قیمیة و الباراغماتیة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قیمیة و الباراغماتیة - نسخه متنی

صادق‌ جعفر الروازق

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

القيّميّة‌ و الباراغماتية‌

في‌ صراع‌ الطف‌

صادق‌ جعفر الروازق‌

المقدمة‌:

لم‌ يكن‌ صراع‌ الطف‌ حدثاً تاريخياً عابراً، شبيهاً بباقي‌ الصراعات‌والوقائع‌ الحربية‌ القبلية‌ المجرّدة‌ من‌ الحيثيات‌ الفكرية‌، بل‌ جسّد الطّف‌اعلي‌ مراحل‌ صراع‌ القِيَم‌، ولا يصح‌ّ الوقوف‌ علي‌ المفردات‌ القيّميّة‌والبراغماتية‌ (النفعية‌ والمصلحية‌). في‌ واقعة‌ الطّف‌ دون‌ استحضاراُصولها التاريخية‌ ومنذ عصر ما قبل‌ الرسالة‌.

فقد كانت‌ اُولي‌ المصاديق‌ هي‌ استحكام‌ العداء بين‌ بني‌ هاشم‌ وبين‌عبدشمس‌، عندما تولّي‌ (هاشم‌) زعامة‌ مكة‌ وعامّة‌ العرب‌ مع‌ المهمّة‌التي‌ تلازمها (سدانة‌ الكعبة‌) فقد نازعه‌ عليها ابن‌ اخيه‌ اُمية‌ بن‌ عبدشمس‌وادّعاها لنفسه‌، وانتهي‌ الخلاف‌ بعد قبول‌ هاشم‌ بالتحكيم‌ اءلي‌ الكاهن‌الخزاعي‌ الذي‌ شرط‌ خمسين‌ ناقة‌ لصاحب‌ الحق‌ّ واءبعاد المغلوب‌ عن‌ مكة‌عشرين‌ عاماً. فكانت‌ نتيجة‌ التحكيم‌ لمصحلة‌ هاشم‌، فاستلم‌ من‌ ابن‌ اخيه‌الاءبل‌ ونحرها اءلي‌ الحجاج‌ الوافدين‌ وخرج‌ اُمية‌ من‌ مكة‌ اءلي‌ الشام‌.

وقد عُرف‌ هاشم‌ بامانته‌ واخلاقه‌ واءدارته‌ الحكيمة‌ لشؤون‌ عرب‌الجزيرة‌ في‌ الوقت‌ الذي‌ لم‌ يُعرف‌ عن‌ اُمية‌ بن‌ عبدشمس‌ بمثل‌ هذه‌القابليات‌ والسجايا، فكان‌ عامل‌ الحسد والغيرة‌ لديه‌ مفاهيم‌ لا قيميّة‌تجسدت‌ بوضوح‌ في‌ خلافه‌ مع‌ عمّه‌ هاشم‌، والانكي‌ ان‌ عبدشمس‌ ذهب‌اءلي‌ (النجاشي‌) ليجدد العهود بينه‌ وبين‌ القرشيين‌، كما توجّه‌ نوفل‌ بن‌عبدمناف‌ اءلي‌ العراق‌ للاتصال‌ بكسري‌'، فهم‌ يحاولون‌ استعداءالامبراطوريتين‌ الرومانية‌ والفارسية‌ علي‌ بني‌هاشم‌، ولكن‌ لم‌ يكتب‌ لهماالبقاء الطويل‌، فقد توفي‌ عبدشمس‌ بعد ايام‌ من‌ رجوعه‌ اءلي‌ مكة‌، وتوفي‌نوفل‌ في‌ موضع‌ يقال‌ له‌ (سلمان‌)، فقام‌ المطلب‌ ابن‌ عبدمناف‌ بالزعامة‌بعد اخيه‌ هاشم‌. وتهيّا للزعامة‌ شيبة‌ بن‌ هاشم‌ بعد ان‌ تربّي‌ في‌ حجر عمّه‌المطلب‌ واشتهر باسم‌ (عبدالمطلب‌).

وقد تهيّات‌ لعبدالمطلب‌ مقومات‌ الزعامة‌ ما لم‌ تتهيا لغيره‌ حتي‌ من‌اُسرته‌ (فقد حفر زمزم‌ وسقي‌ المكّيين‌ والحجاج‌ من‌ مائها ولم‌ يستاثر به‌علي‌ احد، ومضي‌ علي‌ شريعة‌ اءبراهيم‌ الخليل‌ هو وجماعة‌ من‌ قومه‌،وصادف‌ ان‌ ابرهة‌ ملك‌ الحبشة‌ غزا مكة‌ بجنود وحشود لا قِبَل‌ للمكّيين‌بها، واستخدم‌ الفيلة‌ في‌ غزوته‌ هذه‌ ليرهب‌ المكّيين‌، وكان‌ من‌ قصده‌هدم‌ الكعبة‌، فدب‌ّ الذعر والخوف‌ بين‌ المكّيين‌ واعتصموا بالجبال‌وبطون‌ الاودية‌ خوفاً علي‌ انفسهم‌ واموالهم‌، ولكن‌ عبدالمطلب‌ بقي‌معتصماً بجوار البيت‌ عظيم‌ الثقة‌ بربّه‌ واثقاً بان‌ّ الله سبحانه‌ لا يتخلّي‌ عمّن‌اعتصم‌ به‌ والتجا اءليه‌).

فضلاً عمّا امتاز به‌ بنوهاشم‌ من‌ سمات‌ قيميّة‌ عالية‌ اودت‌ اءلي‌ ان‌يَدُب‌َّ الحقد والحسد في‌ صفوف‌ مناوئيهم‌، وبالخصوص‌ في‌ نفوس‌ ابناءعمومتهم‌، فجسّد عبدالمطلب‌ بذلك‌ خصلة‌ اُخري‌' جعلت‌ قلوب‌ المكّيين‌والعرب‌ اكثر انشداداً وطاعة‌ً له‌، بعد ان‌ اثبت‌ ثقة‌ عظيمة‌ بربّه‌ وشجاعة‌منقطعة‌ النظير لموقف‌ صلب‌ قلّما يهدي‌ له‌ الاءيمان‌، وهو يري‌ عظمة‌الجيوش‌ الغازية‌ لبيت‌ الله! فاي‌ّ اءيمان‌ٍ مطلق‌ لرجل‌ ا´من‌ بربّه‌ غيرمستوحش‌ٍ من‌ هول‌ المصاب‌ وجلالة‌ الحدث‌؟! وقد اشار الدكترو ط'ه‌حسين‌ الي‌ هذا الموقف‌ قائلاً: (لقد اظهر عبدالمطلب‌ من‌ الصبر والجلدوالشجاعة‌ والثقة‌ بالله ما لم‌ يظهر من‌ احد سواه‌ من‌ اشراف‌ المكّيين‌والقرشيين‌؛ فكان‌ لذلك‌ اثره‌ البالغ‌ عند عامّة‌ العرب‌ ممّا ضاعف‌ ثقتهم‌ به‌،فاتّسعت‌ زعامته‌ خارج‌ مكة‌، وظل‌ّ هذا الحادث‌ حديث‌ الناس‌ زمناًطويلاً...).

وهذا ممّا جعل‌ خصومه‌ ينطون‌ علي‌ انفسهم‌، يعبث‌ فيها الحقدوالحسد، ويتربّصون‌ به‌ الوقيعة‌ والخديعة‌.

فالوقوف‌ علي‌ زعامة‌ عبدالمطلب‌ لوحدها، نري‌ انها مثّلت‌ مرحلة‌متقدمة‌ جداً في‌ صياغة‌ المنظومة‌ الفكرية‌ القيميّة‌ لاُسرة‌ بني‌هاشم‌، ولاعجب‌ ان‌ تتنافي‌ موازية‌ً لها منظومة‌ اُخري‌ من‌ التحلل‌ الفكري‌ والقيمي‌عند حسّادهم‌ من‌ بني‌ عبدشمس‌ والا´خرين‌ من‌ العرب‌.

واختصاراً للبحث‌ نترك‌ الكثير من‌ الشواهد التاريخية‌ التي‌ تؤكّدصراع‌ المنظومتين‌، سواء كان‌ منها في‌ عصر ما قبل‌ الرسالة‌ او ما تكاثرمنها في‌ بدء رسالة‌ الرسول‌(ص)، ولكن‌ نقف‌ علي‌ ما تجلّي‌ من‌ صورالصراع‌ بعد وفاة‌ الرسول‌(ص) واوليّات‌ المؤامرة‌ في‌ احداث‌ السقيفة‌، لان‌ّابطالها هم‌ من‌ رجالات‌ الاءسلام‌ الاوائل‌، وممّن‌ خاض‌ مرارات‌ الحروب‌والجهاد بين‌ يدي‌ الرسول‌(ص) وقد اكّد علي‌(ع) هذا المعني‌ بقوله‌: «لم‌ يمنّواعلي‌ الله بالصبر، ولم‌ يستعظموا بذل‌ انسهم‌ في‌ الحق‌، حملوا بصائرهم‌ علي‌ اسيافهم‌،ودانوا لربّهم‌ بامر واعظهم‌».

ولكن‌ نري‌ ان‌ الاءسلام‌ لم‌ يكن‌ بكامل‌ مبادئه‌ وعقائده‌ راسخاً بشكله‌المطلق‌ في‌ نفوسهم‌، فوقائع‌ السقيفة‌ اكّدت‌ ان‌ الانتصار اءلي‌ اءحدي‌المنظومات‌ الفكرية‌ واقع‌ واضح‌ وصريح‌ في‌ الممارسة‌، فلم‌ يستطع‌ القوم‌اءضفاء معالم‌ النظرية‌ اللاقيميّة‌ امام‌ النص‌ القرا´ني‌ وسيرة‌ الرسول‌، وانتهي‌الامر باءبعاد صاحق‌ الحق‌ّ ومن‌ نصّت‌ عليه‌ الكلمات‌ القدسيّة‌ ووصاياالرسول‌ والتنصيب‌ الغديري‌.

وتعتبر السقيفة‌ اوّل‌ بادئة‌ خطيرة‌ من‌ عمر الاءسلام‌، مهّدت‌ لصراع‌الطّف‌؛ فقد امسي‌' الخليفة‌ (عمر) عشية‌ دفن‌ جثمان‌ النبي‌(ص) في‌ غضب‌وهيجان‌ وتهديد ووعيد، وعيدٌ بالحريق‌، حريق‌ ليلتهم‌ البيت‌ ومَن‌ فيه‌،واءن‌ كان‌ فيه‌ فاطمة‌ بضعة‌ الرسول‌(ص) وسيّدة‌ نساء اهل‌ الجنّة‌، والحسنان‌ريحانتاه‌ سيّدا شباب‌ اهل‌ الجنّة‌، وكفيلهم‌ اخو رسول‌ الله؛ هؤلاء هم‌ الذين‌باهل‌ النبي‌ بهم‌ وفود النصاري‌، وهم‌ الذين‌ ادار عليهم‌ النبي‌ كساءه‌ وقال‌:«اللهم‌ّ هؤلاء اهل‌ بيتي‌...»!! هكذا ظهر الامر في‌ ساعاته‌ الاُولي‌ وكانّه‌انقلاب‌ طاري‌ اكثر عنفاً ممّا عرفته‌ البشرية‌ من‌ الانقلابات‌، او ما يصطلح‌بالثورات‌ البيضاء؛ فاتّضح‌ للرجل‌ منهجه‌ الخاص‌ في‌ استخدام‌ القسوة‌والعنف‌، وباتت‌ السقيفة‌ ذريعة‌ً لرجال‌ العهود اللاحقة‌، فحورب‌ علي‌(ع)حروباً نكراء شرسة‌، تطاحن‌ فيها المسلمون‌ وتصارعت‌ منها المنظومتان‌ولكن‌ تحت‌ يافطة‌ الاءسلام‌، تذرعاً وتحججاً بالتاويل‌ وقدرة‌ الاجتهاد؛ففتحت‌ الحروب‌ باباً واسعاً امام‌ معاوية‌ بن‌ ابي‌سفيان‌، وصار يتذرّع‌صراحة‌ بما كان‌ من‌ اءقصاء علي‌(ع) عن‌ الخلافة‌ من‌ رسالة‌ خاطب‌ فيهاعلياً(ع)، ثم‌ عاد بمثل‌ ذلك‌ في‌ خطاب‌ ا´خر مع‌ الاءمام‌ الحسن‌(ع).

وهكذا يعلن‌ معاوية‌ معالم‌ منهجه‌ وليس‌ مبالياً لما سمعت‌ اُذناه‌ منذحجّة‌ الوداع‌: «الا ايّها الناس‌، اءنّما انا بشر، يوشك‌ ان‌ اُدعي‌ فاُجيب‌، واءنّي‌ تارك‌ فيكم‌الثقلين‌، ما اءن‌ تمسّكتم‌ بهما لن‌ تضلّوا بعدي‌، كتاب‌ الله وعترتي‌ اهل‌ بيتي‌، واءنّهما لن‌يفترقا حتّي‌ يردا علي‌َّ الحوض‌».

او قوله‌(ص): «مَن‌ كنت‌ مولاه‌، فعلي‌ّ مولاه‌...».

او «علي‌ مع‌ القرا´ن‌، والقرا´ن‌ مع‌ علي‌ّ، لن‌ يفترقا حتّي‌ يردا علي‌ّ الحوض‌».

