الابحاث التي تنشر فيالمجلة لاتعبّر بالضرورة عن رأيها.
نويسنده: الاستاذ محمد باقر الحكيم
ترتيب نشر المقالات يخضع لاعتبارات فنية.
لهيئة التحرير الحق في اجراء ماتراه مناسبا من تعديل او حذف في المقالات
ممّا لايمس جوهرالمضمون و لايخل بالمعني.
المجلة غير ملزمة باعادة المواد التي لاتنشرها الي اصحابها.
* * *
كيفية الاشتراك: يرجي من الراغب في الاشتراك في المجلة أن يودع مبلغ الاشتراك في الحساب الجاري رقم 90189 في (بانك ملي، شعبه سيد جمالالدين اسدآبادي) باسم (پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي) علي أن يرسل اصل الوصل الي مكتب المجلة مع اسم المشترك و عنوانه البريدي الكامل.
فهرس الموضوعات
مقالات
كلمة العدد (رئيسالتحرير)···1
العالمية و الخاتمية و الخلود (الاستاذ محمدباقر الحكيم)···3
المرأة و التنمية الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام (الاستاذ محمدعلي التسخيري)···23
كلام في الحضارة الاسلامية (الدكتور حسن حنفي)···35
من العلم الديني الي العلم العلماني (الدكتور مهدي گلشني)···49
نظرية الفكر المدون في الاسلام (الاستاذ مهدي هادوي)···87
نظرة تحليلية في التعددية الدينية (السيد محمدرضا الحجازي)···121
علم الكلام و اُسلوب الاستنباط من النصوص الدينية (رضا برنجكار)···145
بحث في الأصول الاربعمائة (كامران ايزدي مباركه)···169
منهاج السالكين و معراج الطالبين (الدكتور السيد محمد دامادي)···195
الصناعة في الحضارة الإسلامية (الاستاذ احمد عبدالباقي)···209
شخصية العدد (جعفر صادق الخليلي)···235
جولة بينالكتب و المجلات···241
اخبار ثقافية منالعالم الاسلامي···253
كلمة العدد
الامام الخميني والحضارة الاسلامية
أطلق القائد المعظم للثورة الإسلامية في ايران اسم (سنة الامام الخمينيره)
علي هذه السنة، سنة 1378 الهجرية الشمسية.
إننا إذا أمعنا النظر في الآثار والأفكار التي خلّفها الامام ندرك أن ذلك الرجل العظيم كان يعني عناية خاصة ببناء الحضارة الاسلامية وفق مايقتضيه العصر الحاضر.
إن الحضارة التي كان يريدها الامام هي تلك التي تجلب للأمة الاسلامية العزة والرفعة في العالم. تلك الحضارة كانت قائمة علي قواعد منها الثقة بالنفس والاعتماد عليها والحذر من الاستهانة بالقيمة الذاتية وتعظيم الآخرين.
كان الامام يؤمن بهذا ولطالما دعا الناس الي ذلك قائلا لهم إن نجاحكم يكمن في الاتكاء علي قدراتكم وإمكاناتكم في دنيا الاسلام. إن ما في العالم الاسلامي من التراب والماء، ومالدي المسلمين من الخزين الفكري لقادر علي أن يمّهد لحضارة تتسامق جدرانها الشاهقة القائمة علي مناكب هذا الجيل الواثق بنفسه.
في الواقع، إن لنا تجارب قيمة لو أنها تظافرت بشكل ما مع قدرات أمتنا اليوم ومواهبها لأمكن خلق حضارة فضلا عن كونها ذات صبغة انسانية و نافعة، فانها ستوصل المسلمين الي مراقي النجاح في بلوغ الوسائل المادية والمعنوية للظهور علي مسرح العالم و للقيام بدور خلاق فيه.
من المواضيع الاخري التي كان الامام (ره) لا يفتأ يؤكدها هو أن يكون بناء الحضارة الاسلامية مصطبغاً بالصبغة الانسانية كتهذيب النفس والسعي لبلوغ الكمال والتمحور حول الرسالة.
يري الامام (ره) أن الحضارة تقوم علي ركنين اثنين : رؤوس الأموال المادية، و رؤوس الأموال المعنوية.
إن العنصر الأساس في استمرارية الحضارة الاسلامية والانتفاع بها هو الركن الانساني فيها والذي يقوم العلماء والمفكرون بتشييده، وهذا هو الذي يميز الحضارة الاسلامية عن سائر الحضارات الأخري. في الحضارة الاسلامية يسعي الانسان المسلم لمعرفة العلائق والروابط والقواعد والنواميس في الحياة للاستفادة منها، وهو يستخدم تلك المعرفة واصطناع وسائلها علي طريق هداية الانسان. و بعبارة اخري، الحضارة الاسلامية هي حضارة تناغم الانسان وانسجامه مع السنن والقواعد الإلهية والنواميس الكونية، لا لتسخير الانسان وتضليله، بل بالاستفادة من تلك القواعد و وسائل المعرفة للصالح العام.
إن مجلة «آفاق الحضارة الاسلامية» في هذه السنة التي سميت في ايران باسم الامام الخميني (ره) والتي سميت دولياً باسم سنة الحوار بين الحضارات، باقتراح من رئيس الجمهورية الاسلامية المحترم، السيد محمد خاتمي، و بتصديق هيئة الامم المتحدة، تمديدها مصافحة جميع الباحثين والعلماء العاملين في حقل الثقافة والحضارة الاسلامية، مطالبة إياهم أن يتحفوها بما تجود به قرائحهم في هذا الباب إسهاماً منهم في بلوغ الغاية المنشودة.
و نرجو أن تبزغ علينا الطليعة المباركة للحضارة الاسلامية الجديدة، لتعطر مرة اخري ببركاتها وخيراتها مشام البشرية بأسرها
تمهيد:
قال تعالي: (قُلْ ياآيّها النّاسُ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ جَميعاً الَّذي لَهُ مُلْكُ السّماواتِ وَالأَرضِ لا إله إلاّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ فآمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيّ الاُءمِّيّ الذي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لُعُلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
وقال تعالي: (ما كان مُحمّد أبا أَحَدٍ مِنْ رجالِكُمْ ولِكنْ رَسُولَاللّه وَ خاتَمَ النَبييّنَ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شيٍ عَلِيماً).
