعن في البكاء، فلم أسمع له حسا، و لا حركة.
فقلت غلب عليه النوم لطول السهر، أو قظه لصلاة الفجر، فأتيته، فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته، فلم يتحرك، و زويته فلم ينزو.
فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون، مات و الله علي بن أبي طالب، فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم.
فقالت فاطمة "ع": "يا أبا الدرداء ما كان من شأنه و ما قصته؟".
فأخبرتها الخبر.
فقالت: "هي و اللهـيا أبا الدرداءـالغشية التي تأخذه من خشية الله".
ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق، و نظر إلي و أنا أبكي فقال: "مما بكاؤك يا أبا الدرداء؟".
فقلت مما أراه تنزله بنفسك.
فقال: "يا أبا الدرداء! فكيف لو رأيتني، و دعي بي إلى الحساب، و أيقن أهل الجرائم بالعذاب، و احتوشتني ملائكة غلاظ و زبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار، قد اسلمني الأحباء و رفضني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية".
فقال أبو الدرداء: فو الله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله "ص"' [ المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 11 و 12، نقلا عن أمالي الصدوق.و الأنوار العلوية للشيخ جعفر النقدي/ط 2/ص 115.و مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب المازندراني/ط 1/مطبعة العلمية "قم" /ج 1/ص 389.]هذا شاهد من شواهد تعلق الإمام "ع" بالله تعالى و شدة انشداده إليه و رهبته منه.
و يبدو أن هذا ديدن علي "ع" كما يتجلى من قول الزهراء "ع" لأبي الدرداء: "هي و الله الغشية التي تأخذه من خشية الله".
و هذه مزيته عند التوجه إلى الله تعالى في صلاته و ضراعته، الأمر الذي ألفه أهل البيت في علي "ع".
و من أجل ذلك لم يفزعوا حين أنبأهم أبو الدرداء بموتهـكما ظن هوـبل استفسروا عما رأى، فأعلمته الصديقة "ع" أن ما رآه هو المألوف من علي "ع" كل آن حين تأخذه الغشية لله تبارك و تعالى أثناء قيام الليل.
و لكثرة قيامة للعبادة ليلا يحدثنا عبد الأعلى عن نوف البكالي قال: 'بت ليلة عند أمير المؤمنين "ع" فكان يصلي الليل كله، و يخرج ساعة بعد ساعة، فينظر إلى السماء، و يتلو القرآن، فمرـبي بعد هدوء من الليل فقال: "يا نوف أراقد أنت أم رامق؟".
قلت: بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.
قال: يا نوف! طوبى للزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، اولئك قوم اتخذوا الأرض بساطا، و ترابها فراشا، و ماءها طيبا، و القرآن شعارا، و الدعاء دثارا، ثم قرضوا الدنيا قرضا على منهاج المسيح"' [ نهج البلاغة/باب الحكم/رقم 104.و ذكره المجلسي في البحار/ج 41/ص 16، عن الخصال، باختلاف في بعض الألفاظ.]و هكذا كان علي "ع" في شدة تعلقه بالله، و عظيم تمسكه بمنهج الأنبياء "ع"، إنه ترجمة صادقة لعبادة محمد رسول الله "ص" و زهد المسيح "ع".
أرأيت كيف يندك وجوده على عتبة الخضوع لله و الإستكانة له و طلب رضوانه؟
و حول التزامه بقيام صلاة الليل طول عمره الشريف، يروي لنا أبو يعلىـفي المسندـعنه "ع" قال: '"ما تركت صلاة الليل منذ سمعت قول النبي "ص": صلاة الليل نور". فقال ابن الكواء: و لا ليلة الهرير [ ليلة الهرير: من ليالي معركة صفين الحاسمة التي اشتبك الفريقان فيها طوال الليل دون هوادة.]! ؟قال "ع": "و لا ليلة الهرير"' [ المجلسي/بحار الأنوار/ج 41/ص 17.]
توجه و رهبة
و لعظيم إقباله على الله تعالى يشير القشيري في تفسيره:
'إنه كان إذا حضر وقت الصلاة تلون و تزلزل، فقيل له: ما لك؟
فيقول: "جاء وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات و الأرض و الجبال، فأبين أن يحملنها و حملها الانسان على ضعفه، فلا أدري أحسن إذا حمل أم لا"' [ المصدر السابق، عن المناقب.]فعن سليمان بن المغيرة، عن امه، قالت: 'سألت ام سعيد سرية علي "ع" عن صلاة علي "ع" في شهر رمضان، فقالت: رمضان و شوال سواء، يحيي الليل كله' [ المصدر السابق، عن المناقب.]