الزمان والمكان في نظر الإمام الخميني (ره )
نويسنده: مجيد أميني
المقدمة
كان المصلحون الخيّرون، علي امتداد التاريخ، يفكرون في وضع أسس مجتمع يحترم القيم ويتجنب القبائح. للوصول إلي تحقيق هذه الغاية وإقامة مثل هذا المجتمع الذي يطلقون عليه اسم «المدينة الفاضلة»، كانوا يفكرون أيضاً في وضع قوانين وأنظمة تهدي الفرد في حياته الفردية والاجتماعية وكيفية الاستفادة من الطبيعة والعلاقات الإنسانية إلي طريق الصواب. والإسلام، بصفته آخر الأديان الضامن لسعادة الإنسان، يجعل العقيدة الصحيحة أساساً لمثل هذا المجتمع، ويؤمن بمبادئ معينة في بناء الفكر السليم وعقائد الإنسان، تبين مبدأ الوجود ومنتهاه، وتخلص الإنسان من الأفكار الفارغة والتخيلات التافهة، وتقود الطريق نحو حياة هادفة.
بديهي أن الإسلام لا يري أن العقيدة الصحيحة هي وحدها المعوّل عليها، بل علي الناس أن يعرفوا، في العمل والسلوك، الصواب وغير الصواب، فيعملوا بالصالح ويبتعدوا عن الطالح1.
إن المسؤول عن هذا الجانب من المنهج الإسلامي هو « الفقه» أو «الأحكام الفقهية»، وهي في الحقيقة مجموعة من القوانين العملية الإسلامية المستقاة من الوحي الإلهي، والتي تفسرها بيانات الأئمة المعصومين ( عليهمالسلام ). إنها قوانين ثابتة وغير قابلة للتغيير أبداً، وتشمل جميع المواضيع والمصاديق الخارجية والوقائع والأحداث، من دون أن يصيب جذورها أي تلف2.
إن شخصية الإمام الخميني(ره) العلمية والعملية، وعلي العموم، الشخصيات البارزة التي تترعرع في المراكز العلمية في العالم، وبعد سنوات عديدة يقومون بتربية تلامذتهم بالفكر والبيان والقلم، ينقسمون الي قسمين أثنين:
القسم الأول هم الذين يقتصرون علي استيعاب علم واحد فيتخصصون في ذلك العلم تخصصاً عميقاً، ولكنهم فيما يتعلق بالعلوم الأخري ليس لديهم سوي معلومات عامة سطحية، ويطلق علي أمثال هؤلاء العلماء صفة « ذوي الفن »، مثل سيبويه (ت 180هـ) الذي اختص بالأدب العربي، و الكليني (ت 329هـ) الذي اختص بالحديث، و المحقق الحلي (ت 676هـ) الذي اختص بالفقه.
القسم الثاني كان يعني بعدد من العلوم ويتبحر فيها، مثل ابن سينا (ت 426 هـ) و الفارابي (ت 339هـ) و الشيخ المفيد (ت 413هــ) و السيد المرتضي (ت 436 هـ) و (الشيخ الطوسي) (ت 460 هـ) ومؤسس الجمهورية الإسلامية الإمام الخميني (ره).
بالنظر لتمتع هؤلاء العلماء بمواهب إلهية كثيرة، عملوا في ميادين مختلفة من العلوم. فمثلا مؤلفات شيخ الطائفة[ الشيخ المفيد ]الباقية منه تكشف لنا عن أبعاده العلمية المختلفة، من ذلك تفسير البيان في علوم القرآن الذي يدل علي طول باعه في هذا الفن وتخصصه الفائق فيه بحيث إن أحداً من الشيعة لم يستطع حتي الآن أن يقدم تفسيراً للقرآن بذلك المستوي. لقد قام بتأليف ذلك التفسير عندما كان يعيش في بغداد وفي آخر سنة من بقائه هناك. وبناء علي ذلك يكون قد مضي نحو تسعة قرون ونصف علي تأليف ذلك التفسير وهو ما يزال مضيئاً كنجمة لامعة. واذا ما تصفحنا آثاره الأخري نراه محدثاً بارعاً يورد أحاديث أهل البيت « عليهمالسلام » من المشايخ و بأسانيد مختلفة، وله كتابان قيمان في الحديث: التهذيب و الاستبصار. وعندما ندرس أبحاثه القيمة العظيمة في الكلام والفلسفة نجده متكلماً متمكناً. كتابه الرسائل العشر دليل تسلطه في ميدان البحث والجدل والاستدلال في علم الكلام. وعلي الرغم من كل ما قيل فإنه لم يزد علي كونه صورة جانبية مبهمة لشخصية الشيخ العلمية. لقد كان في علم الفقه أستاذاً لا يجاري، وكتاباه: المبسوط و الخلاف ينبئان عن سعة اطلاعه علي الأسس الفقهية عند العامة والخاصة.
كذلك هي الموهبة والاستعداد واللياقة التي وهبها الله للإمام الخميني (ره)، مؤسس الجمهورية الإسلامية، والتي أعانته علي التعمق في دراسة كثير من العلوم. إن تآليف الإمام الموجودة بين أيدينا كفيلة بإزاحة الستار عن هذا السر والكشف عن أبعاده العلمية.
دور الزمان و المكان في نظر الامام الخميني (ره)
1. الإمام الخميني (ره) والفقه القديم والمتقدم
كان الإمام الخميني (ره) يهتم كثيراً بالفقه القديم ويعتقد أنه إذا تقدم الفقه القديم علي وفق ضوابط معينة، يمكن أن يتقدم ليجيب عن جميع حاجات المجتمع. كان يري أن فهم الدين وتطبيقه في حياة الإنسان المعاصر، وأخذ دور الزمان والمكان بنظر الاعتبار في أسلوب الاستنباط كمبدأ أصلي وأساس وواقعي في الفقه. في ذلك كان يقول:
«فيما يتعلق بأسلوب الدرس والبحث في الحوزة العلمية، إنني أُؤمن بالفقه القديم والاجتهاد الجواهري، ولا أري أن من الجائز إغفال ذلك. والاجتهاد بالأسلوب نفسه صحيح، إلا أن هذا لا يعني أن الفقه الإسلامي لا يتقدم في البحث. الزمان والمكان عنصران مؤكدان في الاجتهاد، فالمسألة التي كان لها في السابق حكم معين، يمكن ان يكون لها حكم جديد بسبب العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في نظام ما. اي عند معرفة العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للموضوع السابق نفسه معرفة دقيقة، من دون وجود اختلاف ظاهري مع القضية القديمة، تصبح هذه قضية جديدة تتطلب حكماً جديداً. لذلك علي المجتهد أن يحيط بقضايا زمانه»3.