وقال تعالي: (هُو الذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدي وَدِينِالحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلي الدّينِ كُلِّهِ وَلَو (العالمية) و (الخاتمية) و (الخلود)، صفات ثلاث تعتبر من أبرز خصائص الرسالة الإسلامية ومواصفاتها التي تتميّز بها علي سائر الرسالات الالهية، وهي صفات وإن كانت مترابطة ومتداخلة في مضمونها ومحتواها، ولكنها في الوقت نفسه متمايزة فيما بينها، وتستحق الوقوف عندها لمعرفة آفاقها الحضارية، ولا سيما فيعصرنا الحاضر.
و سوف أحاول في هذا الحديث القصير، أن أتناول هذه الصفات، لا في جانب اثبات هذه الميزات للرسالة الاسلامية فحسب، فإنّ ذلك يكاد أن يكون من بديهيات العقيدة الاسلامية، ويكفينا في الدلالة عليها الآيات الكريمة التيذكرناها أعلاه،بل أحاول أن أتناول ـ بصورة مختصرة ـ مضمون هذه الميزات ومحتواها من ناحية، و بعض المشكلات الحقيقية التي و اجهتها ومعالجة الإسلام لها من ناحية أخري، لنستفيد من ذلك بعض الدروس و العِبَر في النهضة الإسلامية المعاصرة، ونفي ببعض الحاجات التي يفرضها تطلّع البشرية إلي حضارة الاسلام كمنقذ لها من محنتها وآلامها.
العالمية
يبدو لأول وهلة أنّ (العالمية) الإسلامية تعني من الناحية الواقعية: أن تكون الرسالة في خطابها ومضمونها العقائدي و الاجتماعي و السياسي،مضموناً لا يخص جماعة من الناس دون أخري، ولا منطقة من الأرض دون غيرها، وهذا ما تكفّلت به العقيدة الإلهية و الشريعة الإسلامية، التي جاء بها القرآن الكريم، و النبيالعظيم (ص). ولكن هل يختص ذلك بالرسالة الإسلامية، وهل يمكن أن نقول بأنّ ما جاء به سائر أولي العزم من الرسل مثل نوح و ابراهيم وموسي وعيسي (ع)، كان مختصاً بجماعة دون أخري؟!
نحن نعرف أنّ الاسلام يمثل الامتداد الطبيعي للرسالات الإلهية، الُمصدِّق لها، و المهيمن عليها، وأنّ من العقائد الأساس في الإسلام هي (الايمان باللّه، وملائكته، و كتبه، ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله).
(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْناوَأطَعْنا غُفْرانَكَ ربَّناوَإلَيْكَ الْمَصِيرُ).
وهذا قد يشير فيما يشير إليه عدم اختصاص هذا الأمر بالإسلام وحده، و الشواهد علي هذه الحقيقة و الاشتراك بين هذه الرسالات في هذه الخصوصية من العالمية كثيرة يمكن أن نجدها في القرآن الكريم نفسه.
ولذا فإنّ من المهم أن ننظر إلي (العالمية) في الاسلام من زاوية وبُعد آخر، مضافاً إلي هذا البعد الصحيح في المحتوي و المضمون.
وهذا البُعد هو أن العالمية هي تعبير ـ أيضاً ـ عن مرحلة تكاملية نظرية و عملية في مسير الرسالة الإلهية، وكانت تمثل هذه (المرحلة) الهدف الأسمي لمسيرة الرسالات الإلهية، وقد بشرت الرسالات الإلهية بهذه المرحلة التكاملية في آخر مسيرة هذه الرسالات (الذِّينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِيَّ الّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ في التَوْراةِ وَالإنْجيلِ يأمُرُهُمْ بالْمَعْروُفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطّيّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُم إصْرَهُمْ وَالأغلالَ التي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَ نَصَروهُ و اتَّبعُوا النُّورَ الّذي اُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ).
لقد جاء في سياق هذه الآية الدعوة للناس جميعاً في الآية السابقة التي افتتحنا بها الحديث و غيرها من الآيات. فهي في ذلك كعقيدة التوحيد للّه تعالي، الذي كان ولا زال يمثل الحقيقة الثابتة لمضمون الرسالات الالهية وهدفها ولكنه في مسيرة الإنسان التكاملية، كان (التوحيد) يواجه في كل مرحلة مشكلة انتكاسة الإنسان علي مستوي العقيدة نحو عبادة الأوثان بمختلف أشكالها، كما شاهدنا ذلك بعد نوح، و ابراهيم، و موسي، و عيسي (ع)، ونشاهده الآن في عبادة الهوي، و الشهوات، و القوة... في هذا العصر و الزمان. ومن ناحية أخري لم يكن للتوحيد في المراحل السابقة في صياغاته التطبيقية و التشريعية امتداد علي جميع مناحي الحياة الإنسانية، بل كان مقتصراً علي العبادة و بعض النشاطات الاجتماعية، فأصبح في الرسالة الإسلامية (التوحيد) منهجاً يشمل كل مناحي الحياة الإنسانية من خلال الشريعة الإسلامية الكاملة.
فالعالمية في مضمونها الإسلامي الخاص، تعبير عن مرحلة تاريخية خارجية جديدة وصلت فيها مسيرة الرسالات الإلهية إلي تجسيد العالمية نظرياً وعملياً، وقد واكب هذا التطور في المسيرة منهاج وتفصيل تشريعي، يُلبي متطلبات هذه المرحلة، ويَفي بحاجاتها وتحقيق أهدافها.
فمثلاً رسالة موسي عليه السلام (اليهودية)، وإن كانت عالمية بمضمونها وخطابها العام، وليست خاصة ببني اسرائيل، ولكنها من الناحية العملية التاريخية الخارجية بقيت محصورة ببني اسرائيل، بحيث تحولت ـ بعد ذلك ـ خارجياً إلي رسالة قومية، وتنظيمها التشريعي نظام شامل لجماعة بني اسرائيل. وتحول بنو اسرائيل ـ بعد الإنحرف ـ إلي شعب مختار، يفتش عن الامتيازات ويؤمن بها، فهم أولياء اللّه وأحباؤه ولهم الدار الآخرة عند اللّه خالصة من دون الناس وليس عليهم في الأميين سبيل وأنّهم علي شيء ،و غيرهم ليس علي شيء... إلي آخر هذه الادعاءات التي يتحدث عنها القرآن الكريم.
