النقطة الاُولي : إنّه مع قطع النظر عن الدليل الدالّ علي صحّة الحوالة بعنوانها هل يمكن الحكم بصحّة كل من الأنحاء السابقة أو بعضها ، أو لا يمكن ؟
النقطة الثـانية : ملاحظة الدليل الدالّ علي صحّة الحوالة وأنّ موضوعه ما هو ؟
النقطة الثـالثة : إنّ كلمات الفقهاء وتعريفهم للحوالة ينسجم مع أيّ من الأنحاء السابقة ، وبتعبير أوضح : ماهي الحوالة بالارتكاز الفقهي من بين الأنحاء المذكورة ؟
فأمّا النقطة الاُولي : فلابدّ فيها من استعراض الأنحاء السابقة لنري ما يدلّ علي كل منها بقطع النظر عمّا دلّ علي الحوالة :
فأمّا النحو الأوّل : ـ وهو الوفاء ـ فليس عقدا ولا معاوضة ؛ أي لايندرج تحت عنوان العقود والمعاوضات ، فلا يمكن التمسك بصحّته بمثل : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ »( 10 ) ، ولكن بالإمكان تصحيحه بالارتكازات العقلائية القائمة علي توسيع نطاق الدين بحيث يشمل الفرد الذمّي والفرد الخارجي ؛ بمعني أنّ الكلّي الذي هو في ذمّة المدين لا يختص شموله للأفراد الخارجية بل يشملها ويشمل الفرد الذمّي الآخر ـ كما ذكرنا في النحو الأوّل ـ فيكون الكلّي الذمّي جامعا للخارجي والذمّي ، فإذا أدّي المدين فردا خارجيا من المال أو فردا ذمّيا فيحصل به الوفاء ، ولهذا تكون الحوالة منطبقة علي الوفاء لأنّها وفاء بالفرد الذمّي ، فلا فرق بين أداء الفرد الذمّي والفرد الخارجي غاية الأمر أنّه يحتاج في أداء الفرد الذمّي إلي رضا الدائن ، إذن فالارتكازات العقلائية تساعد علي توسيع نطاق الدين إلي الفرد الذمّي ، فتكون الأدلّة الدالّة علي وجوب وفاء الدين شاملة للوفاء بالفرد الذمّي كشمولها للفرد الخارجي ، فينعقد لأدلّة وجوب وفاء الدين إطلاق مقامي للحوالة كأيّ دليل يتكفّل حكم عنوان من العناوين من دون تخصيصه بخصوصيته ، ويكون للنظر العقلائي إمضاء فرد مشكوك وإدراجه تحت العنوان الكلي . إذن فهذا النحو الأوّل ـ وهو الوفاء ـ يمكن تصحيحه بلحاظ أحد هذين السبيلين المبتنيين علي الارتكاز العقلائي ، وهما :
الأوّل : الإطلاق المقامي لأدلّة وجوب وفاء الدين .
الثاني : السيرة العقلائية علي إمضاء الوفاء بالفرد الذمّي ـ أي الحوالة ـ مع عدم ردع الشارع عنها .
فيثبت بأحدهما أو بهما أنّ الحوالة وفاء .
وأمّا النحـو الثاني : ـ وهو التنازل ـ فقد تصورناه بأحد تقريبين :
الأوّل : أن يكون علي نحو الجعالة .
الثاني : أن يكون علي نحو الاستدعاء الموجب للضمان .
فأمّا التقريب الأوّل له فصحيح بضمّ أدلّة نفوذ التنازل والإبراء إلي أدلّة صحّة الجعالة ، وأمّا التقريب الثاني له فصحيح أيضا بضمّ أدلّة نفوذ الإبراء والتنازل إلي ما دلّ علي كون الاستدعاء موجبا للضمان وهو السيرة العقلائية مع عدم الردع عنها من قبل الشارع .
وأمّا النحـو الثالث : ـ وهو تغيير الدائن أو بيع الدين ـ فلا إشكال في أنّه مشمول لعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » ، فإنّه عقد ومعاوضة ، وذلك بناءً علي المختار من أنّ هذا العموم يرجع إليه حتي في تصحيح كل عقد ، ولا يكون الرجوع إليه منحصرا بإثبات لزوم كل عقد ، خلافا لما قيل من أنّ هذا العموم يرجع إليه في إثبات لزوم كل عقد لا في تصحيحه ، مضافا إلي الأدلّة الخاصة الواردة في باب البيع بالخصوص فإنّها تشمل هذا البيع ـ وهو بيع الدين ـ أيضا .
نعم في المقام إشكال واستدراك :
فأمّا الإشكال : فقد يقال : إنّا لو قطعنا النظر عمّا دلّ علي صحّة الحوالة بعنوانها فهذه المعاوضة ـ وهي بيع الدين ـ خارجة عن عموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » ، وكذلك هي خارجة عن شمول الأدلّة الخاصة الواردة في باب البيع ؛ وذلك لأنّ هذه المعاوضة عبارة عن بيع الدين بالدين ، وقد ورد في النبويّ أنّه صلياللهعليهوآله نهي عن بيع الدين بالدين( 11 ) فتبطل ، وحينذاك فلا يمكن تخريجها بالتخريج السابق .
