كمال الدين
والآن اذا رمنا أن ندرس الأديان بموجب هذه النظرة، سوف نلاحظ أن كل دين قد جاء لهداية الناس في زمان معين، وعلي هذا الأساس ظهرت الأديان، وكل دين جديد جاء باضافات علي الدين السابق. ومن جهة أخري أدخل مرور الزمان الكثير من العقائد الباطلة والتحريفات في كل دين، مما اضطر معه الدين الجديد الي إنكارها والسعي لإصلاحها.إذن، كل دين يكون من جهة مكملا للدين السابق ويقوم من جهة أخري بإصلاحه. وقد استمرت هذه السلسلة من الإكمال والتصحيح حتي جاء أكمل الاديان وأصلحها إلي عالم الوجود. إن الدين الإسلامي، في الوقت الذي يشمل جميع ما يحتاجه البشر للنجاة حتي نهاية التاريخ، فإنه مصون من كل تحريف وتغيير، وهو خاتم الأديان ومبين جميع حاجات الإنسان، كما أن كتابه، القرآن، مصون من كل تغيير وتحريف.
2. أزمة ثبات الدين و تغير الدنيا
ولكن كيف يمكن أن يدخل دين إلي الوجود يحمل معه جميع ما يحتاجه البشر لنجاته حتي نهاية التاريخ؟ هذا الإنسان المبتلي بالتغير والتكامل إلي هذا الحد، كيف يمكن لدين أن يقدر علي هدايته إلي الأبد؟عندما وجد فريق من الناس أنهم أمام هذا السؤال الذي لا جواب له، تخلوا كلياً عن هذا الزعم، وقبلوا بذلة وخضوع بأن السرّ في خاتمية الدين هو انعدام حاجة الإنسان إلي الهداية الإلهية عند تكامله العقلي والفكري. ولكن اذا كان شيء كهذا صحيحاً فقد كان لابد أن يتحقق عدم حاجة الإنسان الي الدين بعد مضي قرن أو بضعة قرون علي ظهور الاسلام، ثم يواصل مسيرته مستهدياً بعقله.
إن التاريخ المعاصر خير دليل علي بطلان هذا الرأي فالإنسان فضلاً عن كونه لم يحس أبداً باستغنائه عن الدين، فإنه، بعد تمرده علي الدين (بعد عصر النهضة) وتذوقه طعم الكثير من المرارات علي هذا الطريق، يجد اليوم نفسه يزداد اقتراباً من الدين وإحساساً بحاجته إليه.
فريق آخر، أمام هذا السؤال، قبلوا بنظرية الدين المتكامل. إنهم يزعمون أن الدين الختامي هذا يتكامل باطراد، مع اطراد تكامل البشر ويتكيف باستمرار مع المقتضيات اليومية، فكان أن قامت هذه الفكرةبإدخال صفة التغير علي الدين وبإنكار خلود تعاليمه. وثمة فريق آخر أدرك هذه النتيجة، فسعي، بالتمييز بين «الدين» و«المعرفةالدينية»، أن يحل هذه المشكلة وأن يتجنب هذه النتيجة الفاسدة، فقالوا:«أصل الدين ثابت، أما المعرفة الدينية فمتغيرة ومتجهة مع المعرفة البشرية نحوالتكامل». ولكنهم، في الوقت نفسه، أدركوا أن الشيء المتغير والمعّرض لزوال لا يمكن أن يكون مقدساً، فقالوا:«الدين ثابت ومقدس، والمعرفة الدينية متغيرة و غير مقدسة». وعليه فإن مايصل إلي يد الانسان هو (المعرفةالدينية) و الدين في خلوته الخالدة يبقي بعيد المنال».
إن دينا سماوياً من هذا القبيل لا يكون له أي تأثير في حياةالانسان الأرضي بل هو بعيد عن تعريف «الدين» الذي هو مجموعة الأمور التي وضعها الله تعالي لهداية البشر وأبلغها إليهم عن طريق أنبيائه. فإذا اعتبرنا هذا هو الدين، ومع ذلك أصررنا علي ضرورة تغير المعرفة الدينية الحتمي، نكون في الواقع قد أوقعنا الدين في حالة التغير، و عرضنا الحل السابق في لبوس جديد. إذن نكون قد وصلنا الي حيث القول بأن ديناً كهذا لا يمكن أن يكون مقدساً.
