دور الشيخ الطوسي قدس سره في علوم الشريعة الاِسلامية (2)
السيّـد ثامر هاشم العميدي دوره فى الحديث الشريف وعلومه
الفصل الاول : لمحات في التراث الحديثي للشيخ الطوسي
طريقة الشيخ في التعامل مع الأخبار في كتاب (التهذيب)
وأما الاستبصار
كيفية التعامل مع الأخبار في (الاستبصار)
أصناف الخبر عند الشيخ
قواعد الترجيح بين الاخبار المتعارضة عند الشيخ الطوسي(قدس سره)
واما (الغيبة)
أما (الامالي)
دوره فى الحديث الشريف وعلومه
الكلام عن دور الشيخ الطوسي قدس سره في الحديث الشريف وعلومه يقتضي التذكير بما في تاريخه.
فنقول:
في تاريخ رواية الحديث وتدوينه موقفان متعارضان، وخلاصتهما:
الحظر الرسمي على تدوين الحديث وروايته من قبل السلطة الحاكمة بعد غياب الرسول الكريم صلى الله عليه وآله مباشرة.
ومقاومة هذا الحظر بكل قوة وصلابة من قبل أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم وجملة من الصحابة، والعمل بجد وإخلاص على تقويضه.
وقد كُتب الكثير عن هذين الموقفين، كما ظهرت دراسات علمية قيّمة حول الموضوع اشبعته بحثاً وتمحيصاً، حتّى صار تناوله من جديد مكرراً ومملاً.
وقبل طيّ صفحاته، نود الاِشارة السريعة إلى خطأ ما قد يُتصوَّر من انتهاء سلبية الموقف الحكومي الشاذّ بعد عهد عمر بن العزيز الاَُموي (ت|101 هـ)، الذي أوعز ـ في فترة سلطته ـ إلى أبي بكر محمّد بن عمرو بن حزم الاَنصاري الخزرجي (ت|120 هـ) بكتابة الحديث خوفاً من اندراسه، لما رأى تعسف آبائه وقادته وأسلافه، وسعيهم الجادّ في محاولة انطماسه؛ وذلك ببقاء سلبيه الموقف الرسمي وتحكّم شذوذه واستمرار أهدافه وأغراضه حتّى بعد رفعه، وبصورة جلية، وشكل علني واضح وصريح.
وغاية ما حصل هو أنْ تحوّل الحظر العام ـ لاَجل نمط معيّن من الاَحاديث، أو لتمرير الاَخطاء الفاحشة في الافتاء على المسلمين من دون رقيب وحافظ للسُنّة، لكي لا يلوّح بها في وجه السلطة ويصحح أخطائها بما عنده من حديث، أو لكليهما معاً ـ الى حظر خاصّ استهدف ذلك النمط من الاَحاديث بعينه.
وهكذا اصبحت النظرية السياسية في الحكم التي جاءت بها السقيفة، وثقّف الحظر عقول الناس بها مؤصلة في الحظر الخاص بتدوين مايخدم أُصولها، ويضفي عليها الشرعية، ويمنحها القدسية، ويرفع من شأن قادتها إلى مستوى الاعتقاد بحجيّة أقوالهم! مع عدم الاكتراث بما عند أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من مدوّنات حديثية سبقت انفتاحهم على التدوين، إذ لم تشهد قط فترة انقطاع تفصلها عن مصدر ومعين الحديث الثرّ، كلّ ذلك لتشتيت مبدأ النصّ والتعيين، تارة بتطويق أنصاره، وأُخرى بإخراج أخبارهم من فلك التدوين.
بينما كان المنطق والعقل السليم يفرضان على مدوّني تلك الفترة أن
يزهدوا في ندّ الحديث ويتركوه، ويسعوا إلى الاَمين الحريص على السُنّة المطهّرة فيتبعوه، لكنّهم ـ مع الاَسف ـ قلبوا المعادلة رأساً على عقب! فلم يحفظوا عن أهل بيت نبيهم إلاّ القليل، بينما حفظوا عن غيرهم الشيء الكثير، وكأنّهم أُمروا بذلك فاقتدوا.
