إخوان الصفا - أخوان الصفا (1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أخوان الصفا (1) - نسخه متنی

السید علی أحمد صبری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید











إخوان الصفا


أحمد صبري السيد علي



مساعد مدير مركز الفجر لحقوق الإنسان ـ مصر ـ القاهرة


ربما يبدو الحديث عن جماعة إخوان الصفا نوع من الخوض في المبهمات، فليس ثمة أسس أو أدلة تمكن الباحث من الاطمئنان لأي نتيجة قد يتوصل إليها، فإن أغلب الآراء التاريخية حول هذه الجماعة تقع في نطاق التخمينات.


فقد ظهرت رسائل هذه الجماعة السرية في فترة مضطربة (القرنين الثالث والرابع الهجريين)، شهدت سقوط البورجوازية التجارية بسبب فقدان العالم الإسلامي للسيادة علي البحار والمحيطات الأمر الذي أدي لاجهاض الصحوة العلمية التي كانت تقودها هذه الطبقة بعد أن فقدت أهم مواردها المالية، والسيطرة العسكرية التركية علي الدولة العباسية، وسيادة الإقطاع كطبقة وكنظام أساسي لعلاقات الانتاج في المجتمع، والمذهب السني في صورته السلفية كعقيدة رسمية.


من ناحية أخري، تكونت في تلك الفترة العديد من الحركات السرية المعارضة والتي قادتها الأنتلجنسيا الإسلامية التقدمية المنتمية إلي الطبقة البورجوازية التي كانت تسعي


* سينشر القسم الثاني في العدد القادم إن شاء اللّه‏.


لعودة سيادتها علي المجتمع والقضاء علي النظام الإقطاعي وحماية أفكارها التنويرية من الاندثار أمام سيادة النصية السلفية، وكان طبيعياً أن تتبني تلك الحركات شعارات بعض الدعوات المذهبية المعارضة كواجهة دينية لمطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خاصة تلك الدعوات التي كانت تنادي بحق الأسرة العلوية في تولي الخلافة، كالدعوتين الزيدية والإسماعيلية، والتي كانت تحمل مصداقية خاصة لدي الجماهير المسلمة لارتباط العلويين بالرسول (ص) وآل البيت (ع) من ناحية النسب، فارتبطت، علي سبيل المثال، الحركة القرمطية المعبرة عن الفلاحين بالدعوة الإسماعيلية، كما ارتبطت انتفاضة الزنج بالدعوة الزندية، وفي بعض الأحيان لم تكلف البورجوازية نفسها إدعاء أي أيدلوجية مذهبية مكتفية بتسليم قيادتها لأحد العلويين، كالثورات الفلاحية التي قادها العلويون بمصر وضمت في صفوفها الكثير من الأقباط المسيحيين.


والواقع أن الدعوات الشيعية التقدمية كالزيدية أو الإسماعيلية، لم تكن تحمل تصوراً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً مختلفاً عن التصور العباسي في مرحلته الأولي، ولم تتعد الخلافات بينها وبين العباسيين الخلافات العقائدية والفقهية التقليدية والصراع حول الإمامة وأفضلية الإمام علي بن أبي طالب (ع) علي الصحابة وخصوصية مكانة آل البيت (ع) في التشريع الإسلامي، وفي بعض الثورات العلوية كانت الخلافات شخصية أكثر منها مذهبية، وعلي الرغم من أن التجارب التطبيقية للحكم بالنسبة للزيدية والإسماعيلية كانت تتميز في أغلب مراحلها بالحرية الفكرية والرفاهية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، إلاّ أنها كانت في وضعها السياسي والطبقي متماثلة مع التجربة العباسية أكثر من التزامها بالتجربة العلوية.


أما الخط الشيعي الأكثر رسوخاً ـ عقائدياً ـ ومصداقيةً جماهيريةً (خاصة في أوساط الطبقات الكادحة)، وهو الخط الإثني عشري، فقد كان يعاني بعض الاضطراب في صفوفه بسبب غيبة الإمام المهدي (عج)، التي شكلت صدمة عقائدية للكثيرين من أتباعه، مما ساهم في إجبار زعاماته الفقهية علي التزام الهدوء في تلك المرحلة، ويضاف إلي ذلك عدم قدرة النخبة علي استغلال شعارات هذا الخط بسبب امتلاكه لتصور متكامل ومختلف للحكم يستند إلي مرحلة تولي الإمام علي (ع) للخلافة، وحصره لحق الإمامة في الأئمة الإثني عشر (ع)، وتشكل قيادته (في مرحلة الغيبة) وكوادره من الطبقات الكادحة التي كانت تتطلع ليوم واحد من أيام عليّ (ع).


والواضح أن زعامات هذا الخط (الأئمة الإثني عشر (ع) أو نوابهم من الفقهاء في عصر الغيبة الصغري والكبري) كانت مدركة للخلفيات الطبقية التي تحكم هذا الصراع والتي تستخدم قضية آل البيت (ع) كوسيلة ليس كغاية، كما كانت علي وعي بأن انتصار البورجوازية لن يعود بالنفع سوي علي البورجوازية وحدها، وبالتالي فهي لن تسعي للقضاء علي التراتبية الطبقية الموجودة، بل ستحاول استغلال هذا الانتصار لزيادة سيطرتها علي الدولة، وبالتالي فهي لن تكون معبرة عن التجربة العلوية حتي لو كان الحاكم علوياً من ناحية النسب، وربما كانت المواقف السياسية للأئمة بداية من عهد الإمام جعفر الصادق (ع) تعد دليلاً واضحاً علي هذا التصور *.


لقد ساهم الاضطراب في حرص إخوان الصفا علي إخفاء شخوصهم وانتمائهم المذهبي ولجوئهم للغة الرمزية، وهو ما يدل علي معارضة الجماعة للخلافة العباسية والأوليجاركية العسكرية التركية ومذهبها السنّي

التي حاولت فرضه علي العالم الإسلامي:


«... وقد نري أنه قد تناهت دولة أهل الشر وظهرت قوتهم، وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد الزيادة إلاّ الانحطاط والنقصان، ولابد من كائن قريب، وحادث عجيب، فيه صلاح الدين والدنيا».


كما أدي اتهام الفقهاء السلفيين للجماعة بالهرطقة في فترة عودة السيطرة للإقطاعية، وللنصية السلفية، إلي أن أصبحت الكتابة عنهم تسير باتجاه التكفير وإهمال دراسة أفكارهم وتاريخهم في الأوساط العلمية تحت ضغط الوضع الديني العام الذي كان يعتبر مجرد دراسة الفلسفة نوع من الإلحاد، وهو ما سمح للبعض بالسطو علي آراء الجماعة وادعائها، فلم يخجل الفقيه المالكي عبدالرحمن بن خلدون من الهجوم علي إخوان الصفاء وآرائهم، بينما يقوم في نفس الكتاب بالسطو علي طروحات الجماعة ونظرياتها مما ساهم بالقدر الأكبر في خلق شهرته العلمية كمؤسس، زائف، لعلم العمران، وبقيت دراسة الرسائل قاصرة علي الإسماعيليين والدارسين للفلسفة في الحوزات الدينية الشيعية.


وبداية من منتصف القرن ال·· 19 ظهرت عدة دراسات لمستشرقين تناولت باهتمام أفكار هذه الجماعة، في محاولة لاكتشاف طبيعة الحركة ودعوتها الدينية. لعل أهمها الدراسة التي كتبها المستشرق الألماني ديتريسي في عام 1879 في كتابه (العلوم الفلسفية عند العرب)، وفي عام 1888 قام المستشرق الألماني جولدزيهر بكتابة مختصرة عن الإخوان، وناقش باربيت دي مينار موضوعهم مناقشة علمية تاريخية عام 1891، كما ناقش كل من ماسينيون وتريتون وإيفانوف ونيكولسن تاريخ وضع الرسائل في دراسات خاصة، إلاّ أن أهم المعالجين لموضوع الإخوان هما المستشرقان دي ساسي وستانيسلاس جويارد.


أما الباحثين الشرقيين فقد تأخرت دراساتهم عن هذه الجماعة إلي أواخر القرن التاسع عشر، وكان من أوائل هؤلاء الباحثين جبور عبدالنور وأحمد زكي باشا، ومحمد كرد علي، وفي عام 1928 قام الدكتور طه حسين بنشر الرسائل وكتابة مقدمة مهمة عن الجماعة. وقد توالت الأبحاث عن إخوان الصفا وأفكارهم فيما بعد وتعد دراسات الباحثين الإسماعيليين كالدكتور حسين الهمذاني والدكتور مصطفي غالب والدكتور عارف تامر أكثرها أهمية، وإن كانت أبحاث الأخيرين تتسم بالسجالية الناتجة عن عصبيتهما المذهبية التي تتجاوز إلي التطاول اللفظي، الأمر الذي يصم نتائجهما بالسطحية في بعض الأحيان.


وفي الفترة الأخيرة ظهرت مجموعة من الأبحاث التي تهتم بتسليط الضوء علي التطور الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات الإسلامية وبالتالي فقد اهتمت بدراسة رسائل الجماعة محاولة تحديد المؤلفين وانتمائهم الطبقي وآرائهم الفلسفية والاجتماعية ككتابات الدكتور حسين مروه، والدكتور محمود إسماعيل، وفي عام 1996 أصدر الدكتور محمود إسماعيل أهم دراستين حول إخوان الصفاء هما:


نهاية أسطورة: في هذه الدراسة ألقي الدكتور محمود الضوء علي الدور التنويري الرائد الذي قامت به الجماعة في إبان الصراع الطبقي والمذهبي والسياسي الذي شهدته الدولة العباسية في مرحلة الإقطاعية المرتجعة، وتناول بعض الآراء والنظريات العقائدية والعلمية والفلسفية التي توصل لها الإخوان، وناقش بعض الآراء حول انتماءاتهم المذهبية والطبقية.


أثارت نتائج الدراستان الكثير من الجدل، فقد مثلت عند البعض نوع من رد الاعتبار للجماعة، فيما اعتبر البعض الآخر أن الدراستان محاولة لتجميل جماعة سرية تثار حول حقيقتها وعقائدها وأهدافها الكثير من الشكوك والاتهامات، كما هاجم البعض نتائج الدراستان من منطلق العصبية الإقليمية والانحياز لكل ما هو مغربي في مواجهة كل ما هو مشرقي.


والواقع أن أبحاث الدكتور محمود إسماعيل عن الإخوان قد فتحت الطريق أمام ظهور دراسات جديدة تتميز بالعمق حول الجماعة ودورها في المجتمع الإسلامي، ومدي تأثيرها في الصراع الطبقي والسياسي والمذهبي الذي شهدته تلك المرحلة، بعيداً عن السجالية الزاعقة في اتهامات السلفيين، ودفاعات الإسماعيليين.


