4. علاقة العناصر الثابتة بالمتغيرة
خزانة المعارف الإسلامية مليئة بالعناصر العالمية الشمول وبالزمكانية، منذ بعثة الرسول (ص) حتي الغيبة الكبري للامام المهدي (عج). ولقد سعي الفقهاء وعلماء الدين منذئذ، خلال تعاملهم مع هذه المجموعة الثمينة، أن يتبعوا أسلوباً تجزيئياً وتفصيلياً، وحيثما واجهوا سؤالاً، رجعوا اليها للعثور علي الجواب المطلوب. إلا أنهم في طريقتهم هذه لم ينظروا إلي علائق العناصر الثابتة بعض ببعض، ولا بالعناصرالمتغيرة، وما كان يعثر عليه فيها كان ينظر اليه علي أنه من الأمور الثابتة التي لا تتغير، مالم تكن هناك ثمة إمارة تدل علي خلاف ذلك مثل آية تدل علي كونه من شؤون الولاية، وعندئذ يعتبر ذلك الحكم الديني من أحكام الولاية، دون السعي للعثور علي الحكم أو الأحكام الإلهية التي تؤلف جذوره.أدي هذا الأسلوب بالمباحث الإسلامية إلي فقدان النظرة الواسعة المنظمة، وإلي أن تقف الأجزاء المكونة للفكرة الإسلامية جنباً إلي جنب من دون أي ترتيب أو نظام وعلي الرغم من أن هذا التقارب قد أوجد في النهاية ضرباً من النظم، إلا أن الترابط المنطقي بين الأجزاء وكيفية تأثيرها وتأثرها لم يكن يحظي بأي دراسة دقيقة.
كذلك لم يحظ جانب الولاية عند رسول الله (ص) والأئمة الأطهار (ع) بالاهتمام اللازم، بل اعتبر كل ما قالوه علي أنه من الأحكام الإلهية، وإذا كانت هناك آية أو إشارة تدل علي أن حكماً ما هو من أحكام الولاية اعتبروه كذلك ومروا به مروراً عابراً، دون أن يسألوا عن أرضيته وجذوره. إن أسلوباً كهذا إذا كان هادياً في حكومة غير إسلامية، أو في حكومة إسلامية عريقة، فإنه سيواجه في حكومة إسلامية جديدة الكثير من المشكلات والمواقف الضعيفة.
لذلك عندما ظهرت الحكومة الإسلامية المقدسة في ايران وتقدمت لإدارة مجتمع معاصر وفق المعايير الإسلامية، برزت أهمية دور فكرة الزمكان في الاجتهاد أكثر فأكثر، حتي أنها تنتصب اليوم كسؤال رئيس في وجه الفقهاء وعلماء الإسلام.
لا شك في أن التأثير الأصلي للزمان والمكان في دائرة الأحكام متغير لتشابكه مع الظروف الزمكانية. غير أن أهمية تأثير هذين العنصرين ليست في هذا فقط، بل في هذه الدائرة نفسها ينبغي التفكر والتأمل في كيفية تأثير هذين العاملين وتفاعلهما.
و في مجال العناصر الثابتة لم يعن بكيفية ارتباط العناصر في كل ميدان من ميادين المباحث الفردية و الاجتماعية، وكذلك ارتباط عناصر كل ميدان بالميادين الأخري. كل هذه الإبهامات جعلتنا غير قادرين علي إبراز أسماء إسلامية علي مختلف الصُّعُد، كالاقتصاد، والسياسة، والتربية، كما لم نستطع، من جهة أخري، أن نبين حدود تأثير الزمان والمكان وكيفيتها بوضوح وجلاء.