وقد اكّدها عمر بن‌ الخطاب‌ قبل‌ رسائل‌ معاوية‌ اءلي‌ علي‌(ع) فكان‌قوله‌ ادق‌ تعبيراً واوضح‌ منهجاً لمنظومته‌ الباراغماتية‌ (اللاقيميّة‌)، وهويقول‌: (كرهت‌ قريش‌ ان‌ تجتمع‌ فيكم‌ النبوّة‌ والخلافة‌) واءن‌ كان‌(عمر) و (ابوبكر) ليسا من‌ بني‌ عبدشمس‌ اءلاّ انهم‌ شركاء فيما ا´ل‌ اءليه‌ امرالاُمّة‌ في‌ ربع‌ قرن‌ بعد غياب‌ الرسول‌(ص).

ومن‌ خطبة‌ٍ لعلي‌ّ(ع) يقسِّم‌ اصحاب‌ مَن‌ تقع‌ عليهم‌ المسؤولية‌فيقول‌(ع):

«... حتّي‌ اءذا قبض‌ الله رسوله‌(ص) رجع‌ قوم‌ٌ علي‌ الاعقاب‌، واتّكلوا علي‌الولائج‌، ووصلوا غير الرحِم‌، وهجروا السبب‌ الذي‌ اُمِروا بمودّته‌، ونقلوا البناء عن‌رص‌ّ اساسه‌؛ فبنوه‌ في‌ غير موضعه‌».

ثم‌ يقول‌(ع): «معادن‌ كل‌ّ خطيئة‌، وابواب‌ كل‌ّ ضارب‌ في‌ غمرة‌، قد ماروا في‌الحَيرة‌، وذهلوا في‌ السكرة‌، علي‌ سنّة‌ٍ من‌ ا´ل‌ فرعون‌: من‌ مُنقطع‌ٍ اءلي‌ الدنيا راكن‌ٍ، اومفارق‌ٍ للدين‌ مباين‌».

فيتّضح‌ من‌ تقسيم‌ قول‌ الاءمام‌(ع) ثلاث‌ طوائف‌ براغماتية‌ هي‌:

1 ـ طائفة‌: (رجعت‌ علي‌ الاعقاب‌...) فيجعلهم‌ المرتدين‌، وهو ليس‌الارتداد في‌ الدين‌، ولكن‌ هجر السبب‌ الذي‌ اُمروا بمودّته‌، ونقل‌ البناءعن‌ رص‌ّ اساس‌، وبناؤه‌ في‌ غير موضعه‌.

2 ـ طائفة‌: (وصلوا غير الرحم‌ وهجروا السبب‌...) وهؤلاء هم‌ الذين‌تركوا اهل‌ البيت‌، ونقلوا الخلافة‌ منهم‌ ووضعوها في‌ غيرهم‌ منذ قبض‌ اللهرسوله‌.

3 ـ طائفة‌: (معادن‌ كل‌ّ خطيئة‌...) وهم‌ بنو اُمية‌ ومن‌ انتظم‌ في‌مسلكهم‌.

الاُمة‌ وغياب‌ الموقف‌:

كان‌ علي‌ الاُمة‌ ان‌ تبايع‌ علياً(ع)، بلا تنازع‌، وهو الامر الذي‌ كان‌يرتقيه‌ علي‌(ع) بقين‌، وتنظره‌ اُمة‌ المهاجرين‌ والانصار طالما كانت‌ اٌمة‌الاءسلام‌ لا تردد في‌ اداء البيعة‌ ولا اداء الزكاة‌، فكان‌ علي‌(ع) متيقّناً من‌ حقّه‌في‌ الخلافة‌ بعد وفاة‌ الرسول‌(ص)؛ انطلاقاً من‌ موقعه‌ الممتاز عندالرسول‌(ص) ومن‌ حياته‌ الخالصة‌ النقيّة‌ في‌ الاءسلام‌، فلقد كان‌ في‌ حياة‌الرسول‌ يقول‌: «اءن‌ الله يقول‌: (افاءن‌ مات‌ او قُتل‌ انقلبتُم‌ علي‌ اعقابكم‌) والله لا ننقلب‌علي‌ اعقابنا بعد اءذ هدانا الله، والله لئن‌ مات‌ او قُتل‌ لاُقاتلن‌ّ علي‌ ما قاتل‌ عليه‌ حتي‌اموت‌، والله اءنّي‌ لاخوه‌ ووليّه‌ وابن‌ عمّه‌ ووراث‌ علمه‌، فمن‌ احق‌ّ به‌ منّي‌؟».

ولكن‌ لاحظ‌ ما يقوله‌(ع)، حينما انتهي‌' امر الخلافة‌ اءلي‌ ابي‌بكر: «فلمّامضي‌(ص) تنازع‌ المسلمون‌ الامر من‌ بعده‌، فوالله ما كان‌ يُلقي‌ في‌ رُوعِي‌ ولا يخطرببالي‌ ان‌ العرب‌ تُزعج‌ هذا الامر من‌ بعد عن‌ اهل‌ بيته‌! ولا انّهم‌ مُنحُوه‌ من‌ بعده‌! فماراعني‌ اءلاّ انثيال‌ الناس‌ علي‌ فلان‌ يبايعونه‌...».

ولم‌ يكن‌ موقف‌ الاُمة‌ موقفاً صائباً في‌ بيعتها للخليفة‌ الاوّل‌ وترك‌علي‌(ع)، ولا اعتقد بما ساقه‌ بعض‌ المؤرخين‌ في‌ الدفاع‌ عن‌ موقف‌ الاُمّة‌نتيجة‌ ممارسات‌ السلطة‌ الحاكمة‌ الجديدة‌ من‌ اساليب‌ الترهيب‌والترغيب‌، وما عرف‌ عن‌ خشونة‌ وقساوة‌ (مر) سبباً وجيهاً لوحده‌ في‌ابتعاد الاُمّة‌ عن‌ علي‌(ع) واءنّما لرسوخ‌ الضعف‌ الاءيماني‌ في‌ داخلها، وقلّة‌الوعي‌ لديها وعدم‌ بلوغها درجة‌ النضج‌ الحقيقي‌ الذي‌ من‌ الممكن‌ ان‌يستثمره‌ علي‌(ع) في‌ استرجاع‌ حقّه‌، لذا ترك‌ علي‌(ع) حقّه‌، كما ترك‌الرسول‌(ص) حقّه‌ في‌ كتابة‌ (الكتاب‌) عند اختلاف‌ الصحابة‌ في‌ حضرته‌وهو في‌ ساعة‌ الاحتضار، فترك‌ الخيار للاُمّة‌ تمارس‌ دورها حتّي‌ تصل‌مرحلة‌ النضج‌ الذي‌ يؤهلها لاختيار مَن‌ هو افضل‌ واصلح‌ لها. فبعد تجربة‌مريرة‌ لثلاثة‌ خلفاء انثالت‌ الاُمّة‌ علي‌ علي‌ٍّ(ع)، فكان‌ خياراً جماهيراً، بل‌هو اوّل‌ خيار جماهيري‌ في‌ الاءسلام‌ حتّي‌ قال‌ علي‌(ع): «فما راعني‌ اءلاّوالناس‌ ينثالون‌ علي‌ من‌ كل‌ّ جانب‌، حتّي‌ لقد وُطي‌ الحسنان‌ وشُق‌ّ عِطفاي‌» ثم‌يصف‌(ع) بيعة‌ الناس‌ له‌ مع‌ تصميمه‌ علي‌ ان‌ لا يستجيب‌ لهم‌: «وبسطتم‌يدي‌ فكففتها، وحددتموها، فقبضتها، ثم‌ّ تداككتم‌ علي‌ّ تداك‌ّ الاءبل‌ الهيم‌ علي‌ حياضهايوم‌ وردها، حتّي‌ انقطع‌ النعل‌ وسقط‌ الرداء ووُطِي‌ء الضعيف‌...».

وقبل‌ ان‌ يستجيب‌(ع) لبيعتهم‌ وضعهم‌ امام‌ ما سوف‌ يحدث‌ لهم‌ من‌اصحاب‌ الغد مع‌ توضيح‌ معالم‌ سياسته‌: «دعوني‌ والتمسوا غيري‌، فاءنّا مستقبلون‌امراً له‌ وجوه‌ والوان‌، لا تقوم‌ له‌ القلوب‌، ولا تثبت‌ عليه‌ العقول‌ واءن‌ الا´فاق‌ قد اغامت‌،والمحجّة‌ قد تنكّرت‌، واعلموا انّي‌ اءن‌ اجبتكم‌، ركبت‌ُ فيكم‌ ما اعلم‌، ولم‌ اصغ‌ِ اءلي‌قول‌ القائل‌ وعتب‌ العاتب‌» كل‌ّ هذا والجماهير بقيت‌ مصرّة‌ علي‌ بيعته‌، وقدكان‌ في‌ قلوبهم‌ لهذه‌ البيعة‌ وقع‌ ليس‌ له‌ نظير: «وبلغ‌ سرور الناس‌ ببيعتهم‌ اءيّاي‌ان‌ ابتهج‌ بها الصغير، وهدج‌ اءليها الكبير، وتحامل‌ نحوها العليل‌، وحَسَرت‌ اءليهاالكِعاب‌...».

لم‌ تكن‌ البيعة‌ الجماهيرية‌ لخلافة‌ علي‌(ع) ناجمة‌ من‌ تخلّص‌ الاُمّة‌وانتصارها علي‌ ذاتها من‌ عقدة‌ الهزيمة‌ الاخلاقية‌ التي‌ صاحبتها بعد وفاة‌الرسول‌(ص)، وتزعم‌ ثلاثة‌ خلفاء، وهي‌ تعلم‌ باحقيّة‌ علي‌(ع) في‌ الخلافة‌،كونه‌ سبباً جوهرياً لهذه‌ البيعة‌؛ واءنّما الواقع‌ لم‌ يكن‌ هناك‌ منافس‌ حقيقي‌لعلي‌(ع)، ولو كان‌ لانشقّت‌ الاُمّة‌ علي‌ نفسها، ولم‌ تحصل‌ مثل‌ هذه‌ البيعة‌مع‌ كامل‌ علمهم‌ ومعرفتهم‌ باحقيّته‌(ع) بها.

وهذا ناجم‌ من‌ طبيعة‌ عدم‌ اءلمامهم‌ ومعرفتهم‌ باصل‌ الاءمامة‌ومفهومها وحدودها وحكمها، وهذا ما تؤكّده‌ احداث‌ حروب‌ النهروان‌والجمل‌ وصفين‌ فيما بعد.

ففي‌ فترة‌ عثمان‌ بن‌ عفّان‌ ـ وهي‌ الفترة‌ الاكثر وضوحاً للانحراف‌القيمي‌ ـ استطاع‌ الاُمويون‌ ان‌ يسلبوا الاُمّة‌ اءرادتها، وان‌ يسود الفساد اءدارياًواقتصادياً وسياسياً وسط‌ المجتمع‌ الاءسلامي‌، مع‌ وجود علي‌ واصحابه‌ في‌هذا المجتمع‌. ورغم‌ نصائح‌ علي‌(ع) وصرخات‌ ابي‌ذر وامتعاض‌ الصحابة‌اءلاّ ان‌ عثمان‌ كان‌ غير مبال‌ٍ بهم‌، بل‌ كان‌ مستبدّاً برايه‌ دكتاتورياً بحكمه‌،(يهضم‌ مال‌ الله هضم‌ الاءبل‌ لنبتة‌ الربيع‌). وما ان‌ قُتل‌ عثمان‌ وحصلت‌البيعة‌ الجماهيرية‌ للاءمام‌ علي‌(ع) حتي‌ سارع‌ الاُمويون‌ الي‌ تاليب‌ الوضع‌الداخلي‌ ضد علي‌(ع)، بعد ان‌ استطاعوا توظيف‌ بعض‌ الصحابة‌ المعروفين‌بسابقتهم‌ وجهادهم‌ مع‌ الرسول‌(ص)، وقربهم‌ ونسبهم‌ منه‌ ومن‌ ابن‌ عمّه‌علي‌(ع)، فكانت‌ اشد هزيمة‌ اخلاقية‌ يتعرّض‌ لها المجتمع‌ الاءسلامي‌.

وبعد مؤامرة‌ قتل‌ الاءمام‌ وشهادته‌(ع) استطاع‌ معاوية‌ ان‌ يحوّل‌ مفهوم‌الخلافة‌ اءلي‌ سلطة‌ كسروية‌ او امبراطورية‌ هرقلية‌، وبمحاولات‌ ذكية‌ ارادان‌ يصطبغ‌ حكمه‌ بصبغة‌ شرعية‌؛ فقد حاول‌ ان‌ يوظّف‌ صلح‌ الاءمام‌الحسن‌(ع) بانه‌ اعتراف‌ رسمي‌ وشرعي‌ من‌ ا´ل‌ البيت‌: لخلافته‌وسياسته‌، فشهد عهد معاوية‌ بن‌ ابي‌سفيان‌ سياسة‌ التركيع‌ والاءذلال‌والارهاب‌ والترغيب‌ والمكر والخديعة‌ وفقدان‌ الاءرادة‌ والمفسدة‌الكبيرة‌ في‌ وسط‌ الاُمّة‌، وتحلّلها وانسلاخها من‌ قيمها ومبادئها فضلاً عن‌ممارسات‌ تسطيح‌ الوعي‌ وبث‌ الافكار الثقافية‌ الانهزامية‌، وترسيخ‌ فكرة‌«ا´ل‌ ابي‌طالب‌(ع) هم‌ اسرع‌ ما يكونون‌ اءلي‌ سفك‌ الدماء» كما قالها ابنه‌يزيد من‌ بعده‌ ايضاً، طالما اءن‌ّ الاءنسان‌ توّاق‌ٌ في‌ طبيعته‌ اءلي‌ السكينة‌والهدوء، فبمثل‌ هكذا استطاع‌ معاوية‌ وابنه‌ يزيد ان‌ يسلبا اءرادة‌ المجتمع‌،ويسلبا كل‌ّ مقومات‌ النظرية‌ القيميّة‌ وسُبل‌ الخير والاءصلاح‌ من‌ وسطه‌ابتداءً من‌ قتل‌ بعض‌ الخيرين‌ الصالحين‌ من‌ الصحابة‌، وانتهاءاً بتنصيب‌وتامير الفسقة‌ والمتحلّلين‌ علي‌ اُمور المسلمين‌.

