عـدالة الصـحابة (5)
الشـيخ محمّـد السـند بسـم الله الرحمن الرحيـم
الوجـه التاريخي :ثـمّ إنّه بقـي وجـه آخـر أو أخير يتمسّـك به القـائل بعدالة الصحابة ، ـ بالترديد المتقدّم في معنى العدالة وفي دائرة الصحابة المرادة لذلك القائل ـ وهو : إنّ الصحابة هم الّذين قاموا بفتوحات الاِسلام ونشر الدين في أرجاء المعمورة ، وهذا بعدما عانوا ما عانوا مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في الغزوات الاَُولى . .وهذا الوجه ـ مع غضّ النظر عن التحليل الآتي فيه ، وعن الخوض في حقيقته ـ ما هو المقدار اللازم منه في الحجّيّة المبحوث عنها في عدالة الصحابة؛ فقد تقدّم أنّ صدور العمل الصالح أو الحسن من شخص ـ بعد افتراض ذلك ـ لا يلازم عدالته واستقامته في كلّ أفعاله الاَُخرى ، فضلاً عن عصمته وإمامته في الدين .ففي كثير من الغزوات التي قام بها المسلمون في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ارتكب مَن صحبه صلى الله عليه وآله وسلم فيها أعمالاً تعدّ في الشرع من الخطايا الكبيرة المغلّظة عقوبتها ، وقد ذكرنا شطراً منها في ما سلف ، ونذكر هنا شطراً آخر منهـا :قوله تعالى : (ما كان لنبيٍّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الاَرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسّـكم فيما أخذتم عذاب عظيم)[1].والآية تبيّن أنّ الواجب على المسلمين الاِثخان في قتل المشركين ، وعدم أخذ الاَسرى والحرب قائمة قبل أنّ ينهدّ صفّ المشركين ويستولي عليهم الرعب .وقد وصفت الآية أنّ العقوبة لولا عفو الله تعالى لكانت عذاب ، ووصـفته بالعظـيم ، وظاهر الآية وبمقتضـى الاِثخان هو : كون الواجب القتل لا الاَسر أثناء قيام الحرب مع المشركين وقبل انتهائها بتقويض معسكرهم ، لا ما يقال : إنّ الآية ناظرة إلى حكم الاَسرى بعد انتهاء الواقعة ، وإنّ الواجب هو قتلهم لا مفاداتهم؛ لاَنّه يخالف الآيات اللاحقة : (يا أيّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الاَسرى إن يعلَمِ اللهُ في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممّا أُخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم * وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكنَ منهم والله عليم حكيم)[2] ، الدالّة على أنّ القتل المطلوب هو أثناء الحرب لا بعد أنّ تضع الحرب أوزارها .وكلّ هذا في غزوة «بدر» ، وكذلك الحال في غزوة «حنين» ، قال تعالى : (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تُغنِ عنكم شيئاً وضاقت عليكم الاَرض بما رحُبَت ثمّ ولّيتم مدبرين)[3] ، والفرار في اللقاء من الكبائر التي توعّد الله عليها النار ، كما في قوله تعالى : (يا أيّها الّذين آمنوا إذا لقيتم الّذين كفروا زحفـاً فلا تولّوهم الاَدبار * ومن يولّهم يومئذٍ دبُرَهُ إلاّ متحرّفاً لقتالٍ أو متحيّزاً إلى فئةٍ فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنّم وبئس المصير)[4].وكذلك الحال في غزوة «أُحد» كما أشرنا إليه سابقاً في سورة آل عمران ، وقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة في فتح مكّة حينما بعثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حولها في سرايا تدعو إلى الله تعالى ولم يأمرهم بقتال ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً ، فغدر خالد بهم وقتلهم ، فانتهى الخبر إلى رسول الله ص-+لى الله عليه وآله وسلم فرفع يديه إلى السماء ثمّ قال : «اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرّات؛ ثمّ أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليّـاً عليه السلام فودى لهم الدماء وأرضاهم[5].