وهنا نري أمامنا ـ بالمقارنة ـ التطور التاريخي في (العالمية) الذي تحقق في الرسالة الإسلامية علي مستوي الأمةالمقصودة في الخطاب، بحيث تحول (الشعب المختار) عند الاسرائيلين إلي الأمة الإنسانية المسؤولة المختارة في الرسالة الإسلامية (كُنْتُمْخَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...)، و بذلك تصبح هذه الأمة قد بلغت أشدّها فتتحمل الأمانة العظيمة.
و المقياس في هذا الاختيار الواقعي هو الإيمان با للّه، و الدعوة إلي الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتقوي اللّه حق تقاته، وليس الأساس هو الشعب و الانتماء إلي العرق أو العشيرة أو البلد أو التاريخ، بل الانتماء إلي اللّه و المبادئ (إنّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أتْقاكُمْ).
ولذا أكّد القرآن الكريم في المسيرة العملية و الجهادية، هذه الحقيقة و السنّة التاريخية في الأمة المسؤولة و الحاملة للأمانة، فخاطب العرب الذين هم جماعة المؤمنين في عصر نزول القرآن بقوله تعالي:
(يا أَيُّهاالذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيحُبُّونَهُ أذِلّةٍ عَلي المُؤْمِنِينَ أعِزّةٍ عَلي الكافِرينَ يُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِك فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
(وَإنْ تَتَوَلّوا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمّ لايَكُونُوا أَمْثالَكُمْ).
فالخروج و التحول الواقعي الخارجي من الشعب الخاص المختار إلي الأمة العامةالمسؤولة المختارة،هو (العالمية).
و رسالة عيسي (ع) (النصرانية) وإن كانت عالمية في دعوتها و مضمونها، ولكن عيسي (ع) رفعه اللّه تعالي من هذه الدنيا و لم يُخلِّف وراءه ـ واقعياً ـ من المؤمنين المسؤولين إلاّ الحواريين الذين تحملوا أعباء الرسالة من بعده، و بذلك تحولت رسالته تدريجياً إلي رسالة النخبة المختارة، وخطابه كان خطاب النخبة بالدرجة الأولي: النخبة المؤمنة من الحواريين، و النخبة المنحرفة من علماء اليهود، وتحولت النخبة التي تجسدت بالحواريين ـ بعد ذلك ـ إلي جماعة الترهّب و الانعزال، أو جماعة الرهبان و القسيسين التي تتمتع بالامتيازات و الحقوق القدسية المهنية الخاصة (وَرَهْبانِيّةٍ ابْتَدَعُوها مَاكَتْبْناهَاعَلَيْهِمْ إلاّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللّهِ فَمَا رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنا الذِين آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)، (اِتَخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْباباً مِنْ دُونِ اللّه ِ وَالمَسِيحَ بنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرواإلاّ لِيَعْبُدُوا إلهاً واحِداً لا إلهُ إلا ّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ)، وقد ورد في تفسير هذه الآية ـ كما يؤكده القرآن الكريم أيضاً ـ انّ اتخاذهم الأحبار و الرهبان أرباباً، كان هو السمع و الطاعة لهم من دون اللّه وإعطائهم هذه الامتيازات و (الأموال).
و من هنا يمكن أن نقول: إنّ عالمية الإسلام في محتواها الخاص الذي يتمّيز به الإسلام انّما هي.
أولاً: الانتقال بالرسالة من مرحلة النظرية العالمية و التمهيد، إلي مرحلة التطبيق و التجسيد و ايجاد النموذج الحضاري العالمي في الحياة الإنسانية.
و ثانياً: في المضمون من خلال المنهج العملي الشامل و المتطور الذي وضعه الإسلام لمواكبة وجود هذا النموذج الحضاري،وتثبيته وإيجاد الضمانات العملية لبقائه و استمراره.
وثالثاً: التطور في العالمية في الواقع الإنساني من الأمة المحدودة إلي الأمة العالمية الواسعة المسؤولة.
و هناك نجد أمامنا في معالم المنهج الإسلامي العالمي آفاقاً واسعة من البحث و الاستلهام، لا يسعها هذا المقال القصير، تتمثل في اختيار اللّه سبحانه وتعالي:
1. مكان البعثة و الرسالة الإلهية، وهو مكة المكرمة و المدينة المنورة.
2. القاعدة البشرية التي انطلقت منها الرسالة الإلهية، وهي أمة العرب.
3. تفسير الخطاب الثقافي الاسلامي الذي تحدث بلغة هذه الأمة دون غيرها من اللغات، ومع هذه الأمة خاصة أكثر من أي جماعة أخري من الناس، وتناول أوضاعها الاجتماعية، و السياسية،و الثقافية، و التاريخية بصورة رئيس دون غيرها من الناس، حتي ظنّ بعض الجاهلين ذلك امتيازاً لجماعة (العرب) علي الناس، وحاول بعض المنحرفين أن يفسّروا ذلك تفسيراً قومياً أو جغرافياً، أو مدنياً... إلخ.
و هكذا ينفتح أمامنا ـ أيضاً ـ بحث المنهاج الاسلامي في (العالمية) من خلال مفردات: (الدولة) و (التشريع الاجتماعي) و (القانون) و (العبادات)، التي جاءت صياغاتها تكريساً عملياً لهذه العالمية من ناحية، وضماناً لها امتاز به الإسلام علي غيره من الرسالات الإلهية من ناحية أخري.
فمثلاً علي مستوي العبادة نأخذ (الحج) الذي أذّن به ابراهيم (ع) في الناس ـ بنص القرآن ـ وهو شيخ الأنبياء، وجّد الاسرائيليين، فإنه بقي محصوراً في أبناء اسماعيل، ولكن الإسلام تمكن خارجيا ً أن يرتقي به إلي عبادة عالمية، ومن خلال صيغة واقعية جسّدت هذه العالمية خارجياً، بل تحولت هذه الصيغة إلي ضمان واقعي لهذه العالمية، كما نشاهده في كل التاريخ الإسلامي و في واقعنا المعاصر.
