علي والخوارج - امام علی من المهد الی اللحد نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

امام علی من المهد الی اللحد - نسخه متنی

سید محمد کاظم قزوینی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید


علي والخوارج


بسم الله الرحمن الرحيم

لما تقرر التحكيم غادر الإمام "عليه السلام" صفين وقصد نحو الكوفة، وبقي في الكوفة، فوقع تحكيم الحكمين، وأنتج ذلك التحكيم خلع الإمام "عليه السلام" عن الإمامة وتثبيت معاوية، ومن هنا تكون مذهب الخوارج وكان الإمام "عليه السلام" ينتظر انقضاء السنة...

وهي مدة الهدنة التي بينه وبين معاوية ليرجع إلى المقاتلة والحرب، وإذا بأربعة آلاف فارس من أصحابه العباد والنساك قد تكتلوا كتلة واحدة ضد الإمام فخرجوا من الكوفة لإعلان المخالفة، وقالوا: لا حكم إلا لله، ولا طاعة لمن عصى الله!! وانضمت إليهم جماعة أخرى وهم ثمانية آلاف ممن يرى رأيهم فصاروا اثني عشر ألفا، من أهل الكوفة والبصرة وغيرها وساروا إلى أن نزلوا الحروراء، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي، وأمير الصلاة عبدالله بن الكوا، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فدخل زرعة الطائي وحرقوص بن زهير ذو الثدية فقالا: لا حكم إلا لله.

فقال علي "عليه السلام": كلمة حق يراد بها الباطل.

قال ذو الثدية: فتب من خطيئتك، وارجع عن قصتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا.

فقال "عليه السلام": قد أردتكم على ذلك فعصيتموني، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وشروطا، وأعطينا عليها عهودا ومواثيق، وقد قال الله تعالى: "وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم".

[ سورة النحل، الآية: 91.]


قال ذو الثدية: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه.

فقال "عليه السلام": ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي وضعف في العقل، وقد تقدمت فنهيتكم عنه.

فقال ابن الكوا: الآن صح عندنا أنك لست بإمام، ولو كنت إماما لما رجعت.

فقال "عليه السلام" ويلكم قد رجع رسول الله "صلّى الله عليه وآله" عام الحديبية عن قتال أهل مكة.

وقال زرعة: أما والله لئن لم تتب من تحكيمك الرجال لأقتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه! فقال "عليه السلام": بؤساً لك! ما أشقاك! كأني بك قتيلا، تسفي عليه الرياح، قال زرعة: وددت أنه كان ذلك.

بعث الإمام أميرالمؤمنين "عليه السلام" صعصعة بن صوحان مع زياد بن نضر وعبدالله بن العباس إلى القوم فلم يرتدعوا، فدعى الإمام صعصعة وقال له: بأي القوم رأيتم أشد طاعة؟ فقال صعصعة: بيزيد بن قيس الأرحبي، فركب "عليه السلام" إلى حروراء حتى وصل إلى خيمة يزيد بن قيس فصلى فيه ركعتين ثم خرج، فاتكأ على قوسه، وأقبل على الناس فقال: هذا مقام من فلج فيه فلج إلى يوم القيامة، ثم كلمهم وناشدهم فقال لهم: ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لما رفعوا المصاحف قلت لكم: إن هذه مكيدة ووهن، ولو أنهم قصدوا إلى حكم المصاحف لأتوني وسألوني التحكيم؟ أفتعلمون أن أحدا أكره إلى التحكيم مني؟ قالوا: صدقت.

قال: فهل تعلمون أنكم استكرهتموني على ذلكم حتى أجبتكم، فأشرطت أن حكمهما: نافذ ما حكما بحكم الله، فمتى خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء، وأنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني؟

فقال ابن الكواء: حكمت في دين الله برأينا، ونحن مقرون بأنا كفرنا ولكن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا به، وتب ننهض معك إلى الشام.

فقال "عليه السلام": أما تعلمون أن الله قد أمر بالتحكيم في شقاق بين الرجل وامرأته؟ فقال: "فابعثوا حكما من أهله وحكماً من أهلها"،

[ سورة النساء، الآية: 35.]

وفي صيد "كأرنب" يساوي نصف درهم فقال: "يحكم به ذوا عدل منكم".

فقالوا: فإن عمرو بن العاص لما أبى عليك أن تقول في كتابك هذا ما كتبه عبدالله علي أميرالمؤمنين محوت اسمك من الخلافة وكتبت علي بن أبي طالب، فقد خلعت نفسك.

فقال "عليه السلام": لي أسوة برسول الله "صلّى الله عليه وآله" حين أبى عليه سهيل بن عمرو أن يكتب: هذا ما كتبه محمد رسول الله "صلّى الله عليه وآله" وسهيل بن عمرو وقال: لو أقررت بأنك رسول الله ما خالفتك، ولكني أقدمك لفضلك، فاكتب محمد بن عبدالله فقال لي: يا علي، امح رسول الله.

فقلت: يا رسول الله لا تشجعني نفسي على محو اسمك من النبوة.