فتبيّن أن لا تلازم بين صدور العمل الصالح ـ على تقدير ثبوته ـ وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله ، فضلاً عن عصمته وإمامته في الدين .أمّا الخوض في الفتوحات بشكل إجمالي فالنظرة المقابلة تقيّم الفتوحات التي حصلت بأنّها كانت بمثابة سدوداً أمام انتشار الدين في كلّ أرجاء المعمورة ، فإنّ هذا الدين الحنيف لا يصمد أمام بريق نوره الاَقوام البشريّة إلاّ وتنجذب إليه ، وهذا هو عمدة نهج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته إلى الاِسـلام . .قال تعالى : (إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً)[6] ، فالدخول الفوجي الاَفواجي للناس كان بحكم الانجذاب إلى عظمة الدين ، والمثالية التي يتّصف بها صاحب الدعوة ، والكيان الداخلي الذي بناه . .إلاّ إنّ مجموع الممارسات في أحداث الفتوحات كبّلت الدين ، وألبست الاِسلام أثواباً قاتمة ، وولّدت انطباعاً لدى بقيّة الاَُمم والملل أنّ الدين الحنيف هذا هو دين السيف والدم ، ولغته لغة القوّة بالدرجة الاَُولى وفي القاعدة الاَصلية له ، لا أنّه دين الفطرة العقلية ، (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله)[7].ومن ثمّ أخذت بعض الكتابات في العالم العربي الاِسلامي منذ نصف قرن في التنكّر لقانون الجهاد الابتدائي في الاِسلام ، باعتبار أنّه يعني لغة القوّة والعنف والعسكر ، ورفضاً للغة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، التي هي من الثوابت الاَوّلية لطريقة الدعوة إلى الاِسلام ، وربّما تمسّكوا بسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في جميع غزواته؛ إذ إنّها لم تكن مبتدأة منه صلى الله عليه وآله وسلم ، بل من مناوشات الكفّار أوّلاً للمسلمين ، وبذيل بعض الآيات من قبيل قوله تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين)[8]. .وقوله تعالى : (لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين * إنّما ينهاكم الله عن الّذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولّهم فأُولئك هم الظالمون)[9].ونحوها من الآيات التي ظاهرها يوهم بأنّ القتال مخصوص بالمدافعة ، وقد تسرّب مثل هذا النظر إلى بعض الاَوساط الفقهيّة .والذي أوقعهم في مثل هذا الوهم المخالف للمسلّمات الفقهيّة في الدين ، هو ما جرى من الاَحداث والممارسات في الفتوحات عبر تاريخ المسلمين . .فإنّه قد وقع الخلط لديهم بين الجهاد الابتدائي وبين العدوان المبتدأ ، وحصر الدفاع في الجهاد الدفاعي ، مع إنّ الجهاد الابتدائي ليس بمعنى الابتداء بالعدوان ، بل إنّ الغطاء الحقوقي للجهاد الابتدائي هو الدفاع الحقوقي ، وإنّ كان ابتداء الحرب من المسلمين بمعنى الضغط على الكفّار تحت تأثير القوّة ، لكن ليس هو ابتداء عدوان ، بل ابتداء الضغط بالقوّة لردّ العدوان الذي مارسه الكفّار تجاه المسلمين في ما سبق ، فالابتداء في استخدام القوّة أمر ، والابتداء في العدوان أمر آخر . .وأمّا التمسّك بسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فلقد خلط أصحاب هذه المقولة بين الجهاد الابتدائي في مصطلح الفقهاء وبين العدوان الابتدائي الحقوقي ، فالثاني لم يكن في سيرته صلى الله عليه وآله وسلم ، أمّا الاَوّل؛ فغزوة «بدر» أعظم الغزوات كانت ابتداء في استخدام القوّة منه صلى الله عليه وآله وسلم ردّاً على مصادرة أموال المسلمين في مكّة التي قام بها كفّار قريش ، وردّاً على الغارات المباغتة التي كان يقوم بها أفراد منهم على أطراف المدينة ، ونحو ذلك ، لكنّ ذلك لا يستوجب تصنيف غزوة «بدر» في