السُـنّة بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
السـيّد علي الشهرستاني
4 ـ مكانة الشـيخوخة :
إنّ العرب قد اعتادوا إعطاء الاِمارة والزعامة لمن هو أسنّ القوم ، ومن له المكانة والمنعة في القبيلة ؛ لكونه أحنك القوم والمجرّب فيهم ، وعلى ضوء هذه النظرية تعاملوا مع مسألة الخلافة بعد الرسول تعاملَ سلطةٍ وحكمٍ ، حتّى إنّه لمّا نزل قوله تعالى : ( وأنذر عشيرتك الاَقربين )[1] دعـا النبيُّ بني عبـد المطّلب ، وكانوا يومئذٍ أربعين رجلاً ، إلى الاِسلام ، ثمّ قال : من يؤاخيني ويؤازرني يكون وليّي ووصيّي وخليفتي من بعدي ؟ فقام إليه عليٌّ بعد سكوت القوم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : أنت إذن.
حينذاك قام القوم وهم يهزؤون ويضحكون ويقولون لاَبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام[2].
وظلّت مخلّفات هذا المفهوم حتّى جاء عن أبي بكر قوله يوم السقيفة : نحن الاَُمراء وأنتم الوزراء[3].
و : هذا الاَمر بيّننا وبينكم نصفان كشقّ الاَُبْلُمَة ـ يعني الخوصة[4]ـ.
واستدلّوا على أحقّيّتهم بالخلافة من الاَنصار بكونهم من قريش ، وقريش أصل العرب !
في حين أنّا نعلم أنّ الاِسلام كان قد أعطى الاَُمور وفق الكفاءات الدينية لا الاَعمار والموروثات القبلية ، وجعل معيار التفاضل : «العلم ، الجهاد ، التقوى ، و...» لا السنّ والقِدم والمكانة الاجتماعية ، لقوله تعالى : ( هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون )[5] و ( فضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً )[6] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : لا فضل لعربي على أعجمي إلاّ بالتقوى[7]و...
ومن هذا المنطلق رأينا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد ولّى بعض الشباب على سـراياه وغـزواتـه مع وجـود شـيوخ في تلك السـرايا ، كتوليتـه عليّ بن أبي طالب وهو حَدَثٌ في أغلبية غزواته وسراياه.
وكتولية أُسامة بن زيد وهو شابّ لم يتجاوز الثامنة عشر على سريّة لفتح الشام قبيل وفاته ، مؤكّداً للمسلمين حرمة التخلّف عن جيشه..
لاَنّ النـاس كانـوا قـد طـعنوا فيه ـ أي في صغر سنه ـ فأغضب ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، أيّها الناس ! فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي أُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ! وأيم الله إنْ كان للاِمارة لخليقاً ، وإنّ ابنه من بعده لخليق للاِمارة ، وإنْ كان لمن أحبّ الناس إليّ.
وأخذ صلى الله عليه وآله وسلم يؤكّد على ذلك حتّى آخر لحظة من حياته بقوله : أيّها الناس أنفذوا بعث أُسامة ؛ ثلاث مرّات[8].
كـلّ ذلك للحـدّ من تلك العقلية الجاهلية المسـتحكمة عندهم والتي لا ترضى إمرة شابّ على شيخ كبير ! !
فالاِسلام رغم احترامه للشيخ لم يأت ليحصر مسؤولية القيادة به ، بل جاء ليبحث عن المؤهّلات والكفاءات الموجودة عند الاَفراد ، فإنْ وجدت عند الشيخ أعطاها إيّاه ، وإنْ وجدت عند الشابّ منحها له ، فالكفاءة الدينية والتنفذية إذاً هي الضابط الاِسلامي لا الشيبة والسنّ ، فلا ضرورة لاِعطاء الشيخ المكانة دون الشابّ ! !
فمن الواضح أنّ هذه التوليات من قبل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وخصوصاً إصراره صلى الله عليه وآله وسلم على تولية أُسامة بن زيد في آخر حياته ـ جاءت لتحطيم أنفـة وشـموخ القرشـيّين الّـذين لا يرتـضـون إمـرة شـابّ ، والّـذين كانـوا لا يحترمونه ولا يعيرون لقدراته الاَهمّيّة اللازمة ـ للوقوف أمام تلك العقلية التي عرفوها وآمنوا بها.
ومن هذا المنطق الجاهلي جاء كلام أبي عبيـدة بن الجرّاح لعليٍّ يوم السقيفة : يا بن العمّ ! إنّك حديث السنّ ، وهؤلاء مشيخة قريش قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالاَُمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الاَمر منك وأشدّ احتمالاً واضطلاعاً ، فَسَلِّمْ لاَبي بكر هذا الاَمر ، وارْضِ به ؛ فإنّك إنْ تعش ويطل عمرك فأنت لهذا الاَمر خليق وحقيق ، في فضلك ودينك ، وعلمك وفهمك ، وسابقتك ، ونسبك وصهرك[9].
فأبو عبيـدة ، ضَرَعَ لاحتجاجات عليٍّ عليه السلام الدينية ، من الفضل والدين والعلم والفهم والسبق إلى الاِسلام ، لكنّه عاد لينقضها بمفهوم جاهلي ، خلاصته أنّ عليّـاً حدثٌ وليس شيخاً ! ! !