علي‌(ع) وكشف‌ المنهج‌ الباراغماتي‌:

ليس‌ هناك‌ ادق‌ّ واوضح‌ صورة‌، وحجّة‌ لا يشوبها التاويل‌ من‌ قول‌علي‌(ع) وهو يصف‌ بشقشقيّته‌ المنهج‌ الباراغماتي‌ لدور الخلفاء الثلاثة‌في‌ اغتصاب‌ حقّه‌ من‌ الخلافة‌ فيقول‌(ع): «اما والله لقد تقمّصها فلان‌، واءنّه‌ ليعلم‌ان‌ّ محلي‌ منها محل‌ّ القطب‌ من‌ الرّحي‌...» واللطيف‌ في‌ التفسير ما ذهب‌ اءليه‌الشيخ‌ محمد جواد مغنية‌: (ما هذا؟ هل‌ هو حرقة‌ وتلهف‌ علي‌ الخلافة‌،كما يتراءي‌ للاغبياء؟ حاشا لمن‌ قال‌: «اءن‌ّ دنياكم‌ عندي‌ لاهون‌ من‌ ورقة‌ في‌ فم‌جرادة‌ تقضمها». وكلنا يعلم‌ ان‌ علياً يفعل‌ ما يقول‌، ولا يقول‌ ما لا يفعل‌،واءذن‌ فما هو السرّ لهذه‌ الشكوي‌ وهذا التظلّم‌؟ السرّ واضح‌، لا اءبهام‌ فيه‌ ـوالقول‌ للشيخ‌ مغنية‌ ـ اءنّه‌ نفس‌ الشي‌ء الذي‌ اشعر به‌ انا وانت‌، وكل‌ّ اءنسان‌حين‌ ينتهب‌ ثوبه‌ عن‌ بدنه‌ ناهب‌ او غاصب‌، نقول‌ هذا مع‌ الاءيمان‌ والعلم‌بان‌ّ علياً احرص‌ علي‌ مصالح‌ الناس‌ من‌ الناس‌ انفسهم‌، وانّه‌ لا يرضي‌ ولايغضب‌ اءلاّ لله وحده‌... هذا، اءلي‌ انها نفثة‌ مصدور هدرت‌ ثم‌ قرّت‌.)

ثم‌ يستمر الاءمام‌ علي‌(ع) في‌ توضيح‌ ا´لية‌ المنهج‌ الباراغماتي‌ في‌تناقل‌ الخلافة‌: «.. اري‌ تراثي‌ نهباً حتي‌ مضي‌ الاوّل‌ لسبيله‌ فادلي‌ بها اءلي‌ فلان‌ بعده‌

شتان‌ مايومي‌ علي‌ كُورهاويوم‌ُ حيّان‌ اخي‌ جابر

فيا عجباً! بينا هو يستقيلها في‌ حياته‌ اءذ عقدها لا´خر بعد وفاته‌ لشدّ ما تشطّراضرعيها، فصيّرها في‌ حوزة‌ خشناء يغلظ‌ كلمها ويخشن‌ مسّها ويكثر العثار فيهاوالاعتذار منها، فصاحبها (لاحظ‌، حالة‌ المجتمع‌ الاءسلامي‌ ا´نذاك‌) كراكب‌الصّعبة‌ اءن‌ اشنق‌ لها خَرَم‌، واءن‌ اسلس‌ لها تقحّم‌ فمني‌ الناس‌ لعمر الله بخبط‌ٍ وشماس‌وتلوّن‌ٍ واعتراض‌، فصبرت‌ علي‌ طول‌ المدّة‌ وشدّة‌ المحنة‌...».

فهذا ابلغ‌ صورة‌ لهذا المنهج‌ الذي‌ قاله‌(ع) حول‌ تجمع‌ ما يسمي‌بالشوري‌ واختيار عثمان‌؛ وهو يصف‌ التحالفات‌ المُسبقة‌ وا´لية‌ الانتخاب‌ونوعية‌ الحضور نسبُهم‌ القرابي‌ مع‌ بعضهم‌ فيقول‌(ع):

«حتي‌ اءذا مضي‌ لسبيله‌، جعلها في‌ جماعة‌ٍ، زعم‌ انّي‌ احدهم‌، فيالله وللشوري‌ متي‌اعترض‌ الرّيب‌ُ في‌َّ مع‌ الاوّل‌ منهم‌ حتّي‌ صرت‌ اُقرن‌ اءلي‌ هذه‌ النّظائر، لكنّي‌ اسففت‌ُ اءذاسفوا وطِرت‌ُ اءذا طاروا، فصغي‌ رجل‌ُ منهم‌ لضغنه‌ ومال‌ الا´خر لصهره‌ مع‌ هَن‌ِ وَهَن‌ٍ اءلي‌ان‌ قام‌ ثالث‌ القوم‌ نافجاً حضينه‌ بين‌ نثيله‌ ومعتلفه‌، وقام‌ معه‌ بنو ابيه‌ يخضمون‌ مال‌َ اللهخضمة‌ الاءبل‌ نبتة‌ الربيع‌ اءلي‌ ان‌ انتكث‌ فَتْله‌، واجهز عليه‌ عمله‌ وكبت‌ به‌ بطنتُه‌ُ».

ومن‌ خطبة‌ اُخري‌ له‌(ع)، يصف‌ فيها معاوية‌ وسياسته‌ العدائية‌ تجاه‌المنهج‌ القيمي‌ّ: «اما اءنّه‌ سيظهر عليكم‌ بعدي‌ رجل‌ٌ رحب‌ البلعوم‌ مندحق‌ البطن‌ ياكل‌ّما يجد ويطلب‌ ما لا يجد، فاقتلوه‌ ولن‌ تقتلوه‌، الا واءنّه‌ سيامركم‌ بسبّي‌ والبراءة‌ منّي‌،فامّا السب‌ّ فسبّوني‌ فاءنّه‌ لي‌ زكاة‌ٌ ولكم‌ نجاة‌. واما البراءة‌ فلا تتبراوا منّي‌ فاءنّي‌ وُلِدت‌علي‌ الفطرة‌، وسبقت‌ اءلي‌ الاءيمان‌ والهجرة‌».

ومن‌ خطبة‌ٍ له‌ ايضاً(ع) وهو يكشف‌ فيها ماهو اخطر من‌ الحكّام‌الظّلمة‌، اُولئك‌ هم‌ الزّهاد الدجّالون‌ الذين‌ يتظاهرون‌ بالزهد رياءً ونفاقاً،حتّي‌ اءذا تقرّبوا من‌ الطغاة‌ كانوا لهم‌ اعواناً وانصاراً، فيقول‌ علي‌(ع) في‌وصفهم‌: «ومنهم‌ من‌ يطلب‌ الدنيا بعمل‌ الا´خرة‌، ولا يطلب‌ الا´خرة‌ بعمل‌ الدنيا، قدطامن‌ من‌ شخصه‌، وقارب‌ من‌ خطوه‌، وشمّر من‌ ثوبه‌، وزخرف‌ من‌ نفسه‌ للامانة‌،واتّخذ ستر الله ذريعة‌ً اءلي‌ المعصية‌».

الحسين‌(ع) وكشف‌ المنهج‌ الباراغماتي‌:

الحسين‌ يواجه‌ معاوية‌

عندما اراد معاوية‌ تنصيب‌ يزيد، اُشير عليه‌ بالذهاب‌ اءلي‌ المدينة‌،وعرض‌ الامر علي‌ ا´ل‌ البيت‌: حتي‌ يستطيع‌ ان‌ يكسب‌ لحكم‌ ابنه‌(يزيد) الشرعية‌، عمل‌ معاوية‌ ذلك‌ وبينما هو يعرض‌ الامر ويضفي‌الالقاب‌ والكُني‌ الفخمة‌ علي‌ ابنه‌، واءذا بالاءمام‌ الحسين‌(ع) يلقي‌ خطبته‌موعظاً ومتحديّاً لمعاوية‌:

«اما بعد يا معاوية‌، فلن‌ يؤدّي‌ المادح‌ واءن‌ اطنب‌ في‌ صفة‌ الرسول‌(ص) وقدفهمت‌ ما لبّست‌ به‌ الخلف‌ بعد رسول‌ الله(ص) من‌ اءيجاز الصفة‌، والتنكب‌ عن‌ استبلاغ‌النعت‌، وهيهات‌ هيهات‌ يا معاوية‌! فضح‌ الصبح‌ فحمة‌ الدجي‌'، وبهرت‌ الشمس‌ انوارالسرج‌، ولقد فضّلت‌ حتي‌ افرطت‌، واستاثرت‌ حتي‌ اجحفت‌، ومنعت‌ حتّي‌ بخلت‌،وجُرت‌ حتي‌ تجاوزت‌، ما بذلت‌ لذي‌ حق‌ّ من‌ اسم‌ حقّه‌ من‌ نصيب‌ حتي‌ اخذ الشيطان‌حظّه‌ الاوفر ونصيبه‌ الاكمل‌».

ثم‌ يؤكّد الاءمام‌(ع): «وفهمت‌ ما ذكرته‌ عن‌ يزيد عن‌ اكتماله‌، وسياسته‌ لاُمّة‌محمّد(ص)، تريد ان‌ توهم‌ الناس‌ في‌ يزيد كانّك‌ تصف‌ محجوباً او تنعت‌ غائباً، اوتخبرعمّا كان‌ ممّا احتويته‌ بعلم‌ خاص‌، وقد دل‌ّ يزيد من‌ نفسه‌ علي‌ موقع‌ رايه‌، فخذليزيد فيما اخذ به‌ من‌ استفرائه‌ الكلاب‌ المهارشة‌ عن‌ التحارش‌، والحمام‌ السبق‌لاترابهن‌ّ، والقيان‌ ذوات‌ المعازف‌، وضروب‌ الملاهي‌، تجده‌ ناصراً».

ثم‌ يستخدم‌ الاءمام‌ الاُسلوب‌ الوعظي‌ لمعاوية‌ قائلاً:

«ودع‌ عنك‌ ما تحاول‌، فما اغناك‌ ان‌ تلقي‌ الله بوزر هذا الخلق‌ باكثر ممّا انت‌لاقيه‌! فوالله ما برحت‌ تقدح‌ باطلاً في‌ جورٍ وحنقاً في‌ ظلم‌ٍ حتي‌ ملات‌ الاسقية‌، ومابينك‌ وبين‌ الموت‌ اءلاّ غمضة‌، فتقدم‌ علي‌ عمل‌ٍ محفوظ‌ في‌ يوم‌ مشهود، ولات‌ حين‌مناص‌، ورايتك‌ عرّضت‌ بنا بعد هذا الامر، ومنعتنا عن‌ ابنائنا تراثاً ولعمر الله لقد اورثناالرسول‌(ص) ولادة‌، وجئت‌ لنا بما حججتم‌ به‌ القائم‌ عند موت‌ الرسول‌(ص) فاذعن‌للحجّة‌ بذلك‌ وردّه‌ الاءيمان‌ اءلي‌ النصف‌. فركبتم‌ الاعاليل‌ وفعلتم‌ الافاعيل‌، وقلتم‌ كان‌ويكون‌ حتي‌ اتاك‌ الامر يا معاوية‌ من‌ طريق‌ كان‌ قصدها لغيرك‌، فهناك‌ فاعتبروا يااُولي‌ الابصار.

رسالة‌ الاءمام‌(ع):

من‌ رسالة‌ الاءمام‌ الحسين‌(ع) ردّاً علي‌ رسالة‌ معاوية‌، يحمّله‌ فيهامسؤوليات‌ جميع‌ ما حصل‌ للبلاد والعباد من‌ فقدان‌ الامن‌ وسفك‌ الدماءونهب‌ الثروات‌ وتعريض‌ البلاد في‌ الازمات‌، وتعدّ هذه‌ الرسالة‌ من‌ اروع‌الوثائق‌ التاريخية‌ التي‌ سجلت‌ سياسة‌ عهد معاوية‌.

