حدیث المرسل بین الرد و القبول نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حدیث المرسل بین الرد و القبول - نسخه متنی

السید ثامر هاشم حبیب العمیدی الحسینی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید










الـحـديث الـمـُرْسَـل بـيـن الـردّ والـقـَبـول

السيّـد ثامر هاشم العميدي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبيّنا محمّـد أشرف الاَنبياء وأكرم المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين.



وبعـد:


للحديث الشريف مكانة سامية بين مصادر التشريع عند عموم المسلمين، إذ لولاه لَما قام للشريعة عمود، ولا اخضرّ لها عود، وقد سخّر الله عزّ وجلّ له من يقيه ويحميه من الحملة الاَُمناء، فسمعوه ووعوه وعقلوه وبلّغوه أحسن التبليغ.


ولم يزل الحديث الشريف إلى اليوم غضّاً طريّاً يحتاج إلى المزيد من عناء العلماء وجهود المخلصين من ذوي الاختصاص للكشف عن خباياه والتعريف بمقاصده وأسبابه، وتسليط الاَضواء على دوره العظيم في حياة الفرد والمجتمع، مع مضاعفة الجهود لاَجل تنقيته ممّا لحق به، ونقد

مصطلحه، وذلك لا يتمّ إلاّ بإحياء طريقة علمائنا الماضين في حفاظهم على الحديث وتفانيهم من أجله عن طريق المذاكرة المستمرّة فيه، وإدخاله إلى حلقات الدرس اليومي بشكل منتظم، لاَجل حفظه وفهمه وتطبيقه في مجالات الحياة المختلفة.


فحاجتنا إليه إذن حاجة قصوى تنبع من مكانته وشرفه وخطورته باعتباره أرسى مع صنوه ـ القرآن الكريم ـ القواعد الاَساسية السليمة التي ينشدها كلّ مجتمع، ويرومها كلّ فرد يبتغي السعادة في دنياه وآخرته.


ومن هنا تنبثق أهمّية تكريس الجهود العلمية في دراسة علومه ومصطلحه دراسة مقارنة يكتشف من خلالها مدى توافق الآراء واختلافها فيما تمسّ الحاجة إليه، مع ما فيه من آثار محمودة في إحياء ما دثر أو كاد من تراثنا الاِسلامي الخالد.


وقد وفّقني الله عزّ وجلّ بفضله ومنّه إلى بحث الحديث المرسَل، بإطاره الاِسلامي العامّ، ثمّ تفصيل الكلام عن مراسيل شيخنا الصدوق رضي الله عنه في كتاب من لا يحضره الفقيه مبيّناً الصلة الوثقى بينهما في مظانّ البحث، ومنه تعالى استمدّ العون والرشاد، إنّه وليّ التوفيق.



المرسَل لغة واصطلاحاً:


أصل المرسَل في اللغة: الاِطلاق وعدم المنع، مأخوذ من قولهم: كان لي طائر فأرسلته، أي: خلّيته وأطلقته، وأرسلت الكلام إرسالاً: أطلقته من غير تقييد[1]. ومنه قوله تعالى: (إنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين)[2]، أي: مطلقاً.


ولعلّه ـ كما قيل ـ مأخوذ من إرسال الدابّة، بمعنى رفع القيد والربط عنها، فكأنّ المرسِل ـ بإسقاطه الراوي ـ رفع الربط الحاصل بين رجال السند[3].


وقد يكون مأخوذاً من قولهم: جاء القوم إرسالاً، أي متفرّقين؛ لاَنّ بعض الاِسناد منقطع عن بقيّته[4].


وقد يفيد الاِرسال لغة معنى الاِسراع، كقولهم: ناقة مِرسال ـ والجمع مراسيل ـ أي: سريعة السير[5]، فكأنّ المرسِل أسرع في إيراد متن الحديث ولم يكترث بإسناده.


ومع هذا يبقى (الاِطلاق) هو الاََوْلى والاَنسب، مع قربه من معنى الاِرسال على مصطلح الفريقين ـ كما سيأتي ـ وفيه دلالة على انحدار مصطلح (المرسَل) عن أصله اللغوي.


فالاِمامية ـ مثلاً ـ إنّما يسمّون المرسَل مرسَلاً؛ لاِطلاقه من قيد الاِسناد.


كُـلاًّ: كمـا لـو لم يذكـر راوي الـحديث واسـطة أصـلاً بينه وبين المعصوم عليه السلام .


أو بعضاً: كعدم ذكر بعض الوسائط، أو التعبير عن أحد الرواة بلفظ مبهم، مثل: عن رجل، عن شيخ، ونحو ذلك.


وهذا هو المنسجم مع تعريفه في مصطلحهم بأنّه: «ما رواه عن المعصوم عليه السلام من لم يدركه، بغير واسطة، أو بواسطة نسيها، أو تركها عمداً أو سهواً، أو أبهمها، كعن رجل، أو بعض أصحابنا[6]، واحدٌ كان المتروك أو أكثر[7]. وهذا هو المعنى العامّ للمرسَل.


وسمّـي المرسَل مرسَـلاً عند العامّة؛ لاَنّ راويه أرسله مطلقاً من غير أن يقيّده بالصحابي الذي تحمّله من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما يظهر من تعريفه المشهور عندهم بأنّه: «ما سقط عنه الصحابي، كقول نافع: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كذا، أو فُعل بحضرته كذا، ونحو ذلك»[8]. وهذا هو المعنى الخاصّ للمرسَل عند جمهور العامّة، وقد اختار بعضهم معناه العامّ.


ويظهر واضحاً أنّ المرسَل بمعناه العامّ يشمل أصناف الحديث
الاَُخرى كالمرفوع والموقوف والمعلّق ـ مع الجهل بالمحذوف ـ والمقطوع والمنقطع والمعضّل. وأمّا المرسَل بمعناه الخاصّ فلا يشمل إلاّ مرفوع التابعي، وهو غير صحيح لِما سيأتي.



ما يرد على تقييد المرسَل بمرفوع التابعي:


هناك جملة من الاِيرادات على تقييد المرسَل بمرفوع التابعي سواء كان التابعي كبيراً أو صغيراً على خلاف بينهم، نوجزها بما يأتي:


منها: إنّ من رأى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو صبي غير مميّز، معدود من الصحابة عند العامّة، ولكن لروايته حكم المرسَل لا الموصول، كروايات محمّـد بن أبي بكر رضي الله عنه ، وهذا من التهافت البيّن عندهم.


