ما وراء الفقه :البنك وتجاذبات الاجتهاد الإسلامي والاقتصاد الحديث
السيد عباس موسويان حـــيـدر حــبّ اللّه
لقد هيّأ نشر مقالة « الربا والفائدة البنكية » للدكتور موسي غني نجاد ، الأرضية المناسبة لفتح حوار علمي يتعلّق هذه المرّة بواحد من الموضوعات الاقتصادية الهامّة ، فقد ذهب الكاتب المحترم ـ بتقديمه نظريةً تقوم علي التمايز الماهوي بين الربا والفائدة البنكية ـ إلي القول بأنّ الجهود التي بذلت لتغيير النظم البنكية في البلدان الإسلامية واستبعاد نظام الفائدة وتقديم نماذج بديلة عنه ، نشأت كلها من قراءةٍ رأت في الربا والفائدة أمرا واحدا ، وحيث إنّ هذه المقولة غير صحيحة فكل تلك الجهود لم يكن ـ وليس ـ لها من معني أو ضرورة .
إنّ المكانة العلمية التي يحظي بها الكاتب ، والميزات المنهجية العلمية والمنطقية التي تتمتع بها المقالة دفعا بي إلي تدوين مقالة نقدية تحتوي علي مجموعة من الملاحظات والقراءات ، وقد صدرت هذه المقالة تحت عنوان « ربوية الفائدة البنكية » .
وقد شعرتُ من جهة اُخري بفرصةٍ تستحق الاغتنام عندما أبدي الكاتب المحترم استعداده لمواصلة الحوار مسجلاً في مقالة ثانية حملت عنوان « قراءة في الاُصول المعرفية لتمايز الربا والفائدة البنكية » سلسلةً من الملاحظات العلمية والتحقيقية النقّادة علي مقالتي الاُولي ، ومن هنا كتبت هذه المقالة ترحيبا منّي بهذه الدعوة الكريمة .
لكن وقبل الشروع في البحث أري من المناسب التقديم بالإشارة إلي جملة نقاط :
النقطة الاُولي : إنّني أشكر ذاك الأدب والتواضع الرفيع في السيد غني نجاد ، الذي ورغم مشاغله العلمية الشديدة ، خصّص وقتا لمطالعة مقالة « ربوية الفائدة البنكية » مطالعةً دقيقة ، كما وأبدي صدرا رحبا بطبعه الكريم إزاء الصراحة التي اتخذها القلم ، مشيرا إلي حمله إيّاها علي تجنب الكاتب الدخول في القضايا الهامشية .
كما أجدني مضطرا إلي التعبير عن سعادتي وسروري للإثارة الأكثر عمقا للموضوع ، والتي سنحت بالمجال المناسب للدخول في جوٍّ حواري أخّاذ ، وإنّني لآمل الوصول إلي النتيجة المنشودة عبر مواصلة هذا البحث ،والتنقيب عن الحقيقة والصواب .
النقطة الثانية : تقوم المباحثات السائدة في الأوساط الحوزوية علي عرفٍ يقضي بتجنّب الإطالة وتكرار الموضوعات ، بحيث تعلَن القضايا المتفق عليها بشكل صريح ، ومن هنا اُبدي شكواي من السيد غني نجاد في مقالته الثانية ، ففي الوقت الذي يقول فيه : « لقد تعلّمت من الإشارات التي ذكرها السيد موسويان حول التاريخ الاقتصادي لصدر الإسلام العديد من النقاط الجذابة والمفيدة والتي يستحق الكاتب المحترم شكرا كبيرا عليها » ( 1 ) لا يشير لا من قريب ولا بعيد إلي موافقته علي هذه النقاط أو لا ؟
وهذا الابهام يفرض تكرار بعض الموضوعات الأمر الذي ألتمس العذر عنه سلفا .
النقطة الثالثة : إنّ الحديث عن حرمة أو حلية الفائدة البنكية يمكن أن يطرح بأشكال مختلفة ، تختلف فيما بينها من حيث المنهج الاستدلالي ، وكذلك من حيث النتائج الفقهية المترتبة عليه ، والخلط بين هذه الأشكال المتنوّعة لا يفضي إلاّ إلي الحيرة والاضطراب بحيث لا تعلم بداية البحث من نهايته .
وعلي هذا الأساس نبدأ حوارنا هذا بإثارة ـ وتوضيح ـ النظريات الممكن طرحها فيما يخصّ الربا والفائدة البنكية ، كما أنّني اُهيب ـ كذلك ـ بالدكتور غني نجاد أن يحدّد مدّعاه ومنهجه في هذا البحث ، ومن ثمّ إقامة الدليل وفقا لهما .