فيقول‌ (ع) في‌ بدء رسالته‌:

«امّا بعد، بلغني‌ كتابك‌ تذكر فيه‌ انّه‌ انتهت‌ اءليك‌ عنّي‌ اُمور انت‌ عنها راغب‌ وانابغيرها عندك‌ جدير، واءن‌ّ الحسنات‌ لا يهدي‌ لها المشّاؤون‌ بالنميمة‌، المفرّقون‌ بين‌الجمع‌، وكذب‌ الغاوون‌، ما اردت‌ لك‌ حرباً ولا عليك‌ خلافاً، واءنّي‌ لاخشي‌' الله في‌ ترك‌ذلك‌ منك‌، ومن‌ الاءعذار فيه‌ اءليك‌ واءلي‌' اوليائك‌ القاسطين‌ حزب‌ الظلمة‌» (لاحظ‌التقريع‌ والفضح‌ في‌ اُسلوب‌ الاءمام‌، فاراد ان‌ يشعره‌ بفداحة‌ الاءثم‌ الذي‌اقترفه‌، من‌ ظلم‌ٍ واضطهاد، وتجويع‌ وتحريف‌ للدين‌، واختلاس‌ اموال‌الاُمّة‌، ثم‌ّ يستطرد الاءمام‌(ع) مُذكّراً اءيّاه‌:

«الست‌ القاتل‌ حجر بن‌ عدي‌ اخا كندة‌ واصحابه‌، المصلّين‌ العابدين‌ الذين‌ كانواينكرون‌ الظلم‌، ويستعظمون‌ البدع‌، ويامرون‌ بالمعروف‌ وينهون‌ عن‌ المنكر، ولايخافون‌ في‌ الله لومة‌ لائم‌؟ قتلتهم‌ ظلماً وعدواناً من‌ بعد ما اعطيتهم‌ الايمان‌ المغلّظة‌والمواثيق‌ المؤكّدة‌، جراة‌ً علي‌ الله واستخفافاً بعهده‌.

اولست‌ قاتل‌ عمرو بن‌ الحمق‌ الخزاعي‌ صاحب‌ رسول‌ الله(ص) العبد الصالح‌الذي‌ ابلته‌ العباده‌ فنحل‌ جسمه‌ واصفرّ لونه‌؟ فقتلته‌ بعد ما امّنته‌ واعطيته‌ ما لو فهمته‌العصم‌ لنزلت‌ من‌ رؤوس‌ الجبال‌.

اولست‌ بمدّعي‌ زياد بن‌ سمية‌ المولود علي‌ فراش‌ عبيد ثقيف‌، فزعمت‌ انه‌ ابن‌ابيك‌؟ وقد قال‌ رسول‌ الله(ص): «الولد للفراش‌ وللعاهر الحجر» فتركت‌ سنّة‌رسول‌الله(ص) تعمّداً، وتبعت‌ هواك‌ بغير هدي‌ً من‌ الله، ثم‌ سلّطته‌ علي‌ اهل‌ الاءسلام‌يقتلهم‌ ويقطع‌ ايديهم‌ وارجلهم‌ ويسمل‌ُ اعينهم‌ ويصلبهم‌ علي‌ جذوع‌ النخل‌، كانّك‌لست‌ من‌ هذه‌ الاُمّة‌ وليسوا منك‌.

اولست‌ قاتل‌ الحضرمي‌ الذي‌ كتب‌ فيه‌ اءليك‌ زياد انّه‌ علي‌ دين‌ علي‌«كرّم‌ اللهوجهه‌ فكتبت‌ اءليه‌ ان‌ اقتل‌ كل‌ّ من‌ كان‌ علي‌ دين‌ علي‌ّ؟ فقتلهم‌ ومثّل‌ بهم‌ بامرك‌، ودين‌علي‌ّ هو دين‌ ابن‌ عمّه‌(ص) الذي‌ اجلسك‌ مجلسك‌ الذي‌ انت‌ فيه‌، ولولا ذلك‌ لكان‌شرفك‌ وشرف‌ ا´بائك‌ تجشّم‌ الرحلتين‌ رحلة‌ الشتاء ورحلة‌ الصيف‌.

وقلت‌ فيما قلت‌: اُنظر لنفسك‌ ودينك‌ ولاُمّة‌ محمد(ص) واتّق‌ شق‌ّ عصا هذه‌ الاُمّة‌وان‌ تردّهم‌ اءلي‌ فتنة‌ٍ، واءني‌ لا اعلم‌ فتنة‌ً اعظم‌ علي‌ هذه‌ الاُمّة‌ من‌ ولايتك‌ عليها، ولااعظم‌ لنفسي‌ ولديني‌ ولاُمّة‌ محمد(ص) افضل‌ من‌ ان‌ اُجاهرك‌؛ فاءن‌ فعلت‌ فاءنه‌ قربة‌ اءلي‌الله، واءن‌ تركته‌ فاءنّي‌ استغفر الله لديني‌ واساله‌ توفيقه‌ لاءرشاد امري‌.

وقلت‌ فيما قلت‌: اءنّي‌ اءن‌ انكرتك‌ تنكرني‌، واءن‌ اكدك‌ تكدني‌، فكدني‌ ما بدا لك‌،فاءنّي‌ ارجو ان‌ لا يضرّني‌ كيدك‌، وان‌ لا يكون‌ علي‌ احدٍ اضرّ منه‌ علي‌ نفسك‌، لانّك‌ قدركبت‌ جهلك‌ وتحرّصت‌ علي‌ نقض‌ عهدك‌، ولعمري‌ ما وفيت‌ بشرط‌ٍ، ولقد نقضت‌عهدك‌ بقتل‌ هؤلاء النفر الذين‌ قتلتهم‌ بعد الصلح‌ والايمان‌ والعهود والمواثيق‌، فقتلتهم‌من‌ غير ان‌ يكونوا قاتلوا او قُتلوا، ولم‌ تفعل‌ ذلك‌ بهم‌ اءلاّ لذكرهم‌ فضلنا وتعظيمهم‌حقّنا، مخافة‌ امرٍ لعلّك‌ اءن‌ لم‌ تقتلهم‌ مُت‌ّ قبل‌ ان‌ يفعلوا، او ماتوا قبل‌ ان‌ يدركوا.

ثم‌ ينتهي‌ الاءمام‌(ع) بنصحه‌ لمعاوية‌ لعلّه‌ يستفيق‌ من‌ سباته‌ الظالم‌وحكمه‌ الجائر:

فابشر يا معاوية‌ بالقصاص‌، واستيقن‌ بالحساب‌، واعلم‌ ان‌ّ لله تعالي‌ كتاباً لا يغادرصغيرة‌ً ولا كبيرة‌ اءلاّ احصاها، وليس‌ الله بناس‌ لاخذك‌ بالظنّة‌، وقتلك‌ اولياءه‌ علي‌التُّهم‌، ونفيك‌ اءياهم‌ من‌ دورهم‌ اءلي‌ دار الغربة‌، واخذك‌ الناس‌ ببيعة‌ ابنك‌ الغلام‌الحدث‌، يشرب‌ الشراب‌، ويلعب‌ بالكلاب‌، ما اراك‌ اءلاّ قد خسرت‌ نفسك‌، وبترت‌دينك‌، وغَشَشْت‌َ رعيّتك‌، وسمعت‌ مقالة‌ السفيه‌ الجاهل‌، واخفت‌ الورع‌ التقي‌ّ».

حركة‌ الحسين‌(ع) وميوعة‌ الاُمّة‌:

بعد ان‌ عرفنا ـ كما مرّ قبل‌ قليل‌ ـ الوضع‌ الذي‌ كانت‌ عليه‌ الاُمّة‌ في‌عهد معاوية‌ وما اتّصفت‌ به‌ من‌ ثقافة‌ انهزامية‌ وميوعة‌ متناهية‌، فاءنّه‌ لابدلهذه‌ الاُمّة‌ كما راي‌ واجتهد به‌ الاءمام‌ الحسين‌(ع) من‌ امرٍ في‌ خلق‌ هزّة‌قوية‌، تعيد لها اءرادتها وثقتها بنفسها وكرامتها بالرغم‌ من‌ وضوح‌ الطريق‌وجلاء الاهداف‌، وقدرتها علي‌ التميز المنطقي‌ بين‌ الحق‌ّ والباطل‌، مع‌ ان‌ّطبيعة‌ الظرف‌ الموضوعي‌ في‌ تصوّر دقيق‌ لواقع‌ الاُمّة‌ يمكن‌ ان‌ يكون‌علي‌ عدّة‌ اقسام‌ منها:

اوّلاً: اءن‌ّ في‌ الاُمّة‌ جزءً كبيراً ـ خلال‌ عهد معاوية‌ ـ فقد اءرادته‌ وقدرته‌علي‌ المواجهة‌، وهو يشعر بالذل‌ّ والاستكانة‌، واءن‌ خسارة‌ مبدئية‌ كبيرة‌تحيق‌ بالاُمّة‌ الاءسلامية‌ وهي‌ تبديل‌ الخلافة‌ اءلي‌ كسروية‌ وهرقلية‌.

وثانياً: اءن‌ّ في‌ الاُمّة‌ من‌ استخف‌ّ بالاءسلام‌، ولم‌ يعد يهتم‌ّ بالرسالة‌ بقدراهتمامه‌ بمصالحه‌ الشخصية‌ وبناء مجده‌ واعتباره‌.

ثالثاً: اءن‌ّ في‌ الاُمّة‌ شريحة‌ من‌ المغفّلين‌ التي‌ تنطلي‌ عليهم‌ حيل‌ ومكربني‌ اُمية‌، ولو سكت‌ صحابة‌ الرسول‌(ص) لتحوّلت‌ الخلافة‌ اءلي‌ قيصرية‌وكسروية‌، والتي‌ لم‌ تعد حُكماً للاُمّة‌، ويقول‌ السيد محمد باقر الصدر انّه‌:(تحويل‌ خطير في‌ المفهوم‌ اراد معاوية‌ ان‌ يلبسه‌ ثوب‌ الشرعية‌، ولو كان‌هذا التحويل‌ يواجه‌ بسكوت‌ من‌ قبل‌ الصحابة‌ لامكن‌ ان‌ تنطلي‌ حيلة‌معاوية‌ علي‌ الكثير من‌ السذج‌ والبسطاء؛ اءذ يرون‌ في‌ سكوت‌ الصحابة‌اءمضاءً له‌...».

رابعاً: اءن‌ّ البعض‌ في‌ الاُمّة‌ لا يعرف‌ حقيقة‌ الظروف‌ الموضوعية‌ التي‌حتّمت‌ علي‌ الاءمام‌ الحسن‌(ع) بعقد الصلح‌ مع‌ معاوية‌: (فهو لم‌ يميّز ان‌ هذاالتنازل‌ هل‌ هو اعتراف‌ بشرعية‌ الاُطروحة‌ الاُموية‌، او هو تصرّف‌ اقتضته‌الضرورة‌ والظروف‌ الموضوعية‌ التي‌ كان‌ يعيشها الاءمام‌ الحسن‌(ع))؟

امام‌ هكذا واقع‌ لاُمّة‌ تعيش‌ ابعد درجات‌ التشتّت‌ الفكري‌ وميوعة‌الموقف‌، ماذا كان‌ علي‌ الحسين‌(ع) ان‌ يختيار؟ مع‌ وجود الناصحين‌والمشفقين‌ امثال‌: عبيدالله بن‌ عباس‌، وعبدالله بن‌ جعفر، والاحنف‌ بن‌قيس‌، واخيه‌ محمد بن‌ الحنفية‌؟

هل‌ يبايع‌ يزيد بن‌ معاوية‌؟

هل‌ يرفض‌ البيعة‌ ويبقي‌ في‌ مكة‌ والمدينة‌ والظروف‌ الموضوعية‌كانت‌ تنبي‌ انه‌ لو بقي‌ في‌ المدينة‌ او في‌ مكّة‌ رافضاً للبيعة‌ لقتل‌ من‌ قبل‌ بني‌اُمية‌ ولو كان‌ معلقاً باستار الكعبة‌؟

هل‌ يلجا اءلي‌ بلدٍ من‌ بلاد العالم‌ الاءسلامي‌ كما اقترح‌ عليه‌ اخوه‌ محمدابن‌ الحنفية‌؟ وينتهي‌ بعزلته‌ منغلقاً عن‌ مسرح‌ الاحداث‌؟

هل‌ يتحول‌ ويذهب‌ اءلي‌ الكوفة‌ مستجيباً للرسالة‌ التي‌ وردته‌ من‌اهلها ثم‌ يستشهد بالطريقة‌ التي‌ وقعت‌؟

نعم‌، كان‌ لابد للحسين‌(ع) ان‌ يذهب‌ اءلي‌ الكوفة‌، يقاتل‌ ويقتل‌ مع‌تفعيل‌ كافة‌ المؤثرات‌ العاطفية‌ التي‌ تحرّك‌ ضمير الاُمّة‌ وتهزّ مشاعرهاوتعيد لها اخلاقية‌ الاءرادة‌ والتضحية‌، والعزيمة‌ والكرامة‌، فهو لم‌ يطلب‌سلطاناً فقتل‌، ومن‌ يطلب‌ السلطة‌ فعليه‌ ان‌ يقدّم‌ اولاده‌ واهله‌ للقتل‌ ونساءه‌للسبي‌ فـ (اراد ان‌ يجمع‌ علي‌ نفسه‌ كل‌ّ ما يمكن‌ ان‌ يجتمع‌ علي‌ اءنسان‌ٍ من‌مصائب‌ وتضحيات‌ وا´لام‌؛ لان‌ اخلاقية‌ الهزيمة‌ مهما شككت‌ في‌مشروعية‌ ان‌ يخرج‌ اءنسان‌ للقتل‌، فهي‌ لا تشك‌ في‌ ان‌ هذا العمل‌ الفظيع‌ لم‌يكن‌ عملاً صحيحاً علي‌ كل‌ّ المقاييس‌، وبكل‌ الاعتبارات‌، وهو من‌ بقية‌النبوّة‌ وصاحب‌ مقام‌ الاءمامة‌؛ فادخل‌ اءلي‌ ساحة‌ المعرفة‌ كل‌ّ الاعتبارات‌العاطفية‌ والتاريخية‌ وحتي‌ الا´ثار التي‌ تبقت‌ من‌ عهد الرسول‌(ص) من‌العمامة‌ والسيف‌؛ فلبس‌ عمامة‌ الرسول‌ وتقلّد سيف‌ الرسول‌، واغلق‌ بذلك‌كل‌ّ منفذ وطريق‌ للتشكيك‌ في‌ حركته‌(ع)، والجم‌ افواه‌ اصحاب‌ الثقافة‌الانهزامية‌، وهزّ بذلك‌ ضمائر المسلمين‌ الذين‌ تميّعت‌ اءرادتهم‌.