وهكذا نجد أن القول بالتعارض بين الفقه القديم والفقه التقدمي، إنما هو قول فارغ يستغله الجهلة. إن الشريعة الإسلامية لا تتغير، وكل بدعة في نظر الأدلة الأربعة ممنوعة، ولكن القوانين، في الوقت نفسه، مرنة وجامعة بحيث تغنينا عن اللجوء إلي القوانين الأجنبية والغربية.
2. شمولية الفقه ونظرة الإمام الخميني(ره)
بما أن مصادر الفقه ليست وليدة العقل، ولا التجربة المحدودة، ولا الأذواق البشرية المختلفة، بل هي تستند إلي الوحي الإلهي، فهي لذلك مصادر خالدة ودائمة الحركة والتفاعل لتشمل الجغرافيا المدنية والقومية والسياسية والثقافية البشرية.
إن القوانين البشرية ضيقة ومتغيرة وزائلة لأنها قائمة علي الفكر والقدرة وقوة التحليل الأحداث ووسائل المعرفة المحدودة. أمّا مصادر الفقه الاسلامي فجذورها تمتد إلي الوحي الإلهي العالم بكل أبعاد الإنسان وحاجاته الحقيقية، والتي لم تواجه أي نقص في التخطيط لها، بل وضعها تحت تصرف الإنسان في أكمل وجه ممكن وأليقه، وهي تبقي جديدة عند كل قوم وعنصر في كل زمان.
لو كانت الظروف مواتية لفقهاء الإسلام، ولو أنهم استطاعوا أن يدرسوا جيداً تلك المصادر علي نحو واسع ووفق ضوابط مقننة، لأمكن للفقه الاسلامي والحقوق الإسلامية أن تصبح مظهراً لإعجاز الوحي وصدق الرسالة الإسلامية بالاضافة الي المباحث الكلامية والفلسفية التي تعتبر عادة من طرق الكشف عن حقيقة الدين وأصوله العقائدية، وبيان حياة الفقه الاسلامي وتقدمه في البحث وقدرته وتطبيقاته العملية علي امتداد تاريخ تطور الحياة الإنسانية. ولكن مما يدعو إلي الأسف هو أن الحكومات غير الدينية التي ألقت بمعظم ثقلها علي المجتمعات الإسلامية خلال فترات طويلة من التاريخ، وسلبت منها كل فرصة للنشاط في مختلف الميادين الحكومية و القضائية والحقوقية والاقتصادية وغير ذلك، ومنعتها من القيام بعمل أعمق وأجدر.
يقول الإمام (ره) في ذلك:
«مع الأسف، جامعاتنا ومدارسنا الدينية كانت مصابة بالنقص في جوانب مختلفة دون أن تستطيع سد تلك النواقص. إنهم لم يستولوا علي المدارس الدينية مباشرة، كما فعلوا بالنسبة للجامعات، ولم يستطيعوا. إنها استطاعت أن تتحمل الكثير من الأذي علي عهد رضاخان، وثابروا علي مسيرتهم، وبعد ذلك كان الأمر كذلك، ولكننا كنا محصورين في مجموعة من الكتب وفي عقائد خاصة. كتبنا كانت تتحدث غالباً، من حيث التعليم والتعلم، عن الطهارة والتجارة والصداق ولا تتعداها. أما العلوم القضائية والحدود والديات وأمثالها فقد كانت علوماً غريبة. بالطبع كتب الاساتذة عنها كتابة مسهبة، ولكن في الحوزات فقط لأن القضاء لم يكن في أيديهم، ولم تكن الحدود والديات والقصاص من الأمور العملية، لذلك لم تكن تلقي علي بساط البحث»4.
الفقه يحتاج اليوم إلي عنصرين اثنين :
الأول هو الحضور في الساحة العملية للنظام الاجتماعي وحاجات الأمة الإسلامية. وقد صاغ الإمام (ره) ذلك في عبارة جميلة :«الحكومة هي الفلسفة العملية للفقه كله».
الثاني هو وضع نظام للمباحث الفقهية وجعلها في تنظيم قديم قابل للبيان.
3. استجابة الفقه للأحداث ورأي الامام الخميني (ره
)الفقه علم حقيقي، والعلم الحقيقي، كما قال الإمام علي ( عليهالسلام )، هو العلم الذي يؤدي إلي بناء الحياة المادية والمعنوية. إن فقهنا، من حيث مادته ومصادره، كما قال الإمام (ره):
«أغني فقه وقانون في العالم. إن فقهاً كهذا لا وجود لمثله في العالم، لا بين المسلمين ولا بين غير المسلمين»5.
بيد أن هذا الفقه يجب أن يكون إلي جانب عنصر اجتهاد تقدمي رفيع كي يستفيد منه علي مختلف الصُّعُد الشرعية التي يحتاجها الإنسان، لأن الأحداث إما أن تكون من «المصاديق العامة» وإما أن تكون من «فروع الأصول»، وهي موجودة في المصادر الفقهية، والاجتهاد يرجع الفروع الجديدة إلي الأصول الأساس وينطبق العام علي المصاديق. علي أي حال، مشكلة الفقه، كما قلنا، هي أن فقه المدارس وفقه المواضيع الفكرية إما أنها عتيقة مضي زمانها، وإما إذا كان الموضوع باقياً فإن المحتوي قد تغير كلياً. بعض الفقهاء، بدلاً من أن يقوموا بدراسة الموضوعات الجديدة، وبيان محتوي الموضوعات القديمة، يكتفون بتكرار المكررات ولا يتقدمون خطوة وراءها.
قبيل رحيل الإمام (ره) أشار الي هذه النقطة الدقيقة، مخاطباً الحوزات العلمية، فقال: «الزمان والمكان عنصران مصيريان في الاجتهاد»6.
أي إنهما يؤديان دوراً مهماً في الاجتهاد، ولذلك فللمكان والزمان خصوصياتهما التي تغير الموضوع، وتكون النتيجة أن يتغير الحكم القديم تبعاً لذلك، كالسفر الذي له تأثير كبير في نظرة الفقهاء والمجتهدين واستنباطاتهم، ومنهم محمد بن ادريس صاحب المذهب الشافعي الذي غير 90 نظرية من نظرياته وفتاواه علي أثر سفره من بغداد إلي مصر، وظهر مذهبه الجديد.
لذلك إذا ماكنا نشهد اليوم تحقق الثورة الإسلامية في ايران وتوافر الأرضية لإجراء الأحكام والقوانين الاسلامة، فقد أظهر ذلك فراغاً عظيماً في معرفة نظريات الإسلام في الشؤون القضائية، الحقوقية، الدولية، والاقتصادية وغيرها أحد العوامل المهمة في ذلك هو أن بعض الفقهاء، بدلاً من الإبداع واكتشاف الموضوعات وتعرّفها عيناً، وبدلاً من التفقه الاجتهادي، يكتفون بالاجتهاد التقليدي. هؤلاء لا هم قادرون علي الاستجابة لجميع الأحداث، ولا تكون نظرياتهم قابلة للتنفيذ في عالم اليوم.
