نحو إعادة ترتيب للمصادر النصوصيّة الفقه نموذجا
تلعب المصادر النصوصيّة الدينية لأيّ دينٍ دوراً بارزاً ومهمّاً في تحديد بنية ذلك الدين ومنظومته المعرفية والأخلاقية والحقوقية و ويقف الباحث الديني أمام النص منتظراً أن يملي عليه ما يجب أن يُعرف أو يُفعل ، فللنص كلمة قاطعةٌ في كثير أو أكثر الحالات ، وسواءٌ كان الباحث نصيّاً من حيث المبدأ أو عقلانياً كذلك فلا يمكنه أن يتجاوز كثيراً النصَّ ودوره الهامّين ، أو أن يتغاضي عنه ، سواءٌ في ذلك افتراض سلطويّة للقارئ علي النص في مرحلة الفهم أو العكس .
غير أنّ هذه الموقعية التي يتمتّع بها النص في الديانات المختلفة قد بدأ يفتقدها بعد عصر النهضة ، نتيجة النزعة العقلانية التي طرحتها الحداثة التي اجتاحت قسماً كبيراً من العالم ، فاستبدلت المعرفة النصوصية وغيرها بالعقل ، وضعف بالتالي موقع النص من بين الوسائل المعرفية الاُخري .
أمّا علي المستوي الإسلامي فقد تعرّضت السنّة النبوية الشريفة ـ أو السنّة بشكلٍ عامٍ بما يشمل المأثور عن الأئمة عليهمالسلام لدي الشيعة والصحابة لدي السنّة ـ كمصدرٍ نصوصيٍّ هامٍ وأساسيّ لاهتزازات في القرن الأخير بعد سلسلة تحوّلاتٍ معرفيةٍ وفكريةٍ في العالم الإسلامي ، وقد فقدت لدي البعض الكثير من مواقعها ورونقها وفعاليتها ، ويُعزي السبب في ذلك إلي كلا عنصري الإثبات التاريخي والمحتوي المضموني ، حتي وصل الحال إلي أن بعض الباحثين والمفكرين صار لا يرتضي البحث العلمي الديني إذا كان مرفقاً بنصٍّ سيّما لو كان روائياً ، وصار البحث الديني السليم يعني الاقتصار علي المعادلات العقلية أو بعض النصوص القرآنيّة .
وبعيداً عن تقييم هذه الملاحظات والقراءات فممّا لا ينبغي الشك فيه ظاهرا هو أن الأخطاء المنهجية السابقة يجب أن لا توءدي إلي التنازل عن مادّةٍ تاريخيةٍ ضخمةٍ وبهذه البساطة والسهولة ، قد أختلف مع الآخرين في حجم تأثيرها وقد أتفق لكن مبدأ فاعليتها بقراءة أو باُخري بمنهجٍ أو بآخر يجب أن لا يتم التنازل عنه ، وهذا الوجوب ليس قيمةً أخلاقيّةً أو حقوقيةً بقدر ما هو قيمة معرفية لهذا التراث وواقعيّة علميّة يشغرها .
لقد بذلت جهودٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ ـ وأخصّ بها الجهود المنهجية ـ لتفادي واحتواء مثل هذه الاهتزازات والصدمات ، وسواءٌ وفّقت بشكلٍ كامل أو لم توفّق فقد أخّرت أو حدّت من عملية الإجهاز علي هذا التراث الديني .
إنّ الفشل في وضع منهجٍ سليمٍ للاستفادة من السنّة ليس ـ حتي الآن ـ مبرّراً للتنازل عنها وطرحها جانباً ، وإذا أردنا أن نكون حياديين فلا يسعنا سوي لوم الاُمّة التي ترمي بتراثٍ ضخمٍ وهائلٍ كهذا التراث بحجة أنّها لم تستفد منه بطريقتها المألوفة ، بل نطالبها ببذل المزيد من الجهود للحيلولة دون فقدانه وحتي النفس الأخير .
ولا نعني بالحفاظ هنا ، الاحتفاظ بالسنّة علي نفس الطريقة المرعيّة الإجراء فعلاً ، بل المقصود هو الاحتفاظ بها كمادّةٍ موءثرةٍ - سواءٌ بهذا المنهج أو بذاك - ومساعدةٍ في التوصل إلي المزيد من المعارف والمعلومات المفيدة والمنتجة والعمليّة .
وما تسعي له هذه المقالة وتهدف إليه هو محاولةٌ بسيطةٌ لصيغةٍ ما يمكنها أن تجعلنا نطلّ علي هذه المادّة إطلالةً تفسح المجال لاستفادةٍ أكبر منها ولو علي بعض القراءات والمناهج المعرفية ، فهي مجرد اقتراحٍ أوّلي جدّاً قابل للمناقشة والإثراء ، وإسهامٍ رافدٍ للمزيد من المعرفة بمصادرنا الدينية ، مع الاعتراف بأنّ اقتراحاً مِن هذا القبيل لا تكفي فيه وريقات كهذه .
خصيصة النصوص الدينية :
تمتاز النصوص الدينية عادةً بأنها نصوصٌ غير علميةٍ بالمعني المتداول أي أنّها غير منتظمةٍ علي نسقٍ علميّ تخصصيّ ، فليس القرآن الكريم كتاباً فقهياً رتّبت فيه الموضوعات الفقهية علي نسقٍ معيّن أو كتاباً عقائدياً نظمت فيه الاُصول الاعتقادية بتراتبيةٍ متقنةٍ ، والحال أوضح في السنة الشريفة عموماً ، ولهذا الأمر أسبابه ومبرّراته الدينية والتاريخية التي لا علاقة لها ببحثنا هنا علي أهمّيتها ، وما يهمّنا هنا هو أنّ هذا واقعٌ موجودٌ لا مجال للفرار منه ، وعلي القارئ الديني أن يعرف ويوازن المفارقة الحاصلة بين النسق الزمني للنص والأنسجة العلمية والمعرفية المتناغمة فيه ، وهي بحقٍّ مفارقةٌ صعبةُ الموازنة ، لأنّ السير في إطار النسق الزمني من دون ملاحظة العلاقات المعرفية الموجودة بين النصوص غير المتزامنة يفقد الباحث الكثير من أجزاء الصورة وقد يوءدي في النهاية إلي نوعٍ من الإفراغ والإلغاء العملي لها ، والعكس هو الصحيح فالنظر إلي النصوص المرتّبة ترتيباً علمياً مع لحاظ نسبتها إلي بعضها البعض من دون الأخذ بعين الاعتبار الأنساق الزمنيّة والأبعاد التاريخيّة لها ـ كما هو حاصلٌ لدي البعض ـ يفصلها عن أطرها المنصهرة فيها والمتولّدة منها .ولا علاقة فعلاً لبحثنا هنا بقواعد واُسس عملية ملاحظة العنصر الزمني أو تاريخية النص مع الإعتقاد بأنّ هذا الموضوع ما زال بحاجةٍ ماسّةٍ الي قوننة وضبط ؛ نظراً لما يمكن أن نسمّيه بحالة عدم الانتظام في استخدامه في كثيرٍ من الحالات سيما في الفترة الأخيرة ، إنما نبحث في الشق الثاني ؛ أي في الترابطات الموجودة بين النصوص وكيفية توظيف نقاط الالتقاء هذه في التوصل إلي قدرٍ أكبر من الاستفادة من النص ممّا هو حاصلٌ فعلاً
لقد بذل العلماء والمحدّثون المسلمون جهوداً جبّارة في سبيل توفير عنصر الترابط هذا أمام المجتهدين والباحثينُّ ؛ فسعي المتقدّمون منهم الي تصنيف الكتب الحديثية الصغيرة ـ كالاُصول الأربعمئة المعروفة بين الإماميّة ـ وتجميع ما يمكنهم من نصوصٍ تلتقي تحت عنوانٍ معيّنٍ ، فأمّنوا بذلك بدايةً طيبةً لعمليات فرزٍ موضوعيّ لما وصلهم من النصوص القرآنية والروائية ، ثم أعقب ذلك ظهور كبار المحدّثين كالكليني ( م 329هـ ) والطوسي ( م 460هـ ) والصدوق ( م 381هـ ) عند الشيعة ، والبخاري ( م 256هـ ) ومسلم ( م 261هـ ) وابن حنبل ( م 241هـ ) عند أهل السنة .
وعقيب ظهور الإتجاه الأخباري عند الشيعة علي يد محمّد أمين الاسترآبادي ( م 1036هـ ) أُعيد إحياء الحضور الروائي في الساحة ، فنظّمت أكبر الموسوعات الحديثية علي الإطلاق حتي الآن علي يد محمّد بن الحسن الحرّ العاملي ( م 1104هـ ) في كتبه « الوسائل » و« الفصول المهمّة » و« إثبات الهداة » و والمحدّث النوري ( م 1320هـ ) في « مستدرك الوسائل » والشيخ محمّد باقر المجلسي ( م 1110هـ ) في « بحار الأنوار » والفيض الكاشاني ( م 1091هـ ) في « الوافي » و « الصافي » ، وهكذا غيرهم من كبار العلماء . وما تزال هذه الموسوعات ذات حضورٍ أساسيّ وفعّالٍ كمادّةٍ وحيدةٍ تقريباً لرجوع الباحث إلي النص .
ولا نريد أن ندخل في تقييمٍ لكلّ واحدةٍ من هذه الموسوعات بالرغم من الاعتقاد بضرورة أن يكون هناك وبصورةٍ دائمةٍ عمليات نقدٍ بنّاءٍ أو تقييمٍ شاملٍ لها ـ وقد كُتبت ولوحظت في هذا المجال العديد من الملاحظات سيما تلك التي دفعت بالسيد محمّد حسين البروجردي رحمهالله ( م 1380هـ ) إلي تأليف موسوعته « جامع أحاديث الشيعة » ـ وإنما المستهدف هنا هو قراءة هذه الموسوعات بمجملها أو المادة النصوصيّة الحالية قراءة ايبستمولوجية معرفية ومناهجية ، أي محاولة اقتحام النظام المنهجي وكذلك البنية المعرفية والمنطقية التي قامت علي أساسهما كلّ هذه الموسوعات ، وإجراء مقايسةٍ بينها وبين الواقع العلمي الفعلي الذي يتطلّب حاجاتٍ يُفترض أن تسعي المادة ـ ضمن وضعيةٍ ما ـ إلي تأمين جزءٍ منها .