لقد استطاع الإسلام من خلال منهاجه القانوني التشريعي، العبادي، أن يحطّم كل الحواجز الاجتماعية و النفسية بين القوميات، و الطبقات، و الأسياد، و العبيد، ليخلُق أمة إسلامية واحدة عالمية، تتمتع بمواصفات الأمة الواحدة، في الهموم، و المشاعر العاطفية، و الأهداف، و العلاقات الإنسانية، و الممارسات العبادية.
ففي مجال التشريع القانونينلاحظ علي مستوي العلاقات الإنسانية المساواة في الحقوق و الواجبات العامة بين جميع المسلمين، و الكفاءة في الزواج، و الأخوة و الولاء القائم علي أساس الإيمان، و تشريع الزواج من الإماء و التسري بهن و عتقهن علي أولاده لايجاد الامتزاج بين الأعراف.
و في المنهاج العبادي نلاحظ إصرار الإسلام علي الاختلاط فيها و المساواة بين الناس، ولاسيما في الحج الذي تزال فيه جميع الحواجز البيئية و الطبقية و المالية وتمارس فيه العبادة علي صعيد واحد.
وهذا ما لا نجده حتي في الحضارة الغربية، التي حاولت أن تتحرر من هذه القيود، تحت شعار حقوق الإنسان ووحدة الأهداف الإنسانية في الحياة و المصالح المشتركة، و سيطرة العلم التجربي (العلمانية) ولذّات الدنيا علي حياة الانسان، فهي لا زالت تعاني (حضارياً) من الانقسامات العرقية و الجغرافية، و الغني و الفقر، و الشمال و الجنوب. ولا زال الرجل الأبيض كحالة عامةإنسانية ينظر فيها إلي الرجل الأسود نظرة فيها الكثير من التعالي و الشعور بالامتياز و الحقوق. ولا زالت الولايات المتحدة الأمريكية ـ وهي سيدة العالم الغربي ورائد الحضارة الغربية ـ و اوروبا الغربية تتعامل مع بقية الشعوب في هذا العالم من موقع هذا الإحساس و الشعور وهذا الانقسام.
بل لا زال الشعب في الولايات المتحدة الأمريكية ـ بالرغم من القوانين الاسمية و الدعاوي العالمية الإنسانية ـ يشكو من هذا الانقسام العرقي و الهيمنة الطبقية لأصحاب رؤوس الأموال.
و مثل آخر، نجده في ظاهرة (الدولة) التي كانت في أصلها ظاهرة (نبوية)، كما يؤكد ذلك القرآن الكريم، وأنّ بعثة الأنبياء انّما كانت من أجل الحكم بالحق، وتنظيم حياة الناس و حلّ الاختلاف بينهم، (كانَ النّاسُ أُمَّةً واحِدَة ً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَأَنْزَل مَعَهُمُ الْكِتاب َ بِالَحقِّ لِيَحْكُمَ بَيْن َ النّاسِ فِيَما اخْتْلَفُوا فِيهِ...)، ولكنّ تاريخ الرسالات الإلهية لم يشهد من الناحية الواقعية و الخارجية قيام الدولة في ظل الرسالة نفسها، بل بقي الأنبياء يجاهدون من أجل إقامة المجتمع الصالح و الدولة الإلهية، و لم يتحقق ذلك لا لنوح و لا لإبراهيم ولا لموسي ولا لعيسي (ع)، وإذا كان بعض الأنبياء قد آتاه اللّه الملك كداود و سليمان عليهما السلام، فأنّ ذلك كان ضمن النهج العام الإنساني لقيام الدولة وهو توافر المواصفات العامة من البسطة في العلم و الجسم و الغلبة و القوة.
و أما الدولة الاسلامية فإنّ وجودها الخارجي كان ضمن المنهج الرسالي للنبوة وتطور الرسالة الإلهية، ولذا أصبحت الدولة الإسلامية و (الإمامة) جزءاً مكملاً للرسالة ـ ليس علي المستوي النظري فحسب ـ بل علي المستوي التطبيقي و الخارجي، و هذا يبيّن بوضوح صحة النظرية التييتبناها أتباع أهل البيت (ع) في فهم الإمامة و الخلافة من أنّ الإمامة امتداد للنبوة و أنها منصب إلهي، وأنه لابد للمسلم أن يعرف إمامه [وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إمَامَهُ ماتَ مِيتَةً جاهِلِيةَّ] و أنّ الإمامة للمسلمين واحدة و لا يجتمع إمامان في وقت واحد.
وهذا هو الذي يفسّر لنا قيام الدولة الإسلامية في السنة الاولي للهجرة، ثم استمرارها ـ في ظاهرة تاريخية ليس لها نظير في تاريخ الرسالات الإلهية و الكيانات السياسية، ثم بقاءها كهدف للمسلمين، و لم تتنازل عنه الأمة ـ حتي بعد سقوط الكيان السياسي لها عسكرياً بيد الاستكبار الغربي ـ ولن تتنازل عنه الأمة حتي قيام دولة الحق المطلق،التي وعد اللّه بها عباده الصالحين بظهور الامام المهدي (عج) (وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُواالصالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُمْ فِي الأرْضِ كَما اسْتَخُلَفَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّننَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذِي ارْتَضي لَهُمْ وَلَيُبدِّلنَّهُمْ مِنْ بُعْدِ خَوْفِهِمْ أمناً يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بِي شَيئاً...).
(وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذّكْرِ أن الأرضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ).
فالدولة الاسلامية امتازت:
أولاً: بأنها كانت امتداداً خارجياً تطبيقياً للرسالة، عاصر و جود الرسالة و ارتبط بتطبيقاتها.