إذا ارادت الحوزات العلمية أن تدير اليوم مجتمع الأمة الإسلامية وأن تقوم بدورها أداء رسالتها الفقهية الاسلامية، عليهم أن يتحولوا من الفقه التقليدي الي الفقه الاجتهادي الجواهري ــ كما وصفه الإمام (ره) ــ مع الاحتفاظ بالأصول العلمية ومبادئ التحقيق الدقيقة، بصرف النظر عن المسائل الفقهية القائمة علي القياس والاستحسان والمصلحة المرسلة، والسعي الصادق لفهم روح قوانين الإسلام الأصيلة وتطبيقها علي الموضوعات الجديدة.
يقول الإمام الخميني(ره):
«علي العلماء والاساتذة المحترمين في الدروس الفقهية والحوزات الفقهية والأصولية أن لا ينحرفوا عن طريقة المشايخ العظام التي هي الطريقة الوحيدة للمحافظة علي الفقه الإسلامي. عليهم ان يسعوا كل يوم أن يزيدوا من دقتهم وبحثهم ونظرهم وابتكاراتهم وتحقيقاتهم، وحفظ الفقه التقليدي الذي هو ارث السلف الصالح، والانحراف عنه يؤدي الي ضعف أركان التحقيق والتدقيق، ولابد من تراكم الدراسات والتحقيقات»7.
إن مقصوده من حفظ الفقه والفقه الجواهري والفقه التقليدي لم يكن ابداً الحفاظ علي أبحاث غير ضرورية ومعوقة. إن حذف الأبحاث غير الضرورية لا يقصد به حذف الأبحاث اللازمة والعميقة للطلبة، بل المقصود هو الحفاظ علي الدقة في أسس الأبحاث اللازمة في استنباط الأحكام والاجتهاد فيها.
يدافع الإمام (ره) عن فقه يضمن نضج الملل ومصلحتها، إنه لا يدافع عن فقه يؤدي إلي إهدار الإمكانات الحوزوية والطاقات البشرية. الإمام (ره)، في وصيته الإلهية السياسية، يشير الي ذلك فيقول:
لا تنحرفوا قيد شعرة عن الفقه التقليدي مظهر المدرسة والرسالة والإمامة ونضج الملل وعظمتها، والأحكام الأولية والثانوية كلتاهما من الفقه الإسلامي... .
النقطة اللافتة هنا إنه كان يخالف نظرية المتطرفين في الإفراط، والذين كانوا يستنبطون أحكام الحوادث الواقعة استناداً إلي آرائهم الخاصة، أو إلي مصادر غير موثّقة، بمثلما كان يرفض آراء المفرطين الذين كانوا يكتفون في إصدار أحكامهم بالاستناد إلي ظاهر ألفاظ عناصر خاصة. إن الفن الذي امتاز به تمثل في أنه لم يكن مثل ذوي الأفكار الجامدة والسطحيين الذين يتهربون من الإجابة فيما يتعلق بالأحداث الواقعة، ولا كان مثل المشاهير الجهلة الذين لم يكونوا يقيمون أحكامهم علي مصادر شرعية موثوق بها. في هذا يقول الإمام:
علي المجتهد أن يكون متمتعاً بالبراعة والذكاء والفراسة والقدرة علي ادارة مجتمع إسلامي وغير اسلامي كبير، وبالاضافة الي التقوي والخلوص والزهد المطلوبة في المجتهد، يجب أن يكون مديراً ومدبراً. إن الفقه هو النظرية الواقعية الكاملة لإدارة الإنسان والمجتمع من المهد إلي اللحد... والذي يخشاه الاستكبار هو أن يتخذ الفقه والاجتهاد صفة العينية والعملية وأن يخلقا بين المسلمين القدرة علي النضال8.
4. لفظة الفقه في النصوص والمصادر الشرعية
النصوص والمصادر الشرعية هي المواضع التي يمكن العثور فيها علي بيانات الشارع ووجهات نظره الأصيلة. لاشك في أن أهم نص أصيل ومصدر شريف يمكن الرجوع إليه هو القرآن المجيد الذي يصرح في مواضع متعددة بالفقه والتفقه ومحتواه. من تلك المواضع التي وردت فيها لفظة «فقه» في القرآن، حيث لها علاقة وثقي بموضوع البحث، هي الآية: «فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيتَفَقّهُوا فِي الدّينِ وَلِينُذِرُوا قَوْمَهُمْ إذا رَجَعُوا إلَيهِمْ لَعُلّهُمْ يَحْذَرُونَ»9.
إن التفقه في الدين بالشكل الذي يضمن التحذير من الانحرافات العقائدية الفكرية والعملية، له مكانه في مجموعة المعارف الإسلامية، ولا ينحصر في الأحكام الشرعية العملية. لذلك فإن صدر المتألهين، في شرحه لأصول الكافي وبعد بيان أن لفظة «فقه» عند ظهور الإسلام لم تقتصر علي الأحكام الشرعية الفرعية العملية، يقول:
وإن الفقه أكثر ما يأتي في الحديث بمعني البصيرة في أمر الدين، وإن الفقيه هو صاحب البصيرة.
في الواقع، لفظة «فقه» في القرآن ترد بمعني الفهم والإدراك العميق لحقائق الدين والخلق « قَدْ فَصّلْنا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقُهونَ»10 و «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها»11 و«فَما لِهؤلاءِ الَقوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً»12 و « وَلكِنَّ المنافقين لا يفقهون»13.
وفي الروايات الواردة عن الأئمة ( عليهمالسلام )نجد للفقه والتفقه ميداناً واسعاً، ومن ذلك قول رسول الله ( صلياللهعليهوآلهوسلم ):
إذا اراد الله يعبد خيراً فقهه في الدين وزهده في الدنيا وبصّره عيوبه14.
و قال أيضاً:
من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين15.
وعن علي ( عليهالسلام )أنه قال:
تعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب16 و الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله... ولم يؤمنهم من مكر الله17.