وقبل الشروع في ذكر نقاط الاقتراح الأولي المقدّم ، لا بأس بالتعرّض إلي ضرورة إنجاز موسوعات نصوصية غير فقهية ، وكذلك إلي تأثير التطوّر الموسوعي وعلاقته الجدلية مع ما يسمّي اليوم بفقه النظريات .
المجاميع النصوصيّة غير الفقهية :
بالرغم من أنّ هذه المقالة أخذت علم الفقه نموذجاً أساسياً لها إلا أنّه من الجدير الإشارة إلي ضرورة وضع تصنيفٍ موسوعيّ نصوصيّ للعلوم الاُخري كعلم العقيدة والفلسفة ، وكذلك علم الاُصول ، وعلم الأخلاق وغيرها وفي هذا الإطار يمكن ذكر ثلاث حالات توجد حاجةٌ لوضع مرجعٍ نصوصيّ منظّمٍ فيها هي :الحالة الاُولي :
علم الاُصول الذي لم توضع حتّي الآن أيّ مرجعيةٍ نصوصيةٍ متكاملةٍ فيه - بحسب الظاهر - في حين يمكن إدراج النصوص القرآنية وغيرها التي أُدرجت في الأبحاث الاُصولية ، وهي نصوصٌ تقع - حالياً - في أغلبها ضمن موسوعات الحديث الفقهية كالوسائل والمستدرك ، وكنموذجٍ هناك النصوص الواردة في باب التعارض من أخبار الطرح أو الأخبار العلاجيّة ، وأيضاً نصوص الاستصحاب المدرجة حاليّاً في كتاب الطهارة والصلاة والصوم و ، والنصوص الكثيرة الواردة في القياس والظنّ والاستحسان والرأي ، وكذلك نصوص لزوم الأخذ والرجوع الي الكتاب والسنّة المدرجة حالياً ـ في قسم كبيرٍ منها ـ في كتاب القضاء من « الوسائل » ، ونصوص البراءة والاحتياط الكثيرة ، وكذلك نصوص حجّية خبر الواحد أو أخبار « من بلغه » الواردة في قاعدة التسامح في أدلة السنن والمتفرّقة في أبواب الحديث سيّما مقدّمات العبادات من « الوسائل » ، والنصوص التي تشير إلي حجّية الإجماع أو الشهرة ، والنصوص المتعلقة بحجيّة الظهور سيما الظهور القرآني والتي منها نصوص تمسّك الأئمة عليهمالسلام بالقرآن الكريم وفق بعض الاستدلالات الاُصوليّة .وكذلك النصوص الناهية عن تفسير القرآن بالرأي أو غيره مما اعتمده الأخباريّون في مبانيهم هنا ، بل من الضروي أيضاً في علم الاُصول إدراج جملةٍ مفيدةٍ من النصوص التي تكوّن ظهوراتٍ قانونيّةٍ اصطلاحيّةٍ قد لا تكون متطابقةً مع المعني العرفي الأوّلي ، وهي ظهوراتٌ قائمةٌ علي استقراء النصوص ومعرفة مدي وجود نمطٍ خاصٍّ من الدلالات والاستعمالات في لسان المشرّع الديني ، وكنماذج مفرداتيّة يلاحظ النصوص التي ورد فيها ألفاظ يصلح ، لا يصلح ، لا بأس ، ألفاظ البغض والكراهة والمحبّة ، ونصوص النسبة لذات النبي صلياللهعليهوآلهوسلم والإمام عليهالسلام من قبيل حرّمتُ أو منعتُ أو نهي عنه النبي ، مقابل النسبة لله تعالي كحرّم الله أو هذا مما نهي الله تعالي عنه وغيرها ، وأيضاً يُمكن في علم الاُصول إدراج النصوص المتّصلة بمسألة العلم الإجمالي كرواية الغنم والمخلوط من المذكّي وغيره وغيرها
ووضعُ مرجعٍ نصوصيّ لعلم الاُصول أو لعلم الفلسفة والكلام ـ علي غرار ما فعله فيه ( أي علم الكلام ) المحدّثون المتقدّمون كالصدوق وغيره في « التوحيد » و« كمال الدين وتمام النعمة » و« الغيبة » و« اُصول الكافي » وغيرها ـ أو للعلوم الاُخري يمكنه أن يعكس العمادة الدينية للأفكار ـ لا أقلّ الكثير منها ـ الاُصوليّة وغيرها ، ويحول دون اعتبارها ذات منهج اُحادي عقلي أو غيره .
الحالة الثانية :
علم الرجال وما يتعلّق بتقييم الأسانيد ، ذلك أن الدراسات الرجاليّة فيما يتعلّق بتقييم الرواة اعتمدت بالدرجة الاُولي علي التوثيقات الصادرة عن الرجاليين القدماء أو المتأخّرين - علي بعض المباني - لكنّها لم تستخدم طريقة فرز النصوص التي رواها الراوي المعيّن لتُجري دراسةً فيها ، ولتعرف مدي وجود مميزاتٍ في رواية هذا الشخص يمكنها أن تحصّل تصوّراً ما أو انطباعاً ما عنه كما حاوله السيّد عبد الحسين شرف الدين ( م 1957م ) ومحمود أبو ريّة في دراستهما المتعلّقة بالراوية أبي هريرة ، ومن الطبيعي أنّ هذه الطريقة في الحكم علي الراوي ليست سهلة أو سريعة النتائج ؛ لأنّها تحتاج إلي استبعاد بعض الاحتمالات أو إلي تأكيد صدور هذه النصوص عنه وغير ذلك من الشروط ، لكنّ تجميع النصوص التي رواها الرواة الكبار وقراءتها - مع الأخذ بعين الإعتبار توجّهاتهم الفكريّة والعقائديّة - يمكنه أن يرفدنا بمجموعةٍ جيدةٍ من المعلومات ، وهو أمرٌ لا يتسنّي لنا إلاّ إذا أمّنا المادة كلّها أمام الباحث والمحقّق الرجالي أو التاريخي .وتتّسع هذه الطريقة في العمل إلي إنشاء مجاميع تختصّ بما رواه الرواة الغلاة مثلا أو الرواة الذين كانت لهم نزعاتٌ باطنيةٌ أو الذين كانوا من أهل السنة أو الواقفية أو غيرهم ، والقيام بدراساتٍ تتعلّق بالفوارق المحتملة بين هذه المجاميع ، وهو أمرٌ يمكنه أن يرشدنا إلي العديد من النتائج التي قد تدفعنا إلي الأخذ بهذه الرواية أو تركها ، علي غرار الطريقة التي استخدمها السيد محمّد باقر الصدر رحمه الله ( م 1400هـ ) في ردّه الروايات التي وردت في النهي عن تفسير القرآن الكريم وتمّسك بها الأخباريون لرفع حجية ظواهر الكتاب العزيز ؛ فإنّه قدسسره أثار ملاحظةً علي هذه الروايات من خلال أنّ جميع رواتها هم من أصحاب النزعات الباطنية ، وأنّه لا يوجد من بين رواة هذه النصوص أي من أصحاب الأئمة الكبار كزرارة ومحمّد بن مسلم ( 1 ) ، وهذا معناه أنه قرأ هذه النصوص قراءةً مختلفةً عن القراءة الكلاسيكيّة في تقييم النص حالياً .
الحالة الثالثة :
ما يتعلّق بالعلوم القرآنية ، فالنصوص الواردة في هذا الصدد من القرآن الكريم والسنة الشريفة كثيرةٌ كما هو معروف ، وهي بحاجة إلي جمعٍ وتنظيمٍ منطقيين ، من قبيل نصوص الناسخ والمنسوخ ، والمحكم والمتشابه ، والباطن والظاهر ، والعام والخاص ، والحد والمطلع ، وجمع القرآن بمعاني الجمع المتعددة ، والقراءات القرآنية ، ونزول القرآن علي سبعة أحرف ، والنصوص المتصلة بموضوع تحريف القرآن بمعاني التحريف المتعددة ، ونصوص التأويل والتفسير ، والنصوص المتعلّقة بمناهج وأساليب التفسير القرآني ، وموضوع التفسير بالرأي وغيره ، والنصوص المتصلة بتحديد من هو المخاطب في القرآن الكريم ، وكذلك النصوص المرتبطة بحجّيّة ظواهر القرآن الكريم ، ونصوص فضل القرآن وسوره ، وآثاره وبركاته ، ونصوص قراءته وتلاوته وآدابها ، والنصوص المرتبطة باحترام المصحف الشريف من حمله وتعليقه وبيعه و إلي غير ذلك من النصوص الكثيرة التي يحتاجها الباحثون القرآنيون .المادة وفقه النظريّة :
يعد فقه النظرية أو الفتاوي الكليّة أطروحة حديثة الظهور نسبياً في الوسط الفقهي ، ويرجع التنظير فيها إلي أشخاصٍ أبرزهم الشهيد محمّد باقر الصدر قدسسره ، ويتمحور هذا الفقه ـ كما يتبيّن ـ حول قراءةٍ كلّيةٍ مشرفةٍ علي مجموعةٍ كبيرةٍ من النصوص وبالتالي الأحكام والفتاوي التي تلتقي في نقطةٍ ومحورٍ حياتيّ شاملٍ كالمحور الاقتصادي أو السياسي أو الاجتماعي أو ما هو أوسع أو أضيق .وليس الحديث هنا حول فقه النظريّة إلا أنّ التنظير له لا يعني أن الفقهاء السابقين لم يستخدموه أو يمارسوه بشكلٍ أو بآخر ، وعلي أية حال وما يهمنا هنا هو أنّ فقه النظرية هذا الذي يُعدّ اليوم من أكثر أبواب الفقه فقراً وحاجةً لا يمكن أن يتم من دون مجموعة عناصر ، أبرزها التخصّص في الباحث والإحاطة ( 2 ) .