ومنها: إنّ تخصيص المرسَل بمرفوع التابعي إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، لو سلم ابتداءً فلا يسلم انتهاءً؛ لثبوت عصمة أهل البيت (عليهم السلام) من القرآن الكريم والسُنّة المتواترة ودليل العقل، فلم لا يكون ـ مثلاً ـ مرفوع أتباع التابعين إلى سيّد أهل البيت وكبيرهم أمير المؤمنين عليه السلام كذلك؟! وهل هذا إلاّ تفريقاً بلا دليل، وتنكّباً عن السبيل.


ومنها: إنّ مراتب المرسَل ودرجاته عند العامّة قاضية ببطلان تعريفه المشهور عندهم إذ لا يتّفق تخصيصه المذكور مع تلك المراتب بأي وجه من الوجوه؛ فقد ذكروا أنّ أعلى مراتب المرسَل هو مرسَل الصحابي الذي ثبت سماعه، ثمّ يليه في الرتبة عندهم ما أرسله صحابي له رواية فقط ولم يثبت سماعه، ولو كان المرسَل مختصّاً بمرفوع التابعي لكانت مراتبه لغواً.


ومنها: إنّ من سمع من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ولم يدخل الاِسلام بعد، ثمّ أسلم بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذا من التابعين عند العامّة بلا خلاف،

وحديثه يعدّ موصولاً بلا خلاف بينهم، كحديث التنوخي رسول هرقل، الذي أخرج حديثه أحمد وأبو يعلى في مسنديهما وساقاه مساق الاَحاديث المسندة[9].


ومن هنا وجد فقهاء وأُصوليوا العامّة مجالاً للطعن بالتعريف المشهور للمرسَل عند عامّة محدّثيهم تقريباً، واختاروا معناه العام، ولكن من جهة المرسِل لا المرسَل عنه! وهذا يعني سريان الاِيراد الثاني على تعريفهم للمرسل أيضاً.


فقد عرّفه ابن حزم بقوله: «المرسَل من الحديث، هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ناقل واحد فصاعداً، وهو المنقطع أيضاً»[10].


وقال الشوكاني: «وأمّا جمهور أهل الاَُصول فقالوا: المرسَل قول من لم يلقَ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء كان من التابعين، أو من تابعي التابعين، أو ممّن بعدهم»[11].


وقال عبـد العزيز البخاري الحنفي: «سمّي [المرسَل] مرسَلاً لعدم تقييده بذكر الواسطة التي بين الراوي والمروي عنه»[12].


وغير خفيّ بأنّ التعريفات السابقة للمرسَل لا تشمل المرسَل الخفي، وهو نوع من أنواع الحديث، لا يكشفه إلاّ الحاذق في هذا الفن لصعوبته وخفائه كما هو واضح من اسمه؛ ويراد به: أن يروي الراوي حديثاً عن آخر لم يلتقِ به إطلاقاً ولكنّه عاصره، أو أنّه التقى به ولكنّه لم يسمع منه شيئاً
من الاَحاديث، أو أنّه سمع شيئاً منه ولكنّه لم يسمع منه ذلك الحديث بعينه الذي رواه عنه.


ويعرف هذا النوع إمّا بتصريح أقطاب هذا الفن، وإمّا باعتراف من الراوي نفسه، أو بإنكار المروي عنه وتصريحه بأنّ الراوي لم يسمع منه ذلك، وتجري على هذا بعض أسباب الاِرسال الآتية من سهو أو نسيان، وأمّا العمد فمسقط لعدالته، وهذا النوع من الاِرسال أطلق عليه بعضهم «المزيد في متّصل الاَسانيد» وعدّه آخرون نوعاً مستقلاًّ وهو الصواب[13].



أسباب الاِرسال:


بعد التعرّف على معنى المرسَل وما يرد على تعريفه الخاصّ، يحسن التعرّف على أسباب الاِرسال، وهي:


1 ـ استخـدام التقيـة في التحـديث، وهـي ظاهـرة عامّـة لا تخصّ فريقـاً مـن المسلمين، وممّـا يدلّـل على وجودها ما قاله يونس بن عبيد، قـال: «سألت الحسـن البصـري فقلت: يـا أبا سعيـد! إنّك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ! وإنّك لم تدركه؟ فقال: يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء مـا سألنـي عنـه أحد قبلك، ولولا منزلتك منّـي مـا أخبرتك، إنّي في زمان كما ترى ـ وكان في زمان الحجّاج ـ كلّ شيء سمعتني أقوله: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهـو عـن عليّ بن أبـي طالب عليه السلام ، غيـر أنّـي فـي زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً عليه السلام »[14].


ونظيره مـا وقـع في الكافـي لثقـة الاِسلام الكليني بسند معتبر «عن أبـي حمـزة الثمالـي، عـن أبـي إسحـاق السبيعـي، عن بعض أصحـاب أمير المؤمنين عليه السلام ممّن يوثق به، أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تكلم بهذا الكلام وحفظ عنه... إلى آخره»[15].


وهـذا الرجـل الثقـة لا يعدو كميـل بـن زيـاد النخعـي رضي الله عنه ، ولكنّ أبا إسحاق اتّقى عليه من سيف الحجّاج خصوصاً وإنّ كميل كان من السابقين المقرّبين إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد عدّه الاَصبغ من ثقاته عليه السلام ، ولا يبعد أن يكون السبيعي حدّث بهذا الحديث قبل استشهاد كميل على يد الطاغية الحجّاج، ويمكن أيضاً أن يكون بعد استشهاده للاتّقاء على نفسه من معرّة الظالمين وطغام الاَُمويّين، ويؤيّد هذا أنّ حديث الكافي لم يرد موصولاً في أي كتاب آخر، ولم يروه عن أمير المؤمنين عليه السلام إلاّ كميل بن زياد كما في نهج البلاغة[16].


ومثل كميل رضي الله عنه لا يمكن للسبيعي أن ينساه لولا استخدام التقية في التحديث الذي نتج عنه هذا الاِرسال الظاهر.


2 ـ السهو والنسيان، ومن أسباب الاِرسال سهو المرسِل أو نسيانه الواسطة الذي سمع منه الحديث ممّا يضطرّ إلى التعبير عنه بلفظ مبهم، كأن يقول حدّثني شيخ، أو سمعت رجلاً من أصحابنا يقول كذا، ونحو ذلك.