لقد دوّنوا لاَبي هريرة وحده (5374) حديثاً، بينما دوّنوا من أحاديث أمير المؤمنين عليه السلام (536) حديثاً فقط، ثم ضعّفوا منها(486) حديثاً، واعترفوا بصحّة خمسين حديثاً، وعلى هذا يكون ما سمعه الوصي من النبيّ صلى الله عليهما في ثلاث وعشرين سنة أقل من عُشر ما سـمعه أبو هريرة في ثلاث سنين! وأين (شيخ المضيرة) من علي؟
ودوّنوا لصاحبة الجمل الاَدبِّ (2210) أحاديث، بينما دوّنوا لبضعة النبيّ ومهجته صلى الله عليه وآله فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين، ولسبطي الرحمة وإمامي الهدى الحسن والحسين عليهما السلام (39) حديثاً فقط!! منها(18) حديثاً للزهراء عليها السلام ـ اعترفوا بصحّة تسعها وضعّفوا الباقي ـ و (13) حديثاً للاِمام الحسن عليه السلام ، و (8) أحاديث للامام الحسين عليه السلام[1].
وليتهم ساووا في التدوين بينهم وبين عدوهم، ففي المعجم الكبير للطبراني أحصيتُ لمعاوية بن أبي سفيان (253) حديثاً مع المكرر[2]، هذا مع أن معاوية الباغي من مسلمة الفتح، وفاطمة عليها السلام كانت ـ على حدّ تعبيرهم ـ راشدة مع أبيها صلى الله عليه وآله عشر سنين!!
وأين الباغي الحقير من أهل الكساء وآية التطهير؟
وهكذا تراهم قد أساءوا أبلغ الاِساءة إلى النبيّ صلى الله عليه وآله من حيث يشـعرون أو لا يشعرون، لاَنّ صنيعهم هذا يعني أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله أرجع أُمته إلى مَن ضيعوا سُنته ولم يحفظوا منها إلاّ القليل الذي لا يغني ولا يُسمن من جوع!!
وبهذا يتأكد لكلّ منصف بأنّ ما يسمّى بعصر الانفتاح عند العامّة بعد عهد عمر بن عبد العزيز عاد انغلاقاً، وصار رفع الحظر على التدوين قيداً جديداً على تدوين الحديث، حتّى انفرط بذلك عِقده، وضاعت عليهم جواهره، بعد هجرهم الاَمين الحريص عليه وترك أخباره، وتكذيب أنصاره، وطمس آثاره.
وهذا هو الواقع المرّ الذي مارسه مدوّنوا تلك الفترة ـ وقد أشرنا لليسير الدالّ عليه ـ وكان من نتائج تدوينهم العليل ـ زيادة على ما مرّـ أن تورّمت دواوينهم الحديثية بكلّ غثّ وهزيل، وابتليت بكمّه الهائل أجيال من الاَُمّة، ولا زالت النفوس المريضة والعقول المتحجّرة ـ على ما يقوله أحد قادة الفكر الاَحرار من علماء الحديث عند العامّة ـ ترزح تحت وطأته وهي تحسبه أصحّ من الصحيح مع أنّ فيه من الاَضغاث الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان ما يحيّر الاَلباب ويدهش العقول[3].
ولعل السبب المعقول وراء بقاء ذلك الموقف الشاذّ حول السُنّة الشريفة على الرغم من سلبيته وأخطاره، هو اختلاف المسلمين في تفسير أحداث السقيفة، لاَنّهم بين مناصر لها ومخطط لنتائجها وهم من ظهر الحظر على
أيديهم أوّل مرّة، وبين من فاجأته بأحداثها السريعة الخاطفة، فسخر منها ونفى شرعيتها، وهو من قاوم الحظر وقاد التدوين المباشر للحديث ودعا إليه.
ولا شكّ أنّ أنصار الاَوّل وأتباعه من الرواة والمدوّنين في كلّ عصر وجيل إزاء ما دوّنه الثاني من الحديث على قسمين:
أمّا القسم الاَول: فهم من دعاة التعصّب والطائفية، وعلامتهم أنَّهم لا ينظرون إلاّ إلى أخبارهم، ولا يطيقون النظر الى غيرها، بل يطرحونها البتة من غير نقد ولا فحص ولا دراسة.
وأمّا القسم الثاني: فهم ينظرون إلى أخبار مخالفيهم، ويتأمّلون فيها، وهم على أصناف أربعة.
الصنف الاَوّل: وهم ممّن جهل الحقيقة، ومنعه اعتقاده الموروث عن اعتقاد صحّة أخبار من خالفه في اعتقاده، وربما وقف موقف الشاكّ من صحّة أخبار مخالفه التي لم تتقاطع أصلاً مع بعض مبتنياته، نتيجة للتضبيب حول تلك الاَخبار.