فلكي نحل هذه المشكلة دون أن ننحرف أو نتجنب الطريق المستقيم ـ لا أن نكون علي الطريق فحسب ـ علينا أن نفكر في حال الإنسان وهل هو حقاً في حال التغير والتحول؟ هل جميع شؤونه عرضة للتغير؟ أم إن وراء هذا التغير الدائم نواة قائمة ثابتة؟ تلك النواة التي تربط بين ماضيه وحاضره ومستقبله، وتخلق منه هوية جارية في مجري التاريخ، وتعطي للثقافة والحضارة البشرية معناهما.
إن الانسان في الوقت الذي يتكامل فيه فكرياً ويتغير سلوكياً، يتمتع بثبات في فطرته و في هويته. إن التغييرات في العلائق الاجتماعية و في طراز الملابس وعادات السكن واستعمال مختلف الأدوات، لن تغير مطلقاً شيئاً من فطرة الإنسان و غرائزه.
إن الأسئلة الأساس التي طرحها الانسان علي مدي تاريخه الملتهب ثابتة و غير متغيرة، كما أن مشاعره وعواطفه ظلت كما هي دون تغيير، بحيث إن شعر هومر و فردوسي مايزال يثير مشاعرنا ويلهب إحساساتنا وانفعالاتنا، والدين ما يزال يهدي الجانب الثابت في الانسان، ولذلك تبقي التعاليم الدينية ثابتة لا تتغير، وهي علي ذلك تتصف بالقداسة.
3. العناصر الثابتة و المتغيرة في الدين
بناء علي ماسبق قوله، الدين الكامل يحتوي علي جميع العناصر الثابتة المؤثرة في نجاة البشر، وهذا المقدار هو مايقتضيه العقل، ولا يري الزيادة لازمة لكمال الدين. لذلك لو أن «خاتم الأديان» اكتفي ببيان العناصر الثابتة في كل مكان و زمان، من دون أن يشير بِشيء الي العناصر المتغيرة والآنية، ماكان العقل ليري فيه أي نقيصة. ولكن الذي حصل هو غير هذا، إذ إن الإسلام العزيز لم يكتف بذكر العناصر الثابتة العالمية وحدها، بل تفضّل و بين العناصر الآنية الخاصة بزمانها.فنحن، علي هذا الأساس، نعتقد أن رسول الاسلام (ص)، بالاضافة الي كونه رسولاً يبين العناصر العالمية الثابتة، كان يضطلع بمهمة الإمامة المعنية ببيان العناصر الآنية المتناسبة مع عصره وزمانه. وبعبارة أخري، في الوقت الذي كان يقوم فيه رسول الله (ص) بابلاغ العناصر الثابتة، كان يقوم أيضاً ـ بشخصه كنموذج كامل للإنسان المسلم علي أساس ما تقتضيه تلك العناصر الثابتة في زمانه ـ ببيان العناصر الزمكانية المتغيرة. والحقيقة إن رسول الله (ص) تقدم إلي ميدان التطبيق وإدارة المجتمع، فأسس أول حكومة إسلامية كنموذج لّتنظيم المجتمع الاسلامي علي وفق الأهداف الإلهية.
وعلي هذا الضوء يتبين كيف أن أحكام الولاية تتخذ مكانها إلي جانب الأحكام الإلهية في القاموس الإسلامي. الأحكام الإلهية هي نفسها الأحكام الاسلامية الثابتة الشاملة للعالم، وأحكام الولاية هي نفسها الأحكام المتغيرة الناجمة عن الأحكام الثابتة في ظروف زمكانية خاصة. والواقع هو أن الأحكام الثابتة هي جذور الأحكام المتغيرة، وأن الأحكام المتغيرة والزمكانية هي الأغصان والثمرات للأحكام الثابتة العالمية الشمول في ظرف خاص.