3 ـ اختصار المحدّث للاَسانيد أو حذفها لئلاّ يثقل حمل الكتاب كما نجده في بعض الكتب وغيرها[17].


4 ـ اختصار المحدّث للاَسانيد أيضاً أو حذفها مع التعويل على مشيخة يذكر فيها الاَسانيد المختصرة والمحذوفة، ولكنّه عند ذكر المشيخة يهمل بعض ما رواه مرسَلاً ولا يذكر سنده إليه اعتماداً على فهارس المشايخ التي طرقه إليها معروفة كما حصل هذا بالضبط للشيخ الصدوق رضي الله عنه في كتابه من لا يحضره الفقيه وهو ما سنتناوله في هذا البحث.


5 ـ التحديث بالاعتماد على الحافظة دون الرجوع إلى كتب الحديث ودواوينه وصحفه، ولا شكّ أنّ قوّة الحافظة مهما بلغت لا تبلغ درجة النظر إلى الكتاب؛ ولهذا ورد عن الاِمام الصادق عليه السلام قوله: «القلب يتّكل على الكتابة»[18]، وهي كناية لطيفة عن ضعف الحافظة ولو مستقبلاً ولا بُدّ من رفدها بالنظر إلى الكتاب، خصوصاً في مجال الاَسانيد، التي ليس من شأنها أن تحفظ غالباً، وهذا هو ما حصل فعلاً لابن أبي عمير من أصحابنا رضي الله عنهم، فقد اعتمد في التحديث على حفظه بعد أن تلفت كتبه وهو في حبس فرعون هذه الاَُمّة وقارونها.


6 ـ العنعنة في الاَسانيد مع ثبوت عدم اللقاء، وهو ضرب من التدليس، وقد اتُّهم به جماعة من كبار رواة العامّة كالحسن البصري والزهري، وسفيان الثوري وغيرهم. ويعرف ذلك بالرجوع إلى تاريخ الرواة للوقوف على مواليدهم ووفياتهم لتحديد طبقاتهم[19]، وأمّا مع ثبوت اللقاء فلا إشكال في عدّ المعنعن من الموصول إلاّ عند شذّاذ لا يكادون يفقهون حديثاً.


7 ـ تعليق الاِسناد، وصورته أن يذكر المحدّث حديثاً مسنداً ثمّ يعلّق
سند الحديث الآخر على ما أسنده أوّلاً وذلك بالاكتفاء ببعض أسناد الثاني لتماثل السندين، وقد يحصل من جرّاء تكرار التعليق الاشتباه من المحدّث أو الناسخ، إذ قد تجد الاِسناد في صورة التعليق ولكن لا وجود للسند المعلّق عليه، وأمّا في صورة نقل الحديث المعلّق دون الالتفات إلى ما علّق عليه في الكتاب المنقول منه فهو أوضح في الدلالة على المقصود.


8 ـ التصحيف والسقط في الاَسانيد، أمّا التصحيف فصورته أن يقول المحدّث مثلاً: حدّثني فلان، عن فلان، عن فلان، فيصحّف الناسخ قوله سهواً إلى: حدّثني فلان وفلان، عن فلان، فيقلب «عن» إلى واو العطف ممّا يؤدّي إلى نقصان في طبقات الاِسناد، وأمّا السقط فواضح وهو ليس بعزيز في كتب الحديث.


9 ـ قـد يكون الاِرسال فـي الحديث ناتجـاً عن قصد المرسِل في إيصال حكم الحديث إلى المتعلّم بيسر وسهولة كما يفعل الفقهاء في تدريسهم، فإذا ما أراد التأليف إحتاج إلى بيان الاِسناد.


10 ـ وقد يكون سبب الاِرسال الوصول إلى علل المسندات لاَنّ من الرواة مَن يسند حديثاً يرسله غيره ويكون الذي أرسله أحفظ وأضبط فيجعل الحكم له دون المسند على رأي سيأتي.


11 ـ ومن أسباب الاِرسال المهمّة المذاكرة في طرق الحديث ورواته، إذ من المحدّثين من يكتب الاَحاديث مسندة، ولكنّه قد يرويها في حلقات الدرس مرسَلة؛ لاَجل المذاكرة والتنبيه، ليُطلب إسنادها المتّصل ويُسأل عنه[20].


12 ـ أن يكون الرجل المرسِل سمع ذلك الخبر من جماعة عن
المُعزّى إليه الخبر وصحّ عنده ووقر في نفسه فأرسله عن ذلك المُعزّى إليه علماً بصحّة ما أرسله[21].


وهذا السبب يكون بناءً على أنّ «المرسَلَ الخفي» تدليسٌ.



من اشتهر بالمراسيل من الرواة:


وبعد وضوح أسباب الاِرسال في الحديث لا بأس ببيان أسماء مَن اشتهر بالمراسيل من رواة الفريقين، وهم:


من الاِمامية: محمّـد بن أبي عمير، ومحمّـد بن خالد البرقي[22].


ومن العامّة: سعيد بن المسيب في المدينة، وعطاء بن أبي رباح في مكّة، وسعيد بن أبي هلال في مصر، ومكحول الدمشقي في الشام، والحسن البصري في البصرة، وإبراهيم بن يزيد النخعي في الكوفة[23].



أنواع المراسيل:


للاَحاديث المرسَلة أنواع كثيرة عند العامّة[24] وقد لخّصها بعضهم بأربعة أنواع، هي:


1 ـ مراسيل الصحابة.


2 ـ مراسيل القرنين الثاني والثالث، أي مراسيل التابعين، وأتباعهم.


3 ـ ما أرسله العدل في كلّ عصر.


4 ـ ما أُرسِل من وجه واتّصل من وجه آخر[25].


وأمّا المراسيل عند الشيعة الاِمامية، فهي وإن لم تقسّم في كتبهم الدرائية إلى أنواع، إلاّ أنّه يمكن استظهار وجود الاَنواع الآتية لديهم، وهي:


1 ـ مراسيل الاَجلاّء الثلاثة (ابن أبي عمير، وصفوان، والبزنطي)، ومراسيل أصحاب الاِجماع.


2 ـ المراسيل المؤيّدة بغيرها، والتي لم يعارضها مسند صحيح.