فقضى عليه فمحاه بيده ثم قال: اكتب محمد بن عبدالله.

ثم تبسم إلي وقال: إنك لتسام مثلها فتعطي.

فقالوا: إنا أذنبنا ذنبا عظيما، وقد تبنا، فتب إلى الله كما تبنا نعد لك.

فقال علي "عليه السلام": أستغفر الله من كل ذنب.

فرجعوا معه منهم ستة آلاف فلما استقروا بالكوفة أشاعوا: أن عليا رجع عن التحكيم ورآه ضلالا، وقالوا: إنما ينتظر أن يسمن الكراع ويجي ء المال ثم ينهض بنا إلى الشام.

فأتى الأشعث عليا "عليه السلام" فقال: يا أميرالمؤمنين إن الناس قد تحدثوا: أنك رأيت الحكومة تحكيم الحكمين ضلالاً والإقامة عليها كفراً.

فقام علي "عليه السلام" فخطب فقال: من زعم أني رجعت عن الحكمين فقد كذب، ومن رآها ضلالة فقد ضل.

فخرجت الخوارج من المسجد، ثم توجهت إلى النهروان.

ووقعت لهم في طريقهم إلى النهروان طرائف عجيبة وقضايا مبكية ومضحكة، فمنها: أنهم وجدوا مسلما ونصرانيا في طريقهم، فقتلوا المسلم لأنه عندهم كافر إذ كان على خلاف معتقدهم، واستوصوا بالنصراني وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم.

ووثب رجل منهم على رطبة سقطت من نخلة فوضعها في فمه فصاحوا به، فلفظها تورعا.

ورأى أحدهم خنزيرا فضربه وقتله، فقالوا: هذا فساد في الأرض وأنكروا قتل الخنزير.

وساوموا رجلا نصرانيا بنخلة له فقالوا: ما كنا لنأخذها إلا بالثمن، فقال النصراني: واعجباه أتقتلون مثل عبدالله بن خباب ولا تقبلون منا نخلة إلا بالثمن؟! وأما عبدالله بن خباب الأزدي، فإنه كان راكبا على حمار ومعه زوجته وهي حامل فقالوا له: حدثنا.

قال سمعت أبي يقول: قال رسول الله: ستكون بعدي فتنة، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يمسي مؤمنا ويصبح كافرا فكن عند الله المقتول ولا تكن القاتل.

قالوا: فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيرا.

قالوا: فما تقول في علي قبل التحكيم؟ وفي عثمان في السنين الست الأخيرة؟ فأثنى خيرا.

قالوا: فما تقول في علي بعد التحكيم والحكومة؟ قال: إن عليا أعلم بالله وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة.

قالوا: إنك تتبع الهوى، إنما تتبع الرجال على أسمائهم، ثم قربوه إلى شاطئ النهر فأضجعوه وذبحوه، ثم عمدوا إلى امرأته فشقوا بطنها وهي حامل! وصل القوم إلى النهروان وتوجه الإمام "عليه السلام" بجيشه إليهم، فقال "عليه السلام": يا ابن عباس امض إلى هؤلاء القوم، فانظر ما هم عليه، ولماذا اجتمعوا؟ فلما وصل إليهم، دار بينهم ما يلي: الخوارج.

ويحك يا ابن عباس: كفرت بربك كما كفر صاحبك علي بن أبي طالب! وخرج خطيبهم عتاب بن الأعور التغلبي فسأله ابن عباس:

ابن عباس: من بنى الإسلام؟

عتاب: الله ورسوله.

ابن عباس: النبي أحكم أموره وبين حدوده أم لا؟

عتاب: بلى.

ابن عباس: فالنبي بقي في دار الإسلام أم ارتحل؟

عتاب: بل ارتحل.

ابن عباس: فأمور الشرع ارتحلت معه أم بقيت؟

عتاب: بل بقيت بعده.

ابن عباس: فهل قام أحد بعده بعمارة ما بناه؟

عتاب: نعم الذرية والصحابة.

ابن عباس: فعمروها أو خربوها.

عتاب: بل عمروها.

ابن عباس: فالآن هي معمورة أم خراب؟

عتاب: بل خراب.

ابن عباس: خربها ذريته أم أمته؟

عتاب: بل أمته.

ابن عباس: أنت من الذرية أو من الأمة؟

عتاب: من الأمة.

ابن عباس: أنت من الأمة وخربت دار الإسلام فكيف ترجو الجنة؟

فقالوا: ليخرج إلينا علي بنفسه لنسمع كلامه عسى أن يزول ما بأنفسنا إذا سمعناه فرجع ابن عباس فأخبره، فركب "عليه السلام" في جماعة، ومضى إليهم فركب ابن الكوا في جماعة منهم، فلما التقوا قال الإمام "عليه السلام": يا بن الكوا إن الكلام كثير، فأبرز إلي من أصحابك لأكلمك.

فقال: وأنا آمن من سيفك؟ قال "عليه السلام": نعم.