الدوافع‌ الذاتية‌ للباراغماتين‌:

اوضحت‌ العلوم‌ النفسية‌، ان‌ّ الاءنسان‌ يبحث‌ عمّا ينقصه‌ لكل‌ مايحصل‌ في‌ داخله‌ من‌ حالات‌ التوازن‌ النفسي‌ لحصول‌ الاستقرار والفعل‌الطبيعي‌، ولكن‌ هناك‌ من‌ النواقص‌ ما يثير الاستغراب‌ عند اصحابها في‌كيفية‌ خلق‌ التوازن‌ النفسي‌ عندهم‌ سيّما ممّن‌ لم‌ يمتلك‌ مقومات‌ الاءيمان‌والتربية‌ الروحية‌ في‌ تجاوز هذه‌ النواقص‌ من‌ قبيل‌ عاهة‌ الشكل‌ اوالنسب‌، اءضافة‌ اءلي‌ حالات‌ اُخري‌ كالفقر وحب‌ّ الجاه‌ وحب‌ المال‌ وحب‌اللذة‌، والطمع‌ في‌ الدنيا، فيحاول‌ اصحاب‌ هذه‌ الحالات‌ سدّ هذا النقص‌ من‌خلال‌ نشاط‌ خاص‌ او عمل‌ مخالف‌. يستطيعون‌ من‌ خلاله‌ الظهور اءلي‌المجتمع‌ بشكل‌ بارز، سوءا كان‌ عملاً اءيجابياً او سيئاً علي‌ السواء، ونادراً مايلجا هؤلاء اءلي‌ العمل‌ الاءيجابي‌ والاغلب‌ يتّجه‌ في‌ التعويض‌ من‌ خلال‌احتقار الا´خرين‌ او اءنزال‌ الكوارث‌ بهم‌.

فبالنسبة‌ لاصحاب‌ يزيد، فاءن‌ شمر بن‌ ذي‌ الجوشن‌ (ابرص‌، كريه‌المنظر، قبيح‌ الصورة‌، وكان‌ يصطنع‌ المذهب‌ الخارجي‌ ـ ذلك‌ انه‌ في‌ ظل‌ّمثل‌ هذا المذهب‌ يمكن‌ الانتقام‌ من‌ المجتمع‌ بشكل‌ افضل‌ ـ يحارب‌ به‌عليّاً وابناءه‌، ولكن‌ لا يتّخذه‌ حجّة‌ ليحارب‌ به‌ معاوية‌ وابناءه‌).

واما عن‌ مسلم‌ بن‌ عقبة‌، فكان‌: (اعور امغر، ثائر الراس‌، كانّما يقلع‌رجليه‌ من‌ وحل‌ٍ اءذا مشي‌').

اما عبيدالله بن‌ زياد، فكان‌ متّهماً بنسبه‌ بين‌ قريش‌، لان‌ّ اباه‌ زياداً كان‌مجهول‌ النسب‌؛ فكان‌ يُسمّي‌ زياد بن‌ ابيه‌! ثم‌ الحقه‌ معاوية‌ بابي‌سفيان‌،وامّا اُمّه‌ فكانت‌ جارية‌ مجوسيّة‌ تدعي‌ (مرجانة‌)، وتعرّف‌ عليها اثناءولايته‌ لفارس‌، فكانت‌ قريش‌ تعيب‌ عبيدالله بنسبه‌ من‌ اُمّه‌ ومن‌ ابيه‌، كماانه‌ كان‌ الكن‌ اللسان‌ لا يستطيع‌ نطق‌ حروب‌ اللغة‌ العربية‌، فكان‌ اءذا عاب‌الحروري‌ من‌ الخوارج‌ قال‌ «هروري‌» فيضحك‌ سامعوه‌، واراد مرّة‌ ان‌يقول‌: اشهروا سيوفكم‌ فقال‌: افتحو سيوفكم‌ فهجاه‌ يزيد بن‌ مفزِّع‌ قائلاً:

ويوم‌ فتحت‌ سيفك‌ بمن‌ بعيدٍاضعت‌ وكل‌ّ امرك‌ للضياع‌

كما قال‌ مسلم‌ بن‌ عقيل‌(ع) عن‌ ابن‌ زياد: «ويقتل‌ النفس‌ التي‌ حرّم‌الله قتلها، علي‌ الغضب‌، والعداوة‌، وسوء الظن‌، وهو يلهو، ويلعب‌، كانه‌ لم‌يصنع‌ شيئاً».

لاحظ‌ في‌ قول‌ مسلم‌، كيف‌ استطاع‌ البراغماتيون‌، النفعيون‌،المصلحيّون‌، ان‌ يتربّعوا علي‌ مقاليد سلطة‌ الاُمّة‌ الاءسلامية‌ ويقلبوا مفاهيم‌الاءسلام‌ من‌ الرحمة‌ والشفقة‌ والسلم‌ والامان‌ والحكمة‌ والموعظة‌والتحابب‌ والتا´خي‌ اءلي‌ مفاهيم‌ بربرية‌ عبثية‌ لم‌ تمت‌ّ اءلي‌ الاءسلام‌باي‌ّصلة‌.

ويذكر المؤرخون‌ ان‌ يزيد بن‌ معاوية‌ كان‌ مستاءً من‌ زياد وابنه‌، لان‌ّزياداً كان‌ رافضاً لاخذ البيعة‌ من‌ اهل‌ البصرة‌ ليزيد عندما كان‌ والياً عليها،وهو سبب‌ ا´خر لسعي‌ عبيدالله لخدمة‌ وطاعة‌ اوامر يزيد.

اما عمر بن‌ سعد، فكانت‌ تُحرّكه‌ غريزة‌ حب‌ّ المال‌ واللذّة‌ وحب‌ّالجاه‌ والطمع‌ في‌ الدنيا.

وهناك‌ صنف‌ ا´خر من‌ البراغماتيين‌ لم‌ تكن‌ دوافعهم‌ الذاتية‌ميكانيكية‌ لتعويض‌ النقص‌، ولا كانت‌ بدافع‌ حب‌ّ الجاه‌ والسلطة‌ والمال‌،واءنّما كانت‌ بدافع‌ الخوف‌ وحب‌ّ البقاء سيّما وان‌ مجتمع‌ ما بعد معاوية‌تركت‌ فيه‌ سياسته‌ حالات‌ رهيبة‌ من‌ الضعف‌ والخواء والانحلال‌ وانعدام‌الثقة‌ والامن‌؛ حتّي‌ وصل‌ الامر باحد اتباع‌ مدرسة‌ علي‌(ع) في‌ البصرة‌ ان‌يبعث‌ برسول‌ الحسين‌(ع) اءلي‌ عبيدالله بن‌ زياد ـ وكان‌ وقتها والياً علي‌البصرة‌ ـ لاحبّاً بعبيدالله بن‌ زياد ولا اءيماناً بخط‌ّ عبيدالله بن‌ زياد، بل‌ حفاظاًعلي‌ نفسه‌، وابتعاداً بنفسه‌ عن‌ اقل‌ مواطن‌ الخطر، خشية‌ ان‌ يطّلع‌عبيدالله بن‌ زياد في‌ يوم‌ ما علي‌ ان‌ ابن‌ رسول‌ الله كتب‌ اءليه‌ يستصرخه‌ وهولم‌ يكشف‌ هذه‌ الورقة‌ للسلطة‌ الحاكمة‌ وقتئذٍ، فتتّخذ هذه‌ نقطة‌ ضعف‌عليه‌، ولكي‌ يوفر له‌ كل‌ّ عوامل‌ السلامة‌، وكل‌ ضمانات‌ البقاء الذليل‌ اخذرسول‌ الاءمام‌ والرسالة‌ وقدّمهما بين‌ يدي‌ عبيدالله بن‌ زياد، فامر بالرسول‌فقتل‌.

اما عمر بن‌ الحجّاج‌ وهو ممّن‌ حارب‌ مع‌ علي‌(ع) في‌ صفين‌، كما انه‌لحدٍ قريب‌ من‌ ثورة‌ الحسين‌(ع) جاء ومعه‌ اربعة‌ ا´لاف‌ من‌ عشيرته‌ لكي‌يتفقّدوا احوال‌ هاني‌ بن‌ عروة‌، ووقفوا بباب‌ القصر يطالبون‌ بحياة‌ هاني‌ابن‌ عروة‌، وفي‌ القصة‌ المعروفة‌: ان‌ عبيدالله بن‌ زياد ارسل‌ اءلي‌ شريح‌القاضي‌ باعتباره‌ قاضياً وشهادته‌ معتبرة‌ فادخله‌ اءلي‌ الغرفة‌ التي‌ سجن‌ فيهاهاني‌، ونظر اءليه‌ حيّاً بعد ان‌ شاع‌ مقتل‌ خبره‌، وابلغ‌ عمر بن‌ الحجاج‌ وقومه‌بانه‌ راي‌ هانياً حيّاً. فاطمان‌ّ عمر بن‌ الحجاج‌ وانسحب‌.

اءلاّ ان‌ هذا الرجل‌ ـ عمر بن‌ الحجّاج‌ ـ وبعد ان‌ اشتد الامر علي‌الحسين‌(ع) لم‌ يمتلك‌ اءرادته‌ وانتهت‌ شخصيته‌؛ لانه‌ شعر ان‌ في‌ نصرة‌الحسين‌ ثمناً غالياً، فطلّق‌ عقيدته‌ واشتري‌ بدلاً عنها ما تبقي‌ من‌ سنين‌عمره‌، ويا ليت‌ هذا الرجل‌ ان‌ يناي‌ بعيداً عن‌ المساهمة‌ في‌ الحرب‌ ضدالحسين‌(ع) بل‌ هو نفسه‌ «كلّفه‌ عمر بن‌ سعد باسوا عمل‌ يمكن‌ ان‌ يكلّف‌به‌ اءنسان‌؛ كلّفه‌ بالحيلولة‌ من‌ الماء دون‌ سيّد الشهداء، فقد بقي‌ واقفاً يمنع‌ابن‌ رسول‌ الله والبقية‌ الباقية‌ من‌ ثقل‌ النبوّة‌ عن‌ شرب‌ الماء» واستجاب‌لذلك‌ ايضاً شبث‌ بن‌ ربعي‌ وهو الرجل‌ الذي‌ عاش‌ مع‌ جهاد اميرالمؤمنين‌،ويقول‌ السيد محمّد باقر الصدر2: اءن‌ هذا الرجل‌ كان‌ يعي‌ مدلول‌ حرب‌صفين‌، وكان‌ يدرك‌ ان‌ الاءمام‌ عليّاً في‌ حرب‌ صفين‌ يمثل‌ رسول‌ الله(ص)في‌ غزوة‌ بدر، ولكن‌ الدنيا والانهيار النفسي‌، ولكن‌ النفس‌ القصير خنقه‌في‌ النهاية‌؛ فذاب‌ وتميّع‌ واشتدّ تميّعه‌ بالتدريج‌ اءلي‌ ان‌ وصل‌ اءلي‌ حدّ: ان‌عبيدالله بن‌ زياد يبعث‌ اءليه‌ ليقاتل‌ الحسين‌ ابن‌ رسول‌ الله، فماذا يكون‌العذر؟ وماذا يكون‌ الجواب‌؟ لا يملك‌ ان‌ يعتذر بعذرٍ من‌ الاعذار اءلاّ ان‌يقول‌: «انا مريض‌» كلمة‌ باردة‌ جداً علي‌ مستوي‌ بروده‌ النفسي‌ ـويستطرد السيد الصدر بذكر تفاصيل‌ مواقف‌ شبث‌ بن‌ ربعي‌ ـ ان‌ّ عبيداللهابن‌ زياد يبعث‌ اءليه‌ الرسول‌ مرّة‌ اُخري‌ ليقول‌ له‌: المسالة‌ حدّية‌، لا مرض‌في‌ هذه‌ الحالة‌، اما ان‌ تكون‌ معناً، واءمّا ان‌ تكون‌ عدوّنا، وبمجرد ان‌ يتلقي‌هذه‌ الرسالة‌ ـ ويعرف‌ ان‌ المسالة‌ حدّية‌ ـ يقوم‌ شبث‌ بن‌ ربعي‌ ويلبس‌ ماكان‌ يلبسه‌، ثم‌ يخرج‌ متّجهاً اءلي‌ عبيدالله بن‌ زياد وهو يقول‌: لبيك‌! هذه‌الاستجابات‌ من‌ هذا الطرف‌، وذاك‌ البرود، وتلك‌ السلبية‌ من‌ ذلك‌ الطرف‌هم‌ اكبر دليل‌ علي‌ هذا المرض‌ «ثقافة‌ الاءسلام‌».