وتأتي هذه الدراسة في إطار مناقشة بعض النتائج التي توصل إليها الدكتور محمود إسماعيل في دراستيه، السالفتين، كمحاولة لكشف بعض الغموض الذي يحيط بهذه الجماعة، خاصة فيما يخص المذهب الذي تنتمي إليه، وشخصيات المؤلفين وأهدافهم السياسية، وأعتقد أن هذه النقاط هي التي لم يحسم حولها الخلاف حتي الآن، ولهذا الغرض فقد قمت بتقسيمها ـ الدراسة ـ إلي ثلاث مباحث:


الأول: مذهب جماعة إخوان الصفاء.


الثاني: المؤلفون.


الثالث: التنظيم السري للإخوان.


ومن الواضح أن نتائج المبحثين الثاني والثالث ستعتمد لحد كبير علي نتائج المبحث الأول نظراً للارتباط ما بين الحركات السرية والمذاهب الدينية في تلك الفترة.


وقد اعتمدت في المبحث الأول علي المقارنة ما بين نصوص الإخوان والنصوص الدينية الإسماعيلية والإثني عشرية كمنهج للبحث حول العقيدة والمذهب الديني الذي ينتمي إليه الإخوان، وتجنبت توجيه أي نقد لعقائد الإسماعيلية أو الإخوان أو أي طائفة دينية أخري ورد ذكرها أثناء هذه المقارنة، التزاماً بموضوع البحث، وتفادياً لوجود أي مؤثرات مذهبية أو طائفية علي نتائج هذه الدراسة. أما المبحث الثاني، والثالث، فقد أفدت فيهما من المنهج المادي لتحديد العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التي ساهمت في نشأة الجماعة، ومدي مساهمتها في الحركة السياسية المضادة للإقطاعية العسكرية الحاكمة، وعلاقة تنظيمها السري بالتنظيم الإسماعيلي.


المبحث الأول: مذهب جماعة إخوان الصفاء :


ثمة رأيان يدور حولهما الخلاف في تحديد العقيدة الدينية التي ينتمي إليها الإخوان:


يري الأول أن جماعة إخوان الصفا جماعة تنويرية فلسفية ضمت المثقفين والمستنيرين من كل المذاهب، ويتبني الدكتور محمود إسماعيل في دراسته الأخيرة عن الإخوان هذا الرأي:


«لم تكن حركة مذهبية بل فكرية تستهدف تحقيق التنوير لإذكاء الوعي السياسي عن طريق المعرفة لذلك انضم إليها المستنيرون من سائر المذاهب والفرق، كذا من رجال الدولة وكبار التجار والفقهاء والعلماء وأرباب الأموال الذين راعهم التدهور السياسي والاقتصادي والفكري خلال القرن الأول من العصر العباسي الثاني».


ويقول المستشرق دي بور:


«جماعة مضطهدة وسرية ولكن لا دعوة لها؛ وإن كانت النزعات السياسية تطل من بعض آرائهم التي كانت فلسفية روحية يلتمسون فيها سلوي لنفوسهم أو خلاصاً وتطهيراً لها».


إن ضعف هذا الرأي يبدو واضحاً أمام طبيعة رسائل الإخوان التي تسير في سبيل ترسيخ وأثبات عقائد دينية وفلسفية معينة ومتفق عليها بين المؤلفين، مما يتعارض مع هذا التنوع المفترض لعقائد الكتاب، والذي يستلزم ظهور نوع من الاختلاف والتنوع وربما التناظر بين النصوص في الرسائل، بالإضافة إلي تعارض هذا الرأي مع ما أشار إليه الإخوان من اتفاقهم في المعتقد:


«واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد ويتفقون علي رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد؛ ويعقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولايتخاذلون ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضاً».


أما الثاني فينقسم بدوره إلي عدة اتجاهات، فهناك اتجاه يري أن الإخوان حركة معتزلية، وأن متكلمي المعتزلة هم الذين كتبوا رسائلهم، وهو استنتاج خاطئ من عدة نواح:


فأولاً، كان المعتزلة يملكون بالفعل حركة سرية منظمة، نشطة أسسها واصل بن عطاء قبل ظهور إخوان الصفاء.


ثانياً، تبني إخوان الصفاء لعدة آراء تختلف جذرياً مع الأسس التي قامت عليها مدرسة الاعتزال، ولعل أهم هذه الاختلافات، رفضهم لعقيدة خلق القرآن التي نادي بها المعتزلة:


«...فمن ذلك قول القائلين بخلق القرآن، فإن هذا الحكم مبني علي أن الكلام إنما هو حروف وأصوات يحدثها المتكلم في الهواء، فعلي هذا الأصل يجب أن يكون القرآن مخلوقاً.


وأما علي أصل من يري أن الحروف والأصوات إنما هي سمات وآلات، والكلام إنما هو تلك المعاني في أفكار النفوس، فعلي هذا الأصل يجب أن لا يكون القرآن مخلوقاً، لأن الله تعالي لم يزل عالماً بتلك المعاني التي هي في علمه، وتلك المعاني لم تزل معلومة له.


... ثم اعلم أن الخلق هو إيجاد الشيء من شيء آخر كما قال الله تعالي: «خلقكم من تراب » وأما الإبداع فهو إيجاد الشيء من لا شيء، وكلام الله هو إبداع أبدع به المبدعات كما قال: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه ـ أي أبدعناه ـ أن نقول له: كن فيكون ». والمكونات إنما تتكون بقوله: كن. فكن بأي شيء يتكون إن كان مخلوقاً علي زعم هؤلاء المخالفين.


كما رفضوا آراء المعتزلة في موضوع الجبر والاختيار، وتبنوا رأياً وسطياً: «ثم اعلم أن ليس أحد من المخلوقين بقادر علي شيء من الأشياء ولا عمل من الأعمال إلاّ ما قدره الله تعالي عليه وقواه ويسره له. واعلم أن أقدار الله القادرين، وتقويته الأقوياء، وتيسير الأمور ليس بمجبر لأحد منهم علي فعل من الأفعال ولا علي عمل من الأعمال ولا تركه».


ثالثاً، وصفهم للمعتزلة في النص الأول بالمخالفين يشير إلي وجود اختلافات علي مستوي المعتقد والحركة السياسية، كما أنهم في رسائلهم أشاروا، بعبارات تتراوح ما بين السخرية والاتهام، إلي المعتزلة. ففي مناقشتهم لمقولة خلق القرآن أطلقوا علي المعتزلة لفظ «المجادلة» السيئ السمعة، واتهموهم بعدم إدراك الفرق ما بين الخلق والإبداع.


«... وكثير من هؤلاء المجادلة لا يعرفون الفرق بين المخلوق وبين المبدع ولا بين الخلق والإبداع».


وقد انتقدوا في رسالة العلوم الناموسية والشرعية «صناعة الجدل» التي اهتم بها المعتزلة، من منطلق رفضهم للغاية التي اعتقدوا أنها تقوم عليها، فيقولون:


«واعلم أن الجدل هو أيضاً صناعة من الصنائع، ولكن الغرض منها ليس هو إلاّ غلبة الخصم والظفر به كيف كان». وهو ما دفع الإخوان لوصف الممارسين لصناعة الجدل بالوقاحة، والمكابرة، والتعصب للرأي، والنفاق.


هذه الاختلافات تضعف تماماً الرأي القائل بانتماء الإخوان إلي المعتزلة، كما تضعف الرأي القائل بانضمام بعض المفكرين المعتزليين إلي الجماعة.


وهناك رأي آخر يري أن إخوان الصفاء جماعة شيعية، إلاّ أنه وجدت عدة اختلافات حول المذهب الشيعي الذي ينتمي إليه الإخوان، حيث يري البعض أنها جماعة إثني عشرية، إلاّ أن الانتقادات التي وجهها الإخوان للشيعة الإثني عشرية في رسائلهم سواء في العقائد أو في الممارسات تضعف تماماً من صحة هذا الرأي، فقد انتقد الإخوان عقيدة غيبة الإمام المهدي (ع)، وهي من الاعتقادات الأساسية عند الإثني عشرية، كما انتقدوا المواقف السياسية التي انتهجها الأثني عشرية عقب غيبة الإمام المهدي (ع) ووصفوهم بالسلبية والتكسب من التشيع: «ومن الناس طائفة» قد جعلت من التشيع مكسباً لها، مثل النائحة والقصاص لا يعرفون من التشيع إلاّ التبري، والشتم، والطعن، واللعنة، والبكاء مع النائحة، وحب المتدينين بالتشيع... ، وجعلوا شعارهم لزوم المشاهد وزيارة القبور، كالنساء الثواكل، يبكون علي فقدان أجسادنا وهم بالبكاء علي أنفسهم أولي.


ومن الشيعة من يقول أن الأئمة يسمعون النداء ويجيبون الدعاء، ولا يدرون ما يقرون به وصحة ما يعتقدونه. منهم من يقول إن الإمام المنتظر مختفٍ من خوف المخالفين، كلاّ بل هو ظاهر بين ظهرانيهم يعرفهم وهم له منكرون».


يقولون حول عقيدة الغيبة، في مناقشتهم للاعتقادات المؤلمة لنفوس معتقديها:


«... وهكذا أيضاً حكم من يري ويعتقد أن الإمام الفاضل المنتظر الهادي مختفٍ لا يظهر من خوف المخالفين. واعلم أن صاحب هذا الرأي يبقي، طول عمره، منتظراً لخروج إمامه، متمنياً لمجيئه، مستعجلاً لظهوره، ثم يفني عمره ويموت بحسرة وغصة لا يري إمامه، ولا يعرف شخصه من هو».


ثمة رأي آخر يؤكد علي انتماء الإخوان إلي الشيعة الزيدية، وهو رأي تضعفه طبيعة المذهب الزيدي الذي يرفض العمل السري ويلجأ إلي الثورة العلنية، بل أن أحد شروط الإمامة لدي الزيدية هي الخروج والدعوة العلنية، وتري الزيدية أن الدعوة لإمام مستور نوع من التضليل، مما جعل الزيدية أكثر الفرق الشيعية إثارة للانتفاضات والثورات، والأقل تأثيراً علي الساحة السياسية في ذات الوقت حيث استطاع العباسيون القضاء علي معظم هذه الانتفاضات وتحجيم تأثيرها، وحتي الدول التي وفق الأئمة الزيدية في إقامتها، كدولة الأدارسة في المغرب، والدولة التي أنشأها الحسين بن زيد العلوي في طبرستان، فقد اتسمت بصغر المساحة وتطرف الموقع الجغرافي، فلم تصلح كقاعدة لنشر الفكر الزيدي، أو للقيام بأعمال عسكرية مؤثرة ضد الدولة العباسية وهو ما يفسر الصغر النسبي لأزمان تواجد هذه الدول.


ثمة رأي يتبناه الكثير من المستشرقين، والباحثين في الدراسات الإسماعيلية، بانتماء الإخوان إلي الدعوة الإسماعيلية التي شهدت نوع من الازدهار في تلك المرحلة بسبب نشاطات أئمتها، ودعاتها المكثفة والتي استغلت انشغال السلطة التركية بالصراع مع الفرق والمذاهب المتواجدة كالمعتزلة والزيدية والإثني عشرية كي تسرب ـ كتيار غير معروف ـ عقائدها إلي أتباع الفرق الشيعية الأخري والإثني عشرية علي وجه الخصوص. وسوف أناقش هذا الرأي عن طريق المقارنة بين نصوص الإخوان والنصوص الشيعية والإسماعيلة.