3 ـ مراسيل الثقة الذي شهـد بصحّتها واعتمادها، كمراسيل الصدوق في كتابه من لا يحضره الفقيه، وهي من أهمّ المراسيل عند الاِمامية.


4 ـ مراسيل الجليل الثقة الذي لم يتقيّد بالرواية عن الثقات.


5 ـ مراسيل الضعفاء والمجهولين.


والنوعان الاَخيران متروكان على كل حال ما لم يعتضدا بجابر كالشهرة، أو يتبيّن اتّصالهما من طريق صحيح آخر يكشف عن اعتبارهما، وأمّا الاَنواع الثلاثة المتقدّمة ففيها اختلاف واسع يتعذّر استيفاؤه هنا، إلاّ أنّه سيكون الحديث في آخر المطاف عن بحث أهمّها تفصيلاً إن شاء الله تعالى.



حجّية أنواع المرسَل:


أوّلاً: مراسيل الصحابة:


ذهب أكثر علماء العامّة إلى القول بالاِجماع على قبول مراسيل الصحابة[26]؛ لاَنّها محمولة على السماع[27]!


والوجه في ذلك اعتقادهم بعدالة الصحابة!! وهو منقوض من كلّ وجه؛ لاَنّ عدالتهم لم تثبت بنصّ القرآن الكريم الذي صرّح بأنّ من أهل المدينة مَن مرد على النفاق[28]، وكذلك السُنّة الثابتة، كحديث «أُصيحابي» المروي في الصحاح[29]، فضلاً عن اعوجاج سيرة الكثير من الصحابة، وشهادة تاريخ بعضهم على كفرهم ونفاقهم، وتستّر لمّة منهم باسم الاِسلام، زيادة علـى أن الصحبـة ليست إكسيراً معـدّلاً لمجاهيل الصحابـة، ولا محوّلاً المنافقين منهم إلى مؤمنين، ولا الظالمين إلى عدول.


ثمّ كيف صاروا عدولاً وقد سفك بعضهم دماء بعض بغياً وظلماً وعدواناً؟!


ومن هنا تنبّه القرافي المالكي ـ وهو من المعتقدين بعدالة الصحابة ـ إلى خطورة تعميم شرف الصحبة، فقال: «الاِرسال هو إسقاط صحابي من السند، والصحابة كلّهم عدول، فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، فكيف جرى الخلاف فيه؟!».


قال القاسمي: «وأجاب هو كما في نسخة من التنقيح: بأنّهم عدول إلاّ عند قيام المعارض، وقـد يكون المسكوت عنـه منهم عرض في حقّه ما يوجب القدح فيتوقّف في قبول الحديث حتّى نعلم سلامته من القادح»[30].


ويظهر من الحافظ البيهقي في سننه أنّه لم يسلّم بعدم الفرق بين ذكر الصحابي والسكوت عنه في الاِسناد ـ كما هو لازم الاعتقاد بعدالة الصحابة ـ
إذ جعل ما رواه التابعي عن رجل من الصحابة لم يسمّه مرسَلاً؛ ولهذا قال في الباعث الحثيث: «فإن كان يذهب مع هذا إلى أنّه ليس بحجّة فيلزمه أن يكون مرسَل الصحابة أيضاً ليس بحجّة»[31].


هذا، وأمّا على فرض ثبوت عدالتهم جميعاً! فإنّ العدالة ليست عاصمة من الخطأ والاشتباه سيّما عند عدم التصريح بالسماع، إذ لم يكونوا كلّهم يستفهمون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي حديث الاِمام عليّ عليه السلام : «وليس كلّ أصحاب رسول الله عليه السلام كان يسأله عن الشيء فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى أن كانوا ليحبّون أن يجيء الاَعرابي والطارىَ فيسأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم حتّى يسمعوا...»[32] وكان بعضهم يلهيه الصفق بالاَسواق، وبعضهم يروي عن بعض ممّا يحتمل أن يكون الكلام خبراً أو غيـره؛ وعلـى فرض كونه خبراً فهـو ليس بمعلوم الصدق ضرورة أو نظراً، ولا بمعلوم الكذب إذا ما علم عدم مخالفته للواقع، وإنّما هو من خبر الآحاد الذي لا يعلم صدقه وكذبه ما لم يحتفّ بمؤيّد، وبقرينة يعتضد، والكلام في مرسل الصحابي الذي لم يتقوّ بغيره، فكيف يحمل على السماع ويسمى حديثاً موصولاً صحيحاً؟!


وأمّا لو لم يكن خبراً فهو ليس إلاّ أثراً من آثاره، وربّما قد يكون من اجتهاده في مقابل النصّ.


على أنّ بعض الصحابة ـ لا سيّما المكثرين منهم كأبي هريرة قد رووا عن التابعين، وعن أهل الكتاب، كروايات أبي هريرة عن كعب
الاَحبار الكذّاب بشهادة عبـد الله بن عمر بن الخطّاب[33]، ممّا يكشف عن كون (عدالة الصحابة) غير مانعة من الرواية عن غير الثقة.


وإذا كانت (العدالة) غير عاصمة ولا مانعة ممّا ذكرناه فكيف صارت مراسيل الصحابة حجّة؟!


ثانياً: مراسيل القرنين الثاني والثالث:


اتّفقت الاَحناف على العمل بمراسيل القرنين الثاني والثالث؛ قال الزلمي: «لاَنّهم قاسوا في ذلك على علّة الاَخذ بمراسيل الصحابة وهي العدالة، ونظراً لوجود العدالة في التابعين وتابعيهم اقتضى الاَمر قبول مراسيلهم»[34].


وقد صرّح عبـد العزيز البخاري الحنفي بذلك قائلاً عن هذا النوع من المرسَل بأنّه: «حجّة عندنا، وهو فوق المسند»[35].


وقد نسب الحاكم الاحتجاج بتلك المراسيل إلى جماعة أئمّة أهل الكوفة، كإبراهيم بن يزيد النخعي، وحمّاد بن سليمان، وأبي حنيفة النعمان ابن ثابت، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم القاضي، ومحمّـد بن الحسن، ومن بعدهم من أئمّتهم، ثمّ قال: «ومنهم من قال أنّه أصحّ من المتّصل المسند، فإنّ التابعي إذا روى الحديث من الذي سمعه أحال الرواية عليه، وإذا قال: [قال] رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنّه لا يقوله إلاّ بعد اجتهاده في معرفة صحّته»[36].