فخرج إليه في عشرة من أصحابه فقال له علي "عليه السلام": ألم أقل لكم إن أهل الشام إنما يخدعونكم بها الحكومة ورفع المصاحف وغير ذلك فإن الحرب قد عضتهم فذروني أناجزهم فأبيتم؟ ألم أرد نصب ابن عمي ابن عباس وقلت: إنه لا ينخدع فأبيتم إلا أباموسى؟ وقلتم: رضينا به حكما.

فأجبتكم كارها؟ ولو وجدت في ذلك الوقت أعوانا غيركم لما أجبتكم، وشرطت على الحكمين بحضوركم.

أن يحكما بما أنزل الله من فاتحته إلى خاتمته.

والسنة الجامعة، وإنهما إن لم يفعلا فلا طاعة لهما علي؟ كان ذلك أو لم يكن؟ قال ابن الكواء: صدقت، كان هذا كله، فلم لا نرجع الآن إلى حرب القوم؟ قال الإمام "عليه السلام": حتى تنقضي المدة التي بيننا وبينهم.

قال ابن الكوا: وأنت مجمع على ذلك؟ قال "عليه السلام": نعم، لا يسعني غيره، فعاد ابن الكواء والعشرة الذين معه إلى أصحاب علي "عليه السلام" راجعين عن دين الخوارج وتفرق الباقون وهم يقولون: لا حكم إلا لله.

وأمروا عليهم عبدالله بن وهب الراسبي وذا الثدية، وعسكروا بالنهروان، وخرج الإمام "عليه السلام" حتى بقي على فرسخين منهم، وكاتبهم وراسلهم، فلم يرتدعوا، فأمر الإمام ابن عباس أن يركب إليهم، وقال: سلهم ما الذي نقموه؟ وأنا ردفك فلا تخف منهم.

فلما جاءهم ابن عباس قال: ما الذي نقمتم من أميرالمؤمنين؟ قالوا: نقمنا أشياء لو كان حاضراً لكفرناه بها!! والإمام يسمع كلامهم فقال ابن عباس: يا أميرالمؤمنين قد سمعت كلامهم وأنت أحق بالجواب.

فتقدم "عليه السلام" وقال: أيها الناس أنا علي بن أبي طالب، فتكلموا بما نقمتم علي.

قالوا: نقمنا عليك أولا: إنا قاتلنا بين يديك بالبصرة، فلما أظفرك الله بهم أبحتنا ما في عسكرهم ومنعتنا النساء والذرية، فكيف حل لنا ما في المعسكر ولم يحل لنا النساء؟ فقال "عليه السلام": يا هؤلاء، إن أهل البصرة قاتلونا بالقتال، فلما ظفرتم بهم قسمتم سلب من قاتلكم، ومنعتكم من النساء والذرية، فإن النساء لم يقاتلن، ولدوا على الفطرة، ولم ينكثوا ولا ذنب لهم، ولقد رأيت رسول الله "صلّى الله عليه وآله" من على المشركين، فلا تعجبوا إن مننت على المسلمين فلم أسب نساءهم ولا ذريتهم.

قالوا: نقمنا عليك يوم صفين كونك محوت اسمك من إمرة المؤمنين فإذن لم تكن أميرنا، ولست أميرا لنا!! قال "عليه السلام": يا هؤلاء إنما اقتديت برسول الله "صلّى الله عليه وآله" حين صالح سهيل بن عمرو وقد تقدمت عنهم في ذلك الوقت.

قالوا: نقمنا عليك.

أنك قلت للحكمين: انظروا كتاب الله، فإن كنت أفضل من معاوية فأثبتاني في الخلافة.

فإذا كنت شاكا في نفسك فنحن فيك أشد وأعظم شكا! قال "عليه السلام": إنما أردت بذلك النصفة الإنصاف فإني لو قلت: أحكما لي دون معاوية لم يرض ولم يقبل، ولو قال النبي "صلّى الله عليه وآله" لنصارى نجران لما قدموا عليه: تعالوا نبتهل فأجعل لعنة الله عليكم.

فلم يرضوا، ولكن أنصفهم من نفسه كما أمره الله فقال: "فنجعل لعنة الله على الكافرين"

[ سورة آل عمران، الآية: 61.]

فأنصفهم من نفسه، فكذلك فعلت أنا ولم أعلم بما أراد عمرو بن العاص من خدعة أبي موسى.

قالوا: فإنا نقمنا عليك أنك حكمت حكما في حق هو لك.

فقال "عليه السلام": إن رسول الله "صلّى الله عليه وآله" حكم سعد بن معاذ في بني قريظة ولو شاء لم يفعل، وأنا اقتديت به، فهل بقي عندكم شي ء؟ فسكتوا وصاح جماعة منهم من كل جانب: التوبة التوبة يا أميرالمؤمنين فأعطى أميرالمؤمنين راية أمان مع أبي أيوب الأنصاري، فناداهم أبوأيوب من جاء إلى هذه الراية أو خرج من الجماعة فهو آمن.