النظريات الممكنة حول الربا والفائدة
من قديم الأيّام ، كانت الحوادث المختلفة تخلّ ببرنامج حياة الناس ، وتمنعهم من الوصول إلي حاجاتهم الحياتية ، كما أنّ التفكير في ادخار الأموال للأيّام العصيبة لم يكن أمرا كافيا ، رغم انّه كان يساهم إلي حدٍّ ما في التخفيف من حجم القلق والاضطراب الذي كان يعيشه الفرد ، واستمر الحال علي ذلك إلي أن شقّت ظاهرة القرض طريقها إلي ساحات العلاقات الاقتصادية للمجتمعات ، وتبعا لذلك ، صار بإمكان المقترض حلّ مشكلاته بطور مؤقت عبر توظيف الفائض علي انتاج ومداخيل الآخرين لصالحه ، وكذلك الحال علي خط المقرض أيضا ، فقد نجح ـ علاوة علي حفظه أمواله من خطر السرقة والتلف ـ في نقل مصاريف حفظها إلي المقترِض نفسه .
وهكذا استطاع القرض حلّ مشكلات الطرفين معا ، لكنه مع ذلك بدأ يفقد طابعه الخيّر تحت ضغط نزعة الحرص البشرية ، فقد توصّل أصحاب الأموال المدّخرة إلي نتيجة تقف لصالحهم ، تقضي أنّ بإمكانهم إقراض هذه الأموال مقابل أخذ زيادة علي ذلك باسم « الربا » .
وقد ضاعف ظهور النقد ـ لا سيّما منه النقد المعدني القابل للتلف والذي لا يحتاج إلي مصاريف كثيرة لخزنه ـ من قدرة المقرضين علي المماكسة بحيث صاروا يرفضون إقراض أموالهم إلاّ بنسب مئوية عالية .
وبمرور الأيّام ظهرت مجالات جديدة للقرض من خلال التكامل في أساليب الانتاج ، وتبلور مجالات لرأس المال إلي جانب طاقات العمل ، فقد وجّه الزارعون والحرفيّون والتجار أنفسهم ناحية مدّخري الأموال حينما كانوا يفتقدون رأس المال الكافي لنشاطاتهم الاقتصادية ، واستتباعا لذلك تبلورت القروض الانتاجية والتجارية إلي جانب القروض الاستهلاكية ( 2 ) .
وفي حقبة من الزمن البشري ، حرّم الإسلام الربا ، مصنّفا الخائضين في لجاجه محاربين للّه ورسوله ، معتبرا إيّاه أخذ أي نوع من الفائدة قبال القرض ( 3 ) .
وبوصول العصر الحاضر ، أصبحت ظاهرة الإقراض مع الفائدة أكثر تعقيدا واكتمالاً من ناحية الأساليب والطرق ، وذلك نتيجة توسع الحاجات الاستهلاكية والاستثمارية من جهة ، ونمو مدخرات أصحاب رؤوس الأموال من جهة ثانية ، وظهور البنك الحديث وإبداع أنواع النقود الاعتبارية من جهة ثالثة .
وعلي خطٍّ آخر ركّز فقهاء الإسلام ـ الشيعة منهم والسنّة ـ علي التعاقد القائم بين البنك والعميل ، فلاحظوا إقراض البنك مبلغا له ليأخذ بعد مدّة نفس المبلغ منه مع زيادة ، ولما وجدوا أنّ حقيقة هذا التعاقد تحتوي نفس مضمون القرض الربوي حكموا بربويته ، وتعاملوا مع الفائدة البنكية تعاملهم مع الربا ، وذلك دون أن يعتنوا بالموارد التي يؤمن فيها البنك نفسه ، أو بدوافع المقترض ، أو بالاعتبارات البنكية ، أو بكيفية تبلور قيمة الفائدة البنكية . . .
وفي المقابل ومنذ حوالي القرن من الزمن ، سعي البعض ـ وبأشكال مختلفة ـ للفصل بين الظاهرتين ( الربا والفائدة البنكية ) ، ليسلبوا حكم الحرمة عن الفائدة ، مقدّمين ـ لتحقيق هدفهم هذا ـ مجموعة من النظريات أهمّها :
1 ـ التغاير الماهوي بين الربا والفائدة :
تعود الجهود الاُولي علي هذا الصعيد إلي بعض علماء الأزهر ، حيث ادعوا قبل حوالي المائة عام تأثرا ببعض العلماء المسيحيين ، بأنّ الزيادة التي حرّمها كلّ من الإسلام والمسيحية إنّما هي الزيادة الفاحشة و « أضعافا مضاعفة » ، وهي بذلك تغاير الزيادة الموجودة في الفائدة البنكية ، والتي هي زيادة معقولة وعادلة .