وهذا ممّا يقتضي العجب؛ لاَنّ في مسانيد التابعين وتابعيهم ما لا يمكن تصديقه لمخالفته للواقع، مع وجود الكثير جدّاً من التناقض والتضادّ في مروياتهم لا سيّما التفسيرية كما يظهر من تفسير الطبري بلا أدنى تأمّل، فكيف الحال مع مراسيلهم إذن؟!


وهكذا هو شأن القياس في جميع أحواله، فكيف لو كان المقيس عليه (وهو عدالة الصحابة) سراباً لا عين له ولا أثر؟!


وربّما قد يتمسّك بعضهم بحديث: «خيركم قرني ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم...»[37] ، وهو على فرض صحّته لا يدلّ على أكثر من المدح المتوجّه لمن قرب من عصر الرسالة وكان تقياً مؤمناً كما يدلّ عليه حديث: «خيركم في المائتين المؤمن»[38] مع ما فيه من دلالة على ندرة المؤمنين وقتئذٍ.


أو كحديث: «أكرموا أصحابي، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ الّذين يلونهم، ثمّ يظهر الكذب» وهو ما احتجّ به الشافعي في رسالته[39].


وفيه: إنّ هذا مرسَل رواه سليمان بن يسار، عن عمر، وسليمان هذا وإن كان من التابعين إلاّ أنّه لم يدرك عمر حتّى يروي عنه لاَنّه مات سنة 107 هـ عن ثلاث وسبعين سنة[40] فتكون ولادته سنة 34 هـ بينما قُتل عمر سنة 23 هـ.


والغريب في هذا حقّاً، عدم التفات أولئك إلى ما في تلك الفترة بالذات من كثرة المنافقين الّذين شهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بالنفاق والمروق من الدين كما في الحديث المشهور الذي وسم مبغضي أمير المؤمنين عليه السلام بذلك[41]، وما أكثرهم في ذلك الحين.


ثمّ لو تركنا منافقي تلك الفترة جانباً وتفحّصنا رواة الحديث من القرنين الثاني والثالث لوجدنا الكثير منهم من اتُّهم بالكذب والتدليس ووضْع الحديث فضلاً عن الضعفاء والمتروكين، ناهيك عن كثرة المجاهيل.


وقد بيّن الشيخ المظفّر في دلائل الصدق من هؤلاء وأولئك الكثير[42].


وهذا يعني أنّ القول بقبول مراسيل القرنين الثاني والثالث مطلقاً، قول بقبول مراسيل حتّى حثالة الرواة في تلك الفترة؛ لاَنّهم من العدول في لغة القياس!


ثالثاً: ما أرسله العدل في كلّ عصر:


اختلف علماء العامّة في قبول مرسَل العدل في كلّ عصر على عدّة أقوال أشهرها ـ وهو ما ينسب إلى الاَحناف ـ ثلاثة، هي:


1 ـ قبول مرسَل العدل في كلّ عصر مطلقاً، وهو قول أبي الحسن الكرخي.


2 ـ قبوله إذا كان المرسِل العدل من أئمّة النقل، وهو قول عيسى بن
أبان.


3 ـ قبوله إن كان العدل مشتهراً بأنّه لا يروي إلاّ عمّن هو ثقة عدل، وهو قول أبي بكر الجصاص، واختاره السرخسي[43].


وجميع هذه الاَقوال لا تخلو من مناقشة:


أمّا القول الاَوّل: فهو مبتني على أساس القياس ـ الباطل في نفسه ـ على علّة قبول مراسيل الصحابة وهي العدالة، ونظراً لتحقّقها في رواة القرنين الثاني والثالث ـ بزعمهم ـ فلا بُدّ من قبول مراسيلهم إذن!


وقد مرّ انتفاء المقيس عليه بنصّ القرآن الكريم والسُنّة الثابتة، مع سيرة الصحابة وتاريخهم.


وأمّا القولين الآخرين: ففيهما مخالفة واضحة لمباني أربابهما في القياس، لاَنّ العدالة عندهم ملكة لا تتبعّض، وهي نفسها العلّة التامّة في قبولهم مراسيل من تقدّم بلا قيد أو شرط، ومع إيمانهم باطّراد تلك العلّة، لم يلزموا أنفسهم بقبول مرسَل العدل في كلّ عصر إلاّ بشرط!!


ولكن حتّى مع تجاهل ذلك، فإن في قبول مرسَل أئمّة النقل العدول توثيق لعين مجهول.


نعم، أقرب الاَقوال إلى الصواب هو القول الثالث، ونظيره القول بقبول مراسيل العدول الثلاثة ـ ابن أبي عمير، وصفوان، والبزنطي ـ عند الشيعة الاِمامية؛ لتصريح الشيخ بأنّهم لا يرسلون إلاّ عن ثقة[44].


هذا، على فرض أنّ مفهوم العدالة واحدٌ عند الفريقين، وأنّه لا حصر
للعدالة بفئة معينة في الواقع، وإلاّ فهناك جملة من الاَحاديث المتّفق على صحّتها قد حصرت العدالة بفرقة واحدة، كحديث: «لا تزال طائفة من أُمّتي قائمة بأمر الله لا يضرّهم مَن خذلهم أو خالفهم»[45]، وحديث: «الفرقة الناجية»[46]، و«يا عليّ إنّك ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضييّن، ويقدم على الله أعداؤك غضاباً مقمحين»[47] وغيرها.


وعليه، فالعمل بمرسَل مَن لم يثبت كونه من الفرقة الناجية، لا يعتبر عملاً بمرسَل العدل وإن وُصِف بذلك، بل يكون عملاً بخبر فاسد العقيدة بعد انجباره بالشهرة ونحوها. ومن هنا يتبيّن أنّ البحث عن مراسيل العدول لا يتمّ قبل تشخيص مَن هم العدول حقّاً وذلك باستخدام الميزان النبوي في تمييز المُحقّ من المبطل.


رابعاً: ما أُرسل من وجه واتّصل من وجه آخر:


اتّصال الحديث المرسَل يكون ـ عادة ـ من وجهين، هما:


الوجه الاَوّل: أن يسنده من أرسله.


الوجه الثاني: أن يسنده غير من أرسله.