وهناك روايات كثيرة أخري تدل علي أن الفقه والفقاهة لايمكن حشرهما ضمن حدود محدودة بمعرفة الأحكام الفرعية الشرعية، فالفقه الذي يدعونا إليه القرآن والمعصومون ( عليهمالسلام )هو فقه أعم من الأحكام الفرعية الشرعية العملية، إنه فقه الزهد ومعرفة نقائص النفس، فقه يخلق في قلب الإنسان ربيعاً من معرفة الله، فقه ليس فيه يأس ولا تجرّؤ. بديهي إن أبحاث معرفة الذات واليأس والتجرؤ لا علاقة لها بالمسائل الشرعية الفرعية العملية، بل تكون ضمن دائرة المعارف الإلهية الواسعة. قصدنا من فهرسة هذا البحث هو معرفة المفهوم الحقيقي للفقه في بيان الشريعة والمحافظين عليه، لأننا اليوم نشهد أن لفظة الفقه قد ابتعدت عن معناها الكلي الشامل ومحتواها الغني، واستخدمت بمعناها الخاص، بل الأخص، مع أنه لإثبات عظمتها ومكانتها يستند إلي الآيات والأحاديث التي تعبّر عن معني أوسع وأغني. إن هذا عدول عن الكلية الشاملة الواقعية إلي أمر ثانوي يسبب أحياناً إهمال الأبعاد والاجزاء الأخري، بحيث أن الفقاهة والاجتهاد ومعرفة الإسلام تجعل أدعياءها عرضة للأذي ومفتقرين إلي الاعتدال والإتقان.
5. معني الفقه في الاصطلاح الشرعي
سبق القول إن مصادر الشريعة الأصلية لم تضع للفظة الفقه معني خاصاً غير المعني اللغوي، ولكن بمضي الزمان اتخذت هذه اللفظة معني محدداً آخر عند المتشرعين، أو عند بعضهم بحيث أنها أصبحت اصطلاحاً جديداً، وهذا الاصطلاح هو إطلاق لفظة الفقه علي جزء من المعارف الدينية التي تخص الاحكام العبادية، وهو خلاصة ما نجده اليوم في الرسائل العملية وكتب الفقه. الفقاهة في هذا المصطلح تعني أن يقوم المجتهد باستخدام وسيلة الاستنباط في بعض المصادر الخاصة لمعرفة أسس هذه المسائل، لأن صفة الفقيه تطلق علي من يتحدد ميدان إجتهادهم وفقاهتهم وفهمهم بهذه الأمور الخاصة.
بالطبع وضع المصطلحات ليس جرماً ولا يعتبر معصية، ولكنه إذا أدي إلي نقص مجموعة كاملة ذات أبعاد ممتدة لتصبح ذات بعد واحد فسوف تحصل بعض المشاكل.
هناك إحساس اليوم إن هذا الأصطلاح الخاص، بمفهومه ومحتواه قد جرح جماع الثقافة الإسلامية واتجاهها وشموليتها. إن العناية بجزء وإهمال الأجزاء الأخري، أظهر جسم الثقافة الإسلامية اشبه بوليد معلول ذي رأس ثقيل وجسد خفيف. إن عدم الانسجام هذا والنقص ليسا من طبيعة الاسلام ولا من اصوله، بل هو نتيجة الجهل والسذاجة والسطحية عند اولئك الذين يدعون أنهم يشرحون الشريعة لأهل الشريعة وانهم حاملو رسالة الوحي العالم برمته.
6. الفقيه الصادق
الفقيه الصادق هو ذلك الذي يسعي لاحياء المجتمعات الإسلامية، والتمهيد لتطبيق الفقه الإسلامي عملياً ولنموه وتفتحه، وإلي جانب ذلك كله يجب أن يتحلي بالفضائل الأخلاقية، وعلو الهمة، وكرامة النفس، ومعرفة الزمان والإنسان والتدبير، والمديرية وحسن الإدراة. إن فقيها كهذا يمكن أن يكون مثالاً لفقهاء الحوزة العلمية، إن الفقهاء في النظام الإسلامي، حتي إذا كان الحكم ضدهم، فإن دورهم في عمق مسيرة الأحداث الاجتماعية لا يقل أهمية عن الحكام أنفسهم، وذلك لأن حياة المجتمع الاسلامي العبادية تحيا بالفقه الإسلامي. وحملة الفقه هم الفقهاء الذين يجب عليهم تطبيق أحكام الشرع الكلية علي الفروع، بل قد يقتضيهم الأمر أن يشرحوا للناس بعض المواضيع المهمة السياسية والاجتماعية. إن قوة حاكمية الفقهاء وضعفهم في المسائل الجارية في المجتمعات الإسلامية علي امتداد التاريخ في كثير من الأمور تكون مبنية علي وجهات نظر الفقهاء ومواقفهم وقدراتهم وتدابيرهم الاجتماعية والسياسية والدينية.
الإمام الخميني(ره) بنظرته الشاملة وبفهمه العميق لروح الإسلام السامية، وفي ظل مزاياه الشخصية القيمة، كالحرية والشجاعة والإيثار والمثابرة والإدارة والجرأة والحزم وتحمل الشدائد والمصائب، لم يقم بتحرير الإسلام والفقه والثقافة والمعارف الإسلامية من حكم طغاة التاريخ فحسب، بل تمكن من إيصالها الي قمة الحكم، ورد القوي اللادينية علي أعقابها.
أسس الإمام الخميني (ره) في المسائل المستحدثة وتدوين رسالته
1. التقوي الكاملة في التحقيق والاجتهاد:
الإمام الخميني (ره)، مثل ساير الفقهاء العظام، كان يتقي التقوي كلها ويلتزم الاحتياط الكامل في الاجتهاد واستنباط الأحكام، لئلا يعزو من نفسه شيئاً إلي الله ورسوله ( صلياللهعليهوآلهوسلم )، أو أن يمزج القوانين الإلهية بالنظريات البشرية، بل كان في أبحاثه يستدل بروايات وأحاديث مبيناً صحتها وسقمها من دون أي تحيز. يقول في أبحاثه حول ولاية الفقيه إن هذه الرواية، علي الرغم من قوتها الاستدلالية، فهي إما ضعيفة في سندها، أو مرسلة، او مقبولة18. او يستعمل اصطلاحات مثل: الأقوي والأولي والأحوط، في تحرير الوسيلة، مما يدل علي تقواه ودقته في بيان المسائل19، علي النقيض من المحققين العاديين الذين يعتبرون كل مايؤيد وجهة نظرهم صحيحاً، وكل ما يخالفها ضعيفاً أو غير صحيح، أو أنهم لا يشيرون بشيء إلي درجة صحته أو سقمه، أو يسبغون عليه لحن الخطابة، ويستدلون به بحجة أنه مذكور في الكتاب الفلاني القديم.