امّا عمر بن‌ سعد، وكما تقدّم‌ انه‌ من‌ هواة‌ حب‌ المال‌ والجاه‌ والدنيا،نقف‌ قليلاً مع‌ نص‌ّ الحوار الدائر بينه‌ وبين‌ الاءمام‌ الحسين‌(ع) لكي‌ تتّضح‌دوافعه‌ الذاتية‌ بصورة‌ جليّة‌:

قال‌ الحسين‌(ع): «ويلك‌ ياابن‌ سعد! اما تتّقي‌ الله الذي‌ اءليه‌ معادك‌؟ اتقاتلني‌وانا ابن‌ عمّك‌؟ ذر هؤلاء القوم‌ وكن‌ معي‌ فاءنّه‌ اقرب‌ لك‌ اءلي‌ الله، فقال‌ ابن‌ سعد:اخاف‌ ان‌ تُهدم‌ داري‌، فقال‌ الحسين‌: انا ابنيها لك‌، فقال‌: اخاف‌ ان‌ تؤخذضيعتي‌، فقال‌ الحسين‌(ع): انا اخلف‌ عليك‌ خيراً منها من‌ مالي‌ بالحجاز، فقال‌: لي‌عيال‌ واخاف‌ عليهم‌، وهنا اتّضح‌ للحسين‌ انه‌ رجل‌ ميّت‌ القلب‌، ميّت‌الضمير. فاءنسان‌ يقيس‌ مصير مجتمعه‌ بهذا اللون‌ من‌ القياس‌ ليس‌ اءنساناًسوي‌ التكوين‌ النفسي‌، فقال‌ له‌ الحسين‌: مالك‌؟ ذبحك‌ الله علي‌ فراشك‌ عاجلاً،ولا غفر لك‌ يوم‌ حشرك‌، فوالله اءنّي‌ ارجو الا تاكل‌ّ من‌ بر العراق‌ اءلاّ يسيراً.

فقال‌ مستهزئاً: في‌ الشعير كفاية‌».

البراغماتية‌ وانتحال‌ القدسيّة‌:

من‌ اخطر حالات‌ الاحتيال‌ علي‌ المجتمع‌ الاءسلامي‌، هي‌ انتحال‌القدسيّة‌ واءضفاء الشرعية‌ في‌ العمل‌ البراغماتي‌، والانكي‌ من‌ ذلك‌ حينماتتوفر ارضية‌ خصبة‌ لهذا الاحتيال‌ تتمثّل‌ ببعض‌ علماء ووجهاء الاُمّة‌البسطاء الطيّبين‌ الذين‌ يسهل‌ خُداعهم‌. والاشد خطورة‌ من‌ ذلك‌ حينمايساهم‌ علماء السوء بدعم‌ البراغماتيين‌ عندما تتلاقي‌' المصالح‌ والمنافع‌الذاتية‌ والاهواء، فتنحصر (القيميّة‌) في‌ نخبة‌ قليلة‌ من‌ المجتمع‌،وتتضاعف‌ عليها الجهود الكبيرة‌ لتفكيك‌ العلاقة‌ البراغماتية‌ مع‌ وعّاظ‌السلاطين‌.

وبدهاءٍ ومكر استطاع‌ معاوية‌ ان‌ يجمع‌ حوله‌ الكثير من‌ هؤلاءالوعّاظ‌ وباساليب‌ شتي‌ من‌ الترغيب‌ والترهيب‌ لطمس‌ معالم‌ الدين‌ باسم‌الدين‌. وينقل‌ ابن‌ ابي‌ الحديد: «ان‌ معاوية‌ وضع‌ قوماً من‌ الصحابة‌ وقوماًمن‌ التابعين‌ علي‌ رواية‌ اخبار قبيحة‌ في‌ علي‌(ع) تقضي‌ الطعن‌ فيه‌ والبراءة‌منه‌، وجعل‌ لهم‌ علي‌ ذلك‌ جعلاً يرغب‌ في‌ مثله‌، فاختلقوا ما ارضاه‌، منهم‌:ابوهريرة‌، وعمر بن‌ العاص‌، والمغيرة‌ بن‌ شعبة‌، ومن‌ التابعين‌ عروة‌ بن‌الزبير».

ومن‌ اجل‌ اءيجاد تبرير ديني‌ لسلطته‌ وسلطة‌ من‌ قبله‌ (عثمان‌) ومن‌بعده‌ (يزيد) او علي‌ الاقل‌ ان‌ يكبح‌ جماح‌ الثورة‌ في‌ نفوس‌ الجماهيراستغل‌ّ معاوية‌ هؤلاء الاشخاص‌ ليجعل‌ من‌ الدين‌ مبرّراً لرغباته‌ اءضافة‌ اءلي‌ممارساته‌ واساليبه‌ الاُخري‌ من‌ التجويع‌ والاءرهاب‌ والانشقاق‌ القبلي‌،فاُولي‌ المهمات‌ لهؤلاء الاشخاص‌ كانت‌ وضع‌ الاحاديث‌ الطاعنة‌ بحق‌ّعلي‌ واهل‌ بيته‌: ونسبتها للنبي‌(ص)؛ ومن‌ ذلك‌ العام‌ ابتدا الخطباء علي‌المنابر يلعنون‌ علياً ويبراون‌ منه‌، واكثروا في‌ فضائل‌ عثمان‌ ومناقبه‌، بعدذلك‌ اوصي‌' في‌ كتابة‌ الرواية‌ عن‌ الصحابة‌ والخلفاء الاوّلين‌؛ فكتب‌ اءلي‌عمّاله‌: «ان‌ّ الحديث‌ في‌ عثمان‌ قد كثر وفشا في‌ كل‌ّ وجه‌ وناحية‌، فاءذاجاءكم‌ كتابي‌ هذا فادعوا الناس‌ اءلي‌ الرواية‌ في‌ فضائل‌ الصحابة‌ والخلفاءالاوّلين‌، ولا تتركوا خيراً يرويه‌ احد من‌ المسلمين‌ في‌ ابي‌تراب‌ اءلاّوتاتوني‌ بمناقض‌ له‌ في‌ الصحابة‌، فاءن‌ هذا احب‌ّ اءلي‌ّ واقر لعيني‌ وادحض‌لحجة‌ ابي‌تراب‌ وشيعته‌».

وامّا قصّة‌ سخائنه‌ في‌ هذا المجال‌ فهي‌ معروفة‌ مع‌ الصحابي‌ سمرة‌ بن‌جندب‌، فقد بذل‌ له‌ اربعمائة‌ الف‌ درهم‌ علي‌ ان‌ يروي‌ هذه‌ الا´ية‌: (وَمِن‌َالنَّاس‌ِ مَن‌ يُعْجِبُك‌َ قَوْلُه‌ُ فِي‌ الْحَيَاة‌ِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّه‌َ عَلَي‌' مَا فِي‌ قَلْبِه‌ِ وَهُوَ أَلَدُّالْخِصَام‌ِ* وَاءِذَا تَوَلَّي‌' سَعَي‌' فِي‌ الاَرْض‌ِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِك‌َ الْحَرْث‌َ وَالنَّسْل‌َ وَاللّه‌ُ لاَيُحِب‌ُّ الْفَسَادَ) قد نزلت‌ في‌ حق‌ علي‌ بن‌ ابي‌طالب‌، وان‌ الا´ية‌ الثانية‌نزلت‌ في‌ حق‌ ابن‌ ملجم‌؛ وهي‌ قوله‌ تعالي‌: (وَمِن‌َ النَّاس‌ِ مَن‌ يَشْرِي‌ نَفْسَه‌ُ ابْتِغَاءَمَرْضَات‌ِ اللّه‌ِ).

لم‌ يكتف‌ معاوية‌ بهذا، بل‌ اراد ان‌ ينهي‌ كل‌ّ رموز الحالة‌ (القيميّة‌)التاريخية‌ التي‌ تثير في‌ اذهان‌ الاُمة‌ الرفض‌ والجهاد والثورة‌ والكفاح‌ من‌اجل‌ انتصار الاءسلام‌، وفي‌ محاولة‌ خبيثة‌ وبائسة‌ اشار عليه‌ عمر بن‌ العاص‌اءلغاء اسم‌ (الانصار) الذي‌ اشتهر به‌ اهل‌ المدينة‌، وهي‌ محاولة‌ تهدف‌ اءلي‌(تجريد الانصار من‌ قوّتهم‌ المعنوية‌ التي‌ يسبغها هذا اللقب‌ عليهم‌)ولكن‌ تنبّه‌ الانصار علي‌ مكامن‌ هذه‌ المحاولة‌، (فردّوها بحزم‌). وممّالا يخفي‌ ان‌ القرا´ن‌ الكريم‌ ورد فيه‌ مرّتين‌ لقب‌ الانصار في‌ سورة‌ التوبة‌تضمّنتا مدح‌ الله تعالي‌ لهم‌ وثناءه‌ عليهم‌.

والحقيقة‌ ان‌ اكثر ما يؤلم‌ المرء هو التوظيف‌ السلبي‌ للقدسيّة‌ سواءكان‌ للشخص‌ او الواقعة‌، فبعد قتل‌ الحسين‌(ع) ادّعي‌ الاعداء انّهم‌«يتقرّبون‌ اءلي‌ الله بدمه‌» ويعقّب‌ الشهيد مطهري‌: ان‌ اكبر الوقائع‌ اءجراماًفي‌ التاريخ‌ هي‌ تلك‌ الجرائم‌ التي‌ ترتكب‌ باسم‌ الاخلاق‌ والروحانية‌والصلح‌ والسلام‌.

وفي‌ سياق‌ هذا المعني‌، نري‌ ان‌ّ الاءمام‌ الحسين‌(ع) اشار اءلي‌ دور«الروحانية‌» في‌ المجتمع‌ الاءسلامي‌، اءلاّ انّه‌ لم‌ يُخف‌ِ(ع) ما في‌ نفسه‌ من‌حُرقة‌ٍ والم‌ٍ ومضاضة‌ٍ وهو يصف‌ منهم‌ علماء السوء بـ «العصابة‌» التي‌ هي‌«اعظم‌ الناس‌ مصيبة‌ً»، كما قال‌ هو(ع)، وهو يري‌ خضوعهم‌ ليزيد علي‌علمهم‌ بحقارته‌ وانحطاطه‌، وخضوعهم‌ لعبيدالله بن‌ زياد علي‌ علمهم‌باصله‌ الحقير ومنبته‌ الوضيع‌، وخضوعوا لغير هذا وذاك‌ من‌ الطغاة‌؛ لان‌هؤلاء الطغاة‌ يملكون‌ الجاه‌ والمال‌ والنفوذ، ولان‌ّ التقرّب‌ منهم‌ والتودّداءليهم‌ كفيل‌ بان‌ّ يجعلهم‌ ذوي‌ نفوذ في‌ المجتمع‌.

لاحظ‌ زفراته‌(ع) وهو يبتدي‌ خطبته‌ بالوعظ‌ والاءرشاد، ويذكّرهم‌بعاقبة‌ الاحبار من‌ بني‌اءسرائيل‌ وما عاب‌ الله عليهم‌ من‌ افعالهم‌، فيقول‌:«اءنّما عاب‌ الله ذلك‌ عليهم‌ لانهم‌ كانوا يرون‌ من‌ الظّلمة‌ الذين‌ بين‌ اظهرهم‌ المنكروالفساد فلا ينهونهم‌ عن‌ ذلك‌؛ رغبة‌ً فيما كانوا ينالون‌ منهم‌ ورهبة‌ ممّا يحذرون‌ واللهيقول‌: (فَلا تَخشوا النّاس‌ واخشون‌ِ).