وقد وقع الكلام في كلا الوجهين:


أمّا الوجه الاَوّل: فمن ردّ المرسَل مطلقاً، ردّه معتبراً عدم ذكر الراوي خيانة؛ لاَنّه تستّر على ضعفه بحذف اسمه.


وفيه: أنّه إذا كان المرسِل ثقة مأموناً فلا خيانة، لاستحالة أن يكون
الشخص ثقة مأموناً وخائناً في حال واحدة، وهي رواية الحديث.


وتمادى بعضهم فلم يقبل حتّى مسانيد ذلك المرسِل، واعتبره ساقط الحديث بالاِرسال! وهو رأي شاذّ لا يعبأ به عند الفريقين، زيادة على ما فيه من خطورة وتفريط، إذ لا تكاد تجد مكثراً من الرواية إلاّ وفي رواياته بعض المراسيل، فإنْ أسقطنا المسانيد بتلك الحجّة فقدنا معظم الاَحاديث، ولم يسلم منها إلاّ النزر اليسير.


والصواب في ذلك قبول ذلك المسند وغيره من المسانيد الصحيحة للمرسِل، لعدم قدح المرسَل بالمسنَد إذا كان راويهما ثقة، فقد يكون سمع الحديث مرسَلاً، أو وجده في كتاب معتبر هكذا فأورده كما هو، كما يحتمل سماعه له مسنداً، ولكنّـه نسـي أن يرويـه كـذلك فأرسله، ثمّ تـذكّر ـ بعد ذلك ـ ما غفل عنه، فأورده مسنداً.


وأمّا الوجه الثاني: ففيه أكثر من قول، نذكر أهمّها:


منها: إنّ مَن أسند حديثاً قد أرسله حافظ، فإرسال الحافظ قادح في عدالة وأهليّة من أسنده.


ونوقش: بأنّ الذي أسنده إذا كان ضابطاً عدلاً قُبل خبره، وإن خالفه غيره، سواء كان المخالف له واحداً أو جماعة، وهذا ما اختاره ابن الصلاح ووافقه عليه غيره، قال عبدالعزيز البخاري: «وهو المأخوذ في الفقه وأُصوله»[48]..


ومنها: إنّ الاِرسال نوع قدح في الحديث ـ بناءً على ردّ المرسَل ـ فيرجّح على الموصول، كمـا يقدّم الجرح على التعديل عند تعارضهما،
وهو ما ذكره الشهيد قدس سره في درايته، وناقشه بمنع الملازمة بين قاعدة تقديم الجرح على التعديل، وبين تقديم الاِرسال على الوصل، بل استفاد من القاعدة المذكورة تقديم الوصل على الاِرسال، لاَنّ تقديم الجرح على التعديل إنّما تمّ بسبب زيادة علم الجارح بالجرح مع جهل المعدّل به، فكذلك الحال مع مَـن وصل الحديث بعـد أن اطّلع على سائـر وسائطـه، بخلاف مَن جهل بعضها فأرسله «وذلك يقتضي ترجيح من وصل على من أرسَل كما يقدّم الجارح على المعدّل، بقلب الدليل»[49].


ومنها: تقديم الاَحفظ على غيره في الوصل أو الاِرسال.


إطلاق لفظ (الصحيح) على (المرسَل):


لا شكّ أنّ الحديث المرسَل يتقوّى بغيره ويرتفع إلى درجة الحسَن أو الصحيح أحياناً، لا سيّما مع اشتهار عمل الفقهاء بمضمونه ـ بناءً على انجبار ضعف الاِسناد بالشهرة الفتوائية ـ فيكون حجّة؛ لكشف عملهم بمؤدّاه عن قرينة قوية دالّة على صدقه، وصدوره عن المعصوم عليه السلام .


وقد ينكشف اعتباره من غير طريق الشهرة أيضاً، كما لو وافقه حديث صحيح أو حسن أو موثّق، ولكن هل يمكننا أن نطلق عليه ـ بعد ذلك ـ لفظ (الصحيح)؟!


وفي معرض الجواب يمكن القول ابتداءً: إنّ الآراء في الحديث المرسَل مختلفة أشدّ الاختلاف، ولهذا تجد بعضهم من يسمّي المرسَل صحيحاً بلا قيد أو شرط، بل وكثير منهم قدّموه على الصحيح المسند!


وشعارهم في ذلك: إنّ مَن أسند إليك فقد أحالك، ومَن أرسَل فقد تكفّل لك[50]، وأطلق بعضهم عليه لفظ الصحيح عند توفّر بعض الشروط.


فمن الاَوّل: ما نجده عند الحاكم النيسابوري في (ذكر معرفة أنواع الصحيح) إذ عدّ المرسَل من جملة أنواع الحديث الصحيح، فقال في بيان تلك الاَنواع: «والصحيح من الحديث منقسم إلى عشره أقسام: خمسة منها متّفق عليها، وخمسة مختلف فيها» ثمّ ذكر المرسَل في أوّل أقسام الصحيح المختلف فيها[51].


ويظهر من كلامه أن المرسَل صحيح عند قوم بلا قيد أو شرط، وسيأتي ما يدلّ عليه صراحة في بيان الموقف الاِسلامي العامّ من المرسَل.


ومن الثاني: أقوال جملة من علماء العامّة وفقهائهم وأرباب درايتهم، منهم الشافعي، فقد ذكر في الرسالة بعض ما يتّصل بالمرسَل، واعتبره صحيحاً فيما لو وافق جملة من الدلالات، منها أن يعضّده مرسَل من طريق آخر بمعناه[52].، واحتج النواوي في التقريب بكلام الشافعي، ووافقه السيوطي في شرحه على التقريب[53]. وأورد الاَخير عن أحمد بن حنبل قوله: «مرسَلات سعيد بن المسيب أصحّ المرسَلات» وعن ابن المديني أنّه قال: «مرسَلات الحسن البصري التي رواها عنه الثقات صحاح» كما نقل عن الماوردي ما يدلّ على أنّه كان لا يرى بأساً في تسمية المرسَل بالصحيح إذا ما وافق قول الصحابـي، أو أفتى أكثـر العلماء بمضمونه، أو وافق القياس،
أو كان له شاهد آخر سواء كان مسنداً أو مرسَلاً من طريق آخر[54].