وعنصر الإحاطة والإشراف علي الفقه ومنابعه هو من الأهمّية بمكانٍ نظراً للتشابك الكبير والمعقّد الذي ينفذ في الفقه كلّه أبواباً ومسائل ، فمن الصعب أن تبحث في مسألةٍ فقهيةٍ دون أن تتعثّر بمسائل اُخري كان من المفترض التوصّل إلي نتيجةٍ بشأنها لما يمدّه ذلك من معطياتٍ تساهم في صياغةٍ أفضل للمسألة مورد البحث
ويعكس التداخل الفقهي تداخلاً آخر في النصوص التي ارتكزت عليها الدراسات الفقهيّة ، وهذا يعني أنّ طبيعة البحث الفقهي ـ سيّما حينما يكون الحديث عن فقه النظرية وأمثاله والذي نلاحظه هنا بشكلٍ أساسي ـ تستدعي إحاطةً كبيرةً وربما كاملة بالمصادر النصوصية القرآنية والروائية ، وحيث إنّ هذه الإحاطة صعبة أو قلّما تتوفّر لباحثٍ ـ سيّما في زمن المزيد من التخصّصات حتي الفقهية التي تعيق توفّر عنصر الإحاطة الشاملة ـ فمن الضروري السعي لتأمين مادةٍ قادرةٍ علي توفير حجمٍ مهمٍّ من التجمّعات التي قد تقف بديلاً اضطرارياً عن عنصر الإحاطة هذا ، وهو ما تفعله الموسوعات الحديثية الحالية بدرجةٍ معينةٍ كما سنري . ويوءكّد ذلك ملاحظة نسق الاستدلال الفقهي لدي الفقهاء الذين سبقوا ظهور الموسوعات الحديثية الأربع الاُولي - أي « التهذيب » و « الإستبصار » و « الكافي » و « من لا يحضره الفقيه » ، وإن كان استدلالهم قليلاً بل ونادراً بالمقايسة مع الفترة اللاحقة - بل ومدي استخدام الفقهاء للنصوص فيما بعدَ ظهور « وسائل الشيعة » و « مستدرك الوسائل » ؛ فإنّ درجة حضور النص كمّاً وكيفاً صارت أكبر ، وصار لدي الفقهاء إشرافٌ أوسع علي المصادر النصوصية المتوفّرة ، وهو أمرٌ لعبت الموسوعات الحديثيّة أثراً هامّاً فيه .
ووفقاً لما تقدّم تبرز أهمّية إعداد مادةٍ نصوصيةٍ مكافئةٍ ومتكافئةٍ مع التطوّر الذي وصلته الدراسات الفقهية المعاصرة ، وهو ما سنحاول تقديم اقتراحٍ بشأنه يتلخّص في ضرورة الاعتراف بعدم كفاءة الموسوعات النصوصيّة المعتمدة لتأمين مادةٍ مناسبةٍ للبحث الفقهي والقانوني المعاصر ، وبالتالي الحاجة إلي صنع البديل لها يمكنه أن يسد الخلأ الناجم عن التنامي الأحادي الجانب للفقه علي حساب تنامي مفترض في المادة نفسها .
وهذه الحاجة إلي صنع البديل ليست مختصةً وفق هذا الاقتراح بهذه المرحلة الزمنية ، بل طبيعة هذا الاقتراح - إذا تمّت الموافقة عليه - تستدعي أن يُصار إلي التفكير بتبديل المجاميع النصوصية وتطويرها كمّاً وكيفاً - بالمعني الآتي - كلّما صارت هناك طفرةٌ بين نسق ونظم هذه المجاميع وبين العلوم المرتبطة بها كعلم الفقه ، وربما يكون ذلك كلّ قرنٍ من الزمن وربما أكثر أو أقل تبعاً لحدّة التغيّرات الحاصلة . أمّا الإبقاء علي كتابٍ نصوصيّ واحدٍ ليكون مرجعاً لكلّ الأعصار والأزمان فليس أمراً وافياً بالمتطلّبات العلميّة وغيرها .
كما أن الاقتراح المقدّم هنا لا يعني أنه لم يكن هناك في الفترة الأخيرة جهودٌ مميزةٌ وسعيٌ حثيثٌ لصنع شيءٍ من هذا القبيل ، بل علي العكس من ذلك هناك جملةٌ من النشاطات حقّقت شوطاً جيداً في هذا المجال ، لكنّ الصيغة النهائيّة التي تُقدّم كتاباً بديلاً عن « الوسائل » و « المستدرك » ـ اللذين يعبّران عن قناعةٍ راسخةٍ لدي كلٍّ من الحر العاملي والمحدّث النوري ( قدهما ) بضرورة تطوير وتعديل النظم الموجود في الكتب الحديثيّة التي سبقتهما كالكتب الأربعة ـ هذه الصيغة لم تتوفّر حتي اليوم بالرغم من صدور كتبٍ من قبيل « ميزان الحكمة » و « الحياة » وبعض الكتب المتفرّقة بحسب الموضوعات ، والتي شكّلت بمجموعها جهداً جزئياً وغير مستوعبٍ بالدرجة الاُولي .
الصياغة الأوليّة المقترحة للموسوعات النصوصية :
تعتمد المراجع والمصادر الموسوعيّة الحديثيّة علي أسلوب ونمط مألوف ، وهو أن يعمد واضع الموسوعة إلي علم الفقه ـ مثلاً ـ ويحدّد موضوعاته بدقّة ثم يستخرج منها مجموعة من العناوين تناسب بطبيعتها وصياغتها المستوي العلمي الموجود في الفقه ، وبعد ذلك يعمد إلي وضع هذا العنوان علي رأس الصفحة ويفتّش له عما يرتبط به مباشرةً أو بصورةٍ غير مباشرةٍ من النصوص القرآنية والروائية ويجمعها تحت هذا العنوان ، فيوفّر بذلك مادّةً محدّدةً لأولئك الذين يريدون البحث في هذا الموضوع ، فالمادّة سوف تصبح بذلك متوفرةً وحاضرةً أمامهم ، وعليهم أن يعودوا إلي المرجع الحديثي ويذهبوا إلي ذاك العنوان ليصلوا إلي المادّة المطلوبة التي سيقومون بقراءتها وتحليلها ومن ثَم ليخرجوا بنتائج معيّنة من كلّ ذلك .في هذا المسار هناك نقاطٌ مفصليّةٌ وهامّة أبرزها :
1 ـ عنصر الترابط بين المادة والعلم المتعلّق بها :
وهذا العنصر بالشكل الذي عرضناه يدلّل علي تناسبٍ طرديّ بين العلم والمادة ـ بما هي مادةٌ للمرجع والموسوعة ـ فكلّما تنامي هذا العلم وطرأت عليه تحوّلاتٌ وظهرت فيه عناوين جديدة كلّما برزت متطلباتٌ جديدةٌ يجب أن تفي بها المادة ، وعناوين حديثة صارت هناك ضرورة للبحث عن مادة نصوصية مرتبطة بها بشكل أو بآخر ، ولعلّه يُعثر أو لا يُعثر علي شيءٍ فهذا أمرٌ آخر .إذا العنصر الأوّل هو تأثير النمو العلمي للفقه في إعادة صياغة المادّة كيفاً وزيادتها كمّاً ولو من خلال تكرار النصوص أحياناً كما سيأتي ، وكمثالٍ علي ذلك ظهرت اليوم مسائل ترتبط بموضوع التشريح ، واستدل الفقهاء المعاصرون ( 3 ) ببعض الروايات الدالة علي حرمة الميت أو بما دل علي حرمة المثلة ولو بالكلب العقور أو وهذا يعني توفّر عنوانٍ جديدٍ قدّمه لنا الفقه ووجدنا ـ ولو من خلال الإستعانة بالجهد الفقهي الحاصل حتي الآن ـ ما يرتبط به من نصوصٍ سواءٌ قبلنا الدلالة أو رفضناها ـ لأننا حياديين كما سنذكر ـ ، وهكذا مسألة توسعة عنوان العيوب الموجبة لثبوت حق الفسخ في النكاح إلي ما يشمل عناوين جديدة أو أمراض جديدة كالايدز ، فإنه يمكن الإستفادة من نصوص الحصر الواردة في بيان عيوب الفسخ والنافية صراحةً لعيوبٍ اُخري كالعمي و كما فعله بعض الفقهاء المعاصرين ( 4 ) ، وهكذا أيضاً مسألة التوسعة في الأصناف الزكويّة التي تعورف جعلها في التسع والتي يمكن الرجوع فيها إلي نصوص الحصر من جهة ، ونصوص كفاية الفقير الواردة في تعليل الزكاة وغيرها من جهةٍ اُخري ( 5 ) ، وغيرها من النصوص التي تعرّض لها الفقهاء المتأخرون في بحثهم لهذا الموضوع ، إلي غير ذلك من نماذج كثيرة لمسائل فقهية ليس لها في الموسوعات الحالية عنوانٌ خاصٌّ أو مشيرٌ إلي المسألة الحديثة الظهور كالتلقيح الصناعي والاستنساخ وقضايا العدّة لأمثال من لا رحم لها وأوراق اليانصيب والتضخّم السكاني والاستهلال بواسطة الآلات الحديثة وتولّي المرأة السلطة السياسيّة وبعض مسائل الستر والنظر المرتبطة بالصور الفوتوغرافية والتصوير التلفزيوني ونحو ذلك و
وهذه العلاقة بين الفقه والمادّة ليست علاقةً اُحادية الجانب وإنما هي علاقةٌ جدليةٌ ، لكننا ركزنا علي أحد جوانبها لكونه مورد الحاجة هنا ، وعليه فملاحقة الدراسات الفقهية الأخيرة علي مستوي المسلمين كافة يمكنه أن يقدّم لنا العديد من النماذج ويرفدنا بجملةٍ لا بأس بها من العناوين والنصوص .
2 ـ عنصر العنوان ، وهذا العنصر يمكن قراءته من زوايا ثلاث :
الزاوية الاُولي :
وهي زاويةٌ ذات طابعٍ سلبيّ لكن لا مفرّ منها كليّاً ؛ فالعنوان الذي يوضع للمادة المرتبطة بموضوعٍ معينٍ يترك في اللاوعي لدي المُراجع إثقالاً ما ، ويحول دون قراءته للنص قراءةً مجرّدةً غير محمّلةٍ بسوابق تفسيريّة له ، وفي الحقيقة فهذه مشكلةٌ تواجه الباحث أيضاً ؛ لأنّه غالباً ما يتواجه أوّلياً مع الموقف الفقهائي من الموضوع ثم يحلّله ويفنّده علي أقصي تقديرٍ وبعد ذلك يخرج بنتيجةٍ ما ، وهذا معناه أن الذهن بمروره بالمواقف المتعددة قد حمل معه بدرجةٍ أو باُخري بقايا منها حتي لو لم يوافق عليها كمركّبٍ في النهاية ، وهذه الدرجة قد تكون عبارة عن وضع حدودٍ واُطرٍ غير قادرٍ علي تجاوزها في لاوعيه حتي لو تجاوز الآراء منطوقاً ، وهذه المسألة يمكن تبسيطها من خلال الفارق الحاصل بين موقف الفقيه المتمرّس الواثق الذي يجد القدرة في تجاوز هذه الآراء في اجتهاده أحياناً ، والطالب المبتدئ الذي يتراءي له أنّه لا مجال للتفلّت من كلّ الدائرة التي تدور حولها الآراء حتي إذا ما رأي فقيهاً يبرز نكتةً للخروج انبهر به وانجذب له .هذا كلّه في حين أنّ قراءة النص مجرّدةً عن أي سوابق قد يفسح للذهن مجالاً أكبر لاستنتاجاتٍ غير مثقلةٍ ، تعزز من قيمتها العلمية تلك العفوية التي تختزنها أحياناً نظراً لعرفية الفهم .