2. التزام الأدب في البحث والاقتباس
التزام الأدب والاحترام التام للعلماء والفقهاء ووجهات نظرهم وأقوالهم كان أحد الخصائص الأخري التي تميز بها علي مختلف الصُّعُد، خاصة في المسائل المستحدثة ومواضع الاختلاف. كان الإمام (ره) يوصي طلابه دائماً بالتزام الأدب والاحترام تجاه العلماء، فمثلاً، عند بحثه في موضوع بطاقات اليانصيب، قال:
إن قضية بطاقات اليانصيب قضية اجتهادية في الفقه، وقد تكون آراء المجتهدين بشأنها مختلفة، إذ إن هذه ليست من مسائل الفقه الضرورية والواضحة التي يمكن أن يتفق الجميع عليها. لقد اشتهر في هذه القضية أن المرحوم الخونساري والمرحوم الميرزا سيد يونس الأردبيلي (رضوان الله عليهما) قد أجازا ذلك. طبعاً كان ذلك هو اجتهادهما الذي أجاز بطاقات اليانصيب، وهذا لا يعني أننا يجب أن نطعن في حكمهما لأنهما أجازا ذلك، بمثلما أنهما ليس لهما أن يطعنا فينا لأننا لا نجيز ذلك، بل ينبغي في أمثال هذه المسائل ان نواصل البحث. إنكم ينبغي أن تكونوا علي حذر من أمثال هذه المسائل الدقيقة، ومن استعمال عبارات قد تؤدي ــ لا سمح الله ــ إلي سلب توفيقاتهم، أو إلي اخراجهم من زمرة الطلاب (الواقعيين)، أو إلي ابتعادهم عن طريق الله والصراط المستقيم.
وفي الموسيقي يقول الإمام (ره):
يطعن بعضهم في المرحوم الملا محسن فيض الكاشاني (ره) والمحقق الخراساني (ره) بزعم أن هذين الفقيهين انكرا حرمة الموسيقي والغناء، وإنما حرّما الأفعال المحرمة التي ترتكب معها...الأفضل هو الالتفات إلي الأدلة التي أورداها لتقسيم الغناء والموسيقي... .
3. إتساع دراسات الإمام الخميني(ره)
إن أساس البحث والإجتهاد عند الإمام الخميني (ره) ــ مثل الشيخ الطوسي (ره) وآية الله البروجردي(ره) ــ هو دراسة جميع الاقوال والنظريات، ولم يتحدد بنظريات علماء الشيعة. في كتابه رسائل يقول إن من مقدمات الاجتهاد دراسة فتاوي أهل السنة و أخبارهم 21، ومن ذلك أنه درس آراء الغزالي والشافعي وأبي حنيفة ونقلها22.
4. أقوي فقه وقانون عند الإمام (ره)
يري الإمام الخميني (ره) أن فقه الشيعة أغني فقه و قانون في العالم، و في هذا قال الإمام (ره):
فقه الشيعة أغني فقه وقانون في العالم، إنه قانون بذل علماء جهوداً كبيرة في شرحه وتفريعه. إن مثل هذا القانون لا مثيل له في العالم سواء بين المسلمين أو غير المسلمين، وهو ما تحقق بالجهود الجبارة التي بذلها علماء الشيعة. منذ البداية، زمان النبي، وبعد ذلك الأئمة، كان العلماء هم الذين يتحلقون حول الأئمة ( عليهمالسلام ) ويأخذون عنهم الأحكام، وقد دونت في أربعمائة كتاب (الأصول الاربعمائة) وفي غيرها23.
فقه الشيعة يستقي من نبي الإسلام العظيم ( صلياللهعليهوآلهوسلم ) ومن الأئمة مثل الإمام علي ( عليهالسلام ) والإمام الباقر ( عليهالسلام ) والإمام جعفر الصادق ( عليهالسلام )، وهم، باعتراف الشيعة وأهل السنة، أتقي الناس وأعلمهم بالدين الإسلامي بعد رسول الله ( صلياللهعليهوآلهوسلم ).
فقه الشيعة، كما يعبر عنه الإمام (ره) عمره (1400) سنة، أي إنه خلال اكثر من 14قرناً قام أفضل علماء المسلمين بالاجتهاد فيه، وصرفوا كل طاقاتهم في تصفية الأحكام وتصنيفها والحصول علي أحكام المسائل الجديدة والفروع.
الدكتور صبحي المحمصاني، في كتابه فلسفة التشريع في الاسلام يقول إنه بعد سقوط بغداد وبعد أن توقف الاجتهاد منذ القرن السابع الهجري، خلافاً لسائر المذاهب، اكتفي فقهاء أهل السنة، في اواسط القرن السابع الهجري ، بالمذاهب الأربعة المعروفة، وأجمعوا علي غلق باب الاجتهاد. ومنذئذ اخذت حضارة العرب بالتقهقر وأصابها الجمود والتحجر المَرضي علي التقليد الأعمي، وفقد الناس روح الشريعة الإسلامية، واتجهوا الي البدع والخرافات حتي كان القرن الرابع عشر الهجري، و نهض السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) والشيخ محمد عبده وتلامذتهما، ودعوا الناس الي توحيد المذاهب وترك التقليد، والرجوع إلي مصادر الشريعة الأصلية وتجنب البدع والخرافات.
أما فقه الشيعة فقد بقي فيه باب الاجتهاد مفتوحاً حتي اليوم وازداد توسعاً بتطورات الزمان وتحولاته. الإمام الخميني (ره) في آخر وصاياه يؤكد قائلاً :
في الحكومة الإسلامية لابد أن يبقي باب الإجتهاد مفتوحاً دائماً . إن طبيعة الثورة والنظام تقتضي عرض الاجتهادات والنظرات الفقهية في مختلف الميادين بكل حرية، ولو كانت متعارضة فيما بينها، وليس لأحد الحق والقدرة علي الحيلولة دون ذلك24.
5. عظمة الفقه واتساعه في نظر الإمام (ره)
يري الإمام الخميني(ره) أن الفقه الإسلامي متسع جداً ويشمل جميع أبعاد الحياة الإنسانية، ويقول:
الفقه هو النظرية الواقعية لإدارة الإنسان من المهد إلي اللحد25.
ويقول أيضاً:
أرسل الله، بوساطة رسوله ( صلياللهعليهوآلهوسلم )، قوانين يصاب الإنسان بالدهشة من عظمتها. لقد وضع القوانين والتعليمات لكل أمر من الأمور. لقد وضع قوانين للإنسان قبل انعقاد نطفته حتي انزاله في القبر، وهذه القوانين ليست مقصورة علي الأعمال العبادية، بل هناك قوانين مترقية ومتكامله وجامعة للشؤون الاجتماعية والسياسية والحقوقية والعائلية. إن المسائل التي وردت منذ زمن بعيد علي الصُّعُد الاقتصادية والحقوقية والسياسية والحقوق الدولية في الحرب والسلم والحقوق تمثل جانباً من القوانين الاسلامية ورسالته العملية. ليس هناك أي شأن من شؤون الحياة لم يقرر له الإسلام حكماً او قانوناً.
