يقول أحد العلماء المعاصرين في تعريف «الأصل» مايلي: «الأصل هو الكتاب الذي يحوي الأخبار والآثار التي جمعت بقصد ضبطها وحفظها من التلف ومن النسيان، ولكي يرجع اليه الجامع أو غيره عند الحاجة.»7
السيد محسن الامين، بعد استعراض بعض التعاريف، يقول: «كل هذه التعاريف لا تعدو أن تكون مبنية علي الحدس والتخمين.»8
وربما تكون هذه النظرة ناجمة عن كون هذه التعاريف لا تستند الي دراسة نصوص تلك الأصول. إننا من الناحية التاريخية، لا نجد هذا الاصطلاح إلا في كتب الشيعة من القرن الخامس الهجري وما بعده، و علي وجه الخصوص في كتب ثلاثة منهم، وهم: محمد ابن محمد بن النعمان الملقب بالشيخ المفيد (توفي 412ه·· )، وابو العباس النجاشي (توفي 450ه·· ) وابوجعفر محمد بن الحسن الطوسي (توفي 460ه·· )، وذلك لأننا عند دراسة فهرست الطوسي والنجاشي نستنتج أن «الأصل» صفة مستقلة تطلق علي بعض كتب الحديث، ولعل الاستعمال الأول استند إلي المعني اللغوي للفظة «أصل» والتي كانت تطلق علي كتب أخري ايضاً ثم تبلور مفهومها في اصطلاح جديد. و دليلنا علي ذلك نموذجان نكتفي بهما من فهرست الطوسي:
1. جاء في مقدمة الكتاب: «إنني عندما بحثت بدقة عن أعمال عدد من كبار المحدثين الشيعة ـ والتي تسرد كتب محدثي الامامية والأصول التي رووها ـ لم أجدها فيها، ما عدا ما جمعه أبو الحسن بن الحسين بن عبيد الله الغضائري، وذلك لأنه ألف كتابين تحدث في أحدهما عن الكتب، و في الآخر عن الأصول.»9
2. في أحوال بندار بن محمد بن عبدالله يقول: «له عدة كتب، منها كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وكتاب الصوم، وكتاب الحج، وكتاب الزكاة، و غيرها مما كتبت بترتيب كتب الأصول وعلي نسقها.»10
علي الرغم من أن الطوسي استعمل لفظة «أصل» أكثر من غيره، إلا أننا لا نجد في أي موضع من كتابه، ولا من كتب معاصريه، تعريفاً لمفهوم «الأصل».11
واستناداً إلي أقدم المصادر، فإن أول من استعمل تعبير «الأصل» في قبال: كتاب، مصنف، رسالة، نوادر و غير ذلك، هو الشيخ المفيد، إذ ينقل عنه ابن شهر آشوب قوله إن الإمامية، منذ أيام امير المؤمنين علي (ع)، حتي عهد أبي محمد الحسن العسكري (ع) ألّفوا400 كتاب تسمي الأصول، والهدف من ذلك هو أن يقولوا إن الراوي الفلاني له مؤلف في الاصول.12
اذن، إذا أخذنا بنظر الاعتبار تقدم الشيخ المفيد علي الشيخ الطوسي والنجاشي، وأنه في آخر كلامه يقول إن هدف علماء الإمامية هو تبيان كون الراوي الفلاني كتب «اصلا»، فإننا نستنتج من ذلك أن هذا الاصطلاح كان متداولاً بين المحدثين وعلماء رجال الشيعة، علي الرغم من أن شيئاً عن هذا لم يصلنا منه. وبناء علي ذلك ليس من السهل إثبات أن مصطلح «الأصل» قد استعمله بصورة مستقلة هؤلاء العلماء الثلاثة، وإن كان النقد موجهاً إلي كل تعريف من تلك التعاريف. إلا أن البحث في التعاريف الماضية، وما سيأتي فيما بعد، لا يبقي مجالا للشك في أن «الأصل» عنوان مستقل يطلق فقط علي بعض كتب الحديث التي لها ميزة خاصة.
الفرق بين «الأصل» و «الكتاب»
الشيخ عبدالله المامقاني، العالم الكبير بالرجال، يقول في هذا الباب: «ليس ثمة شك في اختلاف «الأصل» عن «الكتاب»، وذلك لأننا كثيراً ما نشاهد في كتابات علماء الرجال أنهم يقولون بشأن أحد الرواة: «كان له (أصل) وله كتاب».ينبغي أن نقرأ ما يقوله الشيخ الطوسي بشأن زكريا بن يحيي الواسطي: «له كتاب (الفضائل) وله (أصل) ايضاً.» فلوكان الكتاب والأصل شيئاً واحداً لما كان كلامه دقيقاً. كما أننا نقرأ له بعض العبارات يقول فيها: «للراوي الفلاني كتابان او عدد من الكتب.» ولكنه لا يقول ابداً ان الراوي الفلاني كان له أصلان أو عدة أصول.13 بل يذكر أصلا مفرداً لأي صاحب أصل، لا تثنية ولا جمعا.