فرجع منهم ثمانية آلاف، فأمر "عليه السلام" المستأمنين بالاعتزال وبقي أربعة آلاف منهم مستعدين للقتال، فخطبهم الإمام ووعظهم فلم يرتدعوا، وصاح مناديهم فيهم: دعوا مخاطبة علي وأصحابه، وبادروا إلى الجنة.

وصاحوا: الرواح إلى الجنة!! وتقدم حرقوص ذو الثدية وعبدالله بن وهب وقالا: ما نريد بقتالنا إياك إلا وجه الله والدار الآخرة، فقال "عليه السلام": "هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"

[ سورة الكهف، الآيتان: 103 و 104.]

فكان أول من خرج أخنس بن العزيز الطائي، فقتله الإمام "عليه السلام" وخرج عبدالله بن وهب ومالك بن الوضاح، وخرج أميرالمؤمنين "عليه السلام" وقتل الوضاح وضرب ضربة على رأس الحرقوص وقتله، وأمر أصحابه بالهجوم على العدو.عند ذلك استعرت الحرب والتهبت نيرانها، وأما عبدالله بن وهب الراسبي فصاح: يا ابن أبي طالب: والله لا نبرح من هذه المعركة حتى تأتي على أنفسنا ونأتي على نفسك، فأبرز إلي وأبرز إليك، وذر الناس جانبا، فلما سمع الإمام كلامه تبسم وقال: قاتله الله من رجل ما أقل حياءه، أما أنه ليعلم إني حليف السيف وخدين الرمح، ولكنه قد يئس من الحياة، وإنه ليطمع طمعا كاذبا، ثم حمل عليه الإمام فضربه وقتله وألحقه بأصحابه في النار، واختلط الجيشان فلم تكن إلا ساعة حتى قتلوا بأجمعهم وكانوا أربعة آلاف، ولم ينج منهم إلا تسعة أنفس: رجلان هربا إلى خراسان إلى أرض سجستان وبها نسلهما، ورجلان صارا إلى اليمن وفيهما نسلهما "وهم الإباضية"، ورجلان صارا إلى بلاد الجزيرة إلى موضع يعرف بالسن والبواريخ نواحي تكريت في شمال العراق والباقون تفرقوا في البلاد.

وقتل من أصحاب علي "عليه السلام" بعدد من سلم من الخوارج.

الغارات الثلاث على بلاد الإمام


بسم الله الرحمن الرحيم

لما وقع التحكيم في صفين وحصل الانشقاق والافتراق في أصحاب الإمام وتكونت الخوارج انتهز معاوية الفرصة فكان يرسل الجيوش إلى بلاد الإمام "عليه السلام" ويفتك بالناس ويهاجمهم غدرا وصبرا.

وقد تكررت منه هذه الجريمة والجناية، ونقتطف ثلاث غارات شنها معاوية على المسلمين وأقام المجازر والمذابح وبلغ أقصى مراتب القساوة والوحشية والهمجية، نذكر لكم كل غارة بشي ء من التفصيل: الغارة الأولى روى ابن أبي الحديد عن ابن الكنوز قال: حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال: دعاني معاوية فقال: إني باعثك في جيش ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر ب"هيت" فتقطعها، فإن وجدت بها جندا فأغِر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جندا فامض حتى توغل المدائن ثم أقبل إلي: واتق أن تقرب الكوفة واعلم: أنك إن أغرت على الأنبار وأهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة إن هذه الغارات يا سفيان: على أهل العرق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، واخرب كل ما مررت به من القرى، وصرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب.

هذه وصايا معاوية، هكذا يأمر عميله بالقتل والحرق والهدم والسلب والنهب بقوم مسلمين مؤمنين، ومع ذلك هو أميرالمؤمنين!! قال سفيان: فخرجت من عنده فعسكرت، وقام معاوية في الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، انتدبوا مع سفيان بن عوف فإنه وجه عظيم فيه أجر، سريعة فيه أوبتكم إن شاء الله.

ثم نزل.

فو الله الذي لا إله غيره ما مرت ثالثة حتى خرجت في ستة آلاف، ثم لزمت شاطئ الفرات، فأغذذت "أسرعت" السير حتى أمر بهيت فبلغهم أني قد غشيتهم فقطعوا الفرات فمررت بها وما بها غريب، كأنها لم تحلل قط، فوطأتها حتى أمر بصدوراء ففروا، فلم ألق بها أحدا، فأمضي حتى أفتتح الأنبار، وقد أنذروا بي، فخرج صاحب المسلحة إلي، فوقف فلم أقدم عليه حتى أخذت غلمانا من أهل القرية فقلت لهم: أخبروني كم بالأنبار من أصحاب علي؟ قالوا: عدة رجال المسلحة خمسمائة، ولكنهم تبددوا ورجعوا إلى الكوفة، ولا ندري الذي يكون فيها، قد يكون مائتي رجل.