6. حاجة العالم اليوم إلي القوانين الإسلامية
في رأي الإمام الخميني (ره) أن العالم في الحاضر والمستقبل، بكل التطورات و المستجدات التي تقع فيه ومنجزاته، لا يمكن أن يستغني أبداً. وهو في هذا يقول:
لو أنهم ذهبوا الي المريخ، ووضعوا أقدامهم في المجرات الأخري يظلون عاجزين عن بلوغ السعادة والفضائل الأخلاقية والسمو الروحي، وعن حل مشكلاتهم الاجتماعية، لأن مشكلاتهم الاجتماعية وتعاستهم بحاجة إلي طرق حل عقائدية وأخلاقية، ولا يمكن أن يحلها اكتساب القوة المادية وتسخير الفضاء. إن الثروة والقدرة المادية وتسخير الفضاء تتطلب الإيمان والعقيدة والأخلاق السامية حتي تتكامل وتسمو وتكون في خدمة الإنسان، لا لكي تصبح مصيبة تنزل علي الإنسان26.
7. توكيد الإمام الفقه الجواهري
كان الإمام الخميني (ره) يهتم كثيراً بهذا الأمر، فقد قال:
يجب تأييد الفقه الجواهري27.
في القرن الثالث عشر الهجري ظهر في الحركة العلمية في النجف وكربلاء تحول جديد علي يد آية الله محمد باقر وحيد البهبهاني (توفي سنة 1208هـ). في هذا القرن نشر كثير من الشخصيات المهمة الدينية تآليفهم القيمة في الفقه والأصول، مثل كتاب كشف الغطاء و مفتاح الكرامة و الرياض و المكاسب في الفقه، و القوانين و الفصول و الضوابط و الحاشية علي المعالم للشيخ محمد تقي الاصفهاني (ره) و الرسائل للشيخ الأنصاري في أصول الفقه، وعلي رأس هذه الكتب الفقهية كان كتاب جواهر الكلام للشيخ محمد حسن النجفي في شرح شرائع الإسلام وهو دورة معارف كاملة وجامعة تحتوي علي أقوال العلماء وأدلتهم، بحيث أن أي كتاب أو مجتهد لا يمكن أن يستغني عن جواهر الكلام وهو يكشف عن ذروة النهضة الفقهية وتدوين الفقه بصورة واسعة وباسلوب حديث متكامل، فكان مثالاً في التحقيق والنقد ودراسة أقوال الفقهاء القدامي والقدرة علي الاستدلال استناداً إلي القرآن والحديث، بعد ضعف خلال القرنين 11و 12 هـ، ومن دون أن يخرج عن أصل الفقه التقليدي وجوهره، ولا أن يمتزج بالقوانين البشرية والجواهرية البديلة التي كانت قد أثرت في دول تلك الأيام من عثمانية وعراقية ومصرية وايرانية، بل كان اسماً علي مسمي، أي إنه كان جواهرياً خالصاً مأخوذاً من احكام الله ورسول الله ( صلياللهعليهوآلهوسلم ) والأئمة ( عليهمالسلام ) والفقهاء. إن أهمية توكيد الإمام الخميني (ره) الفقه الجواهري تتضح إذا ما علمنا أن الفقه الجواهري قد دوّن في عصر أوشكت الشريعة المحمدية أن تمتزج علي أيدي الأجانب بالقوانين البشرية، وأن يسلب منها جانبها المعنوي والثوري، وتصبح في خدمة المطامع الاستعمارية. بالنسبة لهذه الحركة الانحرافية في ايران يقول الإمام (ره):
في اوائل الحركة الدستورية، عندما ارادوا أن يدونوا قانوناً، قام عملاء الانجليز، بأمر من اربابهم، باستقراض مجموعة القوانين الحقوقية البلجيكية من السفارة البجيكية، ووضعوا الدستور علي أساسه وسعوا إلي ترميمه بالقوانين الحقوقية الفرنسية والانجليزية، ثم لكي يخدعوا الأمة أدخلوا فيه بعض الأحكام الاسلامية.
الاجتهاد وقدرة الفقه
1. الاجتهاد في اللغة والاصطلاح
لفظة الاجتهاد مأخوذة من مادة جهد، ومعناه اللغوي هو جدَّ وتعبَ في الأمر، وهذا المعني يُجمع عليه أساتذة اللغة. أما في الاصطلاح فإن معناها عند بعض علماء الأصول هو الاستفادة التامة من جميع إمكانات المجتهد للوصول إلي الحكم الشرعي في الأحداث الواقعة والوقائع الجديدة بوساطة عناصر خاصة ومشتركة وأسس المعرفة من المصادر الشرعية الموثوق بها.
الفرق بين الجهاد والاجتهاد
جذور هاتين اللفظتين واحدة، بفارق أن الجهاد يعني الإستفادة من قدرة المرء للوقوف في وجه العدو. أما الإحتهاد فهو الإستفادة من القدرة والجهد لاستخراح الأحكام من مصادرها.
أنواع الاجتهاد عند الإمامية
أ. الاجتهاد النظري، وهو المستخدم في المعرفة الأصولية والأسس المعرفية والعقائدية.
ب. الاجتهاد العملي، وهو العلم بمطابقة علم المرء مع الأوامر الشرعية الصادرة إليه وعدم مطابقته معها. ويصطلح بأنه «مطابقة المأتي به مع المأمور به».
ج. الاجتهاد الأصولي، وهو الذي يسعي لمعرفة الدليل والحجة، وهو يرمي إلي استحصال الدليل والحجة والسند لإصدار الأحكام الشرعية في الأحداث الجديدة.
د. الاجتهاد الفقهي، وهو معرفة الحكم الشرعي فقط عن طريق الأسس الأصلية للاستنباط.
هـ . الاجتهاد التفريعي المقارن، وهو معرفة فروع الأصول ومصاديق قوانين الأحكام الكلية، والعلاقة بين الفروع والأصول، وبين المصاديق وقوانين الأحكام الكلية. نتيجة هذا الاجتهاد هو رجوع الفروع والأحداث الجديدة في الحياة والحكم، مهما يكن نوعها، إلي الأصول الأساس، وانطباق القوانين الكلية علي مصاديقها الخارجية.
لابد أن نضيف أن لكل واحد من هذه الأنواع أقساماً، وكل قسم له فروعه، مما يخرج عن حيز كلامنا هنا.
انواع الاجتهاد عند أهل السنة
للاجتهاد عند علماء أهل السنة أنواع ثلاثة:
الاجتهاد البياني، وهو الذي يستخدم في النصوص لبيان الأحكام الشرعية في الحوادث الواقعة والمواضيع المستحدثة.