لكن هذه المشكلة لا يجد كاتب هذه السطور طريقاً لتجاوزها كلياً دون التورّط بمشكلاتٍ أعمق وأعقد ، ولابد من التفكير في حلٍّ لها ـ إذا كان ـ يعالجها من بدايات المشروع التعليمي للباحث والعالم الديني ، وهو موضوعٌ يرتبط بحياديّة أو تلقينية التربية الدينية بمعانيها المختلفة ليس هنا مجاله .
بيد أنّ عدم توفّر حلٍ جذري لهذه المشكلة لا يحول دون الحد من تداعياتها ، وهذا الحد ـ في مسألتنا ـ يتمثّل في حيادية الواضع نفسه وبالتالي حياديّة العنوان ، فمع أن كتاب « التهذيب » و « الإستبصار » وكذلك « الكافي » يستخدم عنواناً حيادياً غالباً ، وكذلك كتاب « من لا يحضره الفقيه » أحياناً ، إلاّ أن صاحب « وسائل الشيعة » يعنون كلّ بابٍ غالباً بما يراه هو حكماً في ذلك الباب من وجوبٍ وحرمةٍ وصحةٍ وبطلانٍ وشرطيةٍ و حتي قيل إن عناوين الوسائل يمكن اعتبارها فتاوي للحر العاملي وهو بذلك ـ كالمحدّث النوري في « المستدرك » ـ يستبق علي القارئ للمادّة ويفرض عليه الي حدٍّ ما استصحاب مفاهيم معه حمّله إياها ذلك العنوان .
إذا فهناك فرقٌ بين أن نضع عنواناً يمنح النتيجة قبل الشروع في القراءة كأن نقول مثلاً « بابُ وجوب قضاء المسافر إذا حضر ما فاته من الصوم الواجب وعدم وجوب قضائه تمام الصلاة » أو « باب أن الاخوة لا يحجبون الأم إلاّ مع وجود الأب » ، وبين أن نضع عنواناً لموضوع البحث لا لحكمه ونتيجته ؛ كأن نقول « بابٌ في حكم قضاء المسافر الصوم وتمام الصلاة إذا حضر » أو ما شابه ذلك .
وإلي جانب حياديّة العنوان من الضروري عدم التدخّل في التعليق بما يتضمّن موقفاً أو روءيةً من المادة المعروضة خلافاً لما يفعله صاحب الوسائل مثلاً ؛ حيث إنه عندما يذكر الروايات المعارضة لموقفه المبرز في العنوان يعلّق عليها بحملها علي التقيّة أو أيّ شيءٍ آخر ، وهذه هي طريقة الشيخ الطوسي في كتبه الحديثية خلافاً للشيخ الكليني الذي لا يتدخّل فيما يذكره من رواياتٍ لسببٍ أو لآخر ليس محلّ بحثنا ، فالحياديّة إلي أقصي الحدود قد تعدّ وسيلةً لتفادي بعض الآثار السلبية في هذا المجال .
الزاوية الثانية :
وهي تتعلّق بالعلاقة بين العنوان والمادّة المدرجة تحته ، وهو أمرٌ يتأثر بدرجةٍ أو باُخري بالوضعية التي وصلها العلم المتعلّق بتلك المادة كالفقه مثلاً ، فربّ روايةٍ أو آيةٍ كان لها دلالة علي فكرةٍ معينةٍ في حقبةٍ زمنيةٍ سابقةٍ ، لكن اختلال هذه الدلالة قد انكشف فيما بعد للجميع بشكل واضحٍ جداً ، بحيث إن الموقف حتي الاحتمالي كان هو عدم قبول واحتمال هذه الدلالة ، فتدوين المتقدّمين لهذه الآية أو الرواية كان أمراً مبرراً ، أمّا اليوم فإن الأمر مختلفٌ . وهذا بنفسه يمثل تدخّلاً من الواضع لا مفرّ منه عملياً ، إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ النصوص التي يراد وضعها لابد أن تكون ذات دلالةٍ نصيةٍ أو ظهوريّةٍ في الفكرة ، وإنّما تكفي الدلالة ولو الاحتمالية شريطة أن يكون احتمالاً علمياً بمستوي ذاك العلم لا منطقياً يجامع ما قيمته الواحد من المليون .وهكذا الأمر علي الخط المقابل ، هناك نصوصٌ قرآنيةٌ وحديثيةٌ وظّفها الفقهاء المتأخّرون والمعاصرون في تأييد أو ردّ حكمٍ تكليفيّ أو وضعيّ متعلقٍ بعنوانٍ ما ، ولم تكن هذه النصوص مورد التفات المتقدّمين فيما يتعلّق بالعنوان نفسه ، وهذا يعني إضافة نصٍّ جديدٍ إلي المجموع بهذا المعني للإضافة .
الزاوية الثالثة : وهي الزاوية المتّصلة بالعنصر الصياغي للعنوان نفسه من حيث الحداثة والتقليد ، فإن الباحث وفق النسق الصياغي للعناوين المطروحة للأبواب المختلفة في المصادر الحديثية يحتاج إلي القيام بطفرةٍ أو قفزةٍ ذاتيةٍ من النص إلي الاستفادة منه في مجال الأفكار المعاصرة التي اتخذت لنفسها نمطاً صياغيّاً مختلفاً تمام الاختلاف عن الصياغة المعروضة في الكتب النصوصيّة ؛ لأن العناوين المعروضة لا تحاكي ولا تتماهي مع الأفكار والأحداث الفكرية والحياتية المعاصرة في كثيرٍ من الأحيان ، مما يضطر الباحث إلي تكلّف القيام بعملية التجسير هذه بين النص والظاهرة الحديثة الظهور ، وهو أمرٌ قد يوحي أحياناً بشيءٍ من عملية التطويع للنص نظراً لتلازم تصوّره مع الشكل القديم للاُمور .
ولتبيين الفكرة يمكن عرض مجموعةٍ من الأمثلة من دون أن يعني ذلك الالتزام بمضمون هذه الأمثلة جميعاً ؛ لأنّها تحتاج إلي نقاشٍ معمّقٍ ليس هنا مجاله ، بل الكاتب لا يوافق علي بعض هذه الأمثلة وإنما نعرضها لمجرّد التوضيح ، وهي :
المثال الأوّل : استبدال تعبير كتب الحدود والقصاص والديات بكتابَي القوانين الجزائية والجنائية .
المثال الثاني : استبدال كتب المزارعة والمساقاة وبيع الثمار ونحوها بعنوان الفقه الزراعي أو الإستثمار الزراعي .
المثال الثالث : استبدال عناوين بعض الأبواب التي ورد فيها تعبير « ملك الإمام » بعبارة الملكيّة العامّة أو ملكيّة الدولة ، كما فعله بعض الفقهاء المتأخّرين والمعاصرين .
المثال الرابع : استبدال تعبير « أحكام العِشرة » بعنوان « الفقه الاجتماعي » .
المثال الخامس : استبدال عنوان الخروج قبل قيام القائم ( عج ) بعنوان المعارضة المسلّحة للنظام الحاكم .
المثال السادس : استبدال عنوان عمل الصور والتماثيل ونحوهما بعنوان فقه الفنون أو النحت والرسم ، أو ما شابه ذلك .
المثال السابع : استبدال عنوان السبق والرماية بعنوان المباريات الرياضيّة وغير الرياضيّة ، إلي غير ذلك من الأمثلة الكثيرة جدّاً .
إلاّ أن المشكلة الحسّاسة التي تظهر لدي القيام بمثل هذه الخطوة - أعني القيام بعملية استبدال العناوين وتحويلها إلي عناوين ذات صياغةٍ جديدةٍ - هي التورّط بالخروج عن الاصطلاح الذي وضعته الشريعة لأمرٍ معينٍ ، والمحافظة علي شيءٍ من هذا القبيل قد تكون له مبرّراته نظراً لكون انحفاظ المصطلح يساعد علي تأصيل الأفكار في كثيرٍ من الأحيان ، ومن هنا لا بد أن يكون هناك تفكيرٌ هادئٌ لوضع حلٍّ متوازنٍ لهذا الأمر يفي بالمعاصرة والمواكبة من جهةٍ وبالأصالة من جهةٍ اُخري .
3 ـ عنصر المادة نفسه من حيث كمّه وكيفه ، وهو عنصرٌ له مظاهر كثيرة
أهمّها :
أ ـ ما يرتبط بالمساحة التي يفترض أن تغطيها الموسوعة ، أي بالمصادر والمراجع والنصوص التي لابد أن تأخذها الموسوعة بعين الاعتبار ، فقد استدرك المحدّث النوري علي صاحب الوسائل عبر إضافة عشرات الكتب إلي مساحة العمل إضافةً إلي ما يقرب من مئة مصدرٍ أخذها صاحب الوسائل بعين الاعتبار ، وهكذا الحال مع مستدركات الصحاح السنّية كمستدرك الحاكم النيشابوري ( م 405هـ ) .ويمكن هنا ذكر نماذج ثلاثة تكشف عن المقترح في توسيع نطاق المساحة مورد النظر وهي :
النموذج الأوّل :
النصوص القرآنية التي تجاهلتها أكثر الموسوعات إذا استثنينا « جامع أحاديث الشيعة » و « بحار الأنوار » ، فالنص القرآني كان مغيّباً عن مادة الموسوعات ، وهو نقصٌ واضحٌ ربما يكون سببه هو أن غايتهم كانت جمع الروايات بالدرجة الاُولي ، أمّا النص القرآني فهو مدوّنٌ ومحدّدٌ أيضاً ، وعلي أية حال فإنّ عودة النص القرآني هنا أمرٌ مهمٌّ وجيدٌ ويوءمّن النصَّ كلّه أمام الباحث والفقيه .النموذج الثاني :
النصوص الأخلاقية ، وفي الحقيقة فإن الأخلاق والقانون ووجوه الالتقاء والافتراق بينهما وطبيعة العلاقة بينهما هي في حدّ ذاتها قضيةٌ فلسفيةٌ وكلاميةٌ مستقلّةٌ وهامّةٌ ، وسواءٌ اعتبرنا الأخلاق ـ كعلمٍ وقضايا ـ مغايرة للقانون كذلك فإنّ ما يجدر التنبيه عليه هو أنّ الصياغة الأخلاقيّة والقانونيّة لم تكن في الماضي علي الحال القائم فعلاً .إنّ التداخل والاندماج بين هذين المحورين استدعي كثيراً المزاوجة في البيان بينهما ، ويوءكّد ذلك مراجعة النصوص القرآنية التي تعرّضت لمسائل شرعية بصياغةٍ لم تكن لتبتعد كثيراً عن الصياغات الأخلاقية ، وعلي أية حال فهذا موضوعٌ كبرويٌّ ، لكن ما يهمّنا هنا هو الحاجة إلي إدراج الكثير من النصوص الأخلاقية في المادة النصوصيّة الفقهيّة وعدم تضييع مادةٍ نصوصيةٍ ضخمةٍ علي الفقه لأجل أنّ اللسان هو لسانٌ أخلاقي .