استعرض الإخوان في رسائلهم عدة عقائد وأفكار ومواقف تاريخية، ينفرد الشيعة باعتناقها دون غيرهم من المذاهب الإسلامية، وقد تنوعت طريقة العرض ما بين استخدام النص شبه الصريح واستخدام الرمزية، في محاولة للتحاليل علي الرقابة التي وضعتها العناصر العسكرية الإقطاعية في مواجهة الآراء والمعتقدات الرافضة لسيادتها، والملاحظ أن هذه المعتقدات تناثرت في الرسائل بطريقة يبدو أنها متعمدة، خاصة فيما يخص العقائد التي ربما تثبت بطريقة قاطعة انتمائهم للتشيع، ففي الفصل الذي أفردوه لتناول الإمامة من العلوم الناموسية والشرعية، حاولوا إظهار أكبر قدر من الحياد في عرض الآراء، دون تبني أي منها، بينما ظهر تبنيهم للآراء الشيعية في نصوص أخري من الرسائل تحت عناوين مختلفة، كما اضطروا في بعض الأوقات للتظاهر بمدح بعض الشخصيات من السلف، تجنباً لإثارة السلفيين، واستنفار العناصر الأمنية التركية.


عقيدتهم في الإمامة:


إن أهم العقائد التي أعلنها الإخوان، عقيدة الإمامة، والتي تمثل أحد أصول الدين لدي الشيعة، وهي أحد المشتركات العقائدية بين الفرق الشيعية عموماً. وقد كانوا حذرين عموماً في تناولهم لهذا الأصل العقائدي إدراكاً منهم لصعوبة طرحه في ظل الظروف السياسية والعقائدية المعاصرة لهم.


تعرض الإخوان لعقيدة الإمامة في الرسالة الأولي من العلوم الناموسية والشرعية، وقد بدوا محايدين في عرضهم للآراء:


«اعلم أن الأمة كلها تقول أنه لابد من إمام يكون خليفة لنبيها في أمته بعد وفاته: وذلك لأسباب شتي وخصال عدة: أحدها هو أن يحفظ الإمام الشريعة علي الأمة، ويحيي السنة في الملة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتكون الأمة تصدر عن رأيه... وخصال أخري هي أن يرجع فقهاء المسلمين وعلماؤهم عند مشكلاتهم في أمر الدين إليه، وعند مسائل الخلاف، فيحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون من الحكومة في الفقه والأحكام».


إن هذا العرض لمدي أهمية الإمامة ودورها في الحياة الإسلامية، وعلي الرغم من تظاهر الإخوان بالحياد في النقل، إلاّ أنهم في الواقع لم يعرضوا سوي وجهة النظر الشيعية.


يتحدث الشيخ محمد بن النعمان (الشهير بالمفيد)، عن الأئمة بأسلوب مشابه:


«إن الأئمة القائمين مقام النبي (ص) في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء».


غير أنهم في الرسالة الحادية عشرة من العلوم الناموسية والشرعية يعرضون لنظرية الإمامة بوضوح أكثر:


«والذين هم الخلفاء بغير هذه الصفة مثل الأنبياء والأئمة والتابعين لهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، هم خلفاء الله تعالي التابعون لأمره وبهم صلاح العالم، وربما كانوا ظاهرين بالعيان موجودين في المكان في دور الكشف، وبالضد من ذلك في دور الستر لا يكونون مفقودي الوجه جملة من أعدائهم... ولو كان غير ذلك كان منه خُلوُ الزمان من الإمام الذي هو حجة الله علي خلقه، وهو تعالي لا يرفع حجته ولا يقطع الحبل الممدود بينه وبين عباده، فهم أوتاد الأرض وهم الخلفاء بالحقيقة في الدورين جميعاً».


ويقولون في جامعة الجامعة:


«وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وبعد الأنبياء بعث من يقوم الأئمة مقامهم في تبليغ رسالاتهم».


في النكت الإعتقادية يستدل الشيخ المفيد علي وجود المهدي المنتظر بدلائل تتشابه مع ما طرحه الإخوان حول ضرورة وجود الإمام حتي لو كان مستوراً من الأعداء:


«فان قيل: ما الدليل علي وجوده؟


فالجواب: الدليل علي ذلك أن كل زمان لابد فيه من إمام معصوم وإلاّ لخلا الزمان من إمام معصوم مع أنه لطف واللطف واجب علي الله تعالي في كل زمان.


فان قيل: ما وجه استتاره؟


فالجواب: وجه استتاره لكثرة العدو وقلة الناصر. وجاز أن يكون لمصلحة خفية استأثر الله تعالي بعلمها».


ويقول الشيخ الصدوق: «ونعتقد أن الأرض لا تخلوا من حجة الله علي خلقه، إما ظاهر مشهور أو خائف مغمور».


إن هذه الضرورة التي يؤمن بها الإخوان والشيعة لوجود الإمام تقتضي أن يكون الإمام معصوماً، وهو ما لم يعلنه الإخوان صراحة في الوسائل، وإن ذكروه ضمناً، فتلقيبهم للإمام بلقب «حجة الله علي خلقه» يتضمن عصمته الكاملة عن الأخطاء، خاصة مع هذه الوظائف المسندة إليه، فحفظ الشريعة، وإحياء السنة، واحتكام الفقهاء إليه عند الخلاف، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تعتمد علي الرجوع إلي شخص يمتلك العصمة في الأمور الدينية، والدنيوية.


وقد أشار الإخوان إلي هذه العقيدة في كلمتهم حول دور الستر، وإن لم يعلنوها حرفياً، فقد أوجبوا للإمام كل صفات الرسول (ص):


«واعلم يا أخي أن أقوي ما يكون فعل إبليس في دور الستر، وذلك لأن حجة الله، عز اسمه، فيأرضه وخليفته في عباده يكون مختفياً مستوراً، وإن كانت أنواره تضيء في نفوس العارفين به... لأن جميع ما يجوزونه (أي العارفين بالإمام) علي النبي المرسل فقد يجوزون مثله علي الوصي وعلي الإمام».


علي أنهم في الرسالة الجامعة أقروا صراحة بالعصمة لأهل البيت:


«... والذين هذه منزلتهم هم صفوته من عباده، وخالصته من بريته، الذين أذهب الله عنهم رجس الخطيئة، وطهرهم من ذنوب المعصية، أهل بيت العصمة، الذين جبلهم الله علي الإقرار بتوحيده».


ولابد من الإشارة إلي أن عصمة الأئمة مشترك عقائدي بين الشيعة الإثني عشرية، والشيعة الإسماعيلية، في حين يرفض الشيعة الزيدية العصمة ويصيغون أربعة عشر شرطاً لتولي الإمامة، كبديل عن العصمة التي يرون عدم وجود دليل عليها، يقول ابن صلاح الشرفي:


«قال (عليه السلام) (القائل هو الإمام القاسم بن محمد "1029"): "ولا دليل عليها" أي علي إشتراطها أي العصمة "إلاّ تقدير حصول المعصية من الإمام لو لم يكن معصوماً " أي لا دليل لهم (الإثني عشرية) علي اشتراط العصمة إلاّ تقدير حصول المعصية وهو لا يصلح دليلاً؛ لما ذكره (عليه السلام) بقوله: "قلنا: ذلك التقدير حاصل في المعصوم فيفرض حصول المعصية منه كما قال تعالي في سيد المعصومين (لئن أشركت ليحبطن عملك). ولا يلزم من هذا الفرض وقوع الشرك منه (صلّي الله عليه وآله وسلّم)».


أما السنة والمعتزلة فلم يفترضوا وجود العصمة أو حتي العدل في الإمام، يقول الإمام أبو بكر الباقلاني:


«قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه بغصب الأموال، وضرب الأبشار، وتناول النفوس المحرمة» ؛ كما افترض المعتزلة إمكانية ارتداد الإمام عن الإسلام.


وتثير عقيدتي، ضرورية الإمامة، والعصمة، استفهاماً آخر حول الكيفية التي ينصب بها الإمام؟ وقد أجاب الإخوان علي هذا الاستفهام بكل وضوح في الرسائل:


«ثم اعلم أن مثل الأمة، إذا تركت وصية نبيها، واختلفت من بعده، واعتمدت علي رأيها، وأرادت أن تملك عليها ملكاً، وتنصب فيها بينها خليفة بغير معرفة من الرسول ولا وصية منه ولا إرشاد، ورأت في اجتماعها منفعة لها وصلاحاً لأمورها من غير نص ولا إشارة، فمثلها، كما يذكر، مثل الغربان والبزاة...».


ويقولون في الرسالة الحادية عشرة من العلوم الناموسية الإلهية والشرعية الدينية:


«فهذه صفة الولاية العظيمة والخلافة الكبيرة التي هي خلافة الله تعالي، والمستخلف بها هو النبي، صلّي الله عليه وسلّم، في زمانه، وبهذا العقد يكون من استخلفه النبي، عليه السلام من بعده إذا مضي إلي ربه، عز اسمه».


فإخوان الصفاء، يرون ضرورة وجود نص ووصية من الرسول (ص)، علي شخص الإمام، وهو رأي يتفق تماماً مع الرأي الشيعي، بكافة فرقه حول أسلوب معرفة وتعيين الإمام، يقول الشيخ المفيد، في رسالته أوائل

المقالات:


«اتفقت الإمامية علي أن الإمامة لا تثبت مع عدم المعجز لصاحبها إلاّ بالنص علي عينه والتوقيف».


ويقول القاضي الإسماعيلي النعمان بن محمد في دعائم الإسلام:


«... وكذلك قولنا في الرسل والأئمة بين الرسولين: إن ذلك لا يكون إلاّ بنص وتوقيف من نبي إلي إمام، ومن إمام إلي إمام، ويبشر النبي بنبيّ يأتي بعده، كما ذكر الله عزّ وجلّ في كتابه: «وَمُبَشّراً برَسُول يأتي من بعدي اسمهُ أحمدُ». ويؤدي ذلك الأئمة بعضهم إلي بعض ويوقفون عليه أتباعهم... فهكذا نقول في النبوة والإمامة بالتوقيف والبيان».


ولذلك فقد وصف إخوان الصفاء الإمام علي بن أبي طالب (ع) بخير الوصيين في رسائلهم كإشارة علي تلقيه الوصية من الرسول (ص):


«ومما يجمعنا وإياك أيها الأخ البار الرحيم محبة نبينا، عليه السلام، وأهل بيت نبيه الطاهرين. وولاية أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب خير الوصيين، صلوات الله عليهم أجمعين».


وقد استدل الإخوان علي أحقية الإمام علي (ع) بالإمامة، بعدة دلائل، أولاً: إعطاء الرسول (ص) الراية للإمام علي (ع)، في معركة خيبر:


«إن اللواء الذي يعقد للنبي والإمام، صلوات الله عليهم، يكون بعلم هو أعلي من هذا وأوضح. وذلك أنه عُقد بقصد التأييد وموافقة التسديد، ولا يعقده النبي والإمام إلاّ لمن يكون منه بالمنزلة التي يستحق بها ميراث ذلك العلم. مثل عقد رسول الله صلّي الله عليه وسلّم، الراية، قال لأصحابه لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار لا يرجع حتي يكون الفتح علي يديه» وكان ذلك كذلك.


