النصـال الخـارقـة لنحور المارقـة
السيّد حسن الحسيني آل المجدّد الشيرازي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله محيي الحقّ وناصره، ومميت الباطل وقاهره، وصلّى الله وسلَّم على سيّـد أنبيائه ورسله، محمّـدٍ الهادي إلى أقوم محاجّه وسُبُله، وعلى آله المطهَّرين من الاَدناس، المنزَّهين عن الاَقذار والاَرجاس، ولعنة الله على أعدائهم الغاشمين الغُواة، الضالّين المضلّين الفجرة العُتاة.
أمّـا بعـد:
فإنّ طُغاماً من القوم المخالفين، ولئاماً من حُثالات المعاصرين والسالفين، قد تجرّأوا على تصويب فعل يزيد، في قتله أبا عبد الله الحسين السبط الشهيد عليه السلام ، فلا يرون جواز نسبة ذلك الفاجر إلى فسقٍ أو كبيرةٍ، بل ينزِّهونه عن كلّ جرمٍ وجريرةٍ، وهم مع ذلك يتولّونه ويحظرون التكلّم في عظائمـه، ويوجبون الاِمساك عن لعنـه والخوضِ في تفاصيل جرائمـه، مع ما تواتر عنه من هتك حُرُمات الشريعة المطهَّرة، حتّى كاد يلحق بالضروريّات.
ويعتلّون لذلك بنحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تسبّوا الاَموات، فإنّهم قد أفضوا إلى ما قدّموا»[1].
ويقولون ـ مُضلِّلين ـ: ما يجديكم التكلّم في لعن يزيد وطَرْق هذا الباب، وقد أفضى إلى ما قدّم وهلك منذ قرون وأحقاب؟!
فيقال لهؤلاء المخذولين: إنّ الحديث محلّـه في غير كافرٍ ومتظاهـرٍ بفسقٍ أو بدعةٍ، فلا يحرم سبّ هؤلاء ولا ذكرهم بشرٍّ؛ بقصد التحذير من طريقتهم والاقتداء بآثارهم ـ كما قال المُناوي الشافعي[2].
وجرو معاوية لم ينفكّ عن واحدة من هذه الخصال.. (فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال)[3].. ولله درّ من قال:
ألعن اللعن إنْ لعنت يزيدا
انما اللعنُ عينُ ذاك اللعين
انما اللعنُ عينُ ذاك اللعين
انما اللعنُ عينُ ذاك اللعين
وهذه رسالة ضمّنتها الاَدلّة القاطعة، والبراهين النيّرة الساطعة، الدالّة على جواز لعن يزيد بن معاوية، أسكنهما الله في قعر الهاوية، والردّ على من منع ذلك من جهلة المفتين، لينقطع منهم الدابر والوتين، إنّه سبحانه خير ناصرٍ ومعينٍ.
وينبغي قبل الخوض في المقصود بيان أُمورٍ:
* الاَوّل:
قال الجوهريّ في الصحاح[4]: اللعن: الطرد والاِبعاد من الخير.
وقال الزمخشري في أساس البلاغة[5]: لعنه أهله: طردوه وأبعدوه، وهو لعينٌ طريدٌ، وقد لعن الله إبليس: طرده من الجنّة وأبعده من جوار الملائكة، ولعنت الكلب والذئب: طردتهما.
وقال الراغب[6]: اللعن: الطرد والاِبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الاِنسان دعاء على غيره.
وقال ابن سيدة في المحكم[7]: لعنه الله يلعنه لعناً، عذّبه.
وقال المحقّق الكركي رحمه الله في نفحات اللاهوت(5): إذا قيل: لعنه الله على طريق الدعاء كان معناه طرده الله وأبعده من رحمته.
قال: والمراد من الطرد والاِبعاد هنا نزول العقوبة والعذاب به، وحرمان الرحمة، وهو لازم المعنى، وليس معنى الغضب ببعيدٍ عنه، إذ المتعقَّل من غضب الله سبحانه فعل أثر الغضب، لا حصول الغضب الحقيقيّ الذي هو من توابع الاَجسام، فإنّ ذلك محال عليه تعالى. انتهى.
* الثاني:
لا ريب في مشروعيّة اللعن في الجملة، وإن اختلف العامّة في جواز لعن المعيَّن، وسيأتي بيان الحقّ فيه إن شاء الله تعالى.
وقد دلّ الكتاب والسُنّة على ذلك، قال الله تعالى: (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)[8].
وقال سبحانه: (قل هل أُنبّئُكم بشرٍّ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه)[9].. الآية.