الصنف الثاني: وهم من يرون صحّة الصحيح عند مخالفهم، ولكنّهم مع هذا يجهرون بخلافه، ويختلفون عن دعاة القسم الاَوّل بكونهم مذعنين للصحيح عند المخالف في باطنهم، مكابرين في ظاهرهم، طلباً لحطام زائل، وتوصلاً إلى مقصد عاجل.
الصنف الثالث: وهم من عرف الحقيقة عند غيره، ولم يجادل فيها، أو يظهر خلافها، ولكنّه ـ مع ذلك ـ لم يجهر بها خوفاً وهلعاً، فتراه قد ستر أمره، ولم يُبد صفحته لقومه.
ولا يخـفى أنّ هـذه الاَصـناف الثلاثـة سـواء كـانوا رواة أو مدونين،
لا يُتَوقع منهم رواية الحديث الاِمامي، أو تدوينه؛ لما مرّ من أحوالهم.
الصنف الرابع: وهم الذين لم يكبّلوا أنفسهم بمذهب في الرواية، أو التدوين، فهم زيادة على ما يروون في تأييد آرائهم في اعتقادهم وأحكامهم، يروون أيضاً ما خالفها وناقضها اذا ما اطمأنوا إليه، وكذلك حال المدوّنين منهم، (وقليل ما هم)[4].
وهذا الصنف الاَخير يُعدّ السبب المباشر في وجود بعض الاَخبار المؤيّدة للشيعة الاِمامية في عقائدهم وأحكامهم في مصنّفات الحديث العامّية، نظير الاَخبار من المصرّحة بخلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وأنّه أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأنّ أهل البيت عليهم السلام ، هم الاَئمّة المنصوص عليهم، ونحو ذلك من الاَخبار التي لم تلق في فضاء الاَصناف المتقدّمة غير الآذان الصُمّ.
وهذا الصنف ينبغي أن لا يكون موضع تهمة بخصوص ما رواه مخالفاً لعقيدته إذا ما صحّت نسبته إليه، لما مرّ من أنّه منصف في رواية ماله وما عليه.
ومع هذه الحقيقة، فإنّك إذا ما رجعت إلى تراجم رواة الصنف الاَخير عند العامّة، تشعر وكأن من ترجم لهم قد أسف على وجود مروياتهم ضمن أخبار العامّة، ولهذا فقد تابعوهم بكلّ تضعيف وتوهين، موحين لك أو مصرّحين بتشيعهم، مع أنّك لا تجد لمعظمهم عيناً ولا أثراً في معاجم رواة الشيعة، وأمّا من وجد منهم فمصرّح بمخالفته في المذهب، ومن هنا وصلت الاَحاديث الصحيحة عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتب العامّة إلى
خمسين حديثاً من مجموع ما دوّنوه عنه عليه السلام .
ويبدو أنّ هذا الصنف نفسه لم تمنعه عامّيته مـن استماع أحاديث أهل البيت عليهم السلام وروايتها عنهم مباشرة أو بالواسطة.
ويدلّ عليه وجود مروياتهم عـن أهـل البيت عليهم السلام كما في كتب شيعتهم وهي كثيراً ما تكون سبباً لاختلاف الروايات وتناقضها في مدوّنات الشيعة، وذلك لموضع التقيّة فيها، أو الاِتقاء.
تقيّةً منهم، لخوف الضرر المحتمل من وصول الخبر إلى المخالفين، لكون الراوي منهم، وفيهم من فيهم.
أو اتّقاء عليهم، بمعنى الخوف عليهم من لحوق الضرر بهم لعلم المخالف بقربهم من الاَئمّة الاَطهار عليهم السلام .
ومن هنا كان مرد الكثير من الاَخبار المختلفة في التراث الاِمامي إلى تلك النكتة، على أن هـذا النمط من الاخـتلاف والتعارض لم يترك سدى، وهو ما اضطلع الشيخ الطوسي قدس سره بإزالته وبيان وجهه، وقضى بذلك على مايثيره بعض من عرفت تاريخ الحديث عنده، من شبهة اختلاف وتضاد أحاديث أهل البيت عليهم السلام ؛ حتى أسفرت جهود الشيخ في باب تعارض الخبرين واختلافهما عن دور عظيم في دراية الحديث فضلاً عن روايته وتدوينه.
نعم، واصل الشيخ الطوسي قدس سره السير الحثيث على الطريق الحديثي الواسع الذي شقّه عميد أهل البيت عليهم السلام في جَفْره المشهور، وصحيفتة المعروفة، وكتابه الموسوم بـ: كتاب علي عليه السلام ، وتابعه على ذلك أولاده الاَطهار عليهم السلام ، وكذلك حملة علومهم قبل زمان شيخ الطائفة بنحو أربعة
قرون[5].