فنزلت فكتبت أصحابي كتائب، ثم أخذت أبعثهم إليه كتيبة بعد كتيبة، فيقاتلهم والله ويصبر لهم ويطاردهم، ويطاردونه في الأزقة، فلما رأيت ذلك أنزلت إليهم نحوا من مأتين، وأتبعتهم الخيل، فلما حملت الخيل وأمامها الرجال تمشي لم يكن شي ء حتى تفرقوا، وقتل صاحبهم في نحو ثلاثين رجلا، وحملنا ما كان من الأنبار من الأموال، ثم انصرفت، فوالله ما غزوت غزاة كانت أسلم ولا أقر للعيون، ولا أسر للنفوس منها وبلغني أنها رعبت الناس، فلما عدت إلى معاوية حدثته الحديث على وجهه فقال: كنت عند ظني بك.

ولا تنزل في بلد من بلداني إلا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه أميره، وإن أحببت تولية وليتك، وليس لأحد من خلق الله عليك أمر دوني...

الخ.

وصلت هذه الأخبار إلى الإمام "عليه السلام" فصعد المنبر فخطب الناس وقال: إن أخاكم البكري عامل الأنبار قد أصيب، وهو اختار ما عند الله على الدنيا فانتدبوا إليهم حتى تلاقوهم فإن أصبتم منهم طرفاً أنكتموهم عن العراق أبدا ما بقوا.

ثم سكت عنهم رجاء أن يجيبوه أو يتكلم منهم متكلم، فلم ينبس أحد منهم بكلمة، فلما رأى صمتهم نزل وخرج يمشي حتى أتى النخيلة والناس خلفه حتى أحاط به القوم من أشرافهم، فقالوا: ارجع يا أميرالمؤمنين: نحن نكفيك فقال: ما تكفونني، ولا تكفون أنفسكم!! فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، فرجع وهو واجم ساكت كئيب، ودعى سعيد بت قيس الهمداني.

فبعثه من النخيلة في ثمانية آلاف وذلك أنه أخبر أن القوم جاءوا في جمع كثيف فخرج سعيد بن قيس على شاطئ الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى إذا بلغ عانات سرح أمامه هاني بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى أدنى قنسرين، فقد فاتوه فانصرف.

ولبث الإمام "عليه السلام" ترى فيه الكآبة والحزن حتى قدم سعيد بن قيس، وكان "عليه السلام" تلك الأيام عليلا، فلم يقو على القيام في الناس بما يريده من القول، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد، ومعه ابناه الحسن والحسين "عليهماالسلام" وعبدالله بن جعفر، ودعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب وأمره أن يقرأ على الناس، فقام سعد بحيث يستمع أميرالمؤمنين صوته، ثم قرأ الخطبة: أما بعد: فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى، ودرع الله الحصينة، وجنته الوثيقة، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل، وشملة البلاء، وديث بالصغار والقمار، وضرب على قلبه بالأسداد وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف.

ألا:

وإني قد دعوتكم إلى قتال القوم ليلاً ونهاراً، وسراً وإعلاناً، وقلت لكم: أغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا.

فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الأوطان، وهذا أخو غامد قد وردت خيله الأنبار وقد قتل حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها.

ولقد بلغني: أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع منها حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم، فلو أن امرءً مسلما مات بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.

فيا عجباً، عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، فقبحا لكم وترحا! حين صرتم غرضا يرمى! يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، ويعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم: هذه حمارة القيظ أمهلنا يسبخ عنا الحر.

وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم: هذه صبارة القر أمهلنا ينسلخ عنا البرد.

كل هذا فرارا من الحر والقر، فإذا كنتم من الحر والقر تفرون فأنتم والله من السيف أفر.

يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال! وعقول ربات الحجال! لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدماً! قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتموني نغب التهمام علي أنفاسا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان، حتى قالت قريش: إن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب!! لله أبوهم! وهل أحد منهم أشد مراساً وأقدم فيها مقاماً مني؟ ولقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع!!. الغارة الثانية وهذه جناية أخرى قام بها أحد عملاء معاوية وهو بسر بن أرطأة أو ابن أبي أرطأة.

روى ابن أبي الحديد: أن قوماً بصنعاء اليمن كانوا من أتباع عثمان يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعلي "عليه السلام" على ما في أنفسهم، وعامل أميرالمؤمنين على صنعاء يومئذ عبيدالله بن العباس وعامله على الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس على علي "عليه السلام" بالعراق وقتل محمد بن أبي بكر بمصر، وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيدالله بن العباس فأرسل إلى الناس من وجوههم، ما هذا الذي بلغني عنكم؟ قالوا: إنا نفكر في قتل عثمان، ونرى مجاهدة من سعى عليه.

فحبسهم، فكتبوا إلى من في الجند من أصحابهم فساروا بسعيد بن نمران وأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من كان بصنعاء وانضم إليهم كل من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم، إرادة أن يمنعوا الصدقة، فالتقى عبيدالله بن العباس يسعيد بن نمران ومعهما شيعة علي "عليه السلام"، فقال ابن العباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وإنهم لنا لمقاربون وإن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة؟ فهلم لنكتب إلى أميرالمؤمنين "عليه السلام" بخبرهم.