ثانياً: انّها جسّدت العالمية في حركتها، حيث كانت حركة الدولة باتجاه العالمية في زمن الرسول، من خلال دعوة القوي السياسية العالمية للدخول في الاسلام، كما جاء في رسال النبي(ص) للملوك و الأمراء و السلاطين في عصره، و كذلك من خلال معارك مؤته وتبوك، و بعثة اسامة بن زيد أيضاً، التي كانت تعبّر عن هذا التوجه العالمي للدولة خارج الشعب العربي، ثم الامتداد و التوسع و الانتشار الاسلامي ـ بعد ذلك ـ في عصر (الخلفاء الراشدين) بعد رسول اللّه (ص).
ثالثاً: انّ الدولة الاسلامية كان لها الدور الاساس فيما تراه من وحدة الأمة الاسلامية في مقوماتها الأساس، فهي التي كانت احدي المقومات و الضمانات المهمة لوجود الأمة الاسلامية الواحدة وللمحافظة علي وحدتها في شعائرها وأحاسيسها وهمومها وأهدافها، و ذلك بالرغم من تعرض الدولة الاسلامية إلي مشكلات التجزئة و الانقسام، و الاختلاف في تاريخها، بسبب الانحراف في التطبيق من قبل بعض الحكام.
رابعاً: إنّ العالمية في الدولة الاسلامية ليست مجرد هدف تسعي إليه الرسالة، بل هو ضرورة قائمة في تاريخها، و في حركتها وتكاملها المستقبلي، إذ لابد لهذه الوحدة من أن تتحقق في نهاية المطاف وتكون كاملة أفقياً و عمودياً وجغرافياً، و في المضمون و المحتوي، كما وعد اللّه تعالي (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الّذِكْرِ أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِباديَ الصّالِحُونَ).
و هنا لابد أن أشير إلي أنّ دور الدولة و الإمامة في منظار أهل البيت (ع) وموقفهم الخاص منها، و في النظرية الإسلامية بصورة عامة، فإنّ مذهب أهل البيت (ع) يري بأنّ الإمامة من أصول النظرية و المذهب، وأنها لا يمكن أن تتعدد بحال من الأحوال، وهذا مما يمنح هذا المعلم من المنهج في تحقيق عالمية الاسلام عمقاً و بعداً آخر جديداً لا أجد مجالاً للخوض فيه الآن، ولكن أهل البيت (ع) وموقعهم الخاص في النظرية الإسلامية الذي يلتزمه جميع المسلمين، وكذلك عملهم و دورهم في الحياة الإسلامية، كان يمثل أحد الضمانات الواقعية المهمة للمحافظة علي بعد العالمية في الرسالة الاسلامية و لايزال، و لا سيما موقفهم أمام المشكلات التي واجهتها هذه العالمية و معالجتها.
المشكلات أمام العالمية
و قد واجهت عالمية الرسالة الإسلامية منذ الصدر الأول للإسلام مجموعة مهمة من المشكلات الأساس، ولا زالت هذه المشكلات بأنواعها وطبيعتها تواجه هذه العالمية، و في مقدمة هذه المشكلات كانت: المشكلة القومية، و التجزئة و الانشقاق، و الاستبداد في الكيان السياسي الإسلامي، و الطبقية السياسية و الدينية، ومشكلة التجزئة في الأمة الإسلامية و الاختلاف في شعائرها:
1. فمنذ البداية عندما إنفتح الاسلام علي الأقوام الجدد من خلال الفتح الاسلامي، ترددت أفكار في الأوساط الإسلامية بصورة عامة، و السياسية بصورة خاصة، تذهب إلي التمييز بين المهاجرين و الأنصار، أو العرب و غيرهم، أو بين العرب أنفسهم، أو بينهم و الموالي، وقدّمت مسوغات أو اجتهادات عديدة، تحت شعار المصلحة الإسلامية لهذا التمييز.
و قد تّبنت الدولة الأموية في بعض سياساتها بعض هذه الأفكار و الطروحات.
2. كما برزت مشكلة التجزئة في الكيان الإسلامي، منذ البداية عند نشوب الصراعات السياسية، وكان أبرزها الانشقاق الذي شهدته الخلافة الاسلامية في عهد الامام علي (ع) الذي قاده معاوية بن أبي سفيان، وتطورت هذه الصراعات حتي أصبح الكيان الإسلامي في بعض عهوده يتكون من عدة دول، كما في عصر الدولة العباسية في بغداد، و الفاطمية في مصر، و الأموية في الأندلس، وما استتبع ذلك من مآسي وآلام.
3. و برز إلي جانب ذلك خطر تَحول الكيان السياسي الإسلامي إلي الحكم الكسروي و القيصري، بحيث يكون القانون هو قرار الحاكم لا حكم اللّه تعالي و لا في إطار، ومن ثمَّ تحول الرسالة من العالمية إلي الفردية، أو الاستبداد و الطغيان.
4. و بدأت أخطار الطبقية السياسية في صورة العوائل و الأسر، التي حكمت العالم الاسلامي وحلفائها، وكذلك الطبقية الدينية فيبعض المؤشرات الخطيرة في إيجاد هالة من القداسة و الامتيازات و الحقوق المادية للسابقة المعنوية في الإسلام، أو الانتماء القبلي أو لرجال الدين المحترمين من القضاة و المفتين.
و لا سيما بعد التحولات الاقتصادية الواسعة، و الانفتاح علي ثروات الدولة الكسروية و القيصرية، و الشعوب الجديدة التي دخلت الإسلام، ومواجهة فكرة اعتبار الأراضي المفتوحة جزءاً من الغنيمة التي توزع بين المسلمين، أو يجوز للحاكم أن يقطعها للأفراد مما أدي إلي تضخم كبير في الثروة لدي بعض الأشخاص.
5. ثم كانت تجزئة الأمة في انتماءاتها السياسية و الفكرية و العائدية و الاجتماعية، و تحول هذه الانتماءات إلي إطار وقاعدة تقوم عليها الجماعة في معزل عن الجماعات الأخري.
لقد كانت هذه المشاكل شبيهة بالمشاكل التي واجهتها الرسالات الإلهية السابقة، كما هي سنّة اللّه في الحياة و التاريخ، ولم تتمكن الرسالات السابقة من التغلّب عليها.