فالشيخ إذن لم يتعامل مع تراث حديثي مفصول عن معينه، أو غضٍ طريٍّ لا تعرف أُصوله ودواوينه، بل مع مدوّنات حديثية بلغت في الكثرة إلى زمان الاِمام العسكري عليه السلام (ت|260 هـ) أكثر من ستة الاف وستمائة كتاب فيما أحصاها الشيخ الحرّ العاملي[6]، وكان من جملتها الاَُصول الاَربعمائة المشهورة ـ عند الشيخ يوم ذاك ـ شهرة كتبه الكثيرة في زماننا، وقد أورد الشيخ نفسه الكثير من اسمائها واسماء مؤلّفيها في كتابه الفهرست.
ولضخامة ذلك التراث، وطول امتداد عصر النصّ عند الاِمامية، وما رافق ذلك الامتداد من ظروف قاسية أوجبت على أهل البيت عليهم السلام الحفاظ على قيم الاِسلام ومبادئه ببقاء مهجهم الشريفة، مع اختلاف رواة الحديث إليهم، وتباين الرواة في عقائدهم وأفكارهم، وتعدد مذاهبهم وفرقهم، وتفاوت ضبطهم ووثاقتهم، ووجود المغرضين والمنافقين والكذابين بينهم؛ لذا كانت مهمّة من سبق الشيخ إلى تصفية ذلك التراث وتنقيته شاقّة وعسيرة، اضطلع بها جيل من الفقهاء وعلماء الرجال، حتّى وصل الاَمر إلى ثقة الاِسلام الكليني، والشيخ الصدوق من بعده وكلاهما من الفقهاء والمحدّثين وعلماء الرجال، وكذلك نظرائهم من القمّيين كالمحدّث والفقيه الرجاليالشديد فيالتضعيف والتوثيق الشيخ محمّدبنالحسن بن الوليد القمّي.
ولقد جاءت محاولات الجميع في غربلة ذلك التراث بنتائج طيبة إذ ابعدوا الحديث الموضوع والمكذوب على أهل البيت عليهم السلام ، واقتصروا على تدوين الحديث الصحيح أو ما رأوه قريباً من الصحّة، يساعدهم على ذلك تضلعهم في علمي الحديث والرجال، مع تراكم الاَعمال الرجالية السابقة ووصولها إليهم، وهو ما عبّر عنه الشيخ الطوسي نفسه، بقوله:
«إنّا وجدنا الطائفة ميّزت الرجال الناقلة لهذه الاَخبار، فوثّقت الثقات منهم، وضـعّفت الضـعفاء، وفـرقوا بين مـن يعتمـد علـى حـديثه وروايته، ومن لا يعتمد على خبره، ومدحوا الممدوح منهم، وذمّوا المذموم، وقالوا: فلان متّهم في حديثه، وفلان كذّاب، وفلان مخلّط، وفلان مخالف في المذهب والاعتقاد، وفلان واقفي، وفلان فَطَحي وغير ذلك من الطعون التي ذكرها، وصنّفوا في ذلك الكتب»[7].
ويظهر من تعامل الشيخ مع الاَخبار في كتابيه العظيمين: التهذيب، والاستبصار، أنّ الجهود السابقة لم تنصب بشكل مباشر إلاّ على فرز الحديث المكذوب عن غيره، وأنّه لم يتحقّق اشتغالهم برفع الاختلاف وحل التناقض بين الاَخبار، ولا إهمال الشاذّ النادر ولكنّهم أفردوه بأبواب خاصّة، تشعر بشذوذه وندرته، كما أنّهم لم يهملوا الضعيف بالاِرسال أو الانقطاع ونحو ذلك في مدوّناتهم، بل أوردوه مع المسند من قبيل الشواهد والمتابعات، وإن كان ظاهر الكافي والفقيه الاحتجاج به عند عدم المعارض مع وجود ما يدلّ على صدقه.
نعم، كان جلّ عنايتهم ما ذكرناه مع إهمال ما سواه اللهم إلاّ إذا
استثنينا بعض ممارساتهم العلمية التي برز بها القمّيون خاصّة، كما نجدها أيضاً عند الشيخ الصدوق في علاج بعض الاَخبار المتعارضة وبيان وجهها في كتابه الفقيه[8]، مع أنه مصنَّفٌ لغرض الاقتاء على طبق النصوص، وهذا يعني عدم الحاجة إلى تتبع موارد الاختلاف والتضاد والاكتفاء بما يراه صحيحاً فقط.