الاجتهاد القياسي، وهو اجتهاد يستخدم في النصوص الواردة في الشريعة، لاستخراج الأحكام الشرعية لمواضيع جديدة لا يوجد نص يخصها.
الاجتهاد الاستصلاحي وهو الإجتهاد القائم علي الرأي وقاعدة الإستصلاح لتشريع أحكام شرعية للأحداث الجديدة التي لا يوجد لها نص يخصها.
الإمام (ره) يؤيد الاجتهاد الأول القائم علي نصوص موثوق بها. أما الاجتهاد الثاني إذا كان قائماً علي أساس القياس التشبيهي والتشكيلي فلا يؤيده. ولكن إذا كان علي أساس القياس المنصوص العلة مع الأولوية فإنه مقبول عنده. أما الثالث فهو يرفضه.
2. اختلاف اجتهاد الإمامية عن إجتهاد أهل السنة
الاجتهاد في فقه الإمامية وسيلة في الفقه لاستخراج أحكام الأحداث الواقعة والوقائع الجديدة في الحياة علي مدي الزمان، وتستنبط من عناصر خاصة.
بناء علي ذلك، فإن الإجتهاد في نظر فقه الإمامية ليس هدفاً ولا أصلاً مستقلاً في مقابل الكتاب والسنة والإجماع والعقل، بل هو وسيلة جعلها الله كينبوع دفاق يفيض في قلب الفقه. أما عند أهل السنة فالاجتهاد في الفقه هدف وأصل مستقل إلي جانب الكتاب والسنة، وفي الحالات التي ليس فيها نص خاص، يتم الاجتهاد بالرأي لوضع أحكام شرعية للأحداث الجديدة.
3. الاجتهاد الذي فيه دور للزمان والمكان
الاجتهاد الذي فيه دور للزمان والمكان يعتبر النوع الخامس من الاجتهاد عند الإمامية، وهو اجتهاد تفريعي مقارن، لا من انواع الاجتهاد الأخري. وهذا لأن دور الزمان والمكان يكون في تغيير مواضيع الأحكام أو خصائصها وظروفها، وكذلك في تعيينها عند التفريع والمقارنة، وليس في الأحكام نفسها وأدلتها. لذلك فهما ليس لهما دور في الاجتهاد الفقهي الخاص بمعرفة الحكم والاجتهاد الأصولي لمعرفة الدليل والحجة، وهذا يتبين واضحاً في أصل البحث.
لذلك فإن الاختلاف بين رأي الإمام (ره) ورأي علماء أهل السنة يتبين في مسألة تحول الاجتهاد. الباحثون من أهل السنة يرون أن للزمان والمكان والأصول الجوزية دوراً في تحول الاجتهاد. هذا الموضوع يذكره ابن قيم الجوزية في كتابه اعلام الموقعين عن رب العالمين وغيره في تآليفهم، يقول الدكتور محمد المحمصاني في كتابه المجتهدون في القضاء: «وقد أصاب جمهور الفقهاء بقولهم إن الأحكام المبتنية علي الاجتهاد تتحول بتحول الزمان والمكان والأحوال...» وهذا يطابق الواقع، ولكن يجب أن نعرف أن التأثير الذي يراه الإمام للزمان والمكان في الإجتهاد يختلف عن التأثير الذي يراه أهل السنة. فيما يلي نذكر هذه الاختلافات بصورة إجمالية:
1. يؤيد الإمام (ره) الدور المهم الذي يلعبه الزمان والمكان في تحول الموضوعات وتغيير الأحكام الإلهية في مقام التفريع والمقارنة بعد معرفة الموضوع وخصائصه. إلا أن فريقاً من أهل السنة يقولون بدخالتهما في تحول الأحكام في مقام استنباط الحكم الشرعي.
2. يري الإمام (ره) أن للزمان والمكان، استناداً إلي المصادر الشرعية الموثّقة، دوراً مهماً، بينما أساس عقيدة مؤيدي قانون تحول الاجتهاد هو الرأي الشخصي.
3. بحسب نظرية الإمام (ره) إصدار حكم علي أساس دور الزمان والمكان للموضوع الجديد ليس مخالفاً للنص، بل هو ضمن إطار النص، بفارق أن الموضوع الأول يرجع إلي نص، والموضوع الجديد يرجع إلي نص آخر. ولكن الآخرين يقولون إن الحكم عن طريق قانون تحول الاجتهاد استناداً إلي ظروف الزمان والمكان يكون احياناً خلافاً للنص.
4. بهذا التحول الاجتهادي الذي يراه الإمام (ره) عن طريق دور الزمان والمكان، يعتبر نوع الأحكام في الموضوعات من الأحكام الأولية لا الثانوية. وذلك لأن الحكم الثانوي يكون في حالة وجود حكمين للموضوع، أولي وثانوي، الأولي منهما للاختيار والثانوي للإضطرار. فاستناداً الي رأي الإمام (ره) في أن للزمان والمكان دوراً في تغيير الموضوع وخصائصه وتعيينه، لا يكون هناك مجال لحكم ثانوي، لأن الحكم الثاني الناجم عن تحول الاجتهاد يعود لموضوع آخر ، والحكم الأول الموجود قبل تحول الاجتهاد يعود للموضوع الأول، ولهذا، كلا الحكمين يكونان حكماً أولياً لموضوعهما، لذلك فإن هذا التغيير والتحول في الحكم بسبب تغير الموضوع وتحوله لايتنافي مع الحديث المعروف: «حلال محمد حلال إلي يوم القيامة وحرام محمد حرام إلي يوم القيامة». هكذا، بهذا التحول، يخرج الموضوع من تحت الدليل والحكم السابقين، ويصبح ضمن نطاق دليل وحكم آخرين من أحكام الشريعة الإسلامية. إذن، ليس حكم الشريعة هو الذي يتغير بتحول الزمان والمكان وظروفهما، بل في الحقيقة إنه الموضوع الذي يتغير شكله تحت ظروف الزمان والمكان مكا يؤدي إلي تغيير حكمه. أما إذا عاد الموضوع، بعد فترة من الزمن، إلي حالته الأولي من حيث القيود والظروف، عاد إليه الحكم السابق. إلاّ أنه بالتحول الذي يقول به الآخرون فإن نوع أحكام الموضوعات تعتبر ثانوية.
5. نتيجة نظرية الإمام (ره) في قانون التحول هي خضوع أحداث الحياة للفقه الاجتهادي، لأنه يقبل بقانون تحول الاجتهاد بتحول الزمان، لا تحول الأحكام بتحول الزمان والمكان وظروفهما. أما النظرية المقابلة في قانون التحول فهي إخضاع الفقه الاجتهادي في قبال الأحداث، لأنهم قد قبلوا بقانون تحول الأحكام بتحول الزمان.