لعلنا نستطيع أن نعثر علي العلة في الرأي القائل: بالنظر لأن الأصول غالباً ما تكون عديمة الترتيب والتبويب، وأن صاحب الأصل يجمع جميع الروايات التي سمعها من المعصوم (ع) أو من أحد أصحابه في كتاب واحد، فمن الطبيعي أن يكون صاحب مجموعة روائية واحدة تسمي «الأصل». أما الكتاب الذي غالباً ما يكون جامعاً لروايات تخص موضوعاً خاصاً، يكون متعدداً بحسب تعدد أبوابه ورواياته المختلفة.
ويضيف صاحب الرأي قائلاً: ثم إن كتب المحدّثين الشيعة ومصنفاتهم اكثر من 400 عدداً، فقد ذكر علماء الرجال لابن ابي عمير 94 كتاباً، ولعلي بن مهزيار 35 كتاباً، وللفضل بن شاذان 180 كتاباً، وليونس بن عبدالرحمن اكثر من 300 كتاب، ولمحمد بن محمد بن ابراهيم اكثر من 90 كتاباً، ومجموعها يفوق 679 كتاباً لخمسة اشخاص فقط، فما بالك بمالسائر العلماء الآخرين. لذلك لابد من وضع عنوان خاص لبعض كتب الحديث واستثناء غيرها من هذه التسمية.
أما الفروق التي ذكرت للتمييز بين (الأصل) و(الكتاب) فهي:
1. ينقل وحيد البهبهاني عن عالم لا يذكر اسمه قوله:«الأصل هو المجموعة التي تضم كلام المعصوم (ع) فقط، أما في الكتاب فبالاضافة الي كلام المعصوم (ع) قد يضم بين تلافيفه كلام المؤلف ايضا.» ولتأييد هذا الكلام يستشهد القائل بقول للشيخ الطوسي في ذكر أحوال زكريا بن يحيي الواسطي جاء فيه «له كتاب (الفضائل) و له أصل ايضا.» يقول المرحوم وحيد البهبهاني إن الاستشهاد بكلام الشيخ بقصد تأييد هذا الرأي يدعو للتأمل، إلا أن رأيه قريب إلي الواقع إلي حدٍ ما وله بعض التأثير في إثباته. ثم يشير إلي ناقدي الدعوي فيقول: ثمة اعتراض علي هذا الأمر بالنظر إلي أن الكتاب أعم من الأصل14، ولكنه يعود ليقول إن هذا الاعتراض غير صحيح، لأن القصد هو بيان الفرق بين الكتاب الذي ليس أصلاً ويقف مقابلا له، والكتاب الذي هو أصل، كما أن حصر تسمية ال 400 مجموعة بالأصول يعود الي هذا الأمر.
و الاعتراض الآخر الموجه إلي هذا القول هو أن في كثير من الأصول نجد كلاماً للمؤلف أيضا، ولكن في كثير من الكتب لا وجود لكلام المؤلف إضافة إلي كلام المعصوم، مثل كتاب سليم بن قيس15، فيرد علي ذلك قائلا: «إن هذا الاعتراض، كما ترون، ليس سوي مجرد ادعاء، كما أن شذوده عن الواقع لا يخفي علي كل مطلع علي أحوال الأصول. نعم إذا ادعي أن كلام الكاتب قد شوهد بين طيات بعض الأصول، فانه لا يكون احتمالاً بعيداً عن الواقع، ولا يتعارض مع الدعوي المذكورة.» ولكن ما الدليل علي أن كتاب سليم ابن قس ليس من كتب الأصول؟ من الملاحظ أن كثيراً من التراجم تدل علي أن جميع كتب الأصول لم تكن متعينة عند القدماء. يتبين من كلام الشيخ علي احمد بن محمد بن نوح16. أن كتب الأصول كانت تمتاز بترتيب خاص17.
2. يستخرج المرحوم المامقاني من ذيل كلام وحيد اختلافاً آخر، وهو انه يتضح من كلام الشيخ أن كتب الأصول، بحسب رأي أصحابها، كانت ذات ترتيب خاص، إلا أنه يرد هذا قائلا إن معظم الكتب هي هكذا، فاذا كان يقصد بالترتيب الخاص شيئاً غير ترتيب الكتاب، فالكلام اجمالي غامض18.