ثانياً: دعاء الرسول له أثناء مبارزته لعمرو بن ود في معركة الخندق:


«... ومثل الوقت الذي أخرجه فيه إلي شيطان الأحزاب، وما اتبعه من الدعاء المستجاب في الوقت الذي تنبغي ذلك فيه، وبمثل هذا العلم يكون لك المعرفة بأفعال الأنبياء والأئمة».


ثالثاً: روايتهم لحديث عن الرسول (ص)، يشير فيه إلي اشتراك الإمام علي معه في الأبوة الروحانية لهذه الأمة:


«... كما روي أن النبي، صلّي الله عليه وسلّم، قال لعلي، عليه السلام: "أنا وأنت أبوا هذه الأمة"».


رابعاً: روايتهم لحديث الرسول (ص) عن الإمام علي (ع) «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب».


«... قيل يا رسول الله: من قال لا إله إلاّ الله دخل الجنة، فقال: نعم، من قالها مخلصاً دخل الجنة، قيل له: وما إخلاصها؟ قال: معرفة حدودها وأداء حقوقها، فقيل يا رسول الله: ما معرفة حدودها وأداء حقوقها؟ فقال: نعم، أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب. فأرشدهم إلي من يشرح لهم ذاك الذي يؤدي إلي الدين الاختياري. إلي محبي الثواب».


هذه الرواية التي يسجلها الإخوان توضح اعتقادين لهم.


الأول: ارتباط كلمة التوحيد ـ لا إله إلاّ الله ـ بالاعتقاد أن علي هو باب مدينة العلم، وارتباط معرفة حدودها وأداء حقوقها وبالتالي دخول الجنة بخضوع الأمة لإمامة علي بن أبي طالب (ع).


الثاني: احتواء علي بن أبي طالب (ع) علي العلوم الإلهية واختصاصه بها وحدة كإمام للأمة.


كما يشير الإخوان علي استحياء إلي مناسبة عيد الغدير، والتي يروي أن الرسول (ص)، قد أوصي فيها بالإمامة لعلي بن أبي طالب (ع) ، معتبرين كونه أحد الأعياد الثلاثة التي سنها النبي (ص) لأمته:


«واليوم الثالث في السنه الشرعية يوم وصيته عند انصرافه من حجة الوداع بغدير خُم، ... وفي الشريعة المحمدية والملة الهاشمية عيد الفطر وعيد الأضحي وعيد الغدير ويوم المصيبة به، صلوات الله عليه».


وعلي الرغم من أن التعاطف مع آل البيت (ع) يمثل حالة إسلامية عامة فإن الاهتمام بعيد الغدير يمثل خصوصية شيعية، بل إن هذا الاهتمام الشيعي بإحياء هذه المناسبة كان يتسبب في استفزاز المثقفين السنة، وتذكر بعض المصادر التاريخية أن السنة ابتكروا الاحتفال بعيد الغار (اليوم الذي حاصر فيه القرشيين الرسول وأبا بكر في غار حراء أثناء الهجرة) في مقابل احتفال الشيعة بعيد الغدير.


يقول السيد عبدالحسين شرف الدين الموسوي عن عيد الغدير:


«وبهذا كان يوم 18 من ذي الحجة (يوم الغدير) من كل عام عيداً عند الشيعة في جميع الأعصار والأمصار».


ويمثل الاعتقاد الثاني (احتواء علي بن أبي طالب علي العلوم الإلهية واختصاصه بها) اتفاقاً اعتقادياً ثانياً بين الإخوان الشيعة، ليس فيما يخص الإمام علي (ع) فقط، وإنما تنسحب هذه العقيدة علي باقي الأئمة من آل البيت (ع)، ويوصف الأئمة من آل البيت ـ بغض النظر عن شخوصهم ـ في النصوص الشيعية عامة بكل ما يوصف به النبي (ص) ـ باستثناء النبوة والرسالة ـ من كونهم المتلقين للعلوم الإلهية من الرسول (ص)، وهم بالتالي قادرين علي الإتيان بالمعجزات الدالة علي إمامتهم، بنفس مستوي قدرة الرسول (ص)، علي إثبات نبوته بالمعجزات.


في دعائم الإسلام يروي القاضي النعمان بن محمد هذا الحديث عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع) في تفسير آية «ولو أنهم ردوه إلي الرسول وإلي أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم » : قال: ـ هم الأئمة من أهل بيت رسول اللّه‏ (ص) جعلهم الله أهل العلم الذين يستنبطونه، ثم أوجب طاعتهم، فقال «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم » .


ويروي محمد بن يعقوب الكليني في الكافي عن الإمام محمد بن علي الباقر (ع): «نحن خزان علم الله، نحن تراجمة وحي الله ونحن الحجة البالغة علي من دون السماء، ومن فوق الأرض».


ويقول إخوان الصفاء في وصف علم آل البيت ـ مستخدمين ذات العبارات تقريباً ـ : «وعرفوا حقيقة ما هم مقرون به من تفضيل أهل بيت النبي صلّي الله عليه وسلّم، لأنهم خزان علم الله: ووارثوا علم النبوات، وتبين لهم تصديق ما يعتقدون فيهم من العلم والمعرفة والفهم والتمييز والبصيرة في الآفاق».


في أطروحته الهامة علي جماعة الإخوان (إخوان الصفاء، رواد التنوير في الفكر العربي)، رفض الدكتور محمود إسماعيل دلالة هذه العبارة علي تشيع الإخوان: «أما عن "تفضيل إخوان الصفا لآل البيت" ـ كما ورد في النص ـ فلا يعزي لكونهم علوي النسب؛ بل لأنهم "خزانة العلم" كما ورد في النص نفسه».


ثمة خلط في هذه العبارة بين أصول التشيع الزيدي، الذي يعتقد بصلاحية كل علوي فاطمي يمتلك الأربعة عشر شرطاً للإمامة، وبين التشيع الإمامي، بفرعيه الإثني عشري والإسماعيلي، الذي يعتقد بأن الإمامة نص من الله تعالي يبلغه الرسول (ع)، للدلالة علي شخوص الأئمة، وبالتالي فأي مدعي للإمامة بدون نص، حتي لو كان علوياً، فهو يعد كاذباً، يروي الشيخ الصدوق في كتابه الاعتقادات: «سئل الصادق ـ عليه السلام ـ عن قوله تعالي «ويوم القيامة تري الذين كذبوا علي الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوي للمتكبرين » قال: "من زعم أنه إمام وليس بإمام" قيل: وإن كان علوياً فاطمياً؟ قال: "وإن كان علوياً فاطمياً "».


ويروي عن الصادق (ع) حديثاً آخر:


«... "ليس بينكم وبين من خالفكم إلاّ الممطر" قيل: فأي شيء الممطر؟ قال: الذي تسمونه التر*، فمن خالفكم وجازه فابرؤوا منه وإن كان علوياً فاطمياً».


فالمشكلة لم تكن علوية أو فاطمية الإمام بقدر ما كانت حول النص والعلم الإلهي الذين يحملهما الإمام للتدليل علي إمامته، ووصف الإخوان لآل البيت بأنهم خزان علم الله ووارثوا علم النبوات، هو في الواقع تدليل علي إمامتهم، كما أن هذا الوصف خاص بالأدبيات الشيعية، ولا توجد فرقة إسلامية تعتقد أن آل البيت هم خزنة علم الله، ووارثوا علم النبوات، سوي الشيعة، حيث أن هذا الاعتقاد يرتبط بعقيدة الإمامة.


وقد اتفق الإخوان مع الشيعة في تفسير بعض الآيات القرآنية التي اعتقدوا أنها خاصة بأهل البيت (ع)، لعل أهمها تفسير آية الأعراف «ونادي أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغني عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون » (الأعراف / 48)، فقد اختلف مفسرو الشيعة والسنة في تفسير هذه الآية، فبينما يري مفسرو السنة أن أصحاب الأعراف هم رجال قصرت بهم أعمالهم عن الجنة أن يدخلوها، ولم يستوجبوا دخول النار فهم بين الجنة والنار، تبني المفسرون الشيعة الرأي القائل بأن أصحاب الأعراف هم آل البيت (ع)، يقول القاضي النعمان بن محمد:


* التَّر: كلمة فارسيّة بمعني: النَّدِي ـ الرَّطب ـ المَبْلُول.


«وروينا عن رسول اللّه‏ (ص) أنه قال لعلي (ع): يا علي، أنت والأوصياء من ولدك أعراف الله بين الجنة والنار، لا يدخلها إلاّمن عرفكم وعرفتمونة ولا يدخل النار إلاّ من أنكركم وأنكرتموه».


ويقول الشيخ الصدوق: «اعتقادنا في الأعراف أنه سور بين الجنة والنار، عليه رجال يعرفون كلاً بسيماهم والرجال من النبي وأوصياؤه ـ عليهم السلام ـ لا يدخل الجنة إلاّ من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلاّ من أنكرهم وأنكروه».


ويقول الإخوان: «وهؤلاء الرجال الذين علي الأعراف هم الذين مدحهم الله تعالي بقوله: «رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة » وقال: «تتجافي جنوبهم عن المضاجع » فهؤلاء هم أولياء الله الذين هم يتمنون الموت لما قد تبين لهم ما بعد الموت من الوجود المحض والبقاء الدائم والروح والريحان والنجاة من الآلام» *.


وفي إشارة إلي الاضطهاد الذي لاقاه الأنبياء والأئمة من أهل البيت، يقولون في جامعة الجامعة: «أما أصحاب الأعراف منهم الذين يعرفون أهل الدنيا بسيماهم ويعرفهم أهل الدنيا، وبخروجهم عن طاعتهم فيها وتكبرهم عليهم وقولهم: ما أنتم إلاّ بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلاّ تكذبون. وإنما قيل لهم أصحاب الأعراف لأنهم أهل المعارف، فطوبي لمن عرفهم بجلالة المنزلة وعرفوه بحسن الطاعة، ففاز بالسعادة وظفر بالسلامة، وهم أصحاب الشفاعة لشيعتهم وأوليائهم وأهل ودادهم في الدنيا».


كما يبدو من النصوص تأييد الإخوان نزول آية التطهير في آل البيت (ع) وهم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ص)، بينما حاولت التفسيرات الأخري اعتبار أن الآية تشمل زوجات الرسول، والقرشيين: «هو دين النبيين ومذهب الربانيين والأحبار الذين استحفظوا في كتاب الله من الأسرار المكنونة التي لا يمسها إلاّ المطهرون وهم أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».


ويقولون في الرسالة الجامعة: «... ومنعوا أولياء اللّه‏ وأهل بيته، والصفوة الذين أذهب اللّه‏ عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً».