الجهد الآخر علي هذا الصعيد قام به الدكتور موسي غني نجاد ، فقد اعتقد أنّ : « ما جري منعه في الإسلام إنّما هو الناتج الثابت أو المعين سلفا في المعاملات المالية ، الأمر المحال وقوعه في ظلّ نظام اقتصادي تحكمه قواعد سوق المنافسة ، والذي تكون قيمة الفائدة فيه متغيرة بشكل كلّي ، بحيث لا يمكن التنبؤ بها مسبقا علي الاطلاق ، ذلك أنّ تحوّلاتها تخضع لمجموعة عناصر غير قابلة بدورها للتنبؤ تحكم حركة السوق كلّه » ( 4 ) .
ومن الواضح أنّ الباحث الذي يدعي تمايزا ماهويا بين الربا والفائدة البنكية مطالبٌ بقراءة وتفحص الخواص الأساسية والذاتية للزيادة الربوية ، وتلك الحاصلة في الفائدة ، ليجري مقايسة فيما بينهما ، حتي يستطيع في النهاية اثبات تغايرهما ، كما ومن الجلي انّه لو نجح في التوصل إلي نتيجة كهذه فستصبح كافّة أنواع القروض مع الفائدة ، الاستهلاكية منها أو التجارية أو الانتاجية . . . خارجةً عن حكم الربا .
2 ـ اتساع دائرة استخدام القرض مع الفائدة :
تكتسب بعض الظواهر مجالات جديدة للتوظيف والاستخدام أحيانا نتيجة التقدّم العلمي واختراع آلات جديدة ، وتبعا لذلك يتحوّل الحكم الشرعي لاستعمالها ، وكمثال علي ذلك : « الدم » ، فرغم أنّ ماهيته واحدة في الأزمنة كلّها ، قديمها وحديثها ، لكن حيث لم يكن له من استخدامٍ صدر الإسلام وما بعده من قرون عدا في أكله ، وحيث حرّم الإسلام أكل الدم ، حكم الفقهاء ـ انطلاقا من ذلك ـ بحرمة بيعه وشرائه ، واعتبروا ثمنه سحتا وأكلاً للمال بالباطل .
لكن تقدّم العلوم البشرية ساهم في خلق مجالات استفادة عقلائية جديدة للدم ، الأمر الذي دفع الفقهاء إلي التوسّع في حكمه ليجوّزوا الاستخدامات العقلائية له ، وليصحّحوا ـ تبعا لذلك ـ عقود البيع أو الشراء التي تقع عليه عندما يراد من ذلك التوصّل من خلاله لمقاصد عقلائية .
فهنا ، ورغم عدم وجود أي تبدّل علي صعيد حقيقة الدم وكيانه ، لأنّ الدم هو الدم في كل المجتمعات القديمة والمتقدّمة والمتطوّرة ، لكن تطوّر العلوم وتنامي التكنولوجيا أدّيا إلي خلق مجالات استفادة جديدة وجائزة له .
ونفس هذا الأمر يمكن تطبيقه علي ظاهرة القرض مع الفائدة ، حيث يُدّعي أنّ المجتمعات التقليدية المعيشية لا تعرف الاقتراض الهادف لخلق رؤوس أموال ، وذلك كاقتصاديات القري والعشائر المكتفية ، والتي تنتج علاوةً علي حاجاتها الاستهلاكية أدوات انتاجية بدائية لنفسها ، وفي النهاية ستكون كافّة القروض في هذه المجتمعات استهلاكية معيشتية .
وبناءً عليه ، فتلك الفائدة أو الزيادة التي يدفعها المقترض لن تنبثق عن القيمة المضافة للنشاطات الاقتصادية ، وإنّما عن مداخيله الخاصّة أو ثروته كذلك .
لكن القرض مع الفائدة اكتسب لنفسه أدوارا جديدة أكثر فائدة وأهمية ، وذلك بمرور الزمان وتوسّع العلاقات الاقتصادية ، وتقسيم العمل ، وتخصص الانتاج ، وظهور النظام الاعتباري والبنكي الجديد ، ففي عصرنا الحاضر ، وفي ظلّ النظم البنكية الحديثة ، يتم تأمين الفائض عن الحاجات الاستهلاكية للأفراد عن طريق الايداعات البنكية ، لتحوّل ببالغ السهولة إلي المنتجين ، ومن ثمّ ليضاعف هؤلاء المنتجون ـ مستفيدين من مصادر البنك وموارده ـ من الانتاج والقيمة ، وليعطوا البنك نفسه في فترات زمنية محدّدة قسما من هذه القيم الفائضة علي شكل فوائد .