فكتب إلى أميرالمؤمنين "عليه السلام": أما بعد.

فإنا نخبر أميرالمؤمنين أن أتباع عثمان وثبوا بنا، وأظهروا أن معاوية قد شيد أمره، واتسق له أكثر الناس وإنا سرنا بشيعة أميرالمؤمنين، ومن كان على طاعته، إلخ.

فلما وصل كتابهما ساء عليا "عليه السلام" وأغضبه، وكتب إليهما: من علي أميرالمؤمنين إلى عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران.

سلام الله عليكما، فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد.

فإنه لما أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة وتعظمان من شأنها صغيرا، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب جبن أفئدتكما وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما وسوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من كان عن لقائكما جبانا، فإذا قام رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرئا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم، وتقوى ربهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء إن الله لا يحب كيد الخائنين.

فكتب "عليه السلام": من عبدالله علي أميرالمؤمنين إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.

أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا يعقب له حكم ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، وقد بلغني تجرؤكم وشقاؤكم وإعراضكم عن ديتكم بعد الطاعة، وإعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح عن بدء مخرجكم وما نويتم به وما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شي ء عذرا منه مبينا، ولا مقالا جميلا ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا، وانصرفوا إلى رحابكم، أعف عنكم، وأصفح عن جاهلكم وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب، فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان يقصد لمن طغى وعصى، فتظحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد.

وأرسل الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب، فلم يجيبوه إلى خير، فقال لهم: إني تركت أميرالمؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف، فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم.

فقالوا: نحن سامعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيدالله وسعيدا.

فرجع الهمداني إلى علي "عليه السلام" فأخبره خبر القوم، وكتبت تلك العصابة حينئذ إلى معاوية يخبرونه، فلما قدم كتابهم دعا معاوية بسر بن أرطأة، وكان قاسي القلب، فظا سفاكا للدماء، لا رأفة عنده ولا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم، وأنك محيط بهم ثم اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي! فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة علي حيث كانوا!! سار بسر بن أرطأة في ثلاثة آلاف، وكان إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها، وقادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل، وبركبون إبل هؤلاء لئلا يصل الخبر إلى البلاد التي يقصدونها فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب المدينة فاستقبلتهم قضاعة ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة، وعامل علي "عليه السلام" على المدينة يومئذ: أبوأيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله "صلّى الله عليه وآله"، فخرج عنها هاربا، ودخل بسر المدينة فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه، إن الله تعالى ضرب مثلا: "قرية كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدا فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف".

[ سورة النحل، الآية: 112.]


وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبي ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربكم ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت، إن كان للمؤمنين قلتم: ألم نكن معكم؟! وإن كان للكافرين نصيب قلتم: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؟!.

ثم شتم الأنصار فقال: يا معشر اليهود! وأبناء بني زريق! وبني النجار، وبني سالم وبني عبد الأشهل! والله لأوقعكن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين، وآل عثمان، أما والله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة!!.

فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم، ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى، ويقال إنه زوج أمه.

فصعد إليه المنبر وناشده، وقال: عترتك وأنصار رسول الله، وليست بقتلة عثمان.

فلم يزل به حتى سكن ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه ونزل، فأحرق دورا كثيرة.

منها دار زرارة بن حرون، ودار أبي أيوب الأنصاري، وفقد جابر بن عبدالله الأنصاري فقال: ما لي لا أرى جابرا؟ يا بني سلمة.

لا أمان لكم عندي أو أن تأتوني بجابر.

فعاذ جابر بأم سلمة زوجة النبي، فأرسلت إلى بسر بن أرطأة فقال: لا آمنه حتى يبايع.

فقالت أم سلمة اذهب فبايع.

وقالت لابنها عمر:اذهب فبايع، فذهبا فبايعاه.

ثم خرج إلى مكة، فلما قرب منها هرب قثم بن العباس، وكان عامل علي "عليه السلام" ودخلها بسر، فشتم أهل مكة وأنبهم، ثم خرج عنهم واستعمل عليهم شيبة بن عثمان، وفي طريقه من المدينة قتل رجالا وأخذ أموالا، ثم دخل الطائف وشتم وقتل، ثم دخل نجران وشتم وقتل، حتى دخل صنعاء، وقد خرج عنها عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران، وقد استخلف عبيدالله عليها عمرو بن أراكة، فمنع بسرا عن دخولها، وقاتله فقتله بسر ودخل صنعاء فقتل منها قوما، وأتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد.

ثم خرج بسر من صنعاء، فأتى أهل جلسان وهم شيعة علي "عليه السلام" فقاتلهم وقاتلوه فهزمهم، وقتلهم قتلا ذريعا، ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس، لأن ابني عبيدالله بن العباس كانا مستترين في بيت إمرأة من أبنائهم وذبح بسر ابني عبيدالله بمدية كانت معه، "وكانا طفلين صغيرين وهما: عبدالرحمن وقثم" فلما أراد ذبحهما قيل: وكانا عند رجل من بني كنانة، فقال له الكناني: ولم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فإن كنت قاتلهما فاقتلني معهما.

