فالعملية روحها هو ما قلناه من تغيير الدائن ، إلاّ أنّ الفقه الغربي ألبسها ثوب عملية تغيير الدين وسمّاها بالتجديد ، وجعل الفارق بين الدين السابق واللاحق احتياج الأخير إلي إذن المدين حيث يراد جعل خالد دائنا له ، فأصبح الفقه الروماني بذلك معترفا بحوالة الحق بعدما كان ناكرا ، ثم اعترف الفقه الألماني الجرماني بحوالة الدين أيضا .
وقيل في سبب اعتراف الفقه الغربي بحوالة الحق : إنّ ركنيّة الدائن في الدين أخف وطأةً من ركنيّة المدين فيه ، فإنّ المدين لا يفرق في حاله بين أن يكون دائنه زيدا أو عمرا ، فإذا تغيّر الدائن لايضرّ به شيئا ، وأمّا الدائن فيفرق في حاله بين أن يكون مدينه زيدا أو عمرا ، فقد يكون المدين الأوّل أسهل في طلب الحق منه من المدين الثاني ، ولأجل هذا فلا يضرّ إن قيل بجواز حوالة الحقّ وتغيير الدائن دون حوالة الدين وتغيير المدين .
وثمّ بعد ذلك افترض عند الفقه الغربي أنّ حوالة الدين أيضا كذلك فاعترف بها ، وسيأتي بيان ذلك تفصيلاً .
وأخيرا : فقد اتّضح أنّ الإشكال الذي عاشه الفقه الغربي تجاه عمليّتي تغيير الدائن والمدين إنّما تولّد عن تصوّره لمعني الذمّة والدين ، وأمّا الفقه الإسلامي فقد أمضي هاتين العمليتين من دون أيّما إشكال ، وذلك علي أساس تصوّره لمعني الذمّة والدين .
نعم ، عاش الفقه الإسلامي سنخ الإشكال المزبور ، وذلك بالنسبة إلي نقل الحقّ وبيعه لا نقل الدين ، فإنّ هناك كلاما بين فقهاء الإسلام في جواز نقل الحقوق وعدمه ( 3 ) فجاء في ذلك إشكال نظير الإشكال السابق ، حيث قيل في مقام إفادة عدم الجواز : إنّ الحق عبارة عن الإضافة الشخصية ومتقوّمة بطرفيها ـ أي من له الحق ومن عليه الحق ـ فلا يتعقّل انحفاظ هذه الإضافة مع تبدّل طرفيها ، فمثلاً في باب الشفعة حيث إنّها حق للشريك فهي إضافة شخصية متقوّمة بالشريك الذي له الحق وبالمشتري الذي عليه الحق ، فإذا تغيّر أحدهما أو كلاهما بأحد أسباب النقل فقد تغيّرت الإضافة أيضا لتغيّر طرفيها المقوّمين لها ، فلا يتصوّر انحفاظها مع تبدّلهما .
وهذا الإشكال يؤول إلي الإشكال السابق الذي أورده الفقه الغربي علي انتقال الدائن والمدين ، وقد اقترح جملة من فقهائنا ـ كالمحقق الأصفهاني قدسسره ـ حلاًّ للإشكال ، وأفادوا : إنّ طرفي الإضافة قد لايكونان مقوّمين لها بل يمكن انحفاظها مع تبدّلهما ، فهذا يشبه كثيرا ما أفادوه في باب الدين من إلغاء مقوّمية الطرفين ، والتفصيل موكول إلي محلّه .
إذن فقد عاش الفقه الإسلامي روح الإشكال ولكن بالنسبة إلي باب الحقوق لا في باب الديون .
هذا هو النحو الرابع من أنحاء التصرّف المتصوّرة .
الخامس : هو تغيير المال نفسه وتطويره ، وسوف نؤجّل بيانه إلي ما بعد البدء في التخريجات لنكتة نذكرها هناك إن شاء اللّه .