الجهاد الدفاعي وإخراجه عن الابتدائي بالمصطلح الفقهي؛ إذ لكلٍّ شرائط تختلف عن الآخر ، وكذا غزوة «خيبر» وغزوة «حنين» وغزوة «تبوك» وغيرها من الغزوات الكبرى أو الوسطى والصغيرة ، وقوله تعالى في سورة الاَنفال صريح في ذلك : (كما أخرجك ربّك من بيتك بالحقّ وإنّ فريقاً من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحقّ بعد ما تبيّن كأنّما يساقون إلى الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنّها لكم وتودّون أنّ غير ذاتِ الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحقّ الحقّ بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)[10] ؛ فإنّ خروج قريش للحرب كان بعد انتداب أبي سفيان لحماية قافلة التجارة التي كان فيها عندما سمع بخروج المسلمين للاستيلاء عليها ابتداءً انتقاماً لِما فعل المشركون بهم .وقوله تعالى : (فليقاتل في سبيل الله الّذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً * وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الّذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيراً)[11].فإنّ هذه الآيات تفيد الغطاء الحقوقي الدفاعي للجهاد الابتدائي .وكذا قوله تعالى : (يا أيّها الّذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الاَرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ قليل * إلاّ تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كلّ شيء قدير)[12].و (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)[13].و (قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أُوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)[14].وتمـام الكلام في أدلّة الجهاد الابتـدائي موكول إلى الكتب الفقهيـة ، إلاّ أنّ الغرض في المقام الاِشارة إلى أنّ الخلط الذي حصل كان بسبب عدم التمييز بين الجهاد الابتدائي على مستوى التنظير وسيرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والفلسفة الحقوقية التي تنطلق منها مشروعيّته ، وبين ما حصل من ممارسة في فتوحات البلدان ، فإنّ الانطباع الذي أورثته تلك الممارسات في أذهان الاَُمم الاَُخرى عاد عقبة كؤوداً أمام انتشار الدين الاِسلامي في أرجاء المعمـورة .فالدين الاِسلامي ـ بناءً على هذا الانطباع ـ غطاء يحرز من وراءه جمع الثروات ، واستعباد البشر في صورة الرقيق ، ولقضاء النزوات بعنوان ملك الاِماء ، فيهلك الحرث في البلدان ، ويبيد النسل البشري فيها ، وتحت ركام هذه الصورة حاولت تلك المجموعة من المثقّفين والكتّاب في الدول الاِسلاميّة القيام بعملية الغسيل ، وتمييز الوجه الناصع للدين الحنيف عن تلك الممارسات ، لكنّها خلطت بين حقيقة الجهاد الابتدائي وفلسفته الحقوقية التي ينطلق منها ، وبين ما حصل من ممارسات باسم الجهاد الابتدائي في الفتوحات التي جرت ، ونضع القارئ أمام النقاط التالية كي يتبيّن له حقيقة الحال :الاَُولى : إنّ أغراض هذا التشريع للجهاد الابتدائي كما تدلّ عليه مجموع الآيات القرآنية المتعرّضة للجهاد الابتدائي ـ والتي تقدّمت الاِشارة إلى بعضـها ـ في الدين الحنـيف ، كما في قوله تعالى : (يا أيّها الّذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا إنّ الله كان بما تعملون خبيراً)[15]. .فإنّ هذه الآية تحدّد مَعلماً مهمّاً من معالم الجهاد ، وإنّ الغرض فيه ليس جمع الغنائم والاَموال والاسترقاق ، بل قيادة الجموع البشرية وهدايتها إلى طريق الله وعبادته .