ولا نعني بذلك أن صاحب الوسائل مثلاً قد فصل بينهما ، فالشواهد الموجودة في المصادر الحديثية علي أخذ النصوص الأخلاقيّة بعين الاعتبار أكثر من أن تحصي ، لكن مع ذلك هناك نصوصٌ اُخري أيضاً لا بأس برصدها .
النموذج الثالث :
النصوص غير الشيعيّة المدوّنة في مصادر أهل السنة والفرق الشيعيّة الاُخري أيضاً ، والسبب في اقتراح إدراجها ضمن مساحة العمل ليس أخلاقيّاً أو سياسيّاً بقدر ما هو علميٌّ ومعرفيٌّ ، وهناك الكثير من المبررات العلميّة التي تدفع إلي ذلك حتي لو كان هناك فارقٌ جذريٌّ في الاُصول الموضوعية والمنهجية لعلمَي الحديث والرجال بين المذاهب ، فإنّ الأخبار ـ ولو الضعيفة ـ لها قيمةٌ احتماليةٌ معيّنةٌ ، ووفقاً لحساب الاحتمالات وغيره تفيد هذه النصوص في تأكيد فكرة أو نفيها وتضعيفها أو تعزّز من احتمالات التقية ونحوها أو تضعّف ، وكذلك تكشف القناع عن الواقع الحديثي الآخر ، ممّا يخوّل الباحث امتلاك إطلالةٍ أكمل علي جوانب القضية كما يمكنه أن يميز بين اللسان الذي استخدمه الأئمة عليهمالسلام ولسان غيرهم ، ويحدد فوارق في هذا الإطار يمكنها أحياناً أن تحكم علي الصدور من خلال المتن ذاته في عملية تقييمٍ له ، ووفقاً لمنطق تجميع الدلالات المطابقية والتضمنية والإلتزامية من أكبر عددٍ ممكنٍ من النصوص [ ممّا يدفع إلي المزيد من تحصيل اليقين نظراً لتراكم الاحتمالات بدل الاقتصار في تثبيت فكرةٍ علي جُملة نصوصٍ صريحةٍ أو ظاهرةٍ فيها ، أو علي بعض النصوص بحجّة الكفاية كما يفعله بعض الفقهاء ، واستخدمه الحر العاملي أحياناً كما صرّح به نفسه في مقدّمة الوسائل ( 6 ) ، فإنّ ذلك لو تمّ شخصيّاً إلا أنّ المادة النصوصيّة يجب أن تأخذ أسوأ الإحتمالات بعين الاعتبار بغية استفادة حتّي من لا يري حجّية خبر الثقة المعمول به حالياً أو يري حجية الخبر الموثوق ] وفقاً لهذا المنطق تبرز الحاجة أكثر إلي إدخال العنصر الكمّي للنصوص حتي الضعيفة في دائرة الإهتمام .والمراجعة لكلمات الفقهاء وعشرات النصوص التي اعتمدوها وكانت ذات مصادر سنّية لا أثر لها في المتون الحديثية الشيعية ، ونفوذ هذه النصوص ـ التي جمعها بعضهم ودوّنها ـ في استدلالاتهم وعلي نطاقٍ واسعٍ أحياناً ، يوءكّد أن تفاعلهم من حيث المبدأ مع المصادر الحديثية الاُخري واطلاعهم عليها ـ سيّما من مثل الشيخ الطوسي ( م 460 ه ) والعلاّمة الحلّي ( م 726هـ ) وعموم القدماء ـ كان كبيراً .
ب ـ ما يرتبط بالنظم الحاكم علي المادة ، ومن الطبيعي أنّ هذا بحثٌ طويلٌ يحتاج إلي جهودٍ كبيرةٍ ـ وربما موءتمراتٍ عديدةٍ ـ لكن يمكن هنا الإشارة إلي مجموعة اُمورٍ أبرزها :
أوّلاً : تقسيم النصوص الفقهية الروائية تقسيماً عاماً إلي نصوص عامة شاملة للفقه كله أو أغلبه ، وهي النصوص التي أشارت إلي القواعد الفقهية العامة وإدراجها في أوّل الموسوعة ، وإلي نصوص خاصة تدرج فيما بعد في مختلف الأبواب ، ومن هذا القبيل النصوص المتعلّقة بالشرائط العامة للتكليف وأحكامها الكليّة من البلوغ والعقل والقدرة والاختيار ، والقواعد العامة أو شبه العامّة ـ بقطع النظر عن الجدل في اُصوليّة بعضها ـ كقاعدة لا ضرر ، نفي العسر والحرج ، قاعدة الفراغ ، قاعدة الاستصحاب ، قاعدة اشتراك الأحكام ، قاعدة الميسور لا يسقط بالمعسور ، قاعدة القرعة ، قاعدة التقية ، قاعدة الصحة ، قاعدة الحل وغيرها . ومن هنا تدرج في بدايات كلّ كتابٍ النصوص العامّة كالمشيرة إلي القواعد الحاكمة علي هذا الكتاب كنصوص قاعدة الطهارة في كتاب الطهارة ، وأصالة الصحّة في العقود ، قاعدة العقود تابعة للقصود ، قاعدة الغرر ، قاعدة السوق ، الموءمنون عند شروطهم ، أصالة اللزوم في العقود ، أصالة الصيغة أو المعاطاة ، نصوص شرائط المتعاقدين وغيرها في بداية كتاب التجارات ، وقاعدة الإمكان في الحيض ، و « لا تعاد » ، قاعدة التجاوز ، لا شكّ لكثير الشك ونحوها في الصلاة ، وكقاعدة الغرور ، قاعدة « علي اليد » ، ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، عدم ضمان الأمين ، ضمان المبيع قبل قبضه وغيرها في كتاب الضمان . وقواعد نفوذ الإقرار ، البيّنة علي المدعي واليمين علي المنكر ، قاعدة أماريّة اليد وغيرها في القضاء وهكذا . وبذلك يمكن أن توءمّن بصورةٍ مستقلّةٍ النصوص الحاكمة علي الفقه كلّه أو جلّه أمام الفقه ، والنصوص الحاكمة والرئيسة علي بابٍ أو كتابٍ أمامَه بشكلٍ مفروزٍ ومحدّدٍ .
ثانيـاً : ترتيب النصوص داخل الباب الواحد ، وهنا يقترح الأخذ بعين الإعتبار هذه المجموعات من النصوص :
الاُولي : النصوص القرآنية التي ينبغي إدراجها في البداية ، نظراً لموقعيّتها العلمية ، والحاجة إلي جعلها المخزون الأوّل أمام المُراجع .
الثانية : نصوص تفسير آيات الأحكام التي ينبغي جعلها في الدرجة الثانية كمعينٍ ومساعدٍ للنصّ القرآنيّ نفسه .
الثالثة : النصوص المعلّلة ، أي ذات الطابع المقاصديّ بدرجةٍ أو باُخري ، وهذه النصوص من الأهمية بمكانٍ وربما لم تعط كامل حقّها ، ولعل ذلك لضعف أسانيد الكثير منها بالإرسال وغيره ، كما هو الحال في كتاب « علل الشرائع » للشيخ الصّدوق ، لكنها هامّةٌ جداً من حيث دلالاتها وإن كان هناك تحفّظٌ اُصوليٌّ وفقهيٌّ من الأخذ بالتعليل واعتبارها نصوصاً مشيرةً إلي حِكَم الحكم الشرعي فحسب ، لكنّ هذه الفكرة التي قد تخالف الظهور الذي أخذته هذه النصوص نفسها في كثيرٍ من الحالات ، لا تمنع من إعادة منح هذه النصوص دوراً أكبر وأكثر فاعلية في عالم الفقه والقانون ، نظراً لخصوصيّة نظرها وإشرافها المتميّز تماماً كالنصوص الحاكمة ، وهي بذلك تتمكّن من أن تستشرف الجواب عن الكثير من الظواهر الطارئة والحديثة من خلال طبيعة معالجتها للاُمور .
الرابعة : النصوص ذات اللسان الشمولي بالنسبة إلي غيرها بشكلٍ واضحٍ ، فإنّ قيمة النصّ القواعدي أكبر من قيمة النصّ الجزئي والحاجة إليه أكثر ، كما هو الحال في الكثير من النصوص القواعديّة المتصلة بمورد أو مجموعة موارد ضمن أحد الكتب الفقهية .
الخامسة : مجموعة النصوص التي تتمتّع بالأقوائيّة السندية وفق الأعمّ الأغلب من المباني الرجاليّة والتاريخيّة ، كما هو دأب صاحب الوسائل تقريباً .
وقد تتداخل بعض هذه المجموعات أحياناً مما يحتاج إلي جهدٍ أكبر فيها ، فربما يكون هناك نصٌّ غير متينٍ من الناحية السنديّة لكنّه نصّ مقاصديّ من الدرجة الاُولي وهكذا .