وعلي الرغم من أنهم لم يذكروا أسماء المقصودين بآل البيت في النص، إلاّ أن آرائهم الأولي في ولاية الإمام علي (ع)، وعلم أهل البيت واعتناقهم لعقيدة الإمامة تدلل تبنيهم للتفسير الشيعي للآية.


ويري إخوان الصفا أن الأئمة من أهل البيت هم المقصودين بالآية «فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون » (النحل / 43): «فعليك أيها الأخ بأهل العلم ومواظبة الذين هم أهل الذكر من أهل بيت النبوة‏المنصوبين لنجاة الخلق، فقد قيل استعينوا في كل صنعة بأهلها».


ويقولون في نقدهم لموقف الطوائف المخالفة لأهل البيت: «... وعدلوا بذلك عن كتاب ربهم وسنة نبيهم، عليه السلام، واستكبروا عن أهل الذكر الذين بينهم، وقد أمروا أن يسألوهم عما أشكل عليهم».


وهي رؤية تتفق مع الرؤية الشيعية للآية، يروي القاضي النعمان بن محمد عن الإمام جعفر الصادق (ع) في تفسير هذه الآية: «قال: نحن أهل الذكر، وإيانا أمرتم أن تسألوا عما لا تعلمون».


ويروي الكليني في الكافي عن الإمام الصادق: «قلت لأبي عبدالله (ع): فسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ـ قال الذكر محمد ونحن أهله المسؤولون» *.


وثمة اعتقاد آخر لإخوان الصفا حول القدرات الغيبية لأهل البيت، حيث رتب الإخوان علي اعتقادهم بعلم أهل البيت بالأسرار الإلهية اعتقاد آخر بقدرتهم علي القيام بالمعجزات وكسر حاجز القوانين الطبيعية: «ولهم علوم يتميزون بها وينفصلون عن العالم بمعرفتها، وأعمال يعملونها لا يشركون فيها غيرهم.. لذلك استحقوا الرياسة ووسموا بالخلافة».


وفي نص آخر يعبر الإخوان عن هذه العقيدة بأسلوب أكثر وضوحاً: «واعلم يا أخي أن البيت الذي فيه سر الخلافة وعلم النبوة هو البيت الذي وسموا أهله بالسحر العظيم في الجاهلية والإسلام لما يظهر منهم من الآيات ويعلمونه من المعجزات، فلم يجد أعداؤهم حالاً يضعون بها من منازلهم، لما عجزوا عن العمل بمثل ما يعملونه وجهلوا العلم الذي يعلمونه، إلاّ أن قالوا أنهم سحرة وأن لهم أعواناً من الجن يمدونهم بذلك. وهيهات. حيل بينهم وبين ما يشتهون! وإن هو إلاّ علم إلهي وتأييد رباني تنزل به ملائكة كرام كاتبون وحفظة حاسبون يلقونه بأمر الله عزّ اسمه علي من اصطفاه من خلقه وارتضاه بخلافته في أرضه».


والواقع أن هذا النص ربما يدلل علي اعتقاد الإخوان بولاية خاصة لأهل البيت (ع)، يعتقدها لهم العديد من الفلاسفة الشيعة، وهي الولاية التكوينية، يقول الحكيم المتأله أحمد الأشتياني: «والأولي (الولاية الملطقة: وهي عبارة عن حصول مجموع الكمالات بحسب الباطن في الأزل وبقائها إلي الأبد) تختص بمحمد (ص) ومحمد نقلها إلي أوصيائه وورثته بالتابعية له».


ويقول الإخوان: «فهذه صفة الولاية العظيمة والخلافة الكبيرة التي هي خلافة الله تعالي، والمستخلف بها هو النبي، صلّي الله عليه وسلّم، في زمانه، وبهذا العقد يكون من استخلفه النبي، عليه السلام من بعده إذا مضي إلي ربه، عز اسمه. وهذه الولاية المخصوصة لأهل بيت الرسالة، عليهم السلام، لا يحتاجون فيها إلي مدبرين غيرهم، وإلي علماء سواهم، ولا يطلع الناس علي أسرارهم، ولا يعرفون أخبارهم، ولا يطلعون علي مواليدهم، ولا يعرفون سنيهم في موتاهم، ولهم علوم يتميزون بها وينفصلون عن العالم بمعرفتها، وأعمال يعملونها لا يشركون فيها غيرهم. ولذلك استحقوا الرياسة ووسموا بالخلافة، وأنهم لا يبدون عملاً من الأعمال، ولا يظهرون فعلاً من الأفعال إلاّ بمشيئة إلهية وإرادة ربانية في الوقت الذي ينبغي به إظهار ذلك العلم فيه، وهم أطباء النفوس ومداوو الأرواح».


إن ما يثير الشكوك في تحديد المذهب الذي ينتمي إليه الإخوان، هو موقفهم من الخلفاء الثلاثة السابقون علي الإمام علي (ع)، في النصوص التي تعرضوا فيها لذكرهم، حيث صيغت بأسلوب ربما يوحي بأنهم يعترفون بشرعية خلافتهم، حتي أنهم في أحد هذه النصوص يصفون الخلفاء الثلاثة بنفس الأوصاف التي يصفهم بها أتباع الفرق الأخري كالسنة والمعتزلة: «ومن قبله ما أنال أحق الناس بما قاسي أولاهم بالأمر من بعده، ثم من بعد غيبة صاحب الشريعة، صلّي الله عليه وسلّم، قتل من بعده من أجلة أصحابه المساعدين له في إقامة الناموس معه مثل صديقه وفاروقه وذي النورين».


وفي نص آخر يقولون عن عثمان بن عفان: «ومثل رضا عثمان بن عفان لما دخلوا عليه ليقتلوه، فقام عبيده وسلوا سيوفهم وقالوا: نقتل دونك! فرجع وكره وذكر قول أنس لما قال رسول اللّه‏، صلّي الله عليه وسلّم: افتح له الباب وبشره بأنه ولي هذه الأمة بعد عمر، ووعده ببلوي تصيبه بهراقة دمه».


ويبدو أن هذه النصوص كانت أحد الدوافع لتشكك بعض الباحثين في تشيع إخوان الصفاء كالأستاذ أحمد أمين، الذي رأي أنهم ليسوا سنيون سنة تامة ولا شيعة شيعية تامة، إلاّ أنه اضطر إلي أن يشير في النهاية إلي أنهم أكثر ميلاً للتشيع، والسيد محسن الأمين، في موسوعته (أعيان الشيعة)، حيث شكك في تشيع إخوان الصفا: «وكيفما كان فلم يتحقق انتساب إخوان الصفا إلي التشيع ولا إنهم من موضوع كتابنا وإنما ذكرناهم لنسبة بعض الناس لهم إلي ذلك».


فمن المعروف أن الشيعة يرفضون الاعتراف بشرعية تولي الخلفاء عموماً وخاصة الخلفاء الثلاثة السابقين علي علي (ع) لافتقادهم لنص من الرسول (ص)، ويعتبرونهم مغتصبين لحق صاحب النص في الخلافة، وهو ما حرصت جميع الدول الشيعية علي إثباته، فيروي السيوطي في تاريخ الخلفاء عن الدولة البويهية في حوادث سنة 351 ه·· : «وفي سنة إحدي وخمسين كتبت الشيعة ببغداد علي أبواب المساجد لعن معاوية، ولعن من غصب فاطمة حقها في فدك، ومن منع الحسن أن يدفن مع جده، ولعن من نفي أبا ذر، ثم أن ذلك مُحي في الليل، فأراد معز الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما مُحي «لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلّي الله عليه وسلّم» وصرحوا بلعن معاوية فقط». ويشير ابن كثير في البداية والنهاية إلي ممارسات الفاطميين عقب دخولهم مصر والشام: «وكتب لعنة الشيخين علي أبواب الجوامع بها وأبواب المساجد فإنا لله وإنا إليه راجعون».


لقد طرح الإخوان حقيقة آرائهم حول الخلفاء الثلاثة الأوائل بأسلوب غير مباشر، ملتزمين بفكرة التقية، التي اشتهرت الحركات السرية الشيعية باستخدامها في الفترات القلقة سواء سياسياً أو مذهبياً، فقد قام الإخوان باستخدام أسطورة هندية قديمة لعمل إسقاط سياسي، وعقائدي علي سقيفة بني ساعدة الشهيرة، والتي تولي أبو بكر (الخليفة الأول) الخلافة علي أثرها: «ثم اعلم أن مثل الأمة، إذا تركت وصية نبيها، واختلفت من بعده، واعتمدت علي رأيها، وأرادت أن تملك عليها ملكاً، وتنصب فيما بينها خليفة بغير معرفة من الرسول ولا وصية منه ولا إرشاد، ورأت في اجتماعها منفعة لها وصلاحاً لأمورها من غير نص ولا إشارة، فمثلها كما يذكر، مثل الغربان والبزاة فيما قيل في أمثال الهند إنّ الغربان كان عليهم ملك منهم، وكان بهم رحيماً وإليهم محسناً، وأن ذلك الغراب مات، واختلفوا من جهة من يملكونه عليهم من بعده، وتحاسدوا وخافوا أن تقع بينهم العداوة. فقال بعضهم لبعض: تعالوا حتي نجتهد في الرأي ونجمع العلماء وأهل الفضل فينا، ونعقد مجلساً للمشاورة فيمن يصلح لهذا الأمر، وفيمن ينبغي أن يكون ملكاً علينا. فاجتمعوا وتشاوروا وقالوا: لا نرضي بأحد من أهل الملك الذي كان فينا، مخافة أن يعقد ويظن أن المُلك إنما ناله وارثاً من أبيه وأقاربه، فيسومنا سوء العذاب، وإذا كنّا نحن نتولي إقامة من نقيمه، كنّا نحن أصحاب المنة عليه والإحسان عليه. قال أحدهم: وإذا كان الأمر علي هذا، فعليكم بأهل الورع والدين، فإن صاحب الورع والدين لا يكاد يهجم علي الأمور الدنيوية ولا يرغب في الدنيا. فقالوا له: كيف لنا بذلك؟ فقال لهم: طوفوا واطلبوا من هذه صفته، فإنكم إن تظفروا به قدموه. وكان بالقرب منهم باز قد كبر وخرف وضعفت قوته عن الصيد، وانحل جسمه، وتناثر ريشه من قلة المعيشة وتعذر القوت، فبلغه خبر الغُربان وما أجمعوا عليه، فبرز من وكره إلي حيث ممرهم عليه، وأقبل يكثر التهليل والتسبيح، ويظهر التخضع والتورع، فأقبلت الطيور تطير علي رأسه، فلا يولع بها ولا يمشي إليها. فلما رأته الغربان علي تلك الحال، ظنوا أنه يفعل ذلك صلاحاً وديانة، فاجتمع بعضهم إلي بعض، وقالوا: ما نري في جماعة الطيور مثل هذا البازي، وما هو عليه من الديانة والزهد، فهلموا بنا نوله علينا، فأتوا إليه وأخبروه بما عزموا عليه فانقبض من ذلك، وأراهم من نفسه الزهادة فيما عزموا عليه. فلم يزالوا حتي قبل منهم، فصار خليفة فيهم وملكاً. فقال في نفسه: كنتم تحذرون من البلاء وما أراه إلاّ وقد وقع بكم. فلما تمكن منهم وقوي عليهم بما كانوا يأتونه من الرزق ويجعلون له من الأجرة علي ذلك، وقوي جسمه ونبت ريشه، وعادت إليه صحته، أقبل يخرج كل يوم عدة من الغربان فيخرج عيونها، ويأكل أدمغتها، ويطرح ما سوي ذلك من أجسادها. فأقام فيها مدة. فلما دنت وفاته اعتمد علي بعض أبناء جنسه فملكه عليهم، فكان أشد منه وأعظم بلية وأكبر رزية. فقالت الغربان بعضها لبعض: بئس ما صنعنا بأنفسنا، وقد أخطأنا».