وكذا قوله تعالى : (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألّد الخصام * وإذا تولّى سعى في الاَرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد * وإذا قيل له اتّقِ الله أخذته العزّة بالاَثم فحسْبه جهنّم ولبئس المهاد)[16].وهذه ملحمة قرآنية عمّن هو في الصفوف مع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو عسل اللسان والكلام ، ولكنّ قلبه مخالف تماماً لِما يظهره على لسانه ، وهو شديد العداوة لله ولرسوله ، والآية تُخبر أنّه إذا تولّى الاَُمور فسوف يكون سعيه في ولايته فساداً في الاَرض وإهلاكاً للحرث والنسل البشري ، والحال إنّ الله تعالى لا يحبّ الفساد في التكوين ، وإنّ خاصية هذا المتولّي التعصّب لفِعله أمام نصيحة الآخرين له .كما إنّ هذه الآية تحدّد أغراض الدين ـ بما فيه الجهاد الابتدائي ـ بأنّه ليس للاِفساد في الاَرض وإهلاك الموارد الطبيعية أو الاِنجازات المدنية التي حقّقها البشر ، ولا الهدف تبديد النسل .وكذا قوله تعالى : (فإذا أُنزلت سورة محكمة وذُكر فيها القتال رأيت الّذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت فأَوْلى لهم * طاعة وقول معروف فإذا عزم الاَمر فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسيتم إن تولّيتم أن تفسدوا في الاَرض وتقـطّعوا أرحامكم * أُولئـك الّذين لعنهم الله فأصمّهم وأعمى أبصارهم * أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها * إنّ الّذين ارتدّوا على أدبارهم من بعدما تبيّن لهم الهدى الشيطان سوّل لهم وأملى لهم * ذلك بأنّـهم قالوا للّذين كرهوا ما نزّل الله سـنطيعكم في بعض الاَمر والله يعلم إسـرارهم * فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم * ذلك بأنّهم اتّبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالـهم * أم حسب الّذين في قلوبهم مرض أن لن يُخرج الله أضغانهم * ولو نشاء لاَريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنّهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم)[17].فهذه الآيات ترسم ملحمة مستقبلية لجماعة (الّذين في قلوبهم مرض) ، وهذه الجماعة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة المدّثّر ، رابع سورة نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في أوائل البعثة الشريفة في مكّة المكرّمة ، وأعلن وجودها في صفوف الثلّة الاَُولى التي أسلمت . .قال تعالى : (عليها تسـعة عشـر * وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة وما جعلنا عدّتهم إلاّ فتنة للّذين كفروا ليستيقن الّذين أُوتوا الكتاب ويزداد الّذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربّك إلاّ هو وما هي إلاّ ذكرى للبشـر)[18].فإنّ الآيات تبيّن أنّ المخاطب بعدّة الملائكة الموكّلين بالنار على أربعة أقسام؛ الاَوّل : «الّذين آمنوا» ، والثاني : «الّذين أُوتوا الكتاب» ، والثالث : «الّذين في قلوبهم مرض» ، والرابع : «الكافرون» ، وتخبر أنّ الذي سيحصل له الاِيمان هما القسمان الاَوّلان ، أمّا القسمان الآخران فسيحصل لديهما الارتياب .ومن الواضح أنّ المرض الذي في القلب نحوٌ من النفاق الخفيّ جدّاً ، أي الذي لا يظهر على صاحبه ، بل يبطنه في قلبه وخفاء أعماله ، وقد ذكرنا أنّ الآيات القرآنية تتابع هذه الفئة والجماعة في كثير من السور ، تحت هذا العنوان وبهذا الاسم إلى آخر حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن . .والآيات هنا من سورة محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم تبيّن أنّ غرض هذه الفئة هو تولّي الاَُمور والاَخذ بزمامها ، وأنّ ذلك الغرض هو وراء انضمامها إلى صفوف المسلمين الاَوائل؛ إذ إنّ خبر ظفر النبيّ المبعوث صلى الله عليه وآله وسلم كان منتشراً قبل البعثة ، كما يشير إليه قوله تعالى : (وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)[19].