إذن فالأنحاء الأربعة كلّها صحيحة بالعمومات والأدلّة الخاصّة الواردة في البيع والجعالة وغيرها بلا حاجة إلي التمسّك بأدلّة الحوالة ، نعم يفيد التمسّك بأدلّة الحوالة بالنسبة إلي بعض الاستثناءات اللاّحقة للحوالة .
وبهذا انتهينا من النقطة الأولي .
وأمّا النقطة الثـانية : ـ وهي ملاحظة ما دلّ علي صحّة الحوالة وأنّ موضوعه ما هو ؟ ـ فنقول :
إن لاحظنا باب الألفاظ فينبغي أن نقول إنّ الحوالة المأخوذة بعنوانها في الروايات تحتمل احتمالين : فإمّا أن نقدّر أن تكون مضافة إلي الدين أو إلي الدائن ؛ أي إمّا أن يكون تحويل الدين أو تحويل الدائن .
فإن فرض الأوّل فمقتضي الجمود علي حاقّ اللفظ هو الالتزام بالنحو الرابع من بين الأنحاء الأربعة ، فإنّ النحو الرابع عبارة عن تغيير المدين ؛ أي تحوّل الدين من وعاء إلي وعاء آخر ، فهو تحويل للدين مع الحفاظ عليه ، وأمّا الأنحاء الاُخري فليست تحوّلاً للدين بهذا المعني .
وإن فرض الثاني ـ بأن كانت الحوالة عبارة عن تحويل الدائن لا تحويل الدين ـ فإمّا أن نفرض أنّ المقصود تحويل الدائن بما هو دائن فأيضا يكون مرجعه إلي تحويل الدين ؛ إذ معناه تحويل دائنيّته ، ولا يكون المقصود تحويل ذاته بل تحويل الصفة المتمثّلة به وهي الدائنيّة ، إذن فيكون تحويل الدائنيّة عبارة اُخري عن تحويل الدين فيرجع إليه .
وإمّا أن نفرض أنّ المقصود من تحويل الدائن دفعه إلي المحال عليه ليأخذ منه ما كان له أن يأخذ من المحيل ، فهذا يناسب جميع الأنحاء الأربعة ؛ فإنّ كلاًّ من الوفاء والتنازل وتغيير الدائن وتغيير المدين عبارة عن دفع المحتال الدائن إلي المحال عليه ، غاية الأمر أنّها تختلف اختلافا جزئيا كما اتّضح ، وحينئذٍ فيتمسّك بإطلاق الدليل الدالّ علي صحّة الحوالة ؛ إذ لم يؤخذ فيه سنخ تصرّف مقيّد بخصوصيّة تختصّ ببعض الأنحاء دون البعض الآخر ، بل له إطلاق لكلّ ما ينطبق عليه عنوان التصرّف الأوّلي الذي هو عبارة عن دفع ذات المحتال الدائن إلي المحال عليه ، وهذا هو ما قلناه سابقا من تقسيم العناوين إلي أوليّة وثانوية ، فإنّ هذا عنوان أوّلي للتصرف المباشر .
هذا كلّه إن لاحظنا باب الألفاظ ، إلاّ أنّ هناك عاملاً آخر ينبغي الالتفات إليه وهو الارتكاز العقلائي ، فإنّه لو فرض قيام الارتكاز العقلائي علي كون الحوالة عبارة عن النحو الأوّل ـ وهو الوفاء ـ فهذا بنفسه قرينة علي صرف ظهور اللفظ عن النحو الرابع إلي النحو الأوّل لو كان اللفظ مضافا إلي الدين ـ أي كان تحويل الدين الذي قلنا باختصاصه بالنحو الرابع ـ كما أنّه لو قام الارتكاز علي كون الحوالة عبارة عن النحو الرابع فهذا بنفسه قرينة علي صرف ظهور اللفظ عن بقيّة الأنحاء إلي النحو الرابع لو كان اللفظ مضافا إلي الدائن ـ أي كان تحويل الدائن الذي قلنا بشموله للأنحاء كلها ـ ولا يبقي للدليل إطلاق بحيث يشمل سائر الأنحاء ؛ وذلك لأنّ الدليل الدالّ علي إمضاء الحوالة إنّما يدلّ علي وجوب ترتيب أحكام عليها ، كبراءة ذمّة المحيل وعدم جواز الرجوع وغيرهما من الأحكام ، فتنصرف هذه الأحكام إلي المعاملة المعهودة بين العقلاء ، فينعقد للدليل ظهور في خصوص ما هو المرتكز عقلائيا .
لكنّ الإنصاف عدم وجود ارتكاز عقلائي كذلك ، ولعلّ أحسن الشواهد علي ذلك نفس الاختلاف الموجود بين العقلاء في فهم الحوالة ، فإنّ المسلمين ـ شيعة وسنّة ـ منذ مئات السنين يذكرون أنّ الحوالة استيفاء أو معاوضة أو من قبيل الاستيفاء أو من قبيل المعاوضة أو نقل الذمّة ، فنفس هذا الاختلاف قرينة علي عدم وجود ارتكاز عقلائي يقيّد الحوالة بشيء من الأنحاء الأربعة دون غيره ، فيتمسّك بإطلاق الدليل ـ بعد فرض إضافة الحوالة إلي الدائن ـ فيشمل الأنحاء الأربعة كلّها .