وقال تبارك اسمه: (أولئك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم)[10]
وقال عزّ سلطانه: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفّار نار جهنّم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم)[11].
وقـال عـزّ مـن قائـل: (فـأذّن مـؤذّن بينهـم أن لعنـة الله علـى الظالمين)[12].
وقال جلّ وعلا: (وإنّ عليك اللعنة إلى يوم الدين)[13].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها»، رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر[14].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم»، رواه أحمد والترمذي والحاكـم عـن أبـي هريـرة[15]، والطبرانـي في المعجـم الكبيـر عن أُمّ سلمة رضي الله عنها[16].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «لعن الله الربا وآكلـه وموكلـه وكاتبـه وشاهـده وهم يعلمون، والواصلـة والمستوصلـة والواشمـة والمستوشمـة والنامصـة والمتنمّصة»، رواه الطبراني في المعجم الكبير عن ابن مسعود[17].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «لعن الله المحلّل والمحلّل له»، رواه أحمد وأبو داود والترمـذي وابن ماجـة عن علـيٍّ عليه السلام[18]، والترمذي والنسائـي عنـه وعن ابن مسعود[19]، ورواه الترمذيّ أيضاً عن جابر[20].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «لُعِن عبدُ الدينار، لُعِن عبدُ الدرهم»، رواه الترمذيّ عن أبي هريرة[21].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : «ستّة لعنتهم، لعنهم الله وكلّ نبيٍّ مجابٍ: الزائد في كتاب الله، والمكذّب بقدر الله تعالى، والمتسلّط بالجبروت فيعزّ بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعـزّ الله، والمستحـلّ لحـرم الله، والمستحلّ من عترتـي ما حرّم الله، والتارك لسُنّتي»، رواه الحاكم عن عائشة[22].
وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرةً.
وبالجملة: فلا يرتاب ذو تحصيلٍ في أنّ اللعن طاعةٌ يستحقّ عليها الثواب إذا وقع على وجهه، وهو أن يلعن مستحقّ اللعنة تقرّباً إلى الله تعالى لا للعصبيّة والهوى، وقد يكون واجباً كما إذا قصد به البراءة من أعداء الله واقتصر عليه، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا، وإنّك لخبيرٌ بأنّ تلك الاَُمور التي استحقّ فاعلها اللعن ليست بأعظم من قتل الحسين عليه السلام وأصحابـه، والرضا بـه، واستباحة المدينـة، وهدم الكعبة وضربها بالمجانيق، إن لم تكن دونه، فإذا جاز اللعن هناك فليجز هنا أيضاً.
بل الحقّ أنّ جوازه هنا بطريق أَوْلى، إذ لا رزيّة ولا مصيبة في الاِسلام أعظم ممّا وقع يوم عاشوراء بكربلاء، كما لا يخفى على من أنار الله بصيرته، وطهَّر من الخبث سريرته.
فإنْ قال قائل: قد ورد النهي عن كون المؤمن لعّاناً في قوله صلى الله عليه وآله وسلم :
«لا تكونوا لعّانين» وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : «لا ينبغي لصدّيقٍ أنْ يكون لعّاناً»[23].
قلنا: هذا وارد في النهي عن اتّخاذ اللعن خُلُقاً بسبب المبالغة فيه والاِفراط في ارتكابـه بحيث ينجرّ إلى أن يلعـن اللعّان من لا يستحـقّ اللعن ـ كمـا حكـى ذلك ابن الجـوزيّ عن خـطّ القاضـي أبي الحسين محمّـد بن أبي يعلى بن الفرّاء[24].
وليس فيه النهي عن لعن المستحقّين، وإلاّ لقال صلى الله عليه وآله وسلم : لا تكونوا لاعنين، ولا ينبغي لصدّيقٍ أن يكون لاعنـاً، فإنّ بينهما[25] فرقاً يعلمه من أحاط بدقائق تصاريف لسان العرب.
وأمّا نهي عليٍّ عليه السلام أصحابه عن لعن أهل الشام، فإنّه عليه السلام كان يرجو إسلامهم ورجوعهم إليه، كما هو شأن الرئيس المشفق على الرعيّة، ولذلك قال عليه السلام : «قولوا: اللّهمّ أصلح ذات بيننا وبينهم».
وهذا قريب من قول الله تعالى في قصّة فرعون: (فقولا له قولاً ليّناً)[26] ، كذا قال أصحابنا رحمهم الله تعالى[27].
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي في (شرح النهج)[28]: الذي كرهه عليه السلام منهم أنّهم كانوا يشتمون أهل الشام، ولم يكن يكره منهم لعنهم
إيّاهم والبذاءة منهم. انتهى.