لقد قام الإخوان بتوجيه النقد السياسي والعقائدي، لأحداث هذه الفترة من التاريخ الإسلامي، مستخدمين بذكاء هذا الإسقاط. فقد تمخض الصراع بين المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة عن تولي أبو بكر (المهاجري) للخلافة، بعد أن اضطر عمر بن الخطّاب لاستدعاء قبيله أسلم الموالية له كي يستخدم قوتها العسكرية لإكراه الأنصار علي الخضوع لإرادة المهاجرين، وبالتالي فقد تم تنحية أهل البيت (ص) وزعيمهم علي بن أبي طالب (ع) عن حقهم في الخلافة رغم أن علي هو صاحب الوصية من الرسول بموجب حادثة الغدير السالفة الذكر * ؛ ويعتبر إخوان الصفا هذا التصرف من أبو بكر وعمر هو السبب الأول لمعاناة المسلمين، ولذلك فقد شبهوا أبو بكر بالصقر الأول كما شبهوا عمر بالصقر الثاني الذي كان أكثر قسوة من سلفه، وهو تشبيه قائم علي أساس واقعي، فأبو بكر لم يقبل الخلافة في البداية (كالصقر الأول) ورشح لها عمر بن الخطّاب أو أبو عبيده بن الجراح، كما أنه قبل وفاته أعلن توليته لعمر بن الخطّاب رغم افتقاده لأي شعبية بين المسلمين واحتجاج معظم الصحابة علي هذه التولية، خوفاً من القسوة المشهور بها عمر *.


من ناحية أخري فإن تولي أبو بكر وعمر وعثمان للخلافة دون نص أو وصية من الرسول (ص)، يتعارض مع تصور الإخوان للإمامة وهو ما أثار إخوان الصفا ودفعهم لاتهام الحاضرين بسقيفة بني ساعدة بالمتنازعين علي الرياسة، وهو وصف مهين: «ثم اعلم أنه إنما وقع الخلاف في الشريعة بعد خروج النبي، عليه السلام، من الدنيا، لما تنازعوا فيما بينهم لطلب الرياسة والمنزلة، وكان منهم ما كان إلي أن جري ما جري من هتك حرمة النبوة وقتل آل بيت الرسالة واهباط الوحي، وما فعله ابن زياد بكربلاء».


ولابد من الإشارة إلي أن عبارتهم (إلي أن جري ما جري من هتك حرمة النبوة) تشير إلي محاولة عمر بن الخطّاب حرق منزل الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراء (ص) لإجبار علي علي البيعة ؛ وفي نص آخر يشير الإخوان إلي حادث السقيفة معتبرين أنها اغتصاب لحق أهل البيت: «كما حزن أهل بيت النبوة لما فقدوا سيدهم وغاب عنهم واحدهم وتخطفوا من بعده وتفرق شملهم، وطمع فيهم عدوهم، واعتصبوا حقهم، ثم ختم ذلك بيوم كربلاء وقتل من قتل من الشهداء ما افتضح الإسلام به».


علي أن الإخوان أعلنوا في بعض النصوص الأخري رأيهم في كل من يتولي الخلافة ويدعي الإمامة بدون وصية من الرسول (ص)، فيقولون في وصف الخلفاء والملوك المفتقدين للوصية من النبي والتأييد الإلهي الذي يتمتع بها أهل البيت: «وإنما أردنا بما بيناه لك من العلم والعمل والتدبير الذي يذكره أهل هذه الصناعة، ويصنعون في وقت ابتداء الخلافة ونصب سرير المملكة، واجتماعهم لذلك، وادعائهم بما يعملونه، وترؤسهم بما يصنعونه، وطلب الجوائز والأموال والخلع ليعلم أن الملك والخليفة الذي يستخلف بهذا التدبير هو مملوك وليس بمالك، وإنما أيد بتأييد أرضي وهو محبوس محجور عليه، وقد سُحر بسحر لا ينفك منه ولا يستخرج عنه إلاّ بالموت... فقد بان لك بما ذكرنا كيف تكون خلافة الله، عزّ وجلّ، وخلافة خلقه. فإن قال قائل ذلك لا يكون إلاّ بأمر الله، عزّ اسمه، فقد صدق إذا اتبع فيه المستخلف الأمر الذي يرضي الله، عزّ اسمه، وهو الذي من أطاعه فقد أطاع الله تعالي كما قال الله تعالي: «من يطع الرسول فقد أطاع الله » وإن عدل عنه إلي ضده فقد خرج من أمر الله تعالي وارتكب نهيه» .


وعقب وصفهم للصراع ما بين آدم، أول خليفة عينه الله علي الأرض، وبين إبليس، قسم الإخوان الخلفاء والملوك إلي نوعين، الحائزين علي الوصية من الأنبياء، وبالتالي المالكين للشرعية والتأييد الإلهي وهم الأئمة، والمغتصبين لهذا الحق، المخالفين لوصية النبي، وهم خلفاء إبليس: وهكذا يجري أمر المستخلفين من ذرية آدم في الأرض من كان منهم مستخلفاً فيها بأمر الله تعالي الذي استخلف به آدم بعد التوبة، وهو الأمر الثاني والوصية الثانية التي لم يتعدها ولم ينسها وجعلها كلمة باقية في عقبه، وهي خلافة النبوة ومملكه الرسالة والإمامة.. فمن تعدي هذا الأمر وخالف هذه الوصية وطلب أن يكون خليفة الله تعالي ليدبر خلقه بسعيه وحرصه فإنه لا يتم له، وإن تم وقدر عليه فإنما هو خليفة إبليس، لأنها حيلة ومكيدة وخديعة وتعد وغصب وظلم وعدوان وخذلان وطغيان وعصيان».


وفي الرسالة الجامعة تأخذ اللهجة أسلوب أكثر حدة وصراحة: «... وكذلك فعلت الأمة الباغية، والفئة الطاغية، والعصبة الباغية من أئمة الضلال الداعين إلي النار، ومنعوا أولياء الله وأهل بيته، الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، أن يسعوا في الأرض بالصلاح العام، والنفع التام، بما استذلوا به من المذلة والهوان، وألجموهم عن النطق بالحكمة، والكلام بما فيه صلاح الأمة بالخوف الذي لحقهم، والامتحان الذي شملهم منهم».


إن إشاراتهم السابقة إلي وصية الرسول لعلي بن أبي طالب في غدير خم، تفرض توجيه هذا الذم إلي جميع الخلفاء الذين حكموا العالم الإسلامي وهم يفتقدون إلي نص وتعيين من الرسول، بما فيهم الخلفاء الثلاثة الأوائل بالأساس، وبالتالي فليس من الممكن تصنيف نصوصهم الظاهرية الواردة في حق الخلفاء السابقين علي «علي» في إطار الاعتراف بخلافتهم، بل أن التصنيف الأقرب إلي الصحة هو وضعها في إطار التقية، ولعل أسلوبهم مباشر وشبه المباشر في وصف الخلفاء المغتصبين لحق آل البيت يؤيد هذا التصور.


تمثل هذه الآراء الخطوط العريضة للإمامة، التي يتفق فيها الشيعة عموماً؛ وهناك آراء أخري في الإمامة تبناها الإخوان في الرسائل تمثل خصوصيتهم العقائدية في مقابل الفرق الشيعية الأخري، كالإثني عشرية، إلاّ إنها ربما تتقارب كثيراً مع الإسماعيلية.


فثمة اختلافات بين الفرقتين الإماميتين حول بعض تفاصيل هذه العقيدة، نشأت عقب الانشقاق الإسماعيلي في منتصف القرن الثالث الهجري الذي قاده محمد بن إسماعيل بمساعدة مجموعات متمايزة، من الدعاة المغمورين البعيدين عن مركز الإمامة، وفلول التيارات المغالية المتأثرة بالفلسفات اليونانية كالخطابية والمنصورية والمغيرية، وهو ما أدي لخضوع الرؤية الإسماعيلية لطغيان التأثيرات والآراء الفلسفية المفتقدة لأي دليل من العقيدة الإسلامية.


في الرسائل يوجد الإخوان فرقاً ما بين الوصي والإمام معتبرين أنه وإن كانت كل منهما رتبة إمامية، فإن الأولي تستحوذ علي مكانة أرقي من الثانية رغم اتفاقهما في الوظيفة: «... لأن جميع ما يجوزونه (أي العارفين بالإمام) علي النبي المرسل فقد يجوزون مثله علي الوصي وعلي الإمام».


يشير هذا النص بقدر من الوضوح إلي الاختلاف ما بين رتبة النبي المرسل والوصي والإمام، وهي رؤية ترتبط بالرؤية الإسماعيلية، يقول حجة العراقين حميد الدين الكرماني في الرسالة الوضية: «والوصاية مرتبة خادمة للنبوة، وذلك أن النبوة والوصاية هما أصلان متماثلان... وليس يمتازان إلاّ في وجود الرتبة فقط... فالنبوة والرسالة كالمخدوم، والوصاية كالخادم، علي أن كون النبوة والرسالة لا انتفاع بهما إلاّ بالوصاية، ولا الوصاية لها قوام إلاّ بالرسالة لكون الرسالة، أعني النبوة بركات مفاضة علي صاحبها وقوة تتصل به».


ويقول حول علاقة الإمامة بالرتبتين السابقتين: «وهي منة من الله تعالي علي الأئمة، فيقدرون معها علي القيام مقام الرسول ـ سلام الله عليهم ـ فيما كان يتعاهد به من أمر الأمة وهي المنة الثالثة بالإضافة إلي المنة الأولي والثانية، ... وبذلك صار مقام الإمام المنصوص عليه مقام النبي (ص) والوصي جميعاً، ... فصار الإمام وارثاً للمرتبتين اللتين هما مرتبة الناطقية التي هي الظاهر (النبوة والرسالة)، ومرتبة الأساسية التي هي التأويل (الوصاية)، كالولد الذي يرث والديه».


ويقول الداعي علي بن محمد الوليد في (تاج العقائد): «الإمام يرث من النبوة الظاهر والأحكام وجري الأمور علي ما علمه من النظام. يرث من صاحب الوصاية المعاني التي ورثها النبوة، ليكون الكمال موجوداً لقاصده ومسلماً في شريعته التي جعلها عصمة لمن التجأ إليها، وطهارة‏لمن التزم قوانينها وسار علي محجتها».