ثم‌ يصف‌ هؤلاء «العصابة‌» باحبار بني‌اءسرائيل‌ الذين‌ راوا الظلم‌والفساد من‌ مقام‌ الجور، ولم‌ يامروا بالمعروف‌ وينهوا عن‌ المنكر، بل‌كانوا واقعين‌ تحت‌ تاثير رغبة‌ المال‌ ورهبة‌ السلطان‌، وتاتي‌ هذه‌ الخطبة‌،ادق‌ وثيقة‌ تاريخية‌ (خالدة‌)، تصوّر واقع‌ علماء السوء في‌ مجتمع‌ اءسلامي‌يكن‌ّ للعلماء كل‌ّ التقدير والتبجيل‌ والقدسيّة‌؛ فاراد (ع) من‌ الاُمّة‌ ان‌ تُميّزبين‌ نوعين‌ من‌ العلماء، بين‌ مَن‌ يعيش‌ للدين‌ ويُفني‌ من‌ اجله‌، وبين‌ مَن‌يعيش‌ علي‌ الدين‌، ولا هم‌ّ له‌ اءلاّ التحجّج‌ والتذرّع‌ تبريراً لقعوده‌ وانشغاله‌بهم‌ّ الدنيا ومحاباة‌ السلطان‌، فيقول‌(ع):

«ايّتها العصابة‌، عصابة‌ بالعلم‌ مشهورة‌ وبالخير مذكورة‌ وبالنصيحة‌ معروفة‌ وباللهفي‌ انفس‌ الناس‌ مهابة‌، يهابكم‌ الشّريف‌ ويكرمكم‌ الضّعيف‌، ويؤثركم‌ من‌ لا فضل‌لكم‌ عليه‌ ولا يد لكم‌ عنده‌، تشفعون‌ في‌ الحوائج‌ اءذا امتنعت‌ من‌ طلاّبها وتمشون‌ في‌الطّريق‌ بهيبة‌ الملوك‌، وكرامة‌ الاكابر، اليس‌ كل‌ّ ذلك‌ اءنّما نلتموه‌ بما يُرجي‌ عندكم‌ من‌القيام‌ بحق‌ّ الله، واءن‌ كنتم‌ عن‌ اكثر حقّه‌ تقصِّرون‌ فاستخففتم‌ بحق‌ّ الاُمّة‌؟ فامّا حق‌ّالضعفاء فضيعتم‌ واما حقّكم‌ بزعمكم‌ فطلبتم‌، فلا مال‌ بذلتموه‌ ولا نفساً خاطرتم‌ بهاللَّذي‌ خَلقها، ولا عشيرة‌ً عاديتموها في‌ ذات‌ الله، انتم‌ تتمنّون‌ علي‌ الله جنّته‌ ومجاورة‌رسله‌ واماناً من‌ عذابه‌، لقد خشيت‌ عليكم‌ ايها المتمنّون‌ علي‌ الله ان‌ تحل‌ّ بكم‌ نقمة‌ من‌مقامته‌ لانّكم‌ بلغتم‌ من‌ كرامة‌ الله منزلة‌ فضِّلتُم‌ بها ومن‌ يُعرف‌ بالله، لا تُكرمون‌ وانتم‌بالله في‌ عباده‌ تكرمون‌، وقد ترون‌ عهود الله منقوصة‌ً فلا تفزعون‌، وانتم‌ لبعض‌ ذِمم‌ا´بائكم‌ تفزعون‌، وذمّة‌ رسول‌ الله(ص) محقورة‌، والعمي‌ والبكم‌ والزَّمني‌ في‌ المدائن‌مهملة‌، لا ترحمون‌ ولا في‌ منزلتكم‌ تعملون‌، ولا من‌ عمل‌ فيها تُعينون‌.

وبالادِّهان‌ والمصانعة‌ عند الظّلمة‌ تامنون‌، كل‌ّ ذلك‌ ممّا امركم‌ الله به‌ من‌ النّهي‌والتّناهي‌ وانتم‌ عنه‌ غافلون‌، وانتم‌ اعظم‌ الناس‌ مصيبة‌ً لما غُلبتم‌ عليه‌ من‌ منازل‌ العلماءلو كنتم‌ تشعرون‌، ذلك‌ بان‌ّ مجاري‌ الاُمور والاحكام‌ علي‌ ايدي‌ العلماء بالله الاُمناءعلي‌ حلاله‌ وحرامه‌، فانتم‌ المسلوبون‌ تلك‌ المنزلة‌، وما سلبتم‌ ذلك‌ اءلاّ بتفرقكم‌ عن‌الحق‌ واختلافكم‌ في‌ السنّة‌ بعد البيِّنة‌ الواضحة‌، ولو صبرتم‌ علي‌ الاذي‌ وتحمّلتم‌المؤونة‌ في‌ ذات‌ الله كانت‌ اُمور الله عليكم‌ ترد، وعنكم‌ تصدر، واءليكم‌ ترجع‌،ولكنّكم‌ مكّنتم‌ الظّلمة‌ من‌ منزلتكم‌، واستسلمتُم‌ اُمور الله في‌ ايديهم‌، يعملون‌ في‌الشبّهات‌، ويسيرون‌ في‌ الشّهوات‌، سلّطهم‌ علي‌ ذلك‌ فراركم‌ من‌ الموت‌، واعجابكم‌بالحياة‌ التي‌ هي‌ مفارقتكم‌، فاسلمتم‌ الضّعفاء في‌ ايديهم‌ ممّن‌ بين‌ مستعبد مقهور وبين‌مستضعف‌ علي‌ معيشته‌ مغلوب‌، يتقلّبون‌ في‌ الملك‌ با´رائهم‌، ويستشعرون‌ الخزي‌باهوائهم‌ اقتداءً بالاشرار، وجراة‌ علي‌ الجبّار، في‌ كل‌ّ بلدٍ منهم‌ علي‌ منبره‌ خطيب‌يصقع‌، فالارض‌ لهم‌ شاغرة‌ وايديهم‌ فيها مبسوطة‌، والناس‌ لهم‌ خَول‌ٌ، لا يدمغون‌ يدلامس‌ٍ، فمن‌ بين‌ جبّار عنيد وذي‌ سطوة‌ علي‌ الضّعفة‌ شديد، مطاع‌ لا يعرف‌ المبدي‌المعيد، فيا عجباً ومالي‌ (لا) اعجب‌! والارض‌ من‌ غاش‌ٍّ غشوم‌ٍ ومتصدِّق‌ ظلوم‌ٍ، وعامل‌علي‌ المؤمنين‌ بهم‌ غير رحيم‌ٍ، فالله الحاكم‌ فيما فيه‌ تنازعنا، والقاضي‌ بحكمه‌ فيما شَجَرَبيننا.

اللّهم‌ّ اءنّك‌ تعلم‌ انّه‌ لم‌ يكن‌ ما كان‌ منّا تنافُساً في‌ سلطان‌، ولا التماساً من‌ فُضول‌الحطام‌، ولكن‌ لنُري‌َ المعالِم‌ من‌ دين‌، ونظهر الاءصلاح‌ في‌ بلادك‌، ويامن‌ المظلومون‌من‌ عبادك‌، ويُعمل‌ بفرائض‌ وسُننك‌ واحكامك‌، فاءن‌ لم‌ تنصرونا وتنصفونا قوي‌الظّلمة‌ عليكم‌، وعملوا في‌ اءطفاء نور نبيِّكم‌، وحسبُنا الله وعليه‌ توكّلنا واءليه‌ انبنا واءليه‌المصير».

البواعث‌ القيميّة‌ للنهضة‌:

من‌ قوله‌(ع) لاخيه‌ محمد بن‌ الحنفية‌، يلخّص‌ فيه‌ دوافع‌ خروجه‌ قائلاً:

«اءنّي‌ لم‌ اخرج‌ اشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، واءنّما خرجت‌ لطلب‌الاءصلاح‌ في‌ اُمّة‌ جدّي‌، اُريد ان‌ ا´مر بالمعروف‌ وانهي‌ عن‌ المنكر، فمن‌ قبلني‌ بقبول‌الحق‌ّ فالله اولي‌ بالحق‌ّ، ومن‌ ردّ علي‌َّ هذا اصبر حتي‌ يقضي‌ الله بيني‌ وبين‌ القوم‌ بالحق‌ّ،وهو خير الحاكمين‌».

وهنا من‌ الضرورة‌ ان‌ نذكر تعليقة‌ علي‌ قوله‌(ع): «فمن‌ قبلني‌ بقبول‌الحق‌ّ»، لاحظ‌، فهو لم‌ يدع‌ُ لقبول‌ شرفه‌ ونسبه‌ وحسبه‌ ومنزلته‌ بين‌المسلمين‌، بل‌ دعا ان‌ يكون‌ قبوله‌ بقبول‌ الحق‌ّ، وهو ما يوفّر علي‌ الناس‌الخير والسعادة‌ والبركة‌، فقبول‌ الحق‌ هو القبول‌ بمستلزماته‌ والتنعم‌ بها.

بهذا الخطاب‌ القيمي‌ لن‌ يترك‌ فيه‌ ثغرة‌ فكرية‌ قيميّة‌ تتراءي‌ عندالا´خرين‌ اُسلوباً باراغماتياً ولو نسبياً، فهو تعالي‌ وتسامي‌ عن‌ التفاخرالقبلي‌، وحتّي‌ بما حق‌ّ له‌ من‌ امجاد المواقف‌ لجدّه‌(ص) وابيه‌(ع)؛ ولكن‌اراد ان‌ يضع‌ صورة‌ الحق‌ّ موقع‌ الفيصل‌ والمعيار لنهضته‌ . في‌ حين‌ ان‌التفاخر القبلي‌ هو راس‌ مال‌ كل‌ّ زعيم‌ سياسي‌ وديني‌ كان‌ في‌ عصره‌(ع)وما بعده‌ ايضاً، ولم‌ يستثن‌ حتّي‌ من‌ عصرنا هذا، فهناك‌ من‌ اقام‌ الدنيا ولم‌يقعدها، وفي‌ مناسبة‌ وبدونها متفاخراً با´بائه‌ ودون‌ ان‌ يحذو حذوهم‌.

وللوقوف‌ علي‌ طبيعة‌ الاءصلاح‌ الذي‌خرج‌ من‌ اجله‌ الاءمام‌الحسين‌(ع)، انّه‌ يشمل‌ كافة‌ المرافق‌ الحياتية‌ للشعب‌ المسلم‌، فقد مارس‌الاُمويون‌ اُسلوب‌ التجويع‌ وصرف‌ اموال‌ الشعب‌ في‌ الملذّات‌ وشراءالضمائر وفي‌ قمع‌ الحركات‌ التحررية‌، وتمزيق‌ وحدة‌ المسلمين‌، وبث‌ّالعداوة‌ والبغضاء بينهم‌، والمطاردة‌ والملاحقة‌ لذوي‌ العقيدة‌ السياسية‌التي‌ لا تنسجم‌ وذوق‌ الحكم‌ الاُموي‌، وقتل‌ الكثير منهم‌ وقطع‌ الارزاق‌ومصادرة‌ الاموال‌، فضلاً عن‌ تحريف‌ الدين‌ وتشجيع‌ الحالة‌ القبلية‌ علي‌حساب‌ الكيان‌ الاجتماعي‌ للاُمّة‌ المسلمة‌، والسعي‌ علي‌ قتل‌ النزعة‌التحزّبية‌ بواسطة‌ التخدير الديني‌ الكاذب‌.

فكانت‌ تلك‌ بواعث‌ حقيقية‌ لنهضة‌ الاءمام‌ الحسين‌(ع)، كما اصبحت‌تلك‌ من‌ الدوافع‌ التي‌ اسست‌ لحركات‌ التحرر والنهوض‌ لما بعد الثورة‌الحسينية‌، ولا يمكن‌ للمصلح‌ والثائر الصادق‌ ان‌ يعيش‌ الحالة‌ التحللّية‌وهو في‌ طور المعارضة‌ والمواجهة‌ مع‌ من‌ تسلّط‌ علي‌ الاُمّة‌ بهذه‌الاساليب‌، وكان‌ّ المعارض‌ ينتهج‌ نفس‌ اساليب‌ السلطة‌ المتحلّلة‌ في‌السيطرة‌ علي‌ السلطة‌ والاءبقاء عليها، وبذا تتّسع‌ رقعة‌ المعارضة‌ للمعارضة‌والتي‌ تنتهي‌ بلاشك‌ اءلي‌ الحالة‌ الباراغماتية‌، وبصورة‌ مكشوفة‌ بعد ان‌عاشت‌ تحت‌ غطاء القدسيّة‌ واءضفاء الشرعية‌ .

فالمعارضة‌ القيميّة‌ لن‌ يحصل‌ في‌ داخلها معارضة‌ او حالة‌ من‌حالات‌ النكوص‌ والتراجع‌ مادام‌ القائد صادقاً ومخلصاً، ولم‌ يكن‌ بين‌اصحاب‌ الحسين‌(ع) مَن‌ خرج‌ علي‌ الحسين‌(ع) او تخلّف‌ عن‌ الطف‌. بل‌حصل‌ العكس‌: حينما انتقل‌ الحرّ بن‌ يزيد الرياحي‌ مع‌ ثلاثين‌ من‌ جنوده‌من‌ الحالة‌ الباراغماتية‌ اءلي‌ الحالة‌ القيميّة‌، وقاتل‌ بين‌ يدي‌ الحسين‌(ع)حتي‌ قُتل‌.

القيميّة‌ في‌ صنع‌ المواقف‌:

القِيَم‌ السامية‌ والاخلاق‌ الجديدة‌ التي‌ قدّمها الثائرون‌ الصادقون‌ مع‌الحسين‌(ع) دفعت‌ بالاُمّة‌ اءلي‌ الحياة‌ الحقيقية‌ والعقلائية‌ الاءنسانية‌، التي‌ينشدها الاءسلام‌، كما انها ادّت‌ اءلي‌ تحطيم‌ الاءطار الديني‌ المزيّف‌ الذي‌تبرّقع‌ به‌ الاُمويون‌؛ وهذا من‌ اعظم‌ اءنجازات‌ الثورة‌ الحسينية‌ فيما بعد.

فبعد ان‌ توارد علي‌ الحسين‌(ع) خبر مقتل‌ مسلم‌ بن‌ عقيل‌ وهاني‌ بن‌عروة‌ واخيه‌ بالرضاعة‌ عبدالله بن‌ يقطر، قال‌(ع) لاصحابه‌: «... قد خذلتناشيعتنا، فمن‌ احب‌ّ منكم‌ الانصراف‌ فلينصرف‌ ليس‌ عليه‌ منّا ذمام‌». هنا سجّل‌اصحاب‌ الحسين‌(ع) مواقف‌ رائعة‌ في‌ الذود عن‌ اءمامهم‌ وقضيّتهم‌ العادلة‌،حتّي‌ انّه‌(ع) قال‌: «فاءنّي‌ لا اعلم‌ اصحاباً اوفي‌ ولا خيراً من‌ اصحابي‌...».