أمّا رأي آية الله الخامنئي (دام ظله) في نظرة الإمام (ره) إلي دور الزمان والمكان في الاجتهاد فيقول:
إن قانون تحول الاجتهاد بتحول الزمان والمكان باب يفتح منه ألف باب.
قدرة الفقه الاجتهادي وحشد من المسائل
يقف الفقه الاجتهادي اليوم، بعد قيام الحكومة الإسلامية، في مواجهة حشد من المسائل التي تتطلب الجواب. إن الادعاء منذ قرون بأن للفقه القدرة علي ادارة الحكومة والمجتمع والعالم، وعلي الإجابة عن جميع الأسئلة عن الظاهرات من أي نوع كانت، يوضع اليوم موضع الامتحان وعليه أن يثبت دعواه.
بناء علي ذلك، المجتهد في الحكومة الاسلامية هو الذي أدرك، أولاً، أبعاد الحكومة الإسلامية وعالمية الفقه.
ثانياً أن يكون قادراً، بإجاباته المناسبة علي الصُّعُد الفردية والعبادية والاجتماعية والحاكمية، علي الملاءمة بين الفقه الاجتهادي والأحداث المختلفة وعلي حل المشكلات.
في غير هذه الحالة لا يكون مجتهداً متبحراً ماهراً في النظام الإسلامي، حتي وإن كان قبل الحكومة الإسلامية منسجماً مع ظروف ذلك الزمان الذي لم تكن فيه حاجة إلي الفقه الحكومي، ومجتهداً نافعاً في المسائل الفردية والعبادية، والشخص الذي لا يعرف الفقه الحكومي ولا يعرف مسائله ولا يستطيع أن يستخدم الاجتهاد مع معايير الاسلوب الجديد في مصادره، لا يكون في الحكومة الإسلامية مجتهداً بالمعني الحقيقي . وعلي فرض أنه كان مجتهداً فيما يتعلق بالمسائل الفردية والعبادية ممايرد في الرسائل العملية، فإنه يكون من المصاديق البارزة للمجتهد المتخصص، لا المطلق، إذ إن «الفقيه لا يكون فقيهاً إلا إذا عرف معاريض كلامنا».
ولكي يتناسب الاجتهاد مع الفقه العالمي، ويكون له تأثيره المطلوب والبناء، لابد من الانتباه إلي النقاط التالية:
أولاً: يجب أن يكون الإجتهاد وفقاً لحاجات الحكومة الاسلامية والمسائل المطلوبة فعلا في المجتمع الحاضر والمجتمعات المتمدنة بشكل دقيق .
ثانياً: يجب التطابق علي أساس النظرة العالمية وواقعيات الزمان وعينيتها في الخارج، مع خصائصها في المصادر الموثوق بها والأصيلة.
ثالثاً: بيان أحكام الموضوعات الخاصة بالمسائل الحكومية المطلوبة اليوم بياناً منظماً.
رابعاً: استخدام الاجتهاد بعد دراسة موضوعات الأحكام الشرعية وملاحظة خصائصها الباطنية والظاهرية في مصادرها.
خامساً: أن يكون الاجتهاد ملائماً للمنظور الزماني والمكاني.
فإذا لم تؤخذ هذه الظروف بعين الاعتبار، فلن يتمكن الفقه الاجتهادي من الإجابة عن المشكلات النازلة بمجتمعنا المتغير اليوم. وهذه رسالة خطيرة ومهمة جداً وجديرة بالدرس والملاحظة الدقيقين .
يقول الإمام الخميني (ره) مؤسس الجمهورية الإسلامية، في بعض من تصريحاته المهمة في هذا الأمر: «لا يمكن للناس والشباب وحتي العوام قبول قول مرجع مجتهد إنه لا يبدي وجهة نظره في القضايا السياسية. إن معرفة أسلوب التعامل مع حيل الثقافة السائدة في العالم وتزويراتها، وامتلاك النظرة والبصيرة الاقتصادية، والاطلاع علي كيفية تناول الاقتصاد العالمي ، ومعرفة السـياسة وغيـر ذلـك، هي من مميزات المجتهد الجامع» 28.
«الأهداف الأساس هي كيف نستطيع تطبيق أصول الفقه المكينة في عمل الفرد والمجتمع، وأن يكون عندنا جواب للمعضلات. إن كل ما يخشاه الاستعمار هو أن يصبح للفقه والاجتهاد بُعداهما العيني والعملي»29.
«عليكم أن تبذلوا جهودكم لكيلا يتهم الإسلام ــ لا سمح الله ــ في خضم التعقيدات الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والسياسية، بأنه غير قادر علي ادارة العالم »30.
1. قال الإمام علي( عليهالسلام ) : «الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان». شرح نهج البلاغة، ج 19 ص 51.
2. قال الإمام الصادق ( عليهالسلام ): «.. حتي جاء محمد ( صلياللهعليهوآلهوسلم ) فجاءبالقرآن وبشريعته ومنهاجه، فحلاله حلال إلي يوم القيامة وحرامه حرام إلي يوم القيامة...» أصول الكافي، ج 2 ص 17، ح2.
3. صحيفه نور، ج 21 ص 98.
4. من كلام الامام (ره) في 15 / 6 / 62 هـ. ش.
5. من كلام الامام (ره) في 10/ 10/ 57 هـ. ش.
6. صحيفه نور، ج 21 ص 98.
7. الوصية الإلهية ـ السياسية للامام (ره).
8. صحيفه نور، ج 21 ص 98.
9. التوبة / 122.
10. الأنعام / 98.
11. الأعراف / 178.
12. النساء / 78.
13. المنافقون / 7.
14. كنز العمال، الحديث 28 ص 689.
15. بداية المجتهد، ج 1 ص 2.
16. نهج البلاغة ، الخطبة 110.
17. المصدر نفسه، الحكمة رقم 10.
18. الإمام الخميني(ره)، كتاب البيع، ج 2 ص 276، 282، 286.
19. اصطلاحات رساله. انظر رساله نوين، ج 1.
20. المكاسب المحرمة، رساله نوين، ج 3 ص 21، 211.
21. الإمام الخميني(ره)، رسائل امام خميني (ره) ج 2 ص 94.
22. المكاسب المحرمة، ج 1 ص 198، 245.
23. من كلام للإمام الخميني (ره) في 10 / 10 / 1357 هـ. ش.
24. من كلام للإمام الخميني (ره) في 10 / 8 / 1367هـ. ش.
25. صحيفه نور، ج 21 ص 98.
26. رساله نوين، ج 4 ص 85.
27. صحيفه نور، ج 21 ص 98.
28. المصدر نفسه، ج 21 ص 88.
29. المصدر نفسه، ج 21 ص 61 .
30. المصدر نفسه