وتجدر الإشارة هنا أيضاً إلي عنصر حفظ السياق والذي نفتقده في « وسائل الشيعة » وغيره إذا استثنينا « جامع أحاديث الشيعة » ، فإنّ اقتطاع المقطع المتعلّق بالباب دون المقاطع السابقة واللاحقة قد يُخلّ بالسياق ، وكثيراً ما يبدّل الباحث موقفه عندما يرجع إلي النص كلّه ليلاحظ تضاعيفه المختلفة ، وهروباً من محذور التطويل والتكرار يمكن ذكر النص كاملاً في مكانٍ ما ، وذكر مقطعٍ منه في المكان الآخر مع الإحالة عليه كما هو الحاصل أحياناً في « وسائل الشيعة » .
ثالثـاً : إعادة صياغة النظم الفكري للأبواب كافّة ، وهذه من أهم الاُمور هنا ، فالترتيب الذي عليه الفقه ـ ونصوصه ـ اليوم إذا سلّمنا بأنه لا يسبب مشاكل فإنّه لا أقل يعدّ ناقصاً لا يعالج كافّة ما يُفترض بالفقه معالجته ، والتفكير في البديل فوق طاقة راقم هذه الصفحات ، فقد سعي السيد محمّد باقر الصدر إلي محاولةٍ وتابعه آخرون في محاولاتٍ لاحقةٍ ( 7 ) ، لكن الحلّ لم يتبلور حتي اليوم . وهذه قضية تشمل الفقه الاستدلالي وأبحاث الخارج والرسائل العمليّة ومجاميع الحديث وغيرها ، ويحتاج إلي تظافر جهود الفقهاء والمتخصّصين اليوم لحلّها ، فهل نقسّمه إلي فقهٍ فرديّ ـ إجتماعيّ ـ سياسيّ ـ إقتصاديّ أو إلي فقهٍ عباديّ ـ وغير عباديّ ، والثاني إلي أقسام عديدة ، أو إلي فقهٍ خاصٍّ وعامٍّ أو فالاقتراحات كثيرةٌ ، لكن ما يشترك معها جميعاً هو أن هناك أبواباً لا وجود لها أصلاً في مجاميع الحديث مع أنّها اليوم من أهمّ ما يشغل بال الباحثين والمفكّرين المسلمين ، ولم يتمّ جمع مادّتها للتسهيل عليهم وهذا خللٌ كبيرٌ جدّاً .
ونحن هنا لن نبحث أو نقدّم اقتراحاتٍ حول كيفية تقسيم كتب الحديث والنصوص ، وإن كنّا لا نوافق علي هذا التقسيم المتّبع في « وسائل الشيعة » أو « مستدرك الوسائل » الذي سار علي نهج الحر العاملي في نمط تقسيم النصوص والأبواب ، وإنّما نتعرّض لمجموعةٍ من تلك الأبواب التي لا وجود لها أصلاً بهذه العناوين المعطاة لها اليوم في الفقه وفي الفكر كلّه .
وكنماذج يمكن هنا ذكر ما يلي :
النموذج الأول :
العلاقات الاجتماعية ـ بالمعني الخاص ـ التي تحتاج إلي إفراد كتابٍ مستقلٍّ فيها في مجاميع النصوص ، ومن الغريب أنّ صاحب الوسائل قد ذكر أغلبها في كتاب الحج تحت أبواب أحكام العِشرة وهو موقعٌ غير مناسبٍ لها ، والملفت أنّه دوّن في هذا الكتاب فقط أكثر من تسعمئة رواية ( 8 ) ، وهذا من شأنه لو اُضيف إليه نصوصٌ اُخري مع النصوص القرآنية وأُعيد بلورته ضمن كتابٍ يحمل مضمونه بما يملكه هذا المضمون من موقعية اليوم أن يكون له تأثيرٌ كبيرٌ ، سيّما لو رُتبت فصوله ترتيباً فنياً متقناً في العلاقة الاُسرية ، أو علاقة الجوار ، أو الصداقة ، أو العمل ، أو الاُخوّة ، أو الموءمنين و فتدرج نصوص انتقاء الصديق ومواصفاته والصحبة والصداقة وأحكامهما وآدابهما ، وكذلك نصوص صلة الرحم والبرّ بالوالدين ، واُمور اجتماعية خطيرة يلحظ جانبها الاجتماعي كالكذب والنميمة والغيبة والحسد والسبّ واللعن والمشاورة والاحترام والسلام والمصافحة وكيفية الجلوس في المجالس وإرسال الرسائل والعفو وكظم الغيظ والمداراة والتبسّم والضحك والبكاء وإطعام الطعام والصدقات ورعاية اليتيم والطفل و وهذه كلّها يمكن إدراجها وترتيبها بشكلٍ مختلفٍ . ومن الجدير ذكره أنّها ذُكرت في « الوسائل » استطراداً ، ولم تذكر كاملةً ، وفي الكتب الحديثية الاُخري عددٌ هائلٌ أيضاً من الممكن أن يُضمّ ويجري ترتيبه بما تحتاجه الصيغة الفقهية والأخلاقية في هذا المجال وبما يخوّل الباحث التحقيق في النظام الاجتماعي الإسلامي بطريقةٍ علميّةٍ موثّقةٍ .النموذج الثاني :
موضوعة المرأة ، ولسنا بحاجةٍ إلي شرح خطورة وأهمّية هذا الموضوع الذي نجد نصوصه مبعثرةً في أكثر أبواب الفقه والحديث ، سيما النكاح والطلاق والإرث والقصاص والديات والحدود والشهادات والتقليد ومكان المصلّي وصلاة الجماعة والنذر و ، في حين أنّ المطلوب اليوم هو تجميع كل هذه النصوص القرآنية والروائية فيما يوءمّن مادةً جيدةً لوضع بنيةٍ ونظريةٍ قانونيةٍ متكاملةٍ ، بل وفلسفيةٍ أيضاً لموضوع المرأة ، ولا نقصد هنا إدراج كلّ كتاب النكاح والطلاق والعِدَد و هنا ، بل تلك النصوص المتعلّقة بالقضايا المرتبطة بمفهوم المرأة في إطاره الفكري ـ الفقهي المعاصرُّ كموضوع الحق الجنسي ، أو حق الطلاق ، أو تعدّد الزوجات ، أو الحضانة ، أو الحجاب ، أو العنف المنزلي ، أو القيمومة وهكذا الأمر في ديتها وشهادتها وتولّيها القضاء والسلطة وغير ذلك من دون أن يعني كلّ ذلك إلغاء أيّ من الكتب المتقدّمة .النموذج الثالث :
الفقه السياسي ، وهو في الأرجح من أهمّ الأبواب وأكثرها حاجةً لإعادة ترتيبٍ نصوصيّ ، فنصوص الفقه السياسي مبعثرةٌ جدّاً وناقصةٌ كثيراً أيضاً ، ويمكن بإعادة ترتيبها وفق الهيكليّات الموضوعة فقهياً وسياسياً وقانونياً اليوم أن توءمّن مادة ضخمة للباحث والفقيه السياسي الإسلامي .أكثر مطالب الفقه السياسي أو كثيرٌ منها موجودٌ في كتاب الجهاد ، وهي مختصّة بقضايا السلم والحرب والأقليات ، حيث تتناثر في داخلها النصوص المرتبطة بأهل الذمّة والمعاهدات وعقود الصلح والأمان ممّا قد لا تكون له علاقةٌ حصريةٌ بالجهاد في الصيغة السياسيّة الفعليّة ، بل بالنظام الداخلي أو السياسة الخارجية للمجتمع السياسي الإسلامي . وحتّي الآن لا يوجد بابٌ حديثيٌّ مستقلٌّ لنصوص ولاية الفقيه ، أو الشوري بمعانيهما المختلفة ، علي رغم الجدل الواسع حول هاتين المقولتين في القرن الأخير ، ابتداءً من النراقي ( م 1145هـ ) والكواكبي ( م 1902 م ) والنائيني ( م 1355 هـ ) وحتي عصرنا الحاضر ، وهذه ثغرةٌ كبيرةٌ ، فنصوص ولاية الفقيه بعضها مدرجٌ في كتاب القضاء و
إنّ مسائل من قبيل شكل وهيكلية النظام الأوّلية وتركيبته وأهداف الدولة في الإسلام ووظائفها ، الأقليّات ، السلم والحرب ومسائل المعاهدات الدولية ، أمن الدولة أو الاُمّة ، حقوق الاُمّة وواجباتها العامّة ، وغيرها الكثير لا وجود لعناوين لها في الكتب الحديثية ، ولا جهود لتأمين المادّة النصوصيّة بالشكل المتناسب مع طبيعة ونظم الموضوع اليوم ، وهو مسبِّب لعدم وجود مشاريع فقهيّة تحقيقيّة متكاملة في هذه الموضوعات ، ممّا يساهم في إضعاف الانتاج العلمي السياسي علي هذا الصعيد موحياً ـ أحياناً ـ بعدم وجود نصوص في هذا الإطار أو ذاك .
وهناك نصوصٌ مبعثرةٌ ؛ فمثلاً نجد كتاب الجزية في أبواب الزكاة والخمس في بعض الكتب الحديثيّة ، والأنفال في آخر كتاب الخمس ، وكتاب الخمس تجمع النصوص فيه بطريقةٍ توحي بجانبه الفردي ولا يُعمد إلي التجميع للنصوص ذات الطابع السياسي ولو لم نقبل هذه الإشارة ، أمّا الخراج فهو في أبواب ما يكتسب به كمقدّمةٍ للتجارات وهكذا نصوص الاحتكار والتسعير وتلقّي الركبان وغيرها ، فليس هناك فصلٌ مستقلٌّ للنظام الضريبي الإسلامي فضلاً عن النظام الاقتصادي ككلّ ، أمّا نصوص الشوري والنصيحة لأئمة المسلمين والإهتمام باُمورهم فهي مختفيةٌ عن الأنظار تماماً ، كنصوص شروط الحاكم والبيعة وضرورة الحكومة و ، كما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يعرضا كوظيفةٍ اجتماعيةٍ ـ سياسيةٍ ، وفي هذا الإطار تلاحظ نصوص العلاقة مع الحاكم الآخر أو ما يسمي بالولاية للسلطان ومعونته المدرجة في بدايات التجارات من « الوسائل » ومثلها ما يرتبط بجوائز السلطان وهداياه ويمكن هنا الاستفادة من تجميع كلّ النصوص التي لها علاقةٌ ما بالحاكميّة والسلطة والمرجعيّة ، كموضوع التقليد وإثبات الهلال من طرف الحاكم ، ومسائل نقض حكم الحاكم أو عدم إطاعته ، وهي كثيرةٌ نسبيّاً إذا ما لوحظ فيها نصوصٌ ترتبط بالعلاقة مع السلطتين العباسية والأمويّة صدرت عن الأئمة عليهمالسلام . وهنا أيضاً تبرز بطريقةٍ أو باُخري نصوص التقية العديدة التي تمثل نمطاً سياسياً ، أو مسائل الخروج المسلّح علي الحاكم قبل قيام الحجّة ( عج ) وروايات اللبد في الأرض .