لذلك يصبح من الضروري أن تكون لنا نظرة منظمة عند ترتيب العناصر الثابتة في مختلف الميادين، كالاقتصاد والسياسة والحقوق، وأن نبين كيفية تفاعل هذه العناصر بعضها مع بعض. ثم لابد أيضاً من توضيح الارتباط! لمنطقي بين العناصر الثابتة والمتغيرة بعض ببعض، ومن تحديد ساحة عمل المتخصص في الدين وتمييزها عن ميادين عمل المتخصصين في العلوم الأخري، ومن بيان مجالات العمل المشترك و غيره. إن هذه الريادة النظامية أطلقنا عليها اسم «نظرية الفكر المدون (المنظم) في الإسلام» والتي سنشرحها بايجاز فيما يلي:
نظرية الفكر المدون في الاسلام
هذه النظرية تحوّلٌ نظامي في معرفة الدين، وجواب أساس عن الأسئلة التالية:* كيف يستطيع الدين الثابت أن يدير هذه الدنيا المتغيرة؟
* ماالذي يمكن أن نتوقعه من الدين علي الصُّعُد المختلفة من حياةالإنسان الاجتماعية؟
* كيف يمكن الحصول علي ما ينبغي أخذه من الدين؟
* مانوع العلاقة المنطقية بين العلم والدين؟
* ما هي سبل التعاون بين علماء الدين والمتخصصين في العلوم الأخري، و في أي الميادين يتم هذا التعاون؟
تتألف هذه النظرية من ثلاثة فصول أصلية:
1. الأسس الكلامية للنظرية
2.هيكل النظرية الأساس
3. النتائج الواضحة لمعرفة النظرية
الأسس الكلامية للنظرية
تستند «نظرية الفكر المدون في الإسلام» علي عدد من الأسس الكلامية التي تعتبر جميعاً من عقائدنا المحكمات، وقد سبقت الإشارة إليها، وهي:
أ. لقد بيّن الدين ما يستلزمه وصول الإنسان إلي السعادة.
ب. الإسلام العزيز خاتم الأديان، أي إنه أوضح للإنسان كل ما يحتاجه في كل الأزمنة و في أرجاء العالم برمته.
ج. شأن الدين أساساً هو بيان العناصر العالمية الشمول، بصرف النظر عن الزمان والمكان.1
د. رسول الاسلام، فضلاً عن الاضطلاع بشؤون الرسالة التي تقتضيها الاحكام العالمية، كان يضطلع ايضاً بشؤون الإمامة التي تستوجب الأخذ بنظر الاعتبار الظروف الزمكانية، وعلي هذا فقد أوضح أيضاً العناصر الآنية المتعلقة بزمان و مكان معينين.2
ه·· . كثيراً ما اختلطت العناصر العالمية الشمول في البيان مع العناصر الآنية. لقد أوضحنا إلي حدما فيما سبق الأسس الأربعة الأولي (أـ د). ولكننا هنا ينبغي أن نضيف الي الفقرة (د) أن الأئمة من أهل البيت (ع) بعد رسول الله (ص) كانوا يضطلعون ببيان العناصر العالمية الشمول والعناصر الآنية كليهما، بصفتهم خلفاء رسول الله (ص) في كلا الجانبين. وبناء علي ذلك، عندما نتكلم في الفقرة (ه·· ) علي اختلاط العناصر العالمية الشمول بالعناصر الآنية، يكون منظورنا السنّة عموماً، أي السنة النبوية و سنة أئمة أهل البيت (ع).
اختلاف العناصر العالمية الشمول عن العناصر الآنية
علي الرغم من أن فكرة وجود الثوابت والمتغيرات في الدين قديمة، وقد ترجع في الماضي القديم، إلي صدر الإسلام حيث اعتبروا بعض الأمور من الأحكام الخاصة بالولاية وبالظروف المعينة، إلا أن العناصر المتغيرة كانت تبدو وكأنها تصاغ في عبارات مستقلة عن العناصر الثابتة بحيث كان من الممكن فصل الأدلة الدالة علي الأحكام الثابتة عن الأحكام الدالة علي العناصر المتغيرة، ووضع حد فاصل بين الإثنين. وعلي أساس هذه النظرة اعتبروا القرآن كله والقسم الأكبر من سنّة المعصومين (ع) من أدلة الثوابت، باستثناءعدد محدود منها كانت في عداد المتغيرات، وكانوا يذكرون عشرات الشواهد لاثبات ذلك.