الشيخ محمد السند
قد تبيّن ممّا مرّ كراراً أنّ البحث في عنوان عدالة الصحابة غير عاكس لحقيقة البحث بصورة عامّة ، بل الحقيقة هو البحث عن أصحاب السقيفة ، الذين بايعوا أبا بكر دون عامّة الأنصار ، والذين خالفوا البيعة تبعاً لسعد بن عبادة ، ودون بني هاشم ، وكذا من والى عليّاً عليه السلام ممّن ذكرنا أسمائهم في الحلقات السابقة ، كما أنّ البحث ليس في الصحبة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم ، وأنّما البحث الجاري في مشروعية ما أُقيم وأُسّس في السقيفة من نهج الخلافة وما تبع ذلك من النهج الأُموي والمرواني كل ذلك إقصاءً لعترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .
ورغم الوعي بهذه الحقيقة فمسايرة مع عنوان البحث نتابع النقطة التالية :
من موازين التعديل والجرح في الصحابي :
المودّة للعترة أو نصب العداوة لهم :
وذلك لكون المودّة فريضة قرآنية كبرى أوجبها الله تعالى على كلّ مسلم وعظّمها في الذكر الحكيم ، قال تعالى : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنّات لهم ما يشاؤون عند ربّهم ذلك هو الفضل الكبير * ذلك الذي يبشرُ الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حُسناً إنّ الله غفور شكور)[1] ، مضافاً إلى ما استفاض بل تواتر من السُنّة النبويّة في حبّ علي والعترة عليهم السلام ، فمن كان قائماً من الصحابة بهذه الفريضة مراعياً لها كان على حدّ العدالة ، ومن كان تاركاً لها ناقضاً لهذا الميثاق فهو خارج عن حدّ العدالة فضلاً عن نصب العداوة للعترة . الذي هو بمثابة الجحود .
وسنرى أنّ من أهل سُنّة الجماعة قد عكس العيار عندهم وجعلوا النصب والعداوة سُنّة يدينون بها .
ولنتعرض للمعيار القرآني والنبوي أوّلاً ، ثم نتبعه بتركهم له ثانياً .
المقام الأول
المعيار القرآني النبوي لفريضة المودة
فأما الآية الشريفة فقبل التعرض إلى إطار مفادها نذكر : أوّلاً : مورد نزولها هـو أنّ الأنصـار والمهاجرين اجتمعـوا إلـى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقالوا : يا رسول الله أنّ لك مؤونة في نفقتك ومن يأتيك من الوفود وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها مأجوراً ، اعطِ منها ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج فأنزل الله عزّ وجلّ عليه الروح الأمين ، فقال : يا محمّـد قل : ( لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القُربى)[2] يعني : أن تودّوا قرابتي من بعدي فخرجوا ، فقال المنافقون : ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلاّ ليحثّنا على قرابته من بعده ، إن هو إلاّ شيء افتراه في مجلسه ، فكان ذلك من قولهم عظيماً ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ( أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً هو أعلم بما تُفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفورُ الرحيم)[3] فبعث إليهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال : هل من حدث ؟ فقالوا : أي والله قال بعضنا كلاماً غليظاً كرهناه ، فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الآية فبكوا واشتدّ بكاؤهم فأنزل الله عزّ وجلّ ( وهو الذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون)[4] [5].
وقد روي قريب منه عن عبد الله بن عبّاس ، كما روي في عدّة مصادر لأهل سُنّة الجماعة أنّهم سألوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم ؟ قال : « علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام »[6].
ثانياً : قال في الكشاف : « يجوز أن يكون استثناءً متّصلاً أي : لاأسألكم أجراً إلاّ هذا وهو أن تودّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة لأنّ قرابته قرابتهم فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة ، ويجوز أن يكون منقطعاً أي : لا أسألكم أجراً قط ولكنني أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم ، فإن قلت : هلا قيل : إلاّ مودة القربى ، أو إلاّ المودّة للقربى ، وما معنى قوله : ( إلاّ المودّة في القربى ) قلت : جُعلوا مكاناً للمودّة ومقراً لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحبّ شديد ، تريد : أحبّهم وهم مكان حبّي ومحله وليست (في) بصلة للمودّة ، كاللام إذا قلت : إلاّ المودّة للقربى .
أنّما هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك المال في الكيس وتقديره : إلاّ المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها . والقربى : مصدر كالزلفى والبشرى بمعنى : قرابة والمراد في أهل القربى .
وروي أنّها لمّا نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟
قال : عليّ وفاطمـة وابنـاهما . .
ويـدلّ عليه ما روي عن علي رضي الله عنه : شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حسد الناس لي ، فقال : ( أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريتنا خلف أزواجنا)[7].
وعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : (حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة) .
ثم ذكر مورد النزول المتقدّم ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : من مات على حبّ آل محمّـد مات شهيدا[8]، ألاّ ومن مات على حبّ آل محمّـد مات مغفوراً له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات تائباً ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات مؤمناً مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد بشّره ملك الموت بالجنّة ، ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد يزف إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّـد مات على السُنّة والجماعة ، ألا ومن مات على بغض آل محمّـد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّـد مات كافراً ، ألا ومن مات على بغض آل محمّـد لم يشمّ رائحة الجنّة[9].
وقال في تفسير : ( ومن يقترف حسنة )، عن السدّي أنّها المودّة في آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : نزلت في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومودّته فيهم[10]طن .
والظاهر : العموم في أي حسنة كانت ، إلاّ أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى ، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولاً أوّلياً ، كأنّ سائر الحسنات لها توابع »[11]. انتهى .
أقول :
ويدلّ تقريبه الأخير لحسنة المودّة وعظمتها أنّها من الفرائض الكبرى في الدّين ، وسيأتي تقريب دلالة الآية على ذلك بنحو أوضح .
وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير بعد ما نقل كلام الزمخشري : « وأنا أقول آل محمّـد صلى الله عليه وآله وسلم هم الّذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل .
ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين
[8]. في هامش الكشاف 4|220 ، أخرجه الثعلبي .
[2]. سورة الشورى 42 : 23 .
[10]. ويشهد لذلك موت فاطمة عليها السلام وهي واجدة على أبي بكر ، ما رواه البخاري في صحيحيه 5|82 غزوة خيبر ، وإيصائها عدم حضوره جنازتها وأخذه لفدك منها ، في قبال إعطاءه ابنته عائشة حجرة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم توريثاً .
[4]. سورة الشورى 42 : 25 .
[9]. وفي تفسير القرطبي16|22 ، في ذيل الآية حُكي عن الثعلبي هذه الرواية مذيّلة بـ : « ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي » .
[11]. تفسير الكشّاف 4|221 .
[7]. في هامش الكشّاف 4|220 ، أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن علي ، ورواه الطبراني من حديث أبي رافع .
[5]. تفسير البرهان 4|819 .
[6]. لاحظ : فضائل الصحابة ـ لابن حنبل ـ 2|669 ح 1141 ، والعمدة ـ لابن بطريق ـ : 94 ح 47 ، وصحيح البخاري ـ في تفسير آية المودّة ـ 6|231 ح 314 ، وتفسير الطبري 25|16 ، وشواهد التنزيل 2|14 ح 137 ، ومستدرك الحاكم 3|172 ، والصواعق المحرقة : 170 ، والطرائف : 112 ح 169 ، مناقب الخوارزمي : 194 ، ومقاتل الطالبيين : 62 ، وغيرها من المصادر العديدة .
[1]. سورة الشورى 42 : 22 و 23 .
[3]. سورة الأحقاف 46 : 8 .