هذا التقسيم ما بين الوصاية والإمامة برفضه الإثني عشرية، وهو ما دفع أحد أشهر مجتهديهم المعاصرين وهو الشيخ جعفر السبحاني إلي استنكار الرؤية الإسماعيلية عقب استعراضه لها: «ولا أدري من أين لهم هذه الضوابط والقواعد، وما هو الدليل علي هذا التقسيم».


إن هذه الفضيلة العقائدية نتيجة لعدة نظريات تحكم الرؤية الإسماعيلية للإمامة، كنظرية (أدوار الإمامة)، ونظرية (المثل والممثول) وهما من أسس الرؤية الإسماعيلية للإمامة.


فقد رأت الإسماعيلية أن الإمامة ابتدأت منذ هبوط آدم إلي الأرض، وقسموا تاريخ الإمامة إلي سبعة أدوار، يتكون كل دور من إمام مقيم، ورسول ناطق، ووصي (أساس)، ثم سبعة أئمة بحيث يكون السابع هو متم الدور ليبدأ بعدهم دور جديد وسلسلة إمامية أخري *.


وبالتالي فإن هناك سبعة نطقاء هم آدم ونوح وإبراهيم وموسي وعيسي ومحمد، واعتبرت الإسماعيلية أن محمد بن إسماعيل بن جعفر هو الناطق السابع، يقول الداعي إدريس القرشي: «... إنما خص محمد بن إسماعيل (ع) بذلك لانتظامه في سلك مقامات دور الستر، ... وإذا عددت عيسي ووصيه وأئمة دوره، كان محمد (ص) متسلماً لمراتبهم، وهو الناطق الخاتم للنطقاء، وكان وصيه (ع) بالفضل منفرداً، وإذا عددت الأتماء في دوره كان محمد بن إسماعيل سابعهم، وللسابع قوة علي من تقدمه. فلذلك صار ناطقاً وخاتماً للأسبوع وقائماً، وهو ناسخ شريعة صاحب الدور السادس ببيان معانيها، وإظهار باطنها المبطن فيها.


وقد اعترف الإخوان في الرسائل بالدورات السباعية للإمامة: «اعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه، إن المقصود من تأويل تفجير البحار هو ظهور علوم الرؤساء السبعة وما كان مستوراً من شرائعهم ونواميسهم، ولذلك قيل أن البحار سبعة، وأن البحر السابع هو المحيط، وهو مثل الخاتم للرؤساء، وأن علم الستة ينصب إلي السابع».


وفي الرسالة الجامعة اتفق الإخوان مع الإسماعيلية في شخوص الرؤساء السبعة وإن كانوا قد تجنبوا ذكر الرئيس السابع: «... فأوجب العبادة علي خلقه لنفسه، سبحانه، من جميع خلقه، وتنزه عما هم محتاجون إليه به، إذ هو رازقهم ومطعمهم، ولا وصول إلي معرفته، جل اسمه وعبادته، وطاعته، إلاّ بالدين، وكان الدين أمره ونهيه، وكان القائم بأمره ونهيه أشخاصاً إنسانية، وصوراً آدمية، وكانوا يأتون الواحد بعد الواحد، في زمان بعد زمان، فكان أولهم آدم، وكان مثله مثل العقل، إذ كان أول البداية الجسمانية، والخلقة التركيبية الإنسانية، ... إلي أن أعقبه الشخص الثاني وزادت القوة، وظهرت إلي حد الفعل، وعطف الأول علي الثاني، عطفة الأمر، فأشرقت النفس، وامتدت القوي، فانبعثت الملائكة بالوحي من السماء، فاتصلت بالشخص الفاضل نوح، وقام بالأمر والنهي الجديد، ... ودار الدور الثالث، وزادت القوة، وظهرت إلي حد الفعل، وعطف الأمل علي الثاني فكان الأمر الثالث المتصل بإبراهيم، ... ثم دار الدور الرابع واتصل الأمر من الأول بالثاني، وأمده بالأمر، فنطق بالقول، فوصل إلي الحد المتحد بدرجة الأنبياء، فهبط الروح الأمين بالوحي، واستخلص الشخص الطاهر، فقام الجسد الطاهر، في البقعة المباركة عند جانب الطور الأيمن، في الوادي المقدس، فنودي من الشجرة المباركة، وجاءه النداء من العلي الأعلي: «يا موسي إني أنا الله » فنال بذلك المنزلة العلية، والرتبة السنية، واصطفاه الله بكلامه ورسالاته، وأرسله وأخاه إلي فرعون وملاءه وأهل ذلك الزمان، ... ثم كانت الدورة الخامسة فبعث إليهم عيسي المسيح اليسوع، المؤيد بروح القدس، فكلم الناس في المهد، وكانت له من الآيات والمعجزات ما ذكره الله عزّ وجلّ في كتابه ونزل به خطابه وكان من أمره ما كان، ثم دارت الدورة السادسة، فكان الأمر القريب من النهاية المتقدمة بين يدي الساعة، السابق لها، بالإنذار منها: البشارة بها، والتحذير منها، ولايزال أمره متصلاً بعضه ببعض، حتي تدور الدورة السابعة، ويستأنف دور الآخرة، وتجتمع الستة مع السابع في درجة واحدة، كاجتماع الكواكب الستة مع الكوكب السابع في أول درجة من برج الحمل».


وأما قوله «يوم كألف سنة مما تعدون» فهو مدة قيام السادس ولذلك قال: عمر الدنيا سبعة آلاف سنة بعثت في آخرها ألفاً». «فإنما هي إشارة من الله عزّ وجلّ إلي تكذيب من غالي في المسيح وزعم أنه إله، وأنه صاحب القيامة، وأنه يتولي حساب الخلائق، وأنه صاحب منزلة السابع، ... فكذبهم الله عزّ وجلّ بهذا القول علي لسان السادس من أنبياؤه، وخاتم رسله (ص) .


وثمة مشكلة حول الناطق السابع، الذي يعتقد الإسماعيلية أنه محمد بن إسماعيل، ويبدو أن الإخوان يوافقونهم حول هذا الاعتقاد خاصة أنهم يشيرون إلي الرسول (ص) بالرئيس السادس في نصوصهم، ولعل هذه النتيجة هي إجابة التساؤل حول الرئيس السابع الذي يشير إليه الإخوان بكل هذا الاهتمام.


إن هذه الدورات السباعية للإمامة تختلف تماماً مع الرؤية الإثني عشرية، الذين يرون أن آدم (ع) ليس صاحب شريعة كي يعد رسولاً ناطقاً، وبالتالي فهم يختزلون الرؤساء (حسب تعبير الإخوان) إلي خمسة فقط.


وبالتأكيد يرفض الإثني عشرية الاعتراف بإمامة محمد بن إسماعيل فضلاً عن الاعتراف بكونه ناطقاً بعد النبي (ص) بالإضافة إلي رفضهم هذا التصور عن الإمامة حيث يرون أنه لا دليل عليه، ويعلق الشيخ جعفر السبحاني علي هذه الأدوار في مناقشته لأطروحة الدكتور عارف تامر عن الإمامة الإسماعيلية: «إن ما ذكره من الأدوار الستة للإمامة وأن كل رسول ناطق تتلوه أئمة سبعة، علي النحو السابق، أمر مبني علي الظن والتخمين لا علي القطع واليقين، فإن التحدث عن الأئمة الذين قاموا بالأمر، بعد الرسول الناطق، آدم، فنوح، فإبراهيم، فموسي، فعيسي، فمحمد (ص) يتبني علي أساطير لا يمكن الإذعان بها، ولا أدري أن الكاتب إلي أي كتاب، وسند قطعي اعتمد عليه في استخراج هذه القوائم».


ويبدو التقارب بين الإخوان والإسماعيلية أوضح في نظرية المثل والممثول، فقد اعتقد الإسماعيلية أن لكل مثل ظاهر ممثولاً باطناً، وقد بني علي هذا الاعتقاد علم التأويل الإسماعيلي، يقول المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي: «خلق الله أمثالاً وممثولات، فجسم الإنسان مثل، ونفسه ممثول، والدنيا مثل، والآخرة ممثول، وأن هذه الأعلام التي خلقها الله تعالي، وجعل قوام الحياة بها، من الشمس، والقمر، والنجوم، لها ذوات قائمة، يحل منها محل المثل وأن قواها الباطنة التي تؤثر في المصنوعات، هي ممثول تلك الأمثال».


من ناحية أخري تبني الإسماعيلية الرؤية الفلسفية الأرسطية في تفسير كيفية نشأة الكون، والتي اعتبرت أن الله واحد بسيط من جميع الجهات لا كثرة فيه، لا خارجاً، ولا عقلاً، ولا وهماً. وبرزت مشكلة كيفية صدور عوالم العقول والأفلاك والأجسام عن الله، عزّ وجلّ، وهو واحد بسيط لا يصدر عنه إلاّ واحد؟ تصور أرسطو أن الله لم يصدر عنه سوي واحد هو العقل الكلي (العقل الأول أو القلم)، وقد انبعث منه النفس الكلية (المنبعث الأول أو اللوح)، ثم توالي فيضان العقول حتي العقل العاشر.


ولم يفت الدعاة الإسماعيلية إسباغ قدر من الصبغة الإسلامية علي هذه النظرية، فاستدلوا علي صحتها بمقولة منسوبة للإمام علي (ع) تقول: «فإن للعزيز الجبار ملائكة خلقهم من نور الأنوار فهم متلألؤن عن درك الأبصار، متباينون عن اختلاف الليل والنهار، روحانيون، لم تأزهم ترائب الأجسام، هيكليون لم تحنهم الأرحام، صمديون لا يأكلون الطعام، ممتنعون عن تصاريف الصفات، لاهوتيون لا تشتبه عليهم اللغات، متفاوتون في منازل الدرجات، لم يلدوا فيتناسلوا، ولم يولدوا فيتناسبوا، ولم يتكافوا فيتنافسوا، بل كل لمن فوقه مربوب، وكلهم عن غيب ذي العزة محجوب. حجب مقربون، وعباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول، وهم بأمره يعملون، لا يأمنون من خشيته، ولاعن تسبيحه يفترون، قد سما بهم شرف الطاعة إلي معالي الأمور، ونسألهم علم ذي العزة فوصلوا بمعالم الخلود، وارتقوا إلي معالم الصلود، في توالي مراتب عالم الإبداع المقدور. وتناهي بهم الفضل إلي عظمة الارتفاع، فهم أُولو أجنحة مثني، وثلاث، ورباع، شمخ بهم عظيم الأقسام، عن حدود مذاهب الأوهام، واعتصم بهم عظيم التنبيه عن فترة النعاس، فهم لا ينامون، وامتنع بهم علوا العزة عن المضاجع فهم قيمون، لباسهم العزة والأخطار، ومذاهبهم الأمر والإئتمار، وطعامهم محل الإرادة وغواشي الأخبار، وشرابهم العلم بالتوارد عليهم، وإنفاذ كل معلوم إليهم، علموا فعملوا، وملكوا فشكروا، واستبعدوا علي عظمتهم فلم يستكبروا، فهم كافون لما كلفوا، قادرون بما أعطوا، مبلغون لما حملوا، فلا يقال فيهم قاموا بعد قعود، ولا قعدوا بعد قيام، ولا يحيط بسعتهم الأماكن، ولا تستقل لعظمتهم المواطن، لكنهم أحاط بهم علم باريهم فهو لهم جنة ومأوي، واتقنهم صنعة، فهو لهم أول ومبتدأ، وذللهم أمره فهو لهم غاية ومنتهي، تلطفوا في سعة باريهم وإحاطته، وعظموا بالقدرة عن أمره وإرادته، فلو عدلت السماوات العلي، والأرضون السفلي، وما فوقهن وما بينهن، وما تحت الثري، لكانت في عظمة أحدهم كجناح بعوضة، فأين ثواقب العقول، وأين يطمح السائل بالمسؤول، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وعلم آدم الأسماء كلها».