فخاطبه‌ زهير بن‌ القين‌: «سمعنا ياابن‌ رسول‌ الله مقالتك‌، ولو كانت‌الدنيا لنا باقية‌، وكنّا فيها مخلّدين‌ لا´ثرنا النهوض‌ معك‌ علي‌ الاءقامة‌فيها».

وقال‌ له‌ برير بن‌ خضير: «ياابن‌ رسول‌ الله، لقد مَن‌ّ الله بك‌ علينا ان‌نقاتل‌ بين‌ يديك‌، تُقطع‌ فيك‌ اعضاؤنا، ثم‌ يكون‌ جدّك‌ شفيعنايوم‌القيامة‌».

وقال‌ نافع‌ بن‌ هلال‌: «سر بنا راشداً معافي‌، مشرّقاً اءن‌ شئت‌ او مغرّباً،فوالله ما اشفقنا من‌ قدر الله، ولا كرهنا لقاء ربّنا، واءنّا علي‌ نياتنا وبصائرنا،نوالي‌ مَن‌ والاك‌ ونعادي‌ مَن‌ عاداك‌».

امّا الصحابي‌ مسلم‌ بن‌ عوسجة‌، فقال‌ له‌: «نحن‌ نخلّي‌ عنك‌، ولما نعذراءلي‌ الله في‌ اداء حقّك‌؟ اما والله لا اُفارقك‌ حتي‌ اطعن‌ في‌ صدورهم‌ برمحي‌واضربهم‌ بسيفي‌ ما ثبت‌ قائمه‌ في‌ يدي‌، ولو لم‌ يكن‌ معي‌ سلاح‌ اُقاتلهم‌به‌ لقذفتهم‌ بالحجارة‌ دونك‌ حتي‌ اموت‌ معك‌».

وكذلك‌ سعد بن‌ عبدالله الحنفي‌ قال‌: «والله لا نخلّيك‌ حتي‌ يعلم‌ الله اناقد حفظنا غيبة‌ رسول‌ الله(ص) وا´له‌ فيك‌، والله لو علمت‌ اني‌ اُقتل‌ ثم‌ احياثم‌ اُحرق‌ حيّاً ثم‌ اُذرّي‌'، يفعل‌ ذلك‌ بي‌ سبعين‌ مرة‌، ما فارقتك‌ حتي‌ القي‌'حمامي‌ دونك‌، فكيف‌ لا افعل‌ ذلك‌ واءنّما هي‌ قتلة‌ واحدة‌»؟

فالحسين‌(ع) كان‌ متيقّناً من‌ مواقف‌ اصحابه‌ رضوان‌ الله تعالي‌ عليهما،ولكنّهم‌ ارادوا باقوالهم‌ تلك‌ ان‌ يواسوا الاءمام‌ وان‌ يُسمعوا اهل‌ بيته‌ من‌النساء والشبّان‌، ولكن‌ الاءمام‌ ورغم‌ رسالته‌ الاستشهادية‌ وطموحه‌بالمزيد من‌ رجالات‌ الاُمّة‌ ان‌ تقف‌ كموقف‌ اصحابه‌، اءلاّ انه‌ بين‌ الحين‌والا´خر ينتهز فرصة‌ اءقناع‌ بعض‌ من‌ اصحابه‌ النجاة‌ بنفسه‌، فمرّة‌ قال‌(ع)لنافع‌ بن‌ هلال‌ في‌ جوف‌ الليل‌: «الا تسلك‌ بين‌ هذين‌ الجبلين‌ في‌ جوف‌ الليل‌وتنجو بنفسك‌؟! فوقع‌ نافع‌ علي‌ قدميه‌ يقبّلها ويقول‌: ثكلتني‌ اُمّي‌، اءن‌ سيفي‌بالف‌، وفرسي‌ بمثله‌، فوالله الذي‌ مَن‌َّ علي‌ّ بك‌ لا فارقتك‌ حتّي‌ يكلاّ عن‌فري‌ وجري‌».

هكذا كان‌ مستوي‌ السلوك‌ الذي‌ ارتقي‌ له‌ الثائرون‌ القيِّميون‌؛ فكان‌في‌ موتهم‌ الحياة‌ الجديدة‌ والانبعاث‌ الخلقي‌ الرفيع‌، فاصبحوا مشاعل‌ورموزاً لمدرسة‌ الحسين‌، ونماذج‌ يحتذي‌ بها في‌ كل‌ّ حركات‌ التحرّرالدينية‌ والاءنسانية‌، ومن‌ المشاهد المثيرة‌ والرائعة‌ في‌ البطولة‌ والشجاعة‌والفداء والاءخلاص‌ المبدئي‌ المنقطع‌ النظير ينقل‌ السيّد المقرّم‌ في‌ كتابه‌مقتل‌ الحسين‌(ع)، صورة‌ رائعة‌ لاحد اصحاب‌ الحسين‌(ع) قبل‌ واقعة‌الطف‌ عندما ارسله‌ الاءمام‌ رسولاً له‌ اءلي‌ الكوفة‌ ـ وهو قيس‌ بن‌ مسهرالصيداوي‌ ـ وبعد ان‌ يقع‌ اسيراً بيد عبيدالله بن‌ زياد، اسرع‌ الصيداوي‌ في‌تمزيق‌ الكتاب‌، فقال‌ له‌ ابن‌ زياد: لماذا مزّقت‌ الكتاب‌؟ يقول‌2: لانّي‌ لااُريد ان‌ تطّلع‌ عليه‌، يقول‌ له‌: وماذا كان‌ فيه‌؟ فيقول‌2: لو كنت‌ اُريد ان‌اخبرك‌ لما مزّقت‌ الكتاب‌، يقول‌ له‌: اءنّي‌ اقتلك‌ اءلاّ اءذا صعدت‌ علي‌ هذاالمنبر وقلت‌ بالصراحة‌ شيئاً في‌ سب‌ّ علي‌ّ بن‌ ابي‌طالب‌ والحسن‌والحسين‌، فالصيداوي‌ الامين‌ يغتنم‌ هذه‌ الفرصة‌ ويصعد علي‌ المنبر في‌هذه‌ اللحظة‌ الحاسمة‌، في‌ ا´خر لحظة‌ من‌ حياته‌، وهنا يعقب‌ السيّد الشهيدمحمد باقر الصدر وهو يصوّر هذه‌ الحالة‌ قائلاً: في‌ هذا الاءطار العظيم‌ من‌البطولة‌ والشجاعة‌ والتضحية‌ امام‌ عبيدالله بن‌ زياد وامام‌ شرطته‌ وجيشه‌يوجّه‌ خطابه‌ اءلي‌ اهل‌ الكوفة‌ ويقول‌: انا رسول‌ الحسين‌ اءليكم‌، اءن‌ّ الحسين‌علي‌ الابواب‌، فيؤدّي‌ هذه‌ الرسالة‌ بكل‌ بطولة‌ وبكل‌ّ شجاعة‌، فيامرعبيدالله بن‌ زياد به‌ فيقتل‌، ويستطرد السيّد الصدر (متسائلاً): ماذا يكون‌الصدي‌ لمثل‌ هذه‌ الدفعة‌ المثيرة‌ القويّة‌؛ حينما قتل‌ الصيداوي‌2 اتي‌شخص‌ من‌ اهل‌ الكوفة‌ فقطع‌ راسه‌، فقيل‌ لماذا قطعت‌ راسه‌؟ يقول‌: لكي‌اُريحه‌ بذلك‌ هذه‌ الاُمة‌ ـ والقول‌ للسيّد الصدر ـ لا تفكّر اءلاّ علي‌ هذاالمستوفي‌ من‌ الشفقة‌ في‌حياتها، الشفقة‌ التي‌ تشعر بها علي‌ هذا المستوي‌،اما الشفقة‌ علي‌ الوجود الكلّي‌، الشفقة‌ علي‌ الكيان‌، الشفقة‌ علي‌ العقيدة‌ قداُنتزعت‌ من‌ قلوبها؛ لانها تكلّف‌ ثمناً غالياً، الشفقة‌ التي‌ لا تكلّف‌ ثمناً هي‌ان‌ تقطع‌ رقبة‌ هذا الشخص‌ وان‌ يريحه‌ من‌ هذه‌ الحياة‌ في‌ ظل‌ عبيدالله بن‌زياد.

حتمية‌ القتل‌ في‌ المنهج‌ الباراغماتي‌:

لم‌ يكن‌ للباراغماتية‌ مانع‌ يحدُّ من‌ تطلّعاتها ورغباتها، ولم‌ يكن‌ لهااي‌ اعتبار قيّمي‌ للواسطة‌ التي‌ تنفّذ بها غايتها او توصلها الي‌ مرامها. فهي‌تتماشي‌ وتتوافق‌ الي‌ حدٍّ ما مع‌ المنهج‌ الميكافيلي‌، الذي‌ ينطلق‌ بشعارالغاية‌ تبرر الوسيلة‌. وهكذا وبعد فصول‌ دامية‌ من‌ الصراع‌ القيمي‌الباراغماتي‌ من‌ قبل‌ بدء الرسالة‌ الي‌ لحظات‌ يوم‌ الطف‌ ينتهي‌الباراغماتيون‌ الي‌ حقيقة‌ مفزعة‌ حينما يتعسكرون‌ بالا´لاف‌ مع‌ كامل‌عدّتهم‌ وعددهم‌ وهم‌ يواجهون‌ بضعة‌ رجال‌ ا´منوا بربّهم‌ وبقضية‌ اءمامهم‌،وبهذا الفارق‌ النسبي‌، اعطت‌ الباراغماتية‌ انطباعاً ا´خر من‌ قيّمها اللاقيميّة‌في‌ المواجهة‌.

في‌ كل‌ّ حركة‌ من‌ حركات‌ الباراغماتيين‌ في‌ ساحة‌ الطف‌ لها حسابات‌خاصة‌ في‌ تفسير منهجهم‌؛ فقتل‌ الاطفال‌ الرّضع‌ وسبي‌ النساء وحرق‌الخيام‌ ومنع‌ الحسين‌(ع) واصحابه‌ من‌ الماء، والتمثيل‌ بجثث‌ القتلي‌ وحتي‌خطاباتهم‌ واراجيز المعركة‌ كل‌ّ ذلك‌ لم‌ تكن‌ قيم‌ جاهلية‌ تعارف‌ عليهاالعرب‌ ا´نذاك‌، فهي‌ افعال‌ منسلخة‌ عن‌ وحي‌ البشر، فالعاطفة‌، الضمير،التحسس‌، الوجدان‌، الشعور، مفردات‌ غائبة‌ ومنعدمة‌ في‌ الحركة‌الباراغماتية‌ وبالاخص‌ ساعة‌ الانتقام‌ لساعة‌ الطف‌، ساعة‌ قتل‌ الحسين‌قتل‌ البقية‌ من‌ ا´ل‌ الرسول‌، والتشفي‌ بقتلهم‌.

ويذكر ان‌ رؤوس‌ الشهداء وضعت‌ بين‌ يدي‌ يزيد وفيها راس‌الحسين‌(ع) فجعل‌ يتمثّل‌ بقول‌ الحسين‌ بن‌ الحمام‌ المري‌:

صبرنا وكان‌ الصبر منا سجية‌باسيافنا تفرين‌ هاماً ومعصما

ابي‌ قومنا ان‌ ينصفونا فانصفت‌قواضب‌ في‌ ايماننا تقطر الدما

نفلّق‌ هاماً من‌ رجال‌ اعزّة‌علينا وهم‌ كانوا اعق‌ واظلما

ثم‌ تمثّل‌ يزيد بابيات‌ ابن‌ الزبعري‌، وازاد فيها البيتين‌ الاخيرين‌ كمارواه‌ سبط‌ بن‌ الجوزي‌ عن‌ الشعبي‌:

ليت‌ اشياخي‌ ببدرٍ شهدواجزع‌ الخزرج‌ من‌ وقع‌ الاسل‌

فاهلوا واستهلوا فرحاًثم‌ قالوا يايزيد لا تشل‌

قد قتلنا القرم‌ من‌ ساداتهم‌وعدلناه‌ ببدرٍ فاعتدل‌

لعبت‌ هاشم‌ بالملك‌ فلاخبر جاء ولا وحي‌ نزل‌

لست‌ من‌ خندف‌ اءن‌ لم‌ انتقم‌من‌ بني‌ احمد ما كان‌ فعل‌وهكذا سجل‌ الباراغماتيون‌ في‌ قتلهم‌ الحسين‌(ع) واصحابه‌(ع) ادني‌مرحلة‌ من‌ مراحل‌ سقوط‌ القيم‌ والتسافل‌ والانحدار، سجلت‌ القيميّة‌ اعلي‌درجة‌ من‌ درجات‌ المظلومية‌ والانتصار؛ وبات‌ الطف‌ صدي‌ً واضحاً يردّدتناقض‌ وتخالف‌ وتصارع‌ المنهجين‌.

والحمدلله رب‌ّ العالمين‌

المجمع‌ العالمي‌ لاهل‌ البيت‌: قم‌ المقدسة‌

/ 1