ومن هنا اضطلع الشيخ الطوسي بتهذيب ما تركوه، فقفز الحديث على يديه إلى مستوى طموحه في التجديد، وقابليته الفذّة على الابداع في بحوث العلوم الشرعية باسرها، من تفسير وحديث وفقه واصول وغيرها.
أمّا التفسير، فقد مرّ دوره فيه في الحلقة السابقة، وقد اتضح هناك كيف تهيأت للتغير وعلى يديه وسائل النهوض والارتقاء به حتى وصل الى رتبة عالية من النضج والكمال.
وأما الحديث، فالحديث عنه في فصول:
الفصل الاَوّل
لمحات في التراث الحديثي للشيخ الطوسي
في تراث الشيخ الطوسي ـ البالغ أكثر من خمسين مصنّفاً ـ مجموعة كبيرة جداً من الاَحاديث الشريفة، ولو قُدّر لها أن تُجمع في كتاب واحد بعد تصنيفها موضوعياً وتحقيقها علمياً؛ لاَصبحت بأيدينا موسوعة حديثية عظيمة تزيد على الوسائل حجماً، ويدرك من خلالها بيسر وسهولة طاقات الشيخ الطوسي وإسهاماته الجادّة في تغذية سائر العلوم الاِسلامية بالحديث الشريف، زيادة على ما تسديه من خدمة جليلة وبالغة في الدراسات الحديثية.
ومن تتبّعنا لما ذكره من الاَحاديث الشريفة في سائر مصنّفاته المطبوعة، وجدناها كالآتي:
1 ـ الاَحاديث التفسيرية، وهي كثيرة جداً، اتّصفت بروح المقارنة، وربما وصلت بمجموعها عدد أحاديث كتابه التهذيب.
2 ـ الاَحاديث الخاصّة بالعقائد الاِسلامية.
3 ـ الاَحاديث الواردة في دراية الحديث وروايته.
4 ـ الاَحاديث الخاصّة بعلم الرجال، وهي المروية عن أهل البيت عليهم السلام في تشخيص أصحابهم الفقهاء العدول والثقات، وأعدائهم من النواصب الكذابين والغلاة.
5 ـ الاَحاديث المستفادة في علم الاَُصول.
6 ـ الاَحاديث الخاصّة في الفلسفة والكلام.
7 ـ أحاديث الاَذكار والاَدعية.
8 ـ الاَحاديث الاَخلاقية.
9 ـ أحاديث الوعظ والاِرشاد.
10 ـ الاَحاديث الخاصّة بحياة أهل البيت عليهم السلام وتاريخهم.
11 ـ الاَحاديث الخاصّة بوقائع وأحداث التاريخ الاِسلامي، سواء في العهد النبوي أو في عهد الصحابة.
هذا فضلاً عما صنّفه من كتب خاصّة في أحاديث الاَحكام، وقد أخذت تلك الاَحاديث حيّزاً كبيراً في مؤلفاته ورسائله الفقهية أيضاً.
وأمّا عن مصنّفات الشيخ التي يمكن أن تكون أساساً لمعرفة هذه الاَصناف، فهي: التهذيب، والاستبصار، والاَمالي، والغيبة، والخلاف، ومصباح المتهجّد، والتبيان، وتلخيص الشافي، والعدّة في أُصول الفقه.
كما يمكن الاستفادة أيضاً من كتبه الاَُخرى ورسائله المتعددة لاشتمالها على جملة من الاَحاديث، كالمسائل الكلامية، والاعتقادات، والمسائل الحائرية، ورسالة في تحريم الفقاع، وغيرها.
ولما لم يكن الهدف من هذا هو دراسة تلك الاَصناف لتوزيعها من قبل الشيخ على علوم الشريعة التي سيأتي بيان دوره فيها، لذا سنقتصر على ما صنّفه في الحديث خاصّة، لاَجل بيان دوره فيه، وإن كان استجلاء ذلك الدور خليقاً بتتبّع ودراسة سائر موارده المبثوثة في دراسات الشيخ الطوسي وبحوثه، وهو ما قد نكتفي بالاِشارة السريعة إليه في هذه الدراسة.
وعلى أية حال، فإنّ الشيخ قدس سره قد صنّف في الحديث الشريف كتباً ثلاثة اشتملت على أكثر من خمسة عشر ألف حديث، وهي:
1 ـ تهذيب الاَحكام .
