الثقافة الفقهية العامّة في حلقات
نستهدف في هذا الباب المقتضب إيجاد ثقافة فقهية إجمالية عامة لدي القارئ الكريم ، إذ لابدّ للمسلم من أن يتوفّر علي الثقافة الدينية في الجانب النظري والعقائدي وما يسمّي باُصول الدين ، وأيضا لابدّ له من اكتساب الثقافة الشرعية في الجانب العملي لكي يتّضح له طريق طاعة اللّه وكيفية امتثال أوامره واجتناب نواهيه . . ونحن هنا نعرض المهمّ من الفتاوي الشرعية طبقا لمذهب أهل البيت عليهم السلام الذين أبعد اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا . . وبالنظر إلي انفتاح باب الاجتهاد فليرجع كل مكلَّف في التفاصيل إلي المجتهد الذي يقلِّده ويتّبعه . . كما وحاولنا ـ قدر المستطاع ـ الاشارة إلي آراء المذاهب الإسلامية الاُخري لدي موارد الاختلاف( التحرير )
( 1 )
التكليف الشرعي
فلسفة التكليف :
إنّ التكاليف والأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة موجّهة إلي الشخص المؤهَّل الذي توفّرت فيه شرائط التكليف ، فلابدّ إذن من معرفة التكليف وشروطه .
وتجدر الاشارة إلي أنّ تكليف الإنسان من قبل اللّه سبحانه بمجموعة من الأحكام ـ واجبات ومحرّمات ـ ليس الغرض منه إرهاق الانسان وتحميله المشاق ، بل إنّ التكليف في روحه عبارة عن تشريف من اللّه سبحانه وتعالي للإنسان وتكريم له وسوق له نحو الكمال في الدنيا والآخرة ، وحلٌّ لما يعترض طريقه في الحياة من مشكلات مختلفة ؛ نظير أمر الاُستاذ طلاّبه بحلّ مسألة علمية ، فهو لا يريد أن يثقل كاهلهم بمثل هذه التكاليف ، وإنّما الغرض هو إيصال الطلاّب إلي درجة الكمال العلمي ، وكذا الحال بالنسبة إلي التكليف الشرعي ؛ فإنّه يرمز إلي ما ميّز اللّه به الإنسان من عقل وقدرة علي بناء نفسه والتحكّم في غرائزه ، وقابلية لتحمّل المسؤولية خلافا لغيره من أصناف الحيوانات ومختلف كائنات الأرض ، فإن أدّي الإنسان حقّ هذا التشريف وأطاع وامتثل شرّفه اللّه تعالي بعد ذلك بعظيم ثوابه وبملك لا يبلي ونعيم لا يفني ، وإن قصّر في ذلك وعصي كان جديرا بعقاب اللّه سبحانه وسخطه ؛ لأنّه ظلم نفسه وجهل حقّ ربه ولم يقم بواجب الأمانة التي شرّفه اللّه بها وميّزه عن سائر مخلوقات الأرض ، قال تعالي : « إنّا عرضنا الأمانةَ علي السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فأبَيْنَ أنْ يَحمِلْنها وأشْفَقنَ مِنها وَحَمَلها الإنسانُ إنّهُ كانَ ظلوما جهولاً »( 1 ) .
الشروط العامّة للتكليف :
إنّ فلسفة التكليف تقتضي أن تضع الشريعة للتكليف شروطا مناسبة ـ نظير ما هو متعارف في القوانين التي وضعها البشر ـ بعضها شروط خاصة تُذكر في مواردها ، وبعضها شروط عامة ، وهي كما يلي :
الشرط الأوّل : البلوغ فلا يتجه التكليف إلي الانسان ـ رجلاً كان أم امرأة ـ إلاّ إذا بلغ وكمل وتجاوز مرحلة الطفولة والصبا . وللبلوغ تقدير شرعي محدّد يأتي شرحه . فغير البالغ ليس بمكلّف ؛ ونعني بذلك أنّ جانب الالزام والمسؤولية الاخروية ـ العقاب في الآخرة ـ من أحكام اللّه تعالي لا يثبت بشأن الإنسان غير البالغ ، فلو أنّه فعل حراما كما إذا كذب ، أو أهمل واجبا كما إذا ترك الصلاة ، لا يعاقب يوم القيامة نظرا إلي وقوع ذلك منه قبل بلوغه .