قال: أفعل.

فقتله، ثم ذبحهما "!!"، فخرجت نسوة من بني كنانة، فقالت إمرأة: يا هذا قتلت الرجال فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والإسلام!!

والله يا بن أرطأة إن سلطانا لا يقوم إلا بقتل الصبي الصغير، والشيخ الكبير، ونزع الرحمة، وعقوق الأرحام لسطان سوء!! فلما سمعت أم الطفلين خبر ذبح ولديها أصابها وله على ابنيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلا قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في الموسم تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:

ها من أحس بابني اللذين هما

كالدرتين تشظي عنهما الصدف

يا من أحس بابني اللذين هما

سمعي وقلبي اليوم مردهف

يا من أحس بابني اللذين هما

مخ العظام فمخي اليوم مختطف

نبئت بسرا وما صدقت ما زعموا

من قولهم، ومن الإفك الذي اقترفوا

أنحى على ودجي ابني مرهفة

مشحوذة، وكذاك الإفك يقترف

حتى لقيت رجالاً من أرومته

شم الأنوف في قومهم شرف

فالآن ألعن بسراً حق لعنته

هذا لعمر أبي بسر هو السرف

من دل والهة حرى مولهة

على حبيبين ضلا إذ غدى السلف

ولما بلغت هذه الأخبار إلى أميرالمؤمنين "عليه السلام" جزع جزعا شديدا، ودعا على بسر لعنه الله وقال: اللهم أسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه عقله.

فأصابه ذلك وفقد عقله، وكان يهذي بالسيف ويطلبه فيؤتى بسيف من خشب ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتى يسأم أو يغشى عليه إلى أن مات عليه لعنة الله.

وبلغ عدد القتلى الذين قتلهم بسر في الحجاز واليمن ثلاثين ألفا، سوى الذين أحرقهم بالنار، وعدا الدور التي هدمها.

والخطب الأفظع الذي ارتكبه عميل معاوية بسر بن أرطأة هم أنه لما أغار على قبيلة همدان، وهم شيعة علي أميرالمؤمنين "عليه السلام": قتل رجالهم وسبى نساءهم، فكن أول مسلمات سبين في الإسلام، ولقد أشار سيدنا أبوذر الغفاري إلى هذه الجناية التي تقشعر منها الجلود جلود أهل الغيرة والحمية والإيمان بقوله: وأما يوم العورة: فإن نساء من المسلمات يسبين، فيكشف عن سوقهن جمع ساق فأيتهن كانت أعظم ساقا اشتريت على عظم ساقها، فدعوت الله أن لا يدركني هذا الزمان.

فصدرت هذه الجناية من بسر بن أرطأة.

أنه بعد أن سبي نساء الشيعة من همدان وذهب بهم إلى الشام فأقامهن في السوق، وعرضهن للبيع كما ذكرنا.

ووصلت هذه الأخبار الفجيعة إلى أميرالمؤمنين وهو في الكوفة وكان "عليه السلام" يجلس كل يوم في موضع من المسجد الأعظم يسبح به بعد الغداة إلى طلوع الشمس، فلما طلعت نهض إلى المنبر فضرب بإصبعيه على راحته وهو يقول: ما هي إلا الكوفة، ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت، تهب أعاصيرك، فقبحك الله، ثم تمثل بقول الشاعر:

لعمر أبيك الخير يا عمرو: إنني

على وضر من ذا الإناء قليل

ثم قال:

أنبئت بسرا قد اطلع على اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم صاحبكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته: اللهم: إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم شرا مني، اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء.

أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم:

هنالك لو دعوت أتاك منهم

فوارس مثل أرمية الحميم

ثم نزل "عليه السلام" من المنبر. الغارة الثالثة ذكر ابن أبي الحديد أنه أرسل معاوية النعمان بن بشير وآباهريرة إلى أميرالمؤمنين عليه الصلاة والسلام يسألانه أن يدفع قتلة عثمان إلى معاوية ليقتص منهم، لعل الحرب أن تطفأ ويصطلح الناس، وإنما أراد معاوية أن يرجع مثل النعمان وأبي هريرة من عند علي "عليه السلام" وهم لمعاوية عاذرون ولعلي لائمون، لأن معاوية كان يعلم أن عليا لا يدفع قتلة عثمان إليه، فأراد أن يكون هذان يشهدان له عند أهل الشام بذلك، وأن يظهر عذره.

فقال لهما معاوية: ائتيا عليا فانشداه الله وسلاه "اسألاه" بالله لما دفع إلينا قتلة عثمان، فإنه قد آواهم أو منعهم، ثم لا حرب بيننا وبينه، فإن أبى فكونوا شهداء لي عليه وأقبلا على الناس وأعلماهم ذلك.