2 ـ الاستبصار فى ما اختلف من الاَخبار.
3 ـ كتاب الغيبة.
4 ـ الاَمالي، أو المجالس في الاَخبار.
وسوف نذكر تعريفاً موجزاً بهذه الكتب، وعلى النحو الآتي:
أمّا التهذيب:
فهو ثالث الاَُصول الاَربعة في الحديث عند الشيعة الاِمامية، المتواترة النسبة إلى مؤلّفيها بنحو القطع، وهو مشتمل على عدّة من كتب الفقه كما صرّح بذلك الشيخ نفسه في كتابه الفهرست، إذ ترجم لنفسه، وعدَّ مصنّفاته بقوله: «.. له مصنّفات، منها: كتاب تهذيب الاَحكام وهو مشتمل على عدّة كتب من كتب الفقه»[9].
ثمّ ذكرها ابتداءً بكتاب الطهارة، وانتهاءً بكتاب الديّات، فكانت ثلاثة وعشرين كتاباً، وهي في المطبوع كذلك.
وقد أحصى العلاّمة النوري في كتابه خاتمة المستدرك عدّة أبواب وأحاديث التهذيب، فبلغت (393) باباً، و (13590) حديثاً[10]، وهناك بعض التفاوت اليسير بين هذا الاِحصاء، وبين ما في المطبوع، وقد وقع نظيره في عدّة أبواب وأحاديث الاستبصار كما سيأتي بيانه وتبريره في محلّه.
وهذا الكتاب المعبّر عنه بالرمز (يب) لاَجل الاختصار، يُعدّ أول مؤلّفات الشيخ قاطبة؛ لاَنّه أرجع في أغلب كتبه إليه، ولم يُرجع فيه إلى أي
منها، كما أنّه ابتدأ به عند عدّ مؤلّفاته في الفهرست، زيادة على أنّه شرع بتأليفه في حياة أُستاذه الشيخ المفيد أبان فترة تلمذته عليه كما هو ظاهر من نقل عبارات الشيخ المفيد في كتابه المقنعة مقرونة بالدعاء له والتأييد، كما في سائر العبارات المنقولة عنه في الجزء الاَوّل وبداية الثاني من التهذيب، ثمّ بدأ بالترّحم على روح شيخه المفيد قدس سره في باب فرض الصلاة في السفر[11]، وهكذا إلى آخر الكتاب، وهذا يعني وفاة الاَُستاذ والشيخ بعد لم يتمّ كتاب الصلاة.
وبما أنّ عـمره يوم وفـاة أُستاذه الـمفيد ثمانية وعشرون عاماً ـ وهو لا يكفي لاَكثر من التهذيب مع التلمذة ـ، فيعلم منه أنّه شرع في تأليف التهذيب وهو دون هذا السن، ولكن لا يعلم بالضبط في أيّة سنة من السنوات الخمس التي قضاها تحت رعاية الشيخ المفيد، ولعلّ احتمال السـنة الاَُولـى، أو الثانيـة هو الاَرجح من السنوات الثلاث الاَُخر؛ بلحـاظ ما يتقدّم ـ عادة ـ على التصنيف من وقت كثير لجميـع مادّتـه، وهـو غـالباً ما يستنزف الجهد الكثير لتتبّع المصادر، لا سيّما اذا كان مشروع البحث الحديث، لكثرة موارده وشوارده، فكيف لو كان الاَمر متعلّقاً بكتاب مثل التهذيب الذي لم يكن مجرد شرح لمتن فقهي؟ وإنّما كان لاَغراض وأهداف كبيرة، لم يتصدّ لها أحد من علماء الشيعة قبل زمان الشيخ قطّ.
وعلى هذا يمكن القول: بأنّ الشيخ انطلق نحو أفق التأليف ليحلّق عالياً جداً في سمائه، وهو دون الخامسة والعشرين، وكان التهذيب بداية الانطلاق.
وإذا ما نظرنا إلى ما في تهذيب الاَحكام من «دقائق نفيسة، وآراء ناضـجة، وترجـيحات مسـتقيمة، ومحاسن لا تُقدّر بقيمة»[12]، زيادة على ما فيه من لفتات الاستدلال البارعة مع التفنّن بطرق الجمع والترجيح المتعددة، وتتبّع الآف الروايات المتّفقة والمختلفة، وروايتها عن عشرات المشايخ وربط حديثهم بمصادره عبر سلاسل الرواة؛ تعلم عبقرية الشيخ الطوسي وهو في هذه المرحلة المبكّرة من العمر.