ولكن ينبغي الالتفات إلي ما يلي :
أ ـ إنّ ذلك لا يعني أن يُهمل ويترك سدي ، بل يكون وليّه مسؤولاً عن تصرّف هذا الإنسان غير البالغ وتوجيهه وإنزال العقاب به في حالات التأديب ، فالولي من أهله ـ أبا كان أو جدّا ـ يجب عليه أن يقيه النار والتعرّض لسخط اللّه تعالي عند بلوغه ؛ وذلك بأن يهيّئه قبل البلوغ للطاعة ويقرّبه نحو اللّه تعالي بالوسائل المختلفة للتأديب ، من الترهيب والترغيب والتمرين والتثقيف عملاً بقوله تعالي : « قُوا أنفُسَكُمْ وأهلِيكُمْ نارا وقودُها الناسُ والحجارَةُ علَيها ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ لا يَعْصونَ اللّه َ ما أمَرَهُمْ ويَفْعَلونَ ما يؤمَرون »( 2 ) ، وفي الحديث : « مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين . . . » ( 3 ) .
وإذا أدّي الولي كلّ ما عليه ولكنّه لم يفلح في حمل ولده علي الهدي والصلاح فلا وزر عليه من هذه الناحية .
ب ـ إنّ إعفاء غير البالغ من المسؤولية الاُخروية وما تمثّله من الالزام لا يعني عدم استحسان الطاعة منه وعدم وقوع العبادة صحيحة إذا أدّاها بالصورة الكاملة ، بل يستحب منه ما يجب علي البالغ وما يندب إليه البالغ من عبادات علي أن لا تكون مُضرّة بحاله . وينبغي للصبي أن يبدأ بالتمرّن علي الصلاة إذا أكمل سبع سنين ، وعلي الصيام إذا أكمل تسع سنين ولو بأن يصوم قسطا من النهار ثمّ يفطر إذا أجهده الصوم وغلب عليه العطش أو الجوع .
ج ـ إنّ عدم كون غير البالغ ملزما ومكلّفا شرعا لا يعفيه نهائيا من التبعات التي قد تنجم عن بعض تصرّفاته ، كتعويض الآخرين إذا تسبّب إلي إتلاف أموالهم مثلاً . وإن كان عدم بلوغه موجبا لتأجيل إلزامه بهذا التعويض إلي حين البلوغ .
علامات البلوغ :
عرفنا أنّ أحد الشروط العامة للتكليف البلوغ ، أي أن يبلغ الذكر مبلغ الرجال والاُنثي مبلغ النساء ، ويتحقق البلوغ بنظر الشريعة إذا توفّرت في الذكر أو الاُنثي أحد الاُمور التالية :
1 ـ إكمال مرحلة معيّنة من العمر ؛ وذلك في الذكر بأن يكمل خمس عشرة سنة من السنين القمرية ، وفي الاُنثي بأن تكمل تسع سنين قمرية ، ففي الحديث أنّ حدّ البلوغ في الغلام : « إذا احتلم أو بلغ خمس عشرة سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك اقيمت عليه الحدود التامّة ، وأُخذ بها وأُخذت له . . . إنّ الجارية ليست مثل الغلام . إنّ الجارية إذا تزوّجت ودُخل بها ولها تسع سنين ذهب عنها اليتم و . . . » ( 4 ) .