و هنا نجد الامتياز الخاص للرسالة الإسلامية، التي تمكّنت أن تواجه هذه المشكلات في مداها الخطير الذي يهدد الرسالة و الوجود الاسلامي كما حدث للرسالات السابقة، و بالرغم من أنّ الرسالة الاسلامية بقيت تعاني من آلام هذه المشكلات ومحنتها وآثارها السلبية في جسم الأمة و كيانها الإسلامي، ولكنها بقيت في الوقت نفسه تحافظ علي وحدتها وعالميتها.
و هذا الموضوع بأبعاده المتعددة، يحتاج إلي بحث واسع ومستوعب يتناول العناصر الأساس التي تضمنتها الرسالة الإسلامية ومنهجها في مواجهة هذه المشكلات، ورؤيتها الواقعية الصحيحة لها، وهذا ما لا يتسع له مجال البحث هنا، ولذا نكتفي هنا بتأكيد الدور العظيم و الجهود الكبيرة التي بذلها رجال الإسلام المخلصون، و في مقدمتهم الرعيل الأول من أصحاب رسول اللّه (ص) و التابعين لهم بإحسان من أجل الاحتفاظ بالحد الأدني الذي يحفظ للرسالة الإسلامية هذا البعد العالمي لها، ويمكن أن نتبين نتائج هذه الجهود في مانلمسه الآن من معالم العالمية الحقيقية في الرسالة الاسلامية، بالرغم من الجراحات و الشروخ التي يعاني منها العالم الإسلامي و الأمة الإسلامية.
و بهذا الصدد لا بد ـ أيضاً ـ من تأكيد الدور المتميز الذي قام به أهل البيت (ع) في هذا المجال، ولا سيما بالنسبة إلي المشكلات الخمس التي أشرت إليها، فإنّ وجودهم ونشاطهم كان يشكل ضمانة رئيسة في تجسيد هذه العالمية خارجياً.
1. فعلي مستوي مشكلة التعدد القومي اهتمّ أهل البيت (ع) بالمحافظة علي الموازنة الصحيحة بين بُعدي النظرة الانسانية للناس التي تلغي الامتيازات في التعامل السياسي و الاجتماعي العام بين المسلمين، و اعتبارهم أمة واحدة من ناحية، بقاعدة «سلمان منّا أهل البيت»، و القبول و الاحترام لتعددية الشعوبية في الشؤون الفردية و الاجتماعية الخاصة بالأفراد و الجماعات من ناحية أخري.
2. و علي مستوي مشكلة التجزئة في الكيان السياسي الإسلامي، إلتزم أهل البيت (ع) منذ البداية سياسة عدم الدخول في الصراعات السياسية الحادة (القتال و التمرّد) تحت قاعدة... «لأسلِّمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليَّ خاصة...»، و المحافظة في الوقت نفسه بالموازنة الصحيحة بين أولوية الحفاظ علي وحدة الكيان الإسلامي و أصالته من ناحية، ومقاومة الانحراف و الظلم و الجور و خطر التحول إلي الكسروية و القيصرية من ناحية أخري، و عدم التسليم المطلق للانحراف لمجرد القهر و الغلبة و الاستيلاء، وإلتزام ما ورد عن رسول اللّه (ص):
«من رأي سلطاناً جائراً مستحلاً لُحرم اللّه ناكثاً عهده (عهد اللّه) مخالفاً لسنّة اللّه يعمل في عباد اللّه بالاثم و العدوان فلم يغيّر عليه بفعل و لا قول كان حقاً علي اللّه أن يدخله مدخله...»، و بهذا يفسّر الامام الحسين (ع) رفضه لبيعة يزيد وتلبيته لدعوة أهل الكوفة و غيرهم للخروج عليه.
3. و كذلك في تأكيدهم وحدة الإمامة، وعدم جواز تعددها.
و قد تحمّل أهل البيت (ع) أشد الآلام و المحن في هذا السبيل عملياً و واقعياً، لأنّ هذه القضية كانت تعنيهم بالذات بصورة خاصة لأنهم الطرف الذي نص الرسول (ص) علي إمامتهم في أحاديث عديدة.
4. و علي مستوي مشكلة الطبقية السياسية و الدينية، فإنّ أهل البيت (ع) وإن كانوا يمتازون ـ بنظر المسلمين جميعاً ـ بوجوب حبّهم ومودتهم، و في نظر أهل البيت (ع) بأنهم أئمة الهدي المعصومون من الزلل و الخطأ، و انهم ثاني الثقلين و المرجع في الدين بعد القرآن الكريم، ولكنهم من الناحية العملية لم تكن هذه الامتيازات المعنوية العظيمة قد منحتهم أي تمييز طبقي مادي في المجتمع الاسلامي، بل كانت سبباً للمزيد من المحن و البلاء و الأذي في سبيل اللّه، وقد كان لهذا السلوك الاجتماعي أثره الكبير و العميق فيأوساط العلماء وأهل المعرفة و الدين، بحيث أصبح أهل البيت (ع) القدوة لهم في ذلك.
5. و علي مستوي مشكلة تجزئة الأمة في علاقاتها و شعائرها، فقد حافظ أهل البيت (ع) في منهجهم علي الموازنة الصحيحة بين احتفاظ جماعتهم و اتباعهم بخصوصياتهم و التزاماتهم و واجباتهم، و بقاء هذه الجماعة جزءاً فاعلاً و مسؤولاً في وسط الأمة الإسلامية محافظاً علي وحدتها و تماسكها و متصدياً للمسؤوليات الكبري و مضحياً من أجل أهدافها و قضاياها.
و قد كان مبدأ التقيّة هو أحد المبادئ الرئيسة في هذه الموازنة، إذا عرفنا التقيّة بكل أبعادها السياسية، و الاجتماعية، و الأمنية.
و في هذا العصر لابد أن نستلهم عالمية الإسلام ومنهجه العملي فيها، في معالجة المشكلات المعاصرة التي يعاني منها العالم الإسلامي فيهذه المجالات و غيرها، كما لابد أن تتركز أبحاثنا حولها علي هذا الجانب العملي.