وفي هذا الإطار تأتي النصوص الكثيرة جداً المتعلّقة بمسألة العلاقة بين المسلم وغير المسلم ، وهي مبعثرةٌ في الكثير من الأبواب كالطهارة والزكاة والخمس والنكاح والإرث والديات والصيد والذباحة والقصاص والأطعمة والأشربة والجهاد و فإنّ هذه النصوص بالنظم التي عليه الآن يصعب أن تقدم خدمةً كبيرةً للشروع في بحثٍ فقهيّ حقوقيّ استدلاليّ كاملٍ وشاملٍ يعالج إشكاليّة « الأقليات » أو « غير المسلم » المعقّدة في الفقه السياسي الإسلامي اليوم . وما لم تتوفّر للباحث المادّة مرتبة ومنظمة ومعنونة بعناوين حديثة ومعاصرة فإنه سيعاني كثيراً أوّلاً ، ولا ضمانة توءكّد أنه استقصي كلّ ما له دخلٌ في موضوعه ثانياً .
ولسنا بحاجةٍ إلي الإشارة أيضاً إلي جملةٍ من نصوص صلاة الجماعة والجمعة والحج وكذلك نصوص اخوّة ووحدة المسلمين ، فضلاً عن التذكير بأنّ القرآن الكريم زاغرٌ بالآيات الكريمة المرتبطة بموضوع الفقه السياسيّ .
النموذج الرابع :
موضوع الجنس المحتاج إلي تجميع نصوصه نظراً ؛ لما يشغره فقه الجنس من مساحة اليوم ، ونصوص الجنس متفرّقةٌ بعض الشيء وغير منظمةٍ ومعنونةٍ بالنسق المحتاج له فعلاً ، ويمكن أن يستفاد هنا من نصوص النكاح كمبدأ ونكاح المتعة والكثير من الروايات المتعلّقة بالعلاقة الجنسية بين الزوجين أو مع الإماء الموردة في أوائل كتاب النكاح من الوسائل ، ويستفاد هنا من نصوص الستر والنظر ، الفصل وعدم الفصل بين الجنسين وبين الأطفال في المضاجع في سنٍّ محدّدٍ ، الجلوس في مجلس المرأة غير البارد ، النوم تحت لحافٍ واحدٍ ، الملاعبة للزّوجة والتقبيل أو حتّي بعض المسائل الأعمق ، العديد من نصوص عيوب الفسخ كالعنن والجبّ والقرن والخصاء ، بعض الروايات المتعلّقة بجملة مواصفاتٍ في المرأة ـ الزوجة ـ ذات الطابع الجنسي ، نصوص المقاربة وفي البيت من يسمع ، نصوص العزل أو الوطء دبراً ، نصوص تزيين المرأة نفسها لزوجها وإزالة المنفّرات والتمكين ، نصوص خلوة الأجنبي بالأجنبية ، صوت الأجنبيّة ، نصوص اللمس والمصافحة ، نصوص استئذان الولد في الدخول علي أهله ، ضمّ الطفلة إلي الحضن في سنٍّ معينٍ ، بعض نصوص الزنا واللواط والمساحقة والقيادة والاستمناء ووطء البهيمة وعقوباتها ، والنصوص المتعلّقة بحرمة المحارم موءبّداً ، سيما النسبيات أو حرمة اُخت الزوجة ، ونصوص مقاربة الإماء ، سيّما مسألة التحليل وكذلك بعض نصوص القسم والنشوز وغير ذلك أيضاً .النموذج الخامس :
المسائل المرتبطة بالنظافة والطهارة والأناقة والمظهر الخارجي للإنسان ومنزله و . فقد تمّ عرض هذه النصوص بطريقةٍ مفرّقةٍ ، وتحت عنوان آداب الحمّام من كتاب الطهارة كما في « الوسائل » ، أو تحت عنوان لباس المصلّي وأحكام الألبسة من كتاب الصلاة ، في حين أن الألبسة وإن كان لها نحو مناسبةٍ مع لباس المصلّي إلا أنّها مناسبةٌ غير قويّةٍ ، بل الأنسب إفراد كتابٍ مستقلٍّ لمجموع هذه الاُمور تدرج فيه مسائل من قبيل السواك وتنظيف الأسنان ونصوصه العديدة ، التمشّط ، دخول الحمّام ، الإستنجاء ، نصوص غسل الرأس والتنظيف ، الخضاب والكحل ، أخذ شعر الإبط والعانة والرأس والأنف ، تفريق الشعر ، تخفيف اللحية والأخذ من الشارب وتسريح اللحية وشعر الصدر ، نصوص تقليم الأظافر ومسحها بالماء بعده ، نصوص التطيّب الكثيرة ، نصوص أنواع الملابس من حيث الكمّ والكيف واللون و نصوص تنظيف البيوت ، نصوص الأغسال الواجبة والمستحبّة ، جملةٌ من نصوص الوضوء نفسه ، الكثير من نصوص النجاسات كنصوص الدم والبول والغائط والميتة والمني والكلب والخنزير و وكذا نصوص التطهير ، بعض نصوص آداب المائدة من غسل اليدين قبل الطعام وبعده وغير ذلك ، نصوص التختّم الكثيرة وكذلك بعض النصوص المتعلّقة بسعة الدار والمركب الهنيّ وتزيّن المرأة لزوجها والكثير غير ذلك . وتجميع هذه النصوص التي تربو في « الوسائل » فقط علي الألف روايةٍ وبصورةٍ فنيّةٍ تناسب العناوين المأخوذة لها في عصرنا الحاضر يمكنه أن يعكس صورةً رائعةً ، وأن يوءمّن مادّةً كبيرةً ونافعةً .النموذج السادس :
الفن ، ويمكن هنا تجميع النصوص المتعلّقة بالغناء ، أدوات الملاهي ، السحر ، الشعوذة ، عمل الصور والتماثيل ، تشبّه الرجال بالنساء والعكس ، التشبّه بالكفار ، بيع الخشب ليعمل صليباً ونحوه ، تزيين وتذهيب وزخرفة المساجد والمزارات والمصاحف والنصوص المرتبطة بعمارة المساجد والمآذن ، نصوص الهجاء للموءمن وغيره أو تشبيب المرأة ، نصوص تلاوة القرآن وترتيله في الصلاة وغيرها ، نصوص الأذان والإقامة ، نصوص نظم وإنشاد الشعر الحزين وغيره ؛ وهي نصوصٌ بتجميعها وقراءتها قراءةً مجموعيّةً يمكن أن تفيد في قضايا الفن كالرسم والنحت و « السيرك » والغناء والموسيقي والأدب وغير ذلكالنموذج السابع :
مسائل الرفق بالحيوان والتعامل معه ، ويمكن تجميع نصوصه من أبواب النفقة من كتاب النكاح وبعض النصوص الموجودة في كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذباحة من كيفية الذبح ، وإشراب الحيوان الماء ، وعدم جعله يري ذبح رفاقه ، وكذا نصوص الكلب والخنزير سيّما نصوص قتلهما أو الانتفاع بهما ككلب الصيد ، والماشية والزرع ، وهكذا مئات النصوص الواردة في أبواب أحكام الدواب من الوسائل في كتاب الحج ، وفيها ما يتضمّن إكرام الخيل ، واقتناء بعض الحيوانات كالغنم والحمام والدجاج ، والإنفاق عليها وإطعامها وعدم ضربها أو تحميلها ما لا تطيق أو لعنها ، وحكم تأديبها ، وحكم الحيوانات المتوحّشة والموءذية ، وحكم التعذيب وغير ذلك .النموذج الثامن : مسائل البيئة والصحّة العامة ، وهنا توجد الكثير من النصوص الواردة في الأطعمة والأشربة وفوائدها ، كما يمكن الاستعانة لمنح تصوراتٍ لهذا الموضوع من بعض النصوص الواردة في التخلّي في الأماكن العامة ، أو الأنهار ، أو تحت الشجرة المُثمرة ، أو النخلة المُثمرة ، أو علي شفير بئرٍ ، أو في منازل القوافل وأفنية المساجد ، أو الطرق النافذة ، أو أبواب الدور ، أو ما دل علي لزوم دفن الميت سيّما ما ورد فيه من التعليل ، أو إقفال وتعطيل البئر التي سقط فيها ميّتٌ ، أو حرمة لحم الحيوان الجلاّل المتغذي علي العذرات ، أو حكم بعض الأمراض المُعدية وغير ذلك مع الأخذ بعين الاعتبار تضيّق مساحة التلوّث البيئي في تلك الأزمنة بالنسبة إلي زماننا نحن .
النموذج التاسع :
النظام اللاربوي الذي وقع مجزّءاً في كتابَي البيع والقرض ، كما تناثرت الكثير من نصوصه الدالة بشكلٍ أو بآخر في أبواب المضاربة والمزارعة والمساقاة ، وفيما يتعلّق بالخرص الوارد في كتاب الزكاة وبيع الثمار والمزارعة و والعديد من النصوص التي أصدرت أحكاماً بمجموعة اُمورٍ كان مرجعها الحكم بتحريم الربا . وإفرادُ كتابٍ مستقلٍّ للربا هو اليوم حاجةٌ ماسّةٌ .النموذج العاشر :
موضوع الفقه التربوي المبعثرة نصوصه في الطهارة والنكاح والحدود والصوم والبيع والحَجر ونحوها ؛ ومن هذا القبيل الروايات الواردة في تمرين الولد علي الصلاة والحجّ والعبادة ، ونصوص ولاية الأب والجد وغيرهما علي الصبي والصبية في شوءون الأموال والنكاح ونحوهما ، ونصوص التسمية الحسنة له ، والعقيقة عنه ، وتأديبه في البيت أو في المدرسة من قبل المعلّم ، ونصوص الضرب وما يرتبط به من مسائل الدّية ونحوها ، وغير ذلك الكثيرإلي غير ذلك من النماذج التي لا مجال لذكرها في هذا المختصر ، من قبيل إعادة نظم وترتيب وتجميع نصوص الرقيّة والعبيد ، فإنّ طبيعة التوزيع لنصوص الرقية في المتون الحديثية الحاليّة غير مستوعبةٍ للموقف الإسلامي من هذه الظاهرة ؛ ففضلاً عن أنّ الكثير جدّاً من النصوص موزّعةٌ علي الأبواب المختلفة بدءاً من الطهارة وحتي القصاص والديات بما لا مجال لتفصيله ، هناك تسميةٌ غير جامعة للكتاب الذي يصبّ أكثر اهتماماته علي هذا الموضوع ، ألا وهو « كتاب العتق والتدبير » ، فيما المفروض إدراج كلّ النصوص المتعلّقة بموضوع الرقّية والحرّية في كتابٍ واحدٍ تُذكر فيه كل النصوص المرتبطة بالحقوق والواجبات والأحكام المتعلّقة بأسباب الرقيّة والحريّة تكليفاً ووضعاً ، كما يُتعرّض فيه للجانب الحقوقي للعبيد بدءاً من حقّ الملكية والتصرف وصولاً إلي مختلف المعاملات التجارية والحقوق السياسيّة والاجتماعيّة .