ويري الشافعية والحنابلة أنّ البلوغ بالسن يكون بتمام خمس عشرة سنة قمرية للذكر والاُنثي ، ويري المالكية أنّ البلوغ يكون بتمام ثماني عشرة سنة ، وقيل بالدخول فيها .
ويري أبو حنيفة أنّ البلوغ بالسن للغلام هو بلوغه ثماني عشرة سنة والجارية سبع عشرة سنة .
2 ـ خروج المنيّ سواء كان ذلك في حالة النوم أو في اليقظة ، في حالة جماع واتصال جنسي أو بدونه . قال تعالي : « وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا »( 5 ) .
3 ـ نبات الشعر علي العانة إذا كان خشنا ، ولا اعتبار بالزغب [ = الشعر الناعم ] ، والعانة تقع بين العورة ونهاية البطن . فقد روي أنّ رسول اللّه صلي الله عليه و آله وسلم عرض بني قريظة ، فمن وجده أنبت قتله ، ومن لم يجده أنبت ألحقه بالذراري ( 6 ) .
في حين لا يعتبر الانبات علامة علي البلوغ عند أبي حنيفة ، وفصّل الشافعية وبعض المالكية فاعتبروه علامة لبلوغ الكافر ومن جُهل إسلامه دون المسلم والمسلمة .
والأفضل والأحوط للدين استحبابا أن يعتبر الصبي نفسه مكلّفا منذ إكماله ثلاث عشرة سنة ودخوله في السنة الرابعة عشر ، فلا يتهاون بشيء من الواجبات التي يلزم بها البالغون .
وإذا شك الصبي ـ وكذلك الصبية ـ في بلوغه بني علي عدم البلوغ حتي يحصل له اليقين ببلوغه .
وإذا شك البالغ المكلّف في قدرته علي الطاعة والامتثال ـ كأن يشكّ في قدرته علي الصيام ـ لم يسمح له بأن يفترض في نفسه العجز لمجرّد الشك ، بل يجب عليه أن يحاول إلي أن يثبت لديه أنّه عاجز .
الشرط الثاني : العقل ، ويُقصد به أن يكون لديه من الرشد والنضج العقلي ما يمكن أن يعي به كونه مكلّفا ويحس بمسؤولية تجاه ذلك . فلا تكليف للمجنون أو الأبله الذي لا يدرك الواضحات لبلاهته وقصور عقله ، ففي الحديث : أنّ القلم رفع عن ثلاثة : « عن الصبي حتي يحتلم ، وعن المجنون حتي يفيق ، وعن النائم حتي يستيقظ » ( 7 ) .
وإذا كان الإنسان مجنونا في حالة وسويّا في حالة اُخري ـ وهو المسمّي بالجنون الأدواري وغير المطبق ـ سقط عنه التكليف في الحالة الاُولي ويثبت عليه في الحالة الثانية .
وفي المذاهب الاُخري حكموا بعدم سقوط التكليف عنه ؛ لثبوت الأحكام في الذمّة وهي لا تسقط ، وفصّل بعضهم بين ما كان الجنون أصليا فيسقط معه التكليف وبين ما كان طارئا فلا .
وقد يكون الإنسان مجنونا أو قاصر الادراك بدرجةٍ ما ، لا يمكن أن يعي معها بعض التكاليف ولكن يعي بعضها الآخر ، ومثال ذلك : الإنسان الضعيف الادراك الذي لا يمكنه أن يعي أعمال الحج ولا أن يؤديها ، ولكنه يمكنه أن يدرك أنّه لا ينبغي للانسان أن يقتل إنسانا ، فمثل هذا المجنون تثبت عليه التكاليف التي يمكن أن يدركها ويعيها ويسقط عنه من التكاليف ما لا يمكنه إدراكها ووعيها بحكم جنونه وقصور إدراكه .