فقد أشارت الآية إلى أنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون وينتظرون ويطلبون الفتح والنصر والظفر بالنبيّ ـ الذي سيبعث خاتماً ـ على الكافرين من مشركي الجزيرة العربية ، فلمّا عرفوا ذلك وأنّه صلى الله عليه وآله وسلم قد بُعث كفروا برسالته .فالسورة تبيّن أنّ غرض هذه الفئة (الّذين في قلوبهم مرض) هو تسلّم مقاليد الاَُمور ، وأنّها كانت على اتّصال في الخفاء وارتباط مع فئات معادية علناً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؛ (ذلك بأنّهم قالوا للّذين كرهوا . . . ) ، وكذلك بقية السور المتعرّضة لهذه الفئة بهذا الاسم تشير إلى هذه العلاقات بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الاَُخرى .ثمّ إنّ السورة تبيّن أنّ طابع سياسة الدولة التي يقيمها أفراد هذه الفئة هو الاِفساد في الاَرض ، وقطع الصلة بمن أمر تعالى بوصلهم ومودّتهم ، كالذي تشير إليه آية 205 من سورة البقرة : (وإذا تولّى سعى في الاَرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد) .فهذه الآيات تحدّد أنّ أغراض الشريعة ـ في أحكامها وقوانينها السياسية ، وأبواب فقه النظام والسياسة الشاملة للجهاد الابتدائي ـ ليس الاِفساد في الاَرض ، وإهلاك الحرث ، وتبديد النسل البشري ، فإنّ الله يحبّ صلاح الاَرض وأهلها ، فهذا هو سبيل الله تعالى الذي أمرت الآيات القرآنية العديدة بالقتال فيه ، وفي سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؛ لاَجل إزالة استضعافهم وإرجاع حقوقهم المغتصـبة .الثانية : إنّ نظرة سريعة إلى الثروات المتكدّسة من الفتوحات توضّح معالم الاَغراض وراءها ، والاَُسلوب الممارس فيها ، المباين للنهج المرسوم في الكتاب والسُـنّة النبويّة ، سيرةً وأقوالاً . .قال العلاّمة الاَميني[20] في جرده لثروات عدّة من الاَسماء :منهم : سـعد بن أبي وقّاص؛ قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق .وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسّـع فضائها ، وجعل أعلاها شرفات[21].ومنهم : زيد بن ثابت؛ قال المسعودي : خلف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلّف من الاَموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار[22].ومنهم : عبـد الرحمـن بن عـوف الزهـري؛ قال ابن سـعد : تـرك عبـد الرحمن ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحاً ، وقال : وكان في ما خلّفه ذهب قطّع بالفؤوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفاً .وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها ، وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثُمن ماله أربعة وثمانين ألفاً[23].ومنهم : يعلى بن أُميّة؛ خلّف خمسمائة ألف دينار وديوناً على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار[24].ومنهم : طلحة بن عبيـدالله التيمي؛ ابتنى داراً بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك ، وله بناحية سراة أكثر ممّا ذكر ، وشيّد داراً بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج . .وعن محمّـد بن إبراهيم ، قال : كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ .وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته كلّ يوم ألف وافياً . والوافي وزنه وزن الدينار .وعن موسى بن طلحة : إنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل .وعن إبراهيم بن محمّـد بن طلحة : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والاَموال وما ترك من النافيّ ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض .وعن عمرو بن العاص : إنّ طلحة ترك مائة بهار في كلّ بهار ثلاثة قناطير ذهب ، وسمعت أنّ البهار : جلد ثور ، وفي لفظ ابن عبـد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضّة .وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهباً .وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة ، قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار ، وقال عثمان : ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهاراً ذهباً وهو يروم دمي يحرّض على نفسي[25].ومنهم : الزبير بن العوّام؛ خلّف ـ كما في صحيح البخاري ـ إحدى عشرة داراً بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، وداراً بالكوفة ، وداراً بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف ، قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف ، وقال ابن الهائم : بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألـف[26].ومنهم : عثمان بن عفّان؛ قال محمّـد بن ربيعة : رأيت على عثمان مطرف خزّ ثمنه مائة دينار ، فقال : هذا لنائلة كسوتها إيّاه ، فأنا ألبسه أسرّها بـه . .وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان برداً ثمنه مائة دينار .قال البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سـفط فيه حليّ وجواهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد . . وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره .وقال ابن سعد : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، فانتُهبت وذهبت . . وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار .وقال المسعودي : بنى في المدينة داراً وشيّدها بالجعر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة .وذكر عبـدالله بن عتبة : إنّ عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار ، وخلّف خيلاً كثيراً وإبلاً .وقال الذهبي : كان قد صار له أموال عظيمة رضي الله عنه ، وله ألف مملوك[27]. .وأمّا أُعطيات عثمان إبّان حكمه فقد جردها العلاّمة الاَميني في غديـره عن المصادر المزبورة ، فقد أعطى :1 ـ مروان ، خمسمائة ألف دينار .2 ـ ابن أبي سرح ، مائة ألف دينار .3 ـ طلحة ، مائتا ألف دينار .4 ـ عبـد الرحمن بن عوف ، ألفا ألف وخمسمائة وستّين ألف دينار .5 ـ يعلى بن أُميّة ، خمسمائة ألف دينار .6 ـ زيد بن ثابت ، مائة ألف دينار .7 ـ ما اقتصّه لنفسه في بعض الموارد ، مائة وخمسون ألف دينار .8 ـ ما اقتصّه لنفسه في بعض آخر من الموارد ، مائتا ألف دينار .ويبلغ المجموع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار .وفي مجموعة أُخرى من الاَُعطيات :9 ـ الحكم ، ثلاثمائة درهم .10 ـ آل الحكم ، ألفا ألف وعشرون درهم .11 ـ الحارث ، ثلاثمائة درهم .12 ـ سعيد ، مائة ألف درهم .13 ـ عبـدالله ، ثلاثمائة ألف درهم .14 ـ الوليد بن عقبة ، مائة ألف درهم .15 ـ عبـدالله ، مرّة أُخرى ، ستّمائة ألف درهم .16 ـ أبو سفيان ، مائتا ألف درهم .17 ـ مروان ، مرّة أُخرى ، مائة ألف درهم .18 ـ طلحة ، مرّة أُخرى ، ألفا ألف ومائتا ألف درهم .19 ـ طلحة ، مرّة ثالثة ، ثلاثون ألف ألف درهم .20 ـ الزبير ، خمسة وتسعون ألف ألف وثمانمائة ألف درهم .21 ـ سـعد بن أبي وقّاص ، مائتان وخمسون ألف درهم .22 ـ ما اقتصّه لنفسه مرّة ثالثة ، ثلاثون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم .ويبلغ مجموع المجموعة الثانية مائة وستّة وعشرون مليوناً وسبعمائة وسبعون ألف درهم . انتهى ملخّصاً .فلاحظ تلك المصادر والمراجع وغيرها لاستقصاء الاَُعطيات والقطائع!وقال الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم في أبيات له :
قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه
كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه
كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه
كما غدرتْ يوماً بكسرى مرازبُه
وشبَّهته كسرى وقد كان مثله
شبيهاً بكسرى هَديُه وضرائبُه
شبيهاً بكسرى هَديُه وضرائبُه
شبيهاً بكسرى هَديُه وضرائبُه
ألا قـل لحيّ أُوطؤا بالسنابكِ
قضـى خالد بغياً عليه بعرسه
فأمضى هواه خالد غير عاطف
وأصبح ذا أهـل وأصبح مالك
إلى غير أهل هالكاً في الهوالكِ
تطاول هذا الليل من بعد مالكِ
وكان له فيها هوىً قـبل ذلكِ
عنان الهوى عنها ولا متمالكِ
إلى غير أهل هالكاً في الهوالكِ
إلى غير أهل هالكاً في الهوالكِ
[11]. سورة النساء 4 : 74 ـ 76 .[13]. سورة التوبة 9 : 41 .[14]. سورة التوبة 9 : 29 .[31]. ولاحظ لمزيد من التفاصيل : تاريخ الطبري 3|241 ، الكامل في التاريخ ـ لابن الاَثير ـ 3|149 ، أُسـد الغابة 4|295 ، تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ 5|105 ، خزانة الاَدب 1|237 ، تاريخ ابن كثير 6|321 ، تاريخ الخميس 2|233 ، الاِصابة 1|414 و 3|357 ، الفائق 2|154 ، النهاية 3|257 ، تاريخ أبي الفداء 1|158 ، وتاج العروس 8|75
[6]. سورة النصر 110 : 1 و 2 .[7]. سورة الروم 30 : 30 .[33]. لاحظ : تاريخ أبو الفداء 1|158 .[8]. سورة البقرة 2 : 190 .[26]. صحيح البخاري ـ كتاب الجهاد| باب بركة الغازي في ماله 5|21 ، ذكره شرّاح الصـحيح : فتح الباري ، إرشاد الساري ، عمدة القاري؛ شذرات الذهب 1|43 ، وفي تاريخ ابن كثير 7|249 قيّدها بالدرهم .
ولاحظ : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3|77 ، ومروج الذهب 1|434 .[24]. مروج الذهب 1|434 .[25]. الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3|158 ، أنساب الاَشراف 5|7 ، مروج الذهب 1|434 ، العقد الفريد 2|279 ، الرياض النضرة 2|358 ، دول الاِسلام ـ للذهبي ـ 1|18 ، الخلاصة ـ للخررجي ـ : 152 .[32]. في هامش الكامل ـ لابن الاَثير ـ 7|165 .[19]. سورة البقرة 2 : 89 .[17]. سورة محمّـد 47 : 20 ـ 30 .[29]. سورة التوبة 9 : 34 .[3]. سورة التوبة 9 : 25 .[20]. الغدير 8|282 ـ 288 .[1]. سورة الاَنفال 8 : 67 و 68 .[23]. الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3|96 ، مروج الذهب 1|434 ، تاريخ اليعقوبي 2|146 ، صفة الصفوة ـ لابن الجوزي ـ 1|138 ، الرياض النضرة ـ لمحبّ الدين الطبري ـ 2|291 .[4]. سورة الاَنفال 8 : 15 و 16 .[10]. سورة الاَنفال 8 : 5 ـ 8 .[18]. سورة المدّثّر 74 : 30 و 31 .[28]. شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ 1|90 .[5]. المغازي للواقدي ـ 3|875 ـ 884 .[12]. سورة التوبة 9 : 38 و 39 .[2]. سورة الاَنفال 8 : 70 و 71 .[9]. سورة الممتحنة 60 : 8 و 9 .[21]. الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3|105 ، مروج الذهب 1|434 .[27]. الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3|40 وص 53 ، أنساب الاَشراف 3|4 ، الاستيعاب ـ في ترجمة عثمان ـ 2|476 ، الصواعق المحرقة : 68 ، السيرة الحلبية 2|87 ، مروج الذهب 1|433 ، دول الاِسلام 1|12 .[16]. سورة البقرة 2 : 204 ـ 206 .[15]. سورة النساء 4 : 94 .[34]. تاريخ الخميس 2|233 .[30]. تاريخ الطبري 3|202 .[22]. مروج الذهب 1|434 .