الخاتمية
و بهذا الفهم (للعالمية) يمكننا أن نفهم (الخاتمية) أيضاً، فإنّ الخاتمية لا تمثل مجرّد انقطاع الوحي ونهاية النبوات الإلهية، وإنّما تعبّر في الوقت نفسه عن تطور في الحياة الانسانية من ناحية، وتطور في المضمون الرسالي اقتضي هذا الانقطاع للوحي وهذه النهاية للنبوات.
لأن السؤال المطروح في موضوع (الخاتمية) ـ بعد التسليم بها لنص القرآن الكريم و السّنة النبوية عليها ـ أنّ تعدد الرسالات الإلهية، إنّما كان تجسيداً لسنة إلهية في تطور الحياة و التاريخ الإنساني، فهي ـ أي الرسالات ـ متطورة ومتكاملة، و كما هي مواكبة لحركة التأريخ الإنساني.
و إذا كانت كذلك، فلماذا توقفت ـ إذن ـ الرسالات الإلهية؟ وهل ذلك لتكامل المسيرة الإنسانية؟ فلا حاجة لتطور الرسالات الإلهية، أو أنّ قانون التطور و سنته قد توقفا في تأثيرهما؟! أو أنّ هناك تفسيراً آخر لهذه الخاتمية؟
ولا شك في أنّ سنّةالتطور و التكامل، هي من السُنن الثابته في حياة الإنسان و مسيرته، و هذه السنّة في التكامل هي التي فرضت هذه الخاتمية بالإرادة الإلهية، فلا بد أن نفتش عن هذه العناصر التكاملية، ونؤكّدها في عملنا الثقافي و السياسي و الاجتماعيانسجاماً مع هذه الخاتمية.
فالخاتمية ـ إذن ـ ذات مضمون تكاملي وتغييري، يرتبط في جانب منه بمضمون العالمية الّذي تحدثنا عنه، و في جانب آخر بمضمون (الخلود) الذي سوف نشير إليه.
ويمكن أن نجد بعض عناصر التكامل في الخاتمية، ونتناولها بالفحص و البحث في الأمور التالية:
أولاً: التكامل في الوعي الإنساني الاجتماعي من خلال:
تأثير الرسالات الإلهية السابقة.
و التجارب الانسانية الاجتماعية الطويلة.
و المعرفة الانسانية بالحياة و الكون.
إلي غير ذلك مما يرتبط بالإنسان ومدركاته النظرية و السلوكية وتجاربه مع الكون و الطبيعة، وعلاقاته الإنسانية و المحصلة الكلية للوحي الإلهي وعمل الأنبياء و المرسلين و الصالحين.
فهو تكامل في الوعي الإنساني العام، يؤهل الإنسان لأخذ دوره الكامل المسؤول في تسيير الحياة الانسانية و ادارتها بحيث يشغل حيزاً مهماً يتناسب مع هذا الوعي.
وهذا هو الذي يفسّر لنا التحوّل الكبير الذي حدث في أدلّة إثبات النبوة التي تمثل أسلوب الخطاب الإلهي بلأيمان و الوحي و المضمون الرسالي،فإنّ معجزات الأنبياء السابقين كانت تعتمد علي الآيات التي تُعبّر عن القوة و القدرةالإلهية المباشرة في التصرّف بالكون و الحياة، و العقوبات الدنيوية المباشرة، للتأثير في إرادة الإنسان و سلوكه.
وأما في الرسالة الاسلامية فقد تمثل أسلوب الخطاب بالقرآن الكريم الذي يتوجه إلي مخاطبة العقل و الوجدان و المشاعر الانسانية، للسيطرة علي ارادته و سلوكه وتوجيهها.
ثانياً: التكامل الذي وصلت إليه حركة التوحيد الإلهي و المعرفة باللّه تعالي، بدرجة تمكنت فيه هذه الحركة من تحقيق الاستقرار و الثبات و الانتشار و القوة و المنعة في الحياة الإنسانية، ومن ثم فلا يمكن للانتكاسات الحضارية أن تُهدد وجود هذه الحركة الإلهية،كما حدث تاريخياً بالنسبة إلي بعض الرسالات الإلهية السابقة، كرسالة نوح (ع) أو ابراهيم (ع)، فقد تحوّل المجتمع الإنساني بعد نوح إلي الوثنية بصورة كاملة علي ما يبدو من قصة ابراهيم (ع).
وتمكنت الوثنية أن تحاصر حركة التوحيد بعد ابراهيم (ع)، وتستعبد الاسرائيلين وتؤثر فيهم بدرجة كبيرة.
وتتعرض حركة التوحيد بعد موسي (ع) إلي العزلة و الانكفاء علي الذات، حتي تحولت إلي حرفة ومهنة خاصة بالاسرائيلين.
وتعرّضت حركة التوحيد بعد عيسي (ع) إلي التحريف و التشويه و الرهبنة و الانفصال عن الحياة الانسانية.
و في الرسالة الخاتمة أصبح التوحيد نقياً خالصاً يقوم علي أساس قاعدة بشرية واسعة وراسخة، هي قاعدة الرسالات الإلهيةالكبيرة،وأصبح حقيقة كونية ذات أبعاد عقائدية وعبادية و اجتماعية و سلوكية أخلاقية، بدرجة عالية ينسحب فيها علي جميع مناحي حياة الإنسان و الكون و الوجود.
وهذا هو الذي يفسّر لنا تحول حركة التوحيد في الرسالة الإسلامية، إلي حركة فاعلة و مؤثرة تمكنت ـ بفترة زمنية قياسية ـ من أن تزيل الوثنية من الجزيرة العربية، وتزيح الدولة الفارسية الكسروية، و تهدد الدولة الرومانية القيصرية، وتفتح مساحات واسعة في الوجود الوثني في مختلف مناطق العالم، وهو ما لا نجده في حركة الرسالات السابقة.
ثالثاً: التكامل في المجتمع الانساني وتنظيم الحياة الانسانية من خلال الدولة و النظام السياسي الذي أصبح جزءاً رئيساً ومكملاً للرسالة، بحيث إرتقت الرسالة بالأنظمة ـ التي تدار بها شؤون الناس، و التييصدرها الحاكم الشرعي (الرسول و الامام) ـ إلي مستوي الحكم الشرعي الإلهي، و قرنت طاعة الرسول بطاعة اللّه تعالي (من يطع الرسول فقد أطاع اللّه) و أصبحت مخالفة الرسول كفراً و نفاقاً و مصيرها مصير مخالفة اللّه تعالي.