فأتيا عليا "عليه السلام" فدخلا عليه فقال أبوهريرة: يا أباالحسن، إن الله قد جعل لك في الإسلام فضلا وشرفا: أنت ابن عم محمد رسول الله وقد بعثنا إليك ابن عمك معاوية يسألك أمرا تسكن به هذه الحرب، ويصلح الله تعالى به ذات البين.

أن تدفع إليه قتلة عثمان ابن عمه فيقتلهم به، ويجمع الله تعالى أمرك وأمره، ويصلح بينكم وتسلم هذه الأمة من الفتنة والفرقة.

ثم تكلم النعمان بنحو من هذا، فقال "عليه السلام": دعا الكلام في هذا، حدثني يا نعمان: أنت أهدى قومك سبيلا؟ "يعني الأنصار" فقال: لا.

قال فكل قومك تبعني إلا شذاذ منهم ثلاثة أو أربعة أفتكون أنت من الشذاذ؟ فقال النعمان: أصلحك الله إنما جئت لأكون معك وألزمك، وقد كان معاوية سألني أن أؤدي هذا الكلام، ورجوت أن يكون لي موقف أجتمع فيه معك، وطمعت أن يجري الله بينكما صلحا، فإذا كان غير هذا رأيك فأنا ملازم وكائن معك.

فأما أبوهريرة فلحق بالشام، وأقام النعمان عند علي "عليه السلام"، فأخبر أبوهريرة معاوية بالخبر فأمره أن يعلم الناس ففعل، وأقام النعمان بعده، ثم خرج فارا من علي "عليه السلام" حتى إذا مر بعين التمر، أخذه مالك بن كعب الأرحبي وكان عامل علي عليها، فأراد حبسه وقال له: ما مر بك هيهنا؟ قال: إنما أنا رسول، بلغت رسالة صاحبي ثم انصرفت.

فحبسه مالك وقال: كما أنت حتى أكتب إلى علي فيك.

فناشده، وعظم عليه أن يكتب إلى علي فيه، فأرسل النعمان إلى قرطة بن كعب الأنصاري وهو كاتب عين التمر يجبي خراجها لعلي "عليه السلام"، فجاءه مسرعا فقال لمالك: خل سبيل ابن عمي يرحمك الله.

فقال يا قرطة اتق الله ولا تتكلم في هذا فإنه إن كان من عباد الأنصار ونساكهم كيف يهرب من أميرالمؤمنين إلى أمير المنافقين؟.

فلم يزل يقسم عليه حتى خلى سبيله وقال له: يا هذا الأمان اليوم والليلة وغدا، والله لئن أدركتك بعدها لأضربن عنقك.

فخرج مسرعا لا يلوي على شي ء، وذهبت به راحلته فلم يدر أين تتئكع من الأرض ثلاثة أيام لا يعلم أين هو، ثم قدم إلى معاوية فخبره بما لقي، ولم يزل معه مصاحبا له، يجاهد عليا ويتبع قتلة عثمان حتى غزى الضحاك بن قيس أرض العراق ثم انصرف إلى معاوية، فقال معاوية: أما من رجل أبعث معه بجريدة خيل حتى يغير على شاطئ الفرات فإن الله يرعب بها أهل العراق؟ فقال له النعمان: فابعثني فإن لي في قتالهم نية وهوى وكان النعمان عثمانيا قال: فانتدب على اسم الله.

فانتدب وندب معه ألفي رجل وأوصاه أن يتجنب المدن والجماعات، وأن لا يغير إلا على مسلحة، وأن يعجل الرجوع.

فأقبل النعمان حتى دنى من عين التمر، وبها مالك بن كعب الأرحبي الذي جرى له ما ذكرناه ومع مالك ألف رجل، وقد أذن لهم، فقد رجعوا إلى الكوفة، فلم يبق معه إلا مائة أو نحوها، فكتب مالك إلى علي "عليه السلام": أما بعد: فإن النعمان بن بشير قد نزل بي في جمع كثيف، فمر رأيك سددك الله تعالى وثبتك والسلام.

فوصل الكتاب إلى علي "عليه السلام"، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أخرجوا هداكم الله إلى مالك بن كعب أخيكم، فإن النعمان بن بشير قد نزل في جمع من أهل الشام ليس بالكثير فانهضوا إلى إخوانكم لعل الله يقطع بكم من الكافرين طرفا.

ثم نزل، فلم يخرجوا، فأرسل إلى وجوههم وكبرائهم فأمر أن ينهضوا ويحثوا الناس على المسير فلم يصنعوا شيئا.

واجتمع منهم نفر يسير نحو ثلاثمائة فارس أو دونها فقام "عليه السلام" فقال: "منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت، لا أباً لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم؟ أما دين يجمعكم؟ ولا حمية تحمشكم؟ أقوم فيكم مستصرخا، وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا، ولا تطيعون لي أمرا، حتى تكشف الأمور عن عواقب المساءة، فما يدرك بكم ثأر، ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصرة إخوانكم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل الأدبر، ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون".

/ 40