وبالجملة فإنّ الماوردي يسمّي المرسَل المقبول عندهم ـ وهو المؤيّد بواحد من الاَُمور المذكورة ـ صحيحاً! وأكثر ما مرّ لا يخلو من مناقشة:


أمّا كلام الشافعي، ففيه: أنّ المرسَل ـ بناءً على اختصاصه بالضعيف ـ فلا معنى لاَن يكون صحيحاً فيما لو أُخرج من طريق مرسَل آخر؛ لاَنّ الضعيف لا يتقوّى بمثله، بل بما هو أعلى درجة منه كالحسَن، أو الصحيح، ليرتفع إلى درجته لا أن يسمّى باسمه، وغاية ما يفيده المرسَل الآخر أنّه يزيل الضعف المحتمل بحفظ الراوي الثقة الذي أرسَل أوّلاً، ويعلم من خلال الطريق الثاني المرسَل أنّه لم يختلّ حفظ المرسِل الاَوّل، وأين هذا من عدِّ المرسَل ـ من طريقين ـ صحيحاً؟!


وأمّا عن كلام أحمد فلا يمكن حمله على إطلاقه حتّى مع فرض أنّ سعيد بن المسيب لا يروي إلاّ عن ثقة؛ لاَنّهم قسّموا المراسيل على أقسام وجعلوا أعلاها رتبة مراسيل الصحابة، ثمّ تليها مراسيل التابعين لا سيّما مراسيل سعيد بن المسيب، ولو صحّ قول أحمد لجاء على تقسيمهم من القواعد.


وأمّا عن كلام ابن المديني فهو لا يرجع إلى محصّل، لاَنّ المعروف عن مراسيل الحسن البصري أنّها شبه الريح على حدّ تعبيرهم في كتب الدراية؛ ولهذا قال عنه ابن سيرين: «الحسن لا يبالي عمّن سمع»[55]، وقال أيضاً لعاصم الاَحول: «لا تحدّثني عن الحسن ولا عن أبي العالية بشيء، فإنّهما لا يباليان عمّن أخذا الحديث»[56].


وقال أحمد بن حنبل: «وليس في المرسَلات شيء أضعف من مرسَلات الحسن وعطاء بن أبي رباح، فإنّهما يأخذان عن كلّ أحد»[57]، وقال ابن سعد في طبقاته عن الحسن البصري: «وما أرسَل من الحديث فليس بحجّة»[58]، وهذه الاَقوال مطلقة في تضعيف سائر مراسيل الحسن البصري، هذا زيادة على كونه معروفاً بالتدليس.


ولو قال أن رواية الثقات عن الشخص المدلّس تعديلاً له، لكان له وجه، أمّا جعل روايتهم عنه مصحّحاً لمراسيله فهو أكبر من المصادرة.


وأمّا كلام الماوردي، فأوّل ما فيه أنّه لم ينقّح الاَُمور التي تجعل المرسَل مقبولاً عندهم، فقفز إلى النتيجة على مقدّمات خاوية!


فلا الصحابي قوله حجّة على التحقيق، ولا أساس في واقع الشريعة للقياس، ولا للشاهد المرسَل ذلك التأثير المدّعى، هذا إن لم نقل إنّ إفتاء أكثر علمائهم بمضمونه لا يجدي فتيلاً أحياناً، فقد أفتى علماء الاَحناف بأنّ القهقهة من نواقض الوضوء[59] ـ وهم أكثر فقهاء العامّة ـ ومستندهم في ذلك مرسَل أبي العالية لا غيره[60].


فهل يوافق الماوردي الشافعي على تصحيح مرسَل أبي العالية لاِفتاء أكثر العلماء بموجبه ولا يردّه كما ردّه الجمهور، وعلى رأسهم ابن رشد في


بداية المجتهد[61]؟
وبهذا يتبيّن السرّ في عدم مناقشة معرفة أنواع الصحيح عند الحاكم؛ لاَنّها خاوية على عروشها.


وكما أُطلق لفظ الصحيح على المرسَل بكتب الدراية عند العامّة، فقد أُطلق كذلك في كتب الدراية الشيعية، فقد قال الشهيد الثاني في بحث الخبر الصحيح: أنّه قد يطلق الصحيح على سليم الطريق من الطعن بما ينافي الاتّصال بالعدل الاِمامي وإن اعتراه ـ مع ذلك ـ إرسال أو قطع[62].


ولا شكّ أنّ هذا تساهل في الاصطلاح، ونقض للغرض المطلوب من تقسيم الاَخبار وإفراد كلّ قسم منها باسم خاصّ ليتميّز عن غيره من الاَقسام، وهذا هو عين ما اعترض به الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني على والده »، ثمّ قال: «والاَصل فيه على ما ظهر لي: أنّ بعض المتقدّمين من المتأخّرين أطلق الصحيح على ما فيه إرسال أو قطع نظراً منه إلى ما اشتهر بينهم من قبول المراسيل التي لا يروي مرسِلها إلاّ عن ثقة، فلم يرَ إرسالها منافياً لوصف الصحّة»[63].



الموقف الاِسلامي العامّ من الحديث المرسَل:


اختلفت مواقف المذاهب الاِسلامية من الحديث المرسَل اختلافاً واسعاً، ويظهر من خلاصة الاَقوال في المرسَل ـ كما سيأتي بعد ذلك ـ










[32]. أُصول الكافـي 1|62 ح 1 باب 21 مـن كتاب فضـل العلم، نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد 11|38 خطبة 203، كتاب سُليم بن قيس الهلالي 2|624 رقم 10.


[2]. سورة مريم 19: 82.


[27]. أسباب اختلاف الفقهاء في الاَحكام الشرعية، د. الزلمي: 321.


[28]. سورة التوبة 9: 101.


[54]. تدريب الراوي 1|107.


[43]. راجع الاَقـوال المذكـورة في: كشف الاَسرار عن أُصول البزدوي 2|2 وص 7، أسباب اختلاف الفقهاء في الاَحكام الشرعية: 322 ـ 323.


[34]. أسباب اختلاف الفقهاء في الاَحكام الشرعية: 322 ـ 323.


[22]. راجع ترجمة الاَوّل في رجال النجاشي: 326 رقم 887، والثاني في رجال العلاّمة الحلّي: 139 رقم 14.


[12]. كشف الاَسرار عن أصول البزدوي ـ لعبد العزيز البخاري ـ 3|2.


[50]. قواعد التحديث: 134.