وأمّا النقطة الثالثة : ـ وهي ملاحظة أنّ الحوالة بحسب الإرتكاز الفقهي تنسجم مع أيّ من الأنحاء السابقة ؟ ـ فهذه من مشكلات الحوالة ، فإنّ فقهاءنا لم يتعرّضوا لحقيقة الحوالة بنحو فنّي وسيع دقيق بل اكتفوا بنفس الإجمال وفرّعوا عليها الفروع ، ومن هنا كان علينا أن نلتفت إلي الفروع المذكورة في الحوالة كي نري أنّها تناسب مع أيّ من الأنحاء ، ومقتضي الجمود علي ظاهر اللفظ الموجود في تعريفهم للحوالة ـ بأنّها : معاوضة تقتضي انتقال الذمّة إلي ذمّة اُخري ـ هو النحو الرابع ، فإنّه يقتضي نقل ذمّة إلي ذمّة اُخري ؛ لأنّه عبارة عن تغيير المدين ؛ أي تغيير وعاء الدين وهو الذمّة ، إلاّ أنّنا مع ذلك لا ندري أنّهم حين عرّفوا الحوالة بهذا التعريف هل كانوا ملتفتين إلي بقيّة الأنحاء الأربعة وخصّصوا من بينها النحو الرابع ، أو أنهم لم يكونوا ليلتفتوا إلي ذلك بل كان تعريفهم للحوالة تعريفا غامضا يمكن تطبيقه علي كلّ من الأنحاء السابقة ؟
وبالتدقيق في الفروع التي ذكرها السيّد قدسسره في العروة وذكرها الجواهر ومفتاح الكرامة تختلف مناسبتها للأنحاء ، وهذا ما سوف يتّضح عند البحث في الفصل الثاني والفصل الثالث .
وبهذا انتهينا من دور الفصل الأوّل ، وهو بيان حقيقة الحوالة والأنحاء المتصوّرة فيها .
في بيان مقوّمات الحوالة وأركانها وينقسم إلي ثلاثة أبحاث :
البحـث الأوّل : في عقد الحوالة .
البحث الثاني : في مال الحوالة .
البحث الثالث : في المتعاقدين .
فأمّا البحث الأوّل : ففي عقد الحوالة :
أي في الأداة الإنشائية التي بها يتنجّز التصرّف الذي تكلّمنا عن حقيقته ، والذي يبدو ويتحصّل من العروة أنّ في عقد الحوالة ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أن تكون الأداة الإنشائية عبارة عن عقد وعمل ثنائي يقوم بين المحيل والمحتال بحيث يكون المحيل هو الموجب والمحتال هو القابل ، وأمّا المحال عليه فلا يكون طرفا في العقد بل يشترط رضاه إمّا مطلقا ـ سواء كان مدينا أو بريئا ـ أو في خصوص ما إذا كان بريئا وأمّا إذا كان مدينا فلا يعتبر رضاه .
الثاني : أن تكون الأداة الإنشائية عبارة عن عقد وعمل ثلاثي مركّب من ثلاث فعّاليات : من المحيل والمحتال والمحال عليه ، وقد عبّر في العروة عنه بإيجاب وقبولين ؛ بحيث يكون الإيجاب من المحيل ، والقبول الأول من المحتال ، والقبول الثاني من المحال عليه إمّا مطلقا أو في خصوص ما إذا كان بريئا ، وهذه الفعّالية الثالثة الصادرة من المحال عليه عبارة عن نفس ذلك الرّضا الذي كان يعتبر في الاحتمال الأوّل من ناحية المحال عليه ، إلاّ أنّه حوّل إلي عمل إنشائي ، فبينما كان يعتبر رضاه ـ إمّا مطلقا أو إذا كان بريئا ـ في الاحتمال الأوّل حوّل هذا الرضا إلي عمل إنشائي هنا في الاحتمال الثاني ، فلا يكفي مجرّد رضاه من دون أن تصدر منه فعّاليّة متجاوبة مع فعّالية المحيل والمحتال .
الثالث : أن تكون الأداة الإنشائية عبارة عن إيقاع لا عقد ، وهذا الإيقاع يصدر من المحيل فقط ولا تعتبر فيه مشاركة المحتال معه أو المحال عليه ، بل يشترط فيه رضا المحتال ، وكذلك رضا المحال عليه إمّا مطلقا أو إذا كان بريئا ، وهو الذي اختاره السيّد قدسسره في العروة( 12 ) .
وتحقيق الكلام في ذلك يكون بتوضيح الموازين التي بها تكون المعاملة عقدا أو إيقاعا أو منوطة برضا الغير ، فهنا ثلاث خصوصيّات لابدّ من البحث عنها ، وهي :
الاُولي : الخصوصيّة التي بها تكون المعاملة عقدا ويشترك فيها اثنان أو أكثــر .
الثانية : الخصوصيّة التي بها تكون المعاملة إيقاعا ويكفي فيها الشخص الواحد .
الثالثة : الخصوصيّة التي بها تكون المعاملة منوطة برضا الغير سواء كانت المعاملة بنفسها عقدا أو إيقاعا .
فأمّا الخصوصيّة الاُولي : فكون معاملة عقدا مرجعه إلي أنّ القانون قد جعل هذه المعاملة تحت سلطة شخصين أو أكثر ، ولا يكتفي فيها بالشخص الواحد .
وأمّا الخصوصيّة الثانية : فكون معاملة إيقاعا مرجعه إلي أنّ القانون قد جعل هذا التصرّف تحت سلطة شخص واحد .