الشرط الثالث : القدرة ، قال اللّه سبحانه وتعالي : « لا يُكَلِّفُ اللّه ُ نَفْسا إلاّ وُسْعَها »( 8 ) ، فمن عجز عن الطاعة كان معذورا وسقط عنه التكليف سواء كان التكليف أمرا وإلزاما بشيء وقد عجز عنه ـ كالمريض يعجز عن القيام في الصلاة ـ أو نهيا وتحريما لشيء وقد عجز عن اجتنابه وتركه ـ كالغريق يعجز عن اجتناب الخطر ـ .
وقد لا يعجز بالمعني الكامل ولكن الطاعة تكلّفه التضحية بحياته ، وفي هذا الفرض يسقط التكليف أيضا حفاظا علي حياته ، إلاّ في حالتين :
الاُولي : أن تكون تلك الطاعة مما يفرضها الجهاد الواجب ؛ فإنّ الجهاد إذا توفّرت شروطه وجب علي أيّ حال .
الثانية : أن يأمره شخص قادر علي قتله بأن يقتل مسلما بدون حقّ ويهدّده بالقتل إذا امتنع عن ذلك ؛ فإنّ عليه في هذه الحالة أن يطيع اللّه تعالي بالامتناع عن قتل ذلك الانسان ولو تعرّض للموت .
وقد يواجه المكلّف تكليفين لا يعجز عن طاعة كلّ واحد منهما بصورة منفردة عن الآخر ولكنه يعجز عن طاعتهما معا ، ويُطلق علي هذه الحالة التزاحم .
ومثال ذلك : أن تكون عليه صلاة واجبة ضاق وقتها ويشبّ أمامه حريق ، وهو قادر علي أن يصلّي ويهمل الحريق ، وقادر علي أن يطفئ الحريق وتفوته الصلاة ، وفي فروض من هذا القبيل يسقط من التكليفين التكليف الأقلّ أهمية في تلك الحالة ، وهذا أمر لا يمكن في كثير من الأحيان لغير المجتهد البتّ فيه إلاّ بالرجوع إلي مقلَّده ليعيّن له موقفه .
وإذا توجّه التكليف إلي الإنسان فعلاً ـ سواء كان وجوبا أو حرمة ـ وكان قادرا علي الامتثال فلا يسوغ له العصيان ، ولا فرق في عصيانه بين أن يكون بترك ما أمر به اللّه اختيارا ، أو بالاقدام علي عمل معيّن يعلم المكلّف بأنّه سوف يعجز بسببه عن الطاعة .
ومثاله : أن يحلّ عليه وقت الصلاة ويتوجه إليه التكليف بها فيركب القطار وهو يعلم بأنّه سوف يعجز عند ركوبه عن أداء فريضة الصلاة ؛ فإنّ هذا يعتبر عصيانا أيضا ، بل لا يجوز له أن يُقدم حينئذٍ علي عمل يحتمل بأنّه يعجز بسببه عن القيام بما وجب عليه فعلاً .
پاورقيها:
( 5 ) النور : 59 .
( 7 ) وسائل الشيعة 1 : 45 ، ب 4 من مقدمات العبادات ، ح 11 . وانظر أيضا : أبو داود 4 : 560 . ط ـ عزت عبيد الدعاس . الحاكم 2 : 59 . ط ـ دار الكتاب العربي .
( 6 ) وسائل الشيعة 1 : 44 ، ب 4 من مقدمات العبادات ، ح 8 . وروي أنّ الذي فعل ذلك سعد ابن معاذ ، وأقرّه رسول اللّه علي ذلك . انظر : سنن البيهقي 6 : 58 .
( 4 ) وسائل الشيعة 1 : 43 ، ب 4 من مقدمات العبادات ، ح 2 .
( 8 ) البقرة : 384 .
( 1 ) الأحزاب : 72 .
( 3 ) وسائل الشيعة 4 : 19 ، ب 3 من أعداد الفرائض ، ح 5 . وانظر أيضا : أبو داود 1 : 334 . ط ـ عزت عبيد دعاس . رياض الصالحين : 171 .
( 2 ) التحريم : 6 .