و أصبح الاطار العام للحكم في المجتمع الاسلامي هو الخلافة لرسول اللّه، و تطبيق الحكم الشرعي.
و هذا التطور التكاملي، هو الذي يفسّر لنا مجموعة من الظواهر السياسية و الاجتماعية في التاريخ الإسلامي، ومنها ظاهرة المقاومة القوية و الدائمة ـ المضمّخة بالدماء و التضحيات ـ للاستبداد و الظلم في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي، و التي فرضت هذه المقاومة حصاراً قوياً علي المستبدين أو المنحرفين من حكام المسلمين، جعلتهم غير قادرين علي تجاوز الإطار العام للحكم،وهو عنوان الحكم بما أنزل اللّه، و في إطار الشريعة الإسلامية.
و كذلك ظاهرة تطلّع المسلمين في كل الأجيال إلي الحكم الإسلامي العادل و استمرار هذا الروح في الوعي حتي بعد سقوط الدولة الإسلامية عسكرياً، وإصرار المسلمين علي الرجوع إلي الحكم الإسلامي، وعدم فصل الدولة عن الرسالة أو مايسمي بفصل الدين عن السياسة و الحياة.
و نظرة المسلمين ووعيهم لهذا الجانب، وإن كان بدرجات متفاوتة، ولكن يبقي الحد الأدني منه كافياً للتعبير عن وجود التكامل في المجتمع الإنساني.
و بهذا يمكن أن نفهم دور فكرة وجود حكومةالحق و العدل المطلق المتمثلة بفكرة الامام المهدي (عج) الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، و ارتباطها في أحد أبعادها بموضوع (الخاتمية)، كما هي مُرتبطة أيضاً، في بعدها الآخر، بموضوع العالمية.
إنّ موضوع الخاتمية بهذا التحليل، يفتح أمامنا مجموعة من المشاكل المهمة ذات العلاقة بهذه العناصر التكاملية:
فعلي مستوي العنصر الأول (الوعي الإنساني و دور الإنسان في تحمل مسؤولية الخلافة)، نجد أمامنا مشاكل الحرية و العلاقات الإنسانية بين المرأة و الرجل، وعلاقات الإنسان مع الكون و الحياة، و العلمانية في الحياة الثقافية و الاجتماعية و أساليب الحياة و المعيشة.
و علي مستوي العنصر الثاني (التوحيد الصافي و الخالص)، نجد أمامنا مشاكل عبادة الذات و الشهوات و العلم، و القوة، و البدع، و الضلالات، ومحاولات عزل فكرة اللّه عن تفاصيل الحياة الانسانية، ومحاصرتها في المسجد أو الفرد... إلي غيرها من المشكلات.
و علي مستوي العنصر الثالث: نجد أمامنا مشكلة الاستكبار العالمي، وهيمنة النظام العالمي الجديد، و الانقسامات في العالم الإسلامي، و العلمانية السياسية، و الطغيان و الاستبداد، و التطرف السياسي، و الارهاب... إلخ.
الخلود
و يأتي الخلود ليمثّل البُعد الثالث في تكامل الرسالة الاسلامية، و الخلود الذي يعني الاستمرار و البقاء و الهيمنة و الوارثة (... لِيُظْهِرَهُ عَلي الدّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ)، هو تعبير آخر عن هذا التكامل في مضمون هذه الرسالة نظرياً وتطبيقياً، وهو وجه آخر للخاتمية، فإنّ الإرادة الإلهية التي تعلّقت بخلود الرسالة الإسلامية، لم تكن إرادة منفصلة عن هذه المسيرة التكاملية، وإنّما هي إرادة حكيمة ترتبط بالسنن والنظام الكوني في مسيرة الإنسان.
و يمكن أن نري معالم هذا الخلود في العناصر و الأسس التي اعتمدتها الرسالة الاسلامية، و التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقانون التكامل و التطّور، و هذه العناصر هي:
1. العقل الإنساني وإعطائه قيمة عالية في الخطاب والمسؤلية والقدرة علي الوصول إلي الحقيقة وتحمّل مسؤوليتها.
2. تلبية الحاجات الإنسانية بصورة متوازنة بين الثابت منها و المتغيّر، بحيث تبقي فرصة التطور و التكامل قائمة في الجانب المتغيّر و المتحرّك منها.
3. منح العلم و المعرفة في الكون و الحياة و اساليب الحياةالاجتماعية، و في المبدأ و المعاد، قيمة حقيقية تجعله طريقاً إلي اللّه تعالي، وإلي التكامل في حركة الإنسان.
4. صياغة الأمة الواحدة الوسط، و التي تكون شاهدة علي الناس و المسؤولة عن حفظ الرسالة و بقائها، وقد اعتمدت هذه الصياغة علي عناصر: العقيدة، و المساواة الانسانية، و العلاقات الأخوية الايمانية (الولاء) و الشعائر العبادية، و المسؤولية الاجتماعية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الجهاد في سبيل اللّه.
5. النظام السياسي الذي يقوم بدور المحافظة علي الرسالة، وحراستها و الدفاع عنها و ابلاغها و دور التزكية و التطهير، و السير في طريق التكامل و دور التعليم و التطوير.
إنّ هذه العناصر الخمسة مجتمعة، هي التي تُعبّر عن خلود الرسالة الاسلامية، وهي في الوقت نفسه تفتح الطريق أمامنا في الوصول بهذا الخلود إلي غاياته وأهدافه، حيث تصبح الرسالة هي المهيمنة علي الرسالات الإلهية الأخري، وتظهر علي الدين كلّه حتي لا تكون فتنة، ويكون الدين كلّه للّه.
أسأله تعالي أن يحقق للمسلمين آمالهم بالنصر علي أعدائهم، وإقامة حكومة الحق و العدل، ويوفقهم للجهاد في سبيله، و المزيد من مرضاته، ويجمع كلمتهم علي الهدي و التقوي.
و الحمد للّه رب العالمين