ويعلق الداعي إدريس عماد الدين القرشي بعد إيراده لهذه المقولة: «هذا قوله صلوات الله عليه في صفة العقول، ومن ضمنهم الذين هم ملائكة الله المخصوصون باللطافة عن الكثافة، المحظوظون بالتقديس، السائحون في فضاء عالم القدس، وهم لا يحيط بهم مكان، ولا تجري عليهم تصاريف الزمان، إذ المكان الفلك وما حواه، والزمان ما يجري له حركاته علي قدر ما قدره مدبره وقضاه، وهم خارجون عنه مبائنون منه، فإمداد مبدع العوالم للعقل الأول، وإفاضته لأنوار علمه علي هذه العقول الأفضل منهم فالأفضل، ومنهم اتصل الأمر بالعاشر وبتدبيره ودارت علي الأفلاك الدوائر». وقد مزج الإسماعيلية بين نظريتي المثل والممثول، والعقول العشرة، وطبقوا النظريتين علي درجات الدعوة الدينية، فجعلوا لكل درجة دينية ظاهرة ممثولاً في المراتب الكونية سالفة الذكر، فالرسول الناطق ممثول للعقل الكلي، والأساس (الوصي) ممثول العقل الثاني أو النفس الكلية، والإمام ممثول للعقل الثالث أو الهيولي، ويحتل الأساس مرتبة العقل الكلي عقب وفاة الناطق، كما يحتل الإمام مرتبة النفس الكلية، ثم يصل إلي مرتبة العقل الكلي عقب وفاة الأساس.


في مناقشة إخوان الصفا لكيفية إبداع الله للكون، اتفقوا مع الإسماعيلية في تبني تراتبية الإبداع الأرسطية، كما تبنوا نظرية المثل والممثول، رغم أنهم في مناقشتهم لهذه العلاقة تحدثوا عن ممثول العقل الكلي عامة سواء كان رسولاً ناطقاً أو وصياً أو إماماً: «إن الله تعالي هو المبدع وبعدهالعقل الفعال وهو جوهربسيط روحاني أبسط من النفس وأشرف منها قابل لتأييد الباري تعالي علام بالفعل، وبعده النفس الكلية وهي جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع قابلة فضائل العقل بلازمان فعالة في الهيولي بالتحريك لها، وبعدها الهيولي الأولي وهي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة بل قابلة آثار النفس بالزمان منفعلة فيه». «العقل هو أول موجود أوجده الباري تعالي وأبدعه من غير واسطة، ثم أوجد النفس بواسطة العقل، ثم أوجد الهيولي وذلك أن العقل جوهر روحاني فاض من الباري عزّ وجلّ وهو باق تام كامل. والنفس جوهرة روحانية فاضت من العقل وهي باقية تامة غير كاملة. والهيولي الأولي جوهر روحاني فاض من النفس وهو باق غير تام ولا كامل».


ويقول الإخوان في نظرية المثل والممثول: «... فلما كان انتظام أمر الأفلاك وعالم السموات، وما فيها من الملائكة، وما يحدث من الأمر فيهم، وما يكون منهم من العبادة والتسبيح والتقديس، والتهليل والتكبير، بحركة هذه الكواكب السبعة في البروج الإثني عشر كذلك كان أمر العالم السفلي، والخلق البشري، وما يكون منهم من العبادات، والطهارات، والصلاة، والتسبيح والتقديس، معرفة الله بمجيء هؤلاء الرؤساء السبعة، ومن صحبهم، ونال من خيراتهم، وخلفهم من بعدهم من أهل بيوتاتهم، الذين ورثوا حكمهم، وفازوا بنعمهم. فبهذا البرهان قد صح، أن أمور الدين موافقة لأمور الخلق».


ويقولون حول العلاقة بين العقل الكلي في عالم السماوات والناطق في العالم السفلي: «... فأوجب العبادة علي خلقه لنفسه، سبحانه، من جميع خلقه، وتنزه عما هم محتاجون إليه به، إذ هو رازقهم ومطعمهم، ولا وصول إلي معرفته، جل اسمه، وعبادته، وطاعته، إلاّ بالدين. وكان الدين أمره ونهيه، وكان القائم بأمره ونهيه أشخاصاً إنسانية، وصوراً آدمية، وكانوا يأتون واحد بعد واحد، في زمان بعد زمان، فكان أولهم آدم، وكان مثله مثل العقل، إذ كان أول البداية الجسمانية، والخلقة التركيبية الإنسانية، وأول من نطق بأوامر الناموس، وأقام الشريعة، واتحدت به أنوار العقل ولطائف النفس وتأييد الباري، عزّ وجلّ، بواسطة النفس بأمره ونهيه».


والإشارة إلي آدم في هذا النص تشمل الناطقين الذين أتوا بعده لأنهم يحتلون نفس المرتبة، وهم يؤكدون هذا المعني في عبارتهم: (وكان القائم بأمره ونهيه أشخاصاً إنسانية، وصوراً آدمية، وكانوا يأتون واحد بعد واحد، في زمان بعد زمان) كدليل علي قيامهم بنفس الدور واحتلالهم نفس المكانة.


ويشير الإخوان إلي علاقة الوصي بالنفس الكلية: «واعلم بأن الناس أشخاص لهذا الإنسان المطلق وهو الذي أشرنا إليه أنه خليفة الله في أرضه منذ يوم خلق آدم أبو البشر إلي يوم القيامة الكبري، وهي النفس الكلية الإنسانية الموجودة في كل أشخاص الناس... واعلم يا أخي أيدك الله وإيانا بروح منه بأن هذا الإنسان المطلق الذي قلنا هو خليفة الله في أرضه، هو مطبوع علي قبول جميع الأخلاق البشرية والعلوم الإنسانية والصنائع الحكمية وهو موجود في كل وقت وزمان».


ومن الممكن الاستنتاج أنّ مكانة الإمام علي الرغم من أن الإخوان لم يذكروها لكن موافقتهم علي نظرية أرسطو في الخلق، ونظرية المثل والممثول، ربما تعد تأكيداً علي قبولهم لباقي الرؤية الإسماعيلية.


بالنسبة للإثني عشرية، ثمة اتجاهات بين العرفانيين، والفلاسفة تتبني بعض هذه الآراء وخاصة في علاقة العقل الكلي بالناطق والأئمة، إلاّ إنها تخالف من ناحية أخري في هذه التراتبية بين مرتبة الناطق والوصي والإمام حيث أنها تعتبرهم مرتبة واحدة، مع احتفاظ النبي الناطق بأفضليته مما يعني رفضهم لنظرية المثل والممثول، يقول الإمام الخميني: «فالعقل الظاهر في العوالم النازلة يثاب ويعاقب باعتبار اتحاد الظاهر والمظهر ومعاد كل شيء بتوسطه بل بمعاده فإن الأشياء الكونية لا تعود إلي الحق ما لم تصل إلي العالم العقلي أو تفني فيه وإن كان معاد الكل بتوسط الإنسان الكامل الذي كان العقل هو مرتبة عقله».


ويقول في نص آخر: «إن النبوة التي وصفتها بأنها الحقيقي الذاتي الأولي ظل النبوة التي هي ظل النبوة الحقيقية في الحضرة الواحدية، أي حضرة اسم الله الأعظم المبعوث علي الأسماء في النشأة الواحدية المنبئ عن الحضرة الأحدية بلسانه الإلهي والتكلم الذاتي، ونبوة نبينا صلّي الله عليه وآله بحسب الباطن مظهرها ومنشآتها الظاهرة مظهر بطون نبوته».


ويرفض الإمام الخميني، بعد شرحه للأسفار الأربعة، وضع النبي والوصي والإمام في علاقة تراتبية من أعلي إلي أسفل، حيث يري أنهم في مكانة واحدة: «اعلم أن هذه الأسفار قد تحصل للأولياء الكمّل أيضاً حتي السفر الرابع فإنه حصل لمولانا أميرالمؤمنين وأولاده المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين إلاّ أن النبي صلّي الله عليه وآله لما كان صاحب المقام الجمعي لم يبق مجال التشريع لأحد من المخلوقين فلرسول الله صلّي الله عليه وآله هذا المقام بالأصالة ولخلفائه المعصومين عليهم السلام بالمتابعة والتبعية بل روحانية الكل واحدة».


من ناحية أخري فإن الاتجاهات الكلامية عند الإثني عشرية ترفض الاعتراف بهذه الرؤية من الأساس، ففي تصحيح الاعتقادات رفض الشيخ المفيد الاعتراف بكون القلم (العقل الكلي) واللوح (النفس الكلية) من الملائكة حسب الاعتقاد الإسماعيلي: «اللوح كتاب الله تعالي كتب فيه ما يكون إلي يوم القيامة... فاللوح هو الذكر، والقلم هو الشيء الذي أحدث الله به الكتابة في اللوح، وجعل اللوح أصلاً ليعرف الملائكة (ع) منه ما يكون من غيب أو وحي، فإذا أراد الله تعالي أن يُطلع الملائكة علي غيب له أو يرسلهم إلي الأنبياء (ع) بذلك أمرهم بالاطلاع في اللوح، فحفظوا منه ما يؤدونه إلي من أرسلوا إليه، وعرفوا منه ما يعملون، وقد جاءت بذلك آثار عن النبي (ص) وعن الأئمة (ع). فأما من ذهب إلي أن اللوح والقلم ملكان؛ فقد أبعد بذلك ونأي به عن الحق؛ إذ الملائكة لا تسمي لوحاً، ولا أقلاماً، ولا يعرف في اللغة اسم ملك ولا بشر لوح ولا قلم».


في مناقشته للعقائد الإسماعيلية يرفض الشيخ جعفر السبحاني إيمان الإسماعيليين بنظريات الفلسفة اليونانية واعتبار إنتاجياتها الفلسفية عقائد دينية: «فالقول بالعقول العشرة، والأفلاك التسعة ونفوسها، وأن الصادر الأول هو العقل إلي أن ينتهي الصدور إلي العقل العاشر، فروض فلسفية طرحت لحل مشكلة امتناع صدور الكثير عن الواحد، وهذه المباحث علي فرض صحتها تختص بذوي المواهب الكبيرة في مجال الفكر، فإدخالها في المذهب والدعوة إليها، إلزام بلا ملزم».





























/ 1