وبناءً عليه ، ورغم أنّ وظيفة البنك تقوم علي اعطائه المال ثمّ أخذه عن زيادة ، الأمر الذي يصنّف علي الصعيد الماهوي علي أنّه قرض ربوي ، بيد أنّ تطوّر العلوم ، وتخصصية الانتاج ، أدّيا إلي تأمين مجالات جديدة ومفيدة للقرض ، وبالتالي فلم يعد المقترض ليدفع المبلغ الاضافي ( الربا والفائدة ) من ثروته الخاصّة أو دخله الشخصي ، وإنّما من تلك الاضافة الحاصلة في القيمة ، وفي النتيجة ، لم تعد تلك الآثار السيئة والمقيتة للربا موجودة أبدا .
وإذا ما استطاع باحثٌ ما أن يثبت نتيجةً من هذا النوع ، فسيكون قادرا علي إخراج الاستخدامات الجديدة للقرض الربوي عن الحكم السابق للربا ، بيد أنّ المشتركات ما بين نوعي القرض ستبقي علي ما عليه من الحكم الشرعي .
3 ـ خلوّ القرض مع الفائدة من علّة التحريم :
قد تحرم ظاهرةٌ ما لخصوصيات موجودة فيها ، بيد أنّها ـ وبمرور الزمان ونتيجة أسباب داخلية أو خارجية ـ تفقد تلك الخصوصيات ، وفي حالةٍ من هذا النوع سيرتفع عنها حكم الحرمة .
وكمثال ، شرب الخمرة حرام لما فيه من الإسكار ، فلو زالت عنه هذه الخصوصية ( الإسكار ) إمّا من تلقاء نفسه أو بإضافة موادّ إليه ، فسوف يرتفع حكم الحرمة الذي كان ثابتا عليه من قبل ، وهذا هو ما يدّعي في حالة القرض مع الربا ، حيث يقال بأنّ علّة التحريم فيه تكمن فيما يحويه من ظلم وإجحاف يفرضهما المقرض علي المقترض ، وهو أمرٌ لم يعد له من وجود في ظلّ التحوّلات الاقتصادية ، وظهور النظام البنكي الحديث ، حيث خلت القروض والاعتبارات البنكية منهما ، وعليه فلم يعد النظام البنكي مشمولاً لحكم الحرمة حينئذٍ .
وفي هذه النظرية ، يطالب الباحث :
أوّلاً ـ بالكشف عن العلّة الحقيقية التامّة المنحصرة لحرمة الربا عن طريق مطالعةٍ فاحصةٍ للآيات والروايات .
وثانيـا ـ بالتدليل علي فقدان المعاملات البنكية ( القروض والاعتبارات ) ـ عبر تحليلها تحليلاً معمقا ـ علةَ التحريم المكتشفة أوّلاً .
وفي هذه الصورة ، يصبح الباحث قادرا علي استنتاجٍ يؤسّس لخروج المعاملات البنكية عن حرمة الربا ، عن طريق تطبيق قاعدة فقهية مسلّمة تقضي بأنّ « العلّة تعمّم وتخصّص » .
4 ـ ضرورة القرض بفائدة :
يدعي بعض المحققين ـ صارفا نظره عن القراءات الماهوية والتحوّلية لظاهرة الربا ـ أنّ النظام البنكي ببنيته الخاصة أصبح ضرورة لكلّ بلد ، حتي لو فرض أنّ الفائدة هي عين الربا ، ذلك انّه ومن دونه لا يتسنّي بذل مزيد من الاهتمام الأفضل بمصادر الإنتاج ، ما سيؤدي إلي خسارة قسم هام من رؤوس الأموال ، الأمر الذي يخفض مستوي الرفاهية في المجتمع .
ولإثبات نظريةٍ من هذا النوع يلزم المحقق :
أوّلاً ـ إثبات أنّ النظام البنكي يمثل ضرورةً من ضرورات تجهيز المصادر المالية وتأمينها .
ثانيـا ـ البرهنة علي أنّ البنك عاجز عن العمل وأداء الوظيفة عن طريقٍ آخر غير القرض مع الفائدة ، أي انّه ليس ثمّة برنامج عملي ( لا علي أساس الفائدة ) لكي يدير البنك عبره اُموره .
وإذا ما ثبتت هاتان المقدّمتان ، فيمكن حينئذ تطبيق قاعدة فقهية مسلّمة تقول : « الضرورات تبيح المحظورات » ، للخروج بنتيجة مفادها حلّية المعاملات البنكية مع حفظ الحدود والضوابط .
إنّ الدراسات التي قدّمها السيد غني نجاد ـ علي ما فيها من الفائدة والقيمة