وكذلك إفراد كتابٍ لعنوان إحياء المناسبات الإسلامية يمكن تدعيمه بنصوص الأغسال المستحبة في بعض الأيام والصوم المستحبّ كذلك ، ونصوص أيّام العيد ومستحباتها ويوم الجمعة والغدير وعاشوراء والمبعث ، كما ويمكن الإستفادة من نصوص الأدعية والزيارات هنا أيضاً ، ومن هذا القبيل القضايا المرتبطة بالعلوم والمعارف والترغيب فيها أو التنفير عنها كعلم النجوم والسحر والفقه والعقيدة وعلم التاريخ والأنساب والطب وغيرها ممّا هو متفرّقٌ في الأبواب المختلفة .
الإشكاليات والملاحظات :
من الطبيعي أن يتعثّر اقتراحٌ من هذا القبيل بالعديد من المشكلات الجوهرية والفنية التي لابدّ من التفكير فيها والسعي لتجاوزها عمليّاً إذا تمّ إيجاد الجواب المنطقي لها ، ونظراً لضيق المجال نقتصر هنا علي ملاحظتين فقط أملاً في أن يسعي أصحاب الاختصاص إلي مزيدٍ من الدراسة والتعميق والتصحيح .وقبل بيان هاتين الملاحظتين لابدّ من التأكيد علي أنّ مشروعاً من هذا القبيل لا يُهدف منه فقط إيجاد موسوعةٍ نصوصيّةٍ جامعةٍ ووافيةٍ وإنّما تفعيل دور هذه الموسوعة في الحوزات والمعاهد الدينيّة والموءسّسات العلمائيّة والتحقيقيّة ، بحيث تتحوّل إلي بديلٍ حقيقيّ عن المراجع الحاليّة والتي يقف « الوسائل » علي رأسها ، وتحقيق مطلبٍ من هذا القبيل يحتاج إلي منح هذا المشروع تغطيةً واسعةً من قبل الأوساط العلميّة المختلفة ، لا سيّما كبار المراجع وأساتذة الحوزة العلميّة الموقّرين ، وإلاّ فإنّ هذا المشروع لو كُتب له أن يري النور فإنّه سوف يبقي في المكتبات أو محدود الفائدة بالنسبة إلي ما يُرجي منه .
وعلي أيّة حالٍ ، فحاصل الملاحظتين اللتين أشرنا إليهما هو :
الملاحظة الاُولي :
إنّ من المناسب أن نقتصر علي العناوين التي تحاكيها النصوص أوّلياً ، أمّا الاستنتاجات اللاحقة الطارئة والتي ترتبط بعناوين لا تحاكيها النصوص مباشرةً ؛ فإنّ وضع النصوص في سياقها يخدش إلي حدٍّ معيّنٍ بالأمانة العلمية المحايدة ، فإذا ما عمدنا إلي النصوص المتعرّضة لتحديد أماكن التخلّي فإننا نجد أنّ مدلولها في التحديد واضحٌ وأن وضع عنوانٍ لها كذلك لا يحمّل مضمونها أكثر ممّا يتحمّله ، أما لو جعلناها نصوصاً تحت عنوان البيئة بعد إجراء تعديلاتٍ في عناوين الموسوعة كما تقدّم كمّا وكيفاً فإنّ هذا سوف يجعلنا نمارس شيئاً من التطويع للنص ، وهي خطوةٌ غير واضحة النتائج من حيث السلبيّة والإيجابيّة .إلاّ أنّ هذه الملاحظة لا ترجع إلي الاقتراح المقدّم في هذه المقالة بقدر ما تتعلّق بنمط فهم النص ، أي أنّها تستبق النتائج وتحكم علي العنوان من خلال استنتاجها من النص نفسه ، وهو أمر قلنا سابقاً بأن الاستعانة به خاطئةٌ ، فبمجرّد أن هاهنا تصوّراً فقهياً ما أو محتملاً علي الأقل في الاستنتاج بالمعني الذي تقدّم ، فإنّ هذا يسمح لنا ويخوّلنا إدراجها ضمن العنوان الجديد سواءٌ قبلنا بعد ذلك بدلالة هذه النصوص أو رفضناها فهذا أمرٌ آخر ، فالمطلوب هو توفير مادةٍ لفكرةٍ معينةٍ حتي لو كانت النتيجة بعد البحث حول هذه المادة هو نفي هذه الفكرة ، والنماذج التي ذكرناها تصبّ في هذا الإطار دون أن تدّعي تبنّي الموقف إزاءها .
الملاحظة الثانية :
إنّ الصيغة المعدّة هنا تستدعي التورّط في الكثير من التكرار والتطويل ، لأنّ نصاً واحداً يمكنه أن يندرج ضمن أكثر من عنوانٍ ، وتزايد العناوين ـ وهي عناوين جديدة ومتداخلة ـ يضاعف من هذا المحذور ، فنصوص الحق الجنسي للزوجة تدخل في كتاب المرأة ، كما تدخل في الزواج ، وأيضاً في كتاب الجنس ، وبعض نصوص العلاقة مع غير المسلم تدخل في الفقه السياسي ، وأيضاً في الفقه الاجتماعي ، وقد تكون داخلةً من جهةٍ اُخري في الطهارة أو الصيد والذباحة أو الأطعمة والأشربة وهذه المشكلة ـ مضافاً إلي ما فيها من التكرار المملّ ـ تورّط الفقيه نفسه بتكرار بحثه أيضاً تبعاً لتكرار العنوان والنص ، وهو محذورٌ كما يخل بحركة البحث وانتظامه يُحدث فيما بعد تداخلاً غير مبرّرٍ بين الأبحاث الفقهيّة .لكنّ هذه الملاحظة يمكن التعليق عليها :
أوّلاً : لا مانع من التكرار إذا اقتضته الحاجة ، بل إنّ واقع الموسوعات الحديثية اليوم قائمٌ علي ذلك ، فهذا كتاب « الوسائل » يكرّر الكثير جداً من النصوص في أبوابٍ متعدّدةٍ كما يمكن التأكّد منه بمراجعةٍ سريعةٍ له .كما أنّ هذه المشكلة قد تمّ تفاديها في مختلف الموسوعات ودوائر المعارف في العلوم المختلفة بواسطة نظام الإحالة الذي استخدمه كثيراً صاحب الوسائل أيضاً ، وهو نظامٌ يحيل بعض العناوين أو النصوص إلي أمكنةٍ يستنسب أن تكون مذكورةً فيها بصراحةٍ ، وبالتالي يحدّ كثيراً من التطويل والاجترار .
ثانيـاً : إنّ موضوع تورّط الفقيه في تكرار الأبحاث هو أيضاً حاصلٌ فعلاً ، فكثيراً ما يحيل الفقيه جملة مباحث إلي أبحاث سابقة ، سيّما في الأبحاث المتعلّقة بكلّيات التجارة من شروط العقد والمتعاقدين والعوضين وبعض الخيارات المتكرّرة في أكثر أبواب المعاملات كالوكالة والكفالة والحوالة والشركة والمضاربة والمزارعة والمساقاة وغيرها ، ويستطيع من يمرّ علي الكتب الفقهيّة ذات الطابع الموسوعي كجواهر الكلام ومفتاح الكرامة وأبحاث السيد الخوئي أن يلاحظ ذلك بوضوحٍ ومراراً .
وفضلاً عن ذلك فهذه الملاحظة تفترض أنّ بإمكان الفقيه أن يمرّ علي أبواب الفقه كلّه في حال حياته . وهو أمرٌ إذا لاحظنا الدراسات الجديدة ـ والتي لوحظت هنا ـ نتأكد من تضيّق فرصه لتتضيّق بالتالي مساحة هذه الملاحظة عملياً .
( 1 ) دروس في علم الاُصول 2 : 219 ، الحلقة الثانية . مباحث الاُصول ، السيد كاظم الحائري 2 : 229 ـ 230 .
( 2 ) مجلة فقه أهل البيت عليهمالسلام ، العدد 9 : 1 ، 4 ، كلمة التحرير ، الشيخ خالد الغفوري .
( 3 ) راجع كنموذجٍ ما كتبه الشيخ محمد الموءمن حول الموضوع في مجلة فقه أهل البيت 2 : 80 ـ 109 ، والسيد محسن الخرازي في العددين 5 و 6 : 85 ـ 110 .
( 4 ) راجع كنموذج مقالة السيد كاظم الحائري في مجلة فقه أهل البيت 9 : 103 ـ 140 .
( 5 ) كما حققه السيد محمود الهاشمي في ابحاثه الفقهية في درس الخارج .
( 6 ) تفصيل وسائل الشيعة إلي تحصيل مسائل الشريعة ، محمّد بن الحسن الحر العاملي ، 1 : 6 ، نشر موءسسة آل البيت لإحياء التراث ، 1409 هـ .ق .
( 7 ) يُراجع « الفتاوي الواضحة » وبعض الكتب والإصدارات الكمبيوترية الموافقة لفتاوي السيد السيستاني ، والسيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم ، والإمام الخميني ، والسيد الخامنئي ، وغيرهم أعلي الله في الدنيا والآخرة مقامهم .
( 8 ) حَسَبْنا في التعداد الشكل الموجود في تقسيم الأحاديث ظاهرياً ، وإلا فإن حديثاً واحداً قد يجري تكراره أحياناً أو تقسيمه إلي قطع عديدة موزّعة .