[63]. منتقى الجمّان في الاَحاديث الصحاح والحسان ـ للشيخ حسن ـ 1|13.


[6]. وقع اختلاف في إلحاق الحديث المعبَّر عن إحدى وسائطه بهذا اللفظ بالمرسَل، فقد ألحقه بالمرسَل الشهيد الثاني في شرح البداية في علم الدراية: 50، ووافقه الميرزا القمّي في قوانين الاَُصول: 478، والمشكيني في وجيزته: 36، وخالفهم آخرون كالمحقّق الداماد في الرواشح السماوية: 170 ـ 171، وغيره.


[14]. تدريب الراوي 1|107، قواعد التحديث: 142 ـ 143.


[17]. مثل كتاب الاحتجاج للطبرسي، تحف العقول لابن شعبة، مكارم الاَخلاق و غيرها


[16]. شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد المعتزلي ـ 18|351.


[18]. أُصول الكافي 1|52 ح 8 باب 17 من كتاب فضل العلم.


[7]. وصول الاَخيار إلى أُصول الاَخبار: 106، شرح البداية: 50.


[8]. قواعد التحديث ـ للقاسمي ـ: 133، توضيح الاَفكار ـ للصنعاني ـ 1|284 كما في علوم الحديث ومصطلحه لصبحي الصالح ـ : 168، تقريب النواوي 1|102، وشرحه (تدريب الراوي ـ للسيوطى ـ) 1|102.


[53]. تدريب الراوي 1|104.


[13]. للمزيد راجع: تدريب الـراوي 2|120، مستدركات مقباس الهداية ـ للشيخ محمّـد رضا المامقاني ـ 5|366 مستدرك رقم 128.


[31]. الباعث الحثيث في اختصار علوم الحديث: 47.


[26]. كشف الاَسرار عن أُصول البزدوي 3|2، تدريب الراوي 1|109.


[3]. مقباس الهداية ـ للشيخ عبد الله المامقاني ـ 1|338.


[36]. المدخل ـ للحاكم النيسابوري ـ: 155.


[24]. قواعد التحديث: 144، علوم الحديث ومصطلحه: 169 ـ 170.


[20]. أشار إلى الاَسباب الثلاثة الاَخيرة الخطيب البغدادي في الكفاية: 395 ـ 396.


[29]. صحيح البخاري 6|69 باب (يا أيّها الرسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك) من كتاب التفسير في تفسير الآية: 117 من سورة المائدة.


[35]. كشف الاَسرار عن أُصول البزدوي 3|2.


[33]. راجع: تفسير الطبري 22|144 و145 في تفسير سورة فاطر 35: الآية 41 ستجد ذلك التكذيب الصريح.


[5]. لسان العرب 5|213 مادّة «رَسَلَ».


[47]. ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ 2|445 ح 226، الصواعق المحرقة ـ لابن حجر ـ: 154 باب 11 فصل 1.


[61]. بداية المجتهد ونهاية المقتصد 1|41، المسألة السادسة من نواقض الوضوء، معترفاً بأنّ أصل حديث القهقهة هو مرسَل أبي العالية.


[11]. إرشاد الفحول: 64، كما في أثر الاختلاف في القواعد الاَُصولية في اختلاف الفقهاء، د. مصطفى سعيد الخـن: 498.


[4]. النكت على كتاب ابن الصلاح ـ لابن حجر العسقلاني ـ: 198.


[30]. قواعد التحديث: 141.


[10]. الاِحكام في أُصول الاَحكام ـ لابن حزم الاَندلسي ـ 2|143.


[48]. كشف الاَسرار 3|8.


[40]. تهذيب التهذيب 4|200 رقم 391.


[19]. شرح البداية: 52، تقريب النواوي 1|103.


[15]. أُصول الكافي 1|339 ح 13 باب 80 من كتاب الحجّة.


[39]. الرسالة ـ للشافعي ـ: 474 ـ 475 رقم 1315.


[23]. معرفة علوم الحديث ـ للحاكم النيسابوري ـ: 25.


[55]. آفة أصحاب الحديث ـ لابن الجوزي ـ: 90.


[60]. سنن الدارقطني 1|123 ح 591 وما بعده، باب أحاديث القهقهة في الصلاة وعللها من كتاب الطهارة، وفي الباب أُخرج الحديث موصولاً من وجوه كلّها موضوعة لا تصحّ بتصريح الدارقطني نفسه.


[9]. تدريب الراوي 1|102.


[1]. لسان العرب 5|215، المصباح المنير 1|226، أقرب الموارد 1|404؛ مادّة «رَسَلَ».


[49]. شرح البداية: 42 ـ 43.


[62]. شرح البداية: 22.


[41]. راجع حديث: «لا يُحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق».
في مسند أحمد 1|95 وص 128، سنن الترمذي 5|643 ح 3736، سنن النسائي 8|116.


[38]. أخرجه في موسوعة أطراف الحديث الشريف 4|662، عن أربعة مصادر.


[44]. العدّة في أُصول الفقه ـ للشيخ الطوسي ـ 1|154.


[46]. مسند أحمد 2|332.


[59]. الفتاوى الهندية للشيخ نظام الحنفي وجماعته 1|13، فتاوى قاضي خان الحنفي 1|38، مطبوع بهامش الفتاوى الهندية.


[52]. انظر: الرسالة: 462 رقم 1265 ـ 1272.


[56]. الكفاية: 392.


[51]. المدخل: 155.


[45]. مسند أحمد 4|101، صحيح مسلم 3|1523 ح 174 باب 53 من كتاب الاِمارة، ونحوه عدّة أحاديث في الباب المذكور.


[25]. كشف الاَسرار عن أُصول البزدوي 3|2.


[57]. الكفاية: 386.


[58]. الطبقات الكبرى 7|157 ـ 158.


[42]. راجع: رجال السُنّة في الميزان، طبع القاهرة، بحث مستلّ من «دلائل الصدق» للشيخ المظفّر.


[37]. صحيح البخاري 3|224 باب لا يشهد على شهادة جور إذا أُشهد، من كتاب الشهادات، و8|113 باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، من كتاب الدعوات، وص 176 باب إثم من لا يفي بالنذر، من كتاب الاَيْمان والنذور، سنن أبي داود 4|213 ـ 214 ح 4657.


[21]. التمهيد ـ لابن عبد البر ـ 1|17.


/ 1