الأمر الثالث :
إنّ العناوين المنطبقة علي التصرفات المعاملية علي قسمين :
الأوّل : العناوين الأولية الحاكية عن نفس التصرف المعاملي ابتداءً ومباشرة ، كعنوان البيع فإنّه لا يحكي إلاّ عن نفس التمليك والتصرف المعاملي بنفسه ، وكعنوان الهبة فإنّه يحكي عن نفس التمليك بعوض أو مجّانا .
الثاني : العناوين الثانوية المنتزعة عن التصرفات المعامليّة بلحاظ اُمور وإضافات زائدة ، كعنوان الحوالة فإنّه ليس حاكيا عن نفس التصرف المعاملي مباشرة ، بل هو عنوان ثانوي لهذا التصرف المخصوص بلحاظ أنّ هذا التصرف يكون عن طريق الإحالة فينتزع العنوان عن كيفيّة هذا التصرف ، وكعنوان الصلح فإنّه ليس عنوانا أوليّا للمعاملة ، فإنّ المعاملة المخصوصة إنّما ينطبق عليها عنوان الصلح بلحاظ أنّها اُنشئت بلسان التسالم والإصلاح فانتزع منها عنوان الصلح ، وكذلك عنوان الإجارة فإنّ هذه المعاملة عبارة عن تمليك المنفعة بعوض ، وانتزع منها عنوان الإجارة بلحاظ أنّها تكون عن طريق إيجار المالك عينه ، فهذا العنوان قد انتزع من العين ، ولهذا تسند الإجارة إلي العين لا إلي المنفعة ؛ أي يقال : آجر داره ، ولا يقال : آجر منفعتها ، فهذا يكشف عن أنّ هذا العنوان منتزع من هذه المعاملة المخصوصة لا أنّه ينطبق عليها مباشرة ، وإلاّ لصحّ إسناد الإجارة إلي المنفعة التي تقع المعاملة عليها .
وحينذاك فيجب التنبيه علي نقطتين :
النقطة الاُولي : أنّه ذكر في الجواهر في مقام تحقيق الحوالة وماهيّتها ـ بعد ذكر كلمات بعض العامّة وبعض فقهائنا في أنّها معاوضة أو استيفاء أو تغيير في المدين أو الدائن ـ أنّ الصحيح أنّ الحوالة أصل برأسها وعنوان مستقل ، فليست معاوضة ولا استيفاءً ولا غير ذلك ، فهي معاملة بنفسها مستقلة في عرض الاستيفاء كسائر العناوين التي تنطبق علي التصرفات مباشرة ، فالبحث عن أنّها وفاء أو تغيير للمدين أو غيره غير مجدٍ بعد فرض أنّها عنوان أوّلي غير منتزع عن شيء( 4 ) .
وهذا غير صحيح بعدما ذكرنا أنّ الحوالة بنفسها ليست عنوانا أوليا بل هي منتزعة عن العنوان الأوّلي بلحاظ نكتة ، فلابد من الفحص عن تلك النكتة هل هي نكتة الوفاء أو تغيير المدين أو غير ذلك ؟ فالبحث في تكييف الحوالة ضروري ، وكونها أصلاً من الاُصول لا يجدي بعد فرض أنّها عنوان ثانوي منتزع من العنوان الأوّلي .
النقطة الثانية : إذا دلّ الدليل علي إمضاء العنوان الثانوي لمعاملة ، فإمّا أن يفرض عدم الانفكاك بين العنوان الأوّلي للمعاملة وبين عنوانها الثانوي المنتزع عن ذاك ، فلا أثر عملي في البحث عن أنّ الدليل الدالّ علي إمضاء العنوان الثانوي يشمل العنوان الأوّلي أو لايشمله ؛ وذلك لفرض التلازم بينهما ، فإذا دلّ الدليل علي إمضاء أحدهما كان مثبتا للآخر أيضا كما هو كذلك في الإجارة ، فإنّه إذا دلّ الدليل علي إمضاء تمليك المنفعة بعوض فهو دالّ علي إمضاء الإجارة .