وغرضنا من التعرّض لمثل هذه الاَُمور ونظائرها التي قد تبدو قليلة الاَهمية في بيان دور شيخ الطائفة في الحديث وعلومه، إنّما هو لاَجل اكتمال الصورة حول توجّهه الكامل إلى خدمة الحديث الشريف في حياته العلمية كلّها، ابتدء من الشروع بتأليف التهذيب في سنّ التلمذة على يد الشيخ المفيد، ثمّ الاِبداع النادر في الاستبصار في عهد السيّد المرتضى.
مع الاِلتفات إلى حاجة الاَُمّة إلى حقيقة الاِمام المهدي عليه السلام وغيبته على ضوء ما ورد فيها من أخبار قبل ولادته عليه السلام ، كما يتّضح من تأليفه كتاب الغيبة أثناء زعامته الدينية المطلقة ببغداد، ولم تتعبه السنوات العجاف التي ساد فيها ليل السلاجقة، فهاجر إلى النجف ليواصل عطاؤه العلمي، فترك لنا من الحديث ـ بعد أن قارب السبعين خريفاً ـ كتابه الاَمالي أو المجالس في الاَخبار.
وقد كانت وراء كل هذه المؤلّفات وغيرها أهداف وغايات سامية، ففي أماليه مثلاً حاول بيان وجه الحقّ الذي طالما حاولت بعض الجهات
المتطرفة إماتته بشتّى الوسائل، تارة بالحظر، وأُخرى بالتدوين، ولهذا نجد فيه التركيز المستمر على بيان النصّ المتواتر على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وفضح محاولات الالتفات عليه بشتّى الروايات.
وفي الغيبة أراد إيضاح حقيقة الفرق المخالفة وتفنيد مزاعمها بخصوص من انتحلوا له صفة المهدوية كذبا وزوراً وجهلاً، مع إيضاح حقيقة الحال وبيان من هو الاِمام المنقذ الذي سيملاَ الاَرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً، مع تأكيد غيبته عليه السلام بمئات الروايات المنقولة بالاِسناد عن آبائه الاَطهار قبل ولادته المباركة بعشرات السنين.
وفي الاستبصار رأى أنّ يجمع الاَخبار المختلفة والمتعارضة ليبيّن حقيقتها وواقعها بطريقة لم يسبقهُ اليها سـابق ولم يلحـق به أو يجاره عليها ـ على طول الزمان ـ لاحق، حتّى أصبح الاستبصار فريداً في بابه، بشهادة أهل الحديث وأربابه.
وأما التهذيب، فقد رام فيه القضاء المبرم على الاِثارات التي كانت تصدر بين حين وآخر من قبل خصوم أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بخصوص تباين أخبار الشيعة وتضادّها وتناقضها، وغلق المنافذ التي يتسلل منها الخصوم لا سيّما بعد أن وجدت شبهاتهم في بعض النفوس المتخاذلة مكاناً، إذ لم يتعمّقوا في حقيقة المذهب الحقّ.
ومن هنا نجد الشيخ في التهذيب قد تابع تلك الشبهات والاِثارات وفندها بالدليل تلو الآخر، ولم يكتف بذلك، إذ وجد الطريق مناسباً للرّد والنقض، فسلكه وسار عليه بخطوات ثابتة لم تزل عن مكانها ولو مرة واحدة، حتّى جاء التهذيب بأروع ما يكون في بيان تناقض الخصم وتهافت آراؤه وبطلان حججه، وفي أماكن شتّى في أبوابه ابتداءً من مسائل
الوضوء[13]، وانتهاء بمسائل الميراث[14].
وقد أشار الشيخ إلى غرضه هذا في مقدّمة الكتاب، ومنه يعلم غيرته العظمى على الدين وتزييف رأي من خالفه وبيان تناقضه وجهله بالاَحكام.
فالتهذيب إذاً مع كونه كتاباً حديثياً، إلاّ أنّه ضم، بين دفتيه دفاعاً محكماً عن مبتنيات أهل الحقّ في سائر الفروع الفقهية ابتداءً من الطهارة وانتهاءً بالديّات، وذلك بجمع أدلّتها من الحديث الصحيح المسند مع تضعيف ما خالفها أو تأويله بكل دقّة وتفصيل.
ومن هنا وقف فحول العلماء إزاء التهذيب والاستبصار معاً موقف الاِعجاب الشديد، ولا بأس بنقل ما قاله واحد منهم، وإن لم يكن الغرض تفصيل أقوالهم.
قال السيّد بحر العلوم قدس سره في الفوائد الرجالية عن دور الشيخ الطوسي فى الحديث وأمّا الحديث، فإليه تُشد الرحال، وبه تبلغ غاية الآمال، وله فيه من الكتب الاَربعة ـ التي هي أعظم كتب الحديث منزلة، وأكثرها منفعة ـ: كتاب التهذيب وكتاب الاستبصار، ولهما المزيّة الظاهرة باستقصاء ما يتعلّق بالفروع من الاَخبار، خصوصاً التهذيب، فإنّه كافٍ[15] للفقيه فيما يبتغيه من روايات الاَحكام مغنياً عمّا سواه في الغالب، ولا يغني عنه غيره
في هذا المرام، مضافاً إلى ما اشتمل عليه الكتابان من الفقه والاستدلال، والتنبيه على الاَُصول والرجال، والتوفيق بين الاَخبار، والجمع بينها بشاهد النقل أو الاعتبار»[16].
ومن هنا اعتمد التهذيب بشكل مباشر فطاحل الفقهاء، قال السيّد محسن الاَمين العاملي عن هذه الظاهرة: «وكفى أنّ العلاّمة الحلّي جعله موضع اعتماده وحده في نقل الاَحاديث في كتاب التذكرة إلاّ ما شذّ»[17].
[2]. انظر: المعجم الكبير ـ للطبراني ـ، الاَحاديث من (679) إلى (932) فكلّها من رواية الباغي.
[1]. ما ذكرناه من استقراءات تجده في الكثير من تراجمهم بكتب العامّة، وقد جمعها واحد من فضلائهم، وهو الاَُستاذ مروان خليفات الاَردني بعد ركوبه سفينة النجاة.
انظر: كتابه وركبت السفينة الفصل الثاني من الباب الثاني بعنوان: ضياع السُنّة.
[5]. راجـع: بحثنا المنشـور في تـراثنا العددان 47 ـ 48 السنة الثانية عشرة|رجب ـ ذو الحجّة 1417 هـ، بعنوان: «تاريخ الحديث وعلومه»، فقد أوردنا فيه مراحل تدوين الحديث عند الشيعة الاِمامية، ابتداءً من عصر الرسول صلى الله عليه وآله ، وانتهاءً بعصر الشيخ الطوسي قدس سره .
[15]. في الاَصل «كان»، والتصويب من العلاّمة النوري في خاتمة المستدرك 6|13 من الفائدة السادسة، والسيّد حسن الخرسان فى مقدمة تحقيقه لكتاب التهذيب 1|46، فلاحظ.
[3]. وهذا الكلام هو ماصرح به الاَُستاذ محمود أبو ريّة المصري في جميع كتبه ومقالاته لا سيّما كتابه الشهير عن أبي هريرة المعروف بـ: شيخ المضيرة، فراجع.
[7]. العدّة في أُصول الفقه ـ للشيخ الطوسي ـ 1|141، من الطبعة المحقّقة.
[9]. الفهرست: 159 ـ 160 رقم 699.
[17]. أعيان الشيعة ـ للسيّد محسن الاَمين العاملي ـ 9|161.
[16]. الفوائد الرجالية ـ للسيّد بحر العلوم ـ 3|229.
[8]. وقد بيّنا نماذج كثيرة من الاَخبار المختلفة مع موقف الشيخ الصدوق منها في البحث المنشور فى مجلّة علوم الحديث العدد 2 السنة الاَُولى، بعنوان «مع الصدوق وكتابه الفقية».
[6]. كما في خاتمة وسائل الشيعة 30|165، الفائدة الرابعة من الخاتمة.
[14]. انظر: كذلك ما بيّنه من تناقضهم في إبطال العول والعصبة في التهذيب 9|247 ـ 268 باب 21.
[10]. خاتمة مستدرك الوسائل 6|415، من الفائدة السادسة.
[11]. انظر: تهذيب الاَحكام 2|12 باب رقم 2، أوّل الباب.
[13]. انظر: ما قاله الشيخ في التهذيب 1|52 ـ 103 باب 4 في صفة الوضوء.
[4]. سورة ص 38: 24.
[12]. مقال للشيخ المظفر عن الشيخ الطوسي، منشور في مجلّة النجف العددان 6 ـ 7 السنة الثانية ص 4، نقلناه عن كتاب الشيخ الطوسي للاَُستاذ الدكتور حسن عيسى علي الحكيم: 349.