والجــواب عن هذا الإشكال واضح ؛ فإنّ النبويّ الدالّ علي نهي النبي صلياللهعليهوآله عن بيع الدين بالدين ظاهره عدم جواز بيع الدين الذي يبقي علي حاله حتي بعد البيع بالدين الذي يبقي علي حاله أيضا ؛ أي إنّ ظاهره بقاء الدين الواقع ثمنا والدين الواقع مثمنا علي حاله ولا يخرج الدينان بالبيع عن كونهما دينين ، وأمّا إذا كان البيع موجبا لخروج أحد الدينين أو كليهما عن كونه دينا فلا يشمله النبويّ فيصحّ .
والمقام من هذا القبيل ؛ فإنّ الدين الثابت لعمرو علي زيد لايبقي علي حاله بعد البيع ، فإنّه بمجرّد ما اشتري زيد دينه الثابت في ذمّته لعمرو بالدين الثابت له في ذمّة خالد فهذا يعني انتقال الدين الذي كان علي زيد إلي نفسه ، وانتقال الدين إلي مَن هو عليه يعني سقوطه ، فيسقط الدين الثابت لعمرو علي زيد بهذا البيع ، إذن فلم يبقَ الدين علي حاله بعد البيع ، فلا يشمله النبويّ .
هذا هو الإشكال مع جوابه .
وأمّا الاستدراك فحــاصله : أنّا لو بنينا علي صحّة هذه المعاوضة وذلك استنادا إلي عموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ »والأدلّة الخاصة الواردة في البيع فحينذاك لابدّ من أن تخضع هذه المعاوضة للاستثناءات التي تخضع لها العقود والمعاوضات الاُخري ، فمثلاً دلّ الدليل علي اشتراط القبض في بيع الصرف ـ أي بيع النقود بالنقود ـ ومع عدم القبض لايصحّ ، فاستثني بيع الصرف من سائر البيوع بأن اشترط فيه القبض وبدونه لا يصحّ ، بخلاف سائر البيوع فإنّها تلزم قبل القبض وتصحّ ، فلو بنينا علي أنّ هذه المعاوضة أيضا بيع فلابدّ من أن نلتزم فيها بأنّه يشترط القبض إذا كان الدينان من قبيل الدراهم والدنانير ، كما إذا كان ـ في مثالنا السابق ـ زيد مدينا لعمرو بعشرة دنانير ودائنا لخالد بعشرة دنانير ، فإنّ بيع أحد الدينين بالآخر يكون من بيع الدينار بالدينار فيشترط فيه القبض .
وأيضا دلّ الدليل علي عدم صحّة بيع الطعام المسلم فيه قبل قبضه إلاّ بنحو التولية ـ وهناك قول بالكراهة ـ فإذا بنينا علي عدم جوازه فلابدّ من أن نلتزم به في المقام أيضا ، فإذا كان لعمرو منّ من حنطة في ذمّة زيد ولزيد منّ من حنطة في ذمّة خالد ببيع السّلم ـ بأن كان زيد قد أعطي الثمن وكان في ذمّة خالد أن يعطيه المنّ من الحنطة وقت حلول الأجل ـ فلا يجوز حينئذٍ أن يبيع زيد المنّ من الحنطة الثابت له علي خالد بالمنّ من الحنطة الثابت لعمرو عليه ما دام لم يقبض المنّ من الحنطة الثابت له علي خالد .
إذن فهذا النحو الثالث يصحّ بعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ »وبالأدلّة الخاصة في باب البيع .
وأمّا النحـو الرابع : ـ وهو تغيير المدين ـ فلا إشكال في أنّه لاتشمله الأدلّة الخاصّة الواردة في باب البيع وباب الجعالة وباب الصلح وباب الهبة وغيرها ؛ فإنّه لاينطبق عليه أيّ عنوان من هذه العناوين ، فليس بيعا ولا صلحا ولا جعالة ولا هبة ، فينبغي تصحيحه بالعمومات كعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » ، وهذا يتوقّف علي أن لا يكون المنصرف من العقود ما كان معهودا في عصر الشارع ، وأمّا لو بنينا علي أنّ المنصرف من الآية العقود المعهودة في عصر الشارع فلا يمكن تصحيح النحو الرابع إلاّ إذا أثبتنا أنّه حوالة ، فإن أثبتنا ذلك فتشمله أدلّة الحوالة وإن لم نثبته فلا يصحّ ، وحيث إنّ المختار في الآية عدم انصرافها إلي خصوص ما هو المعهود في عصر الشارع بل تشمل غيره أيضا فيصحّ هذا النحو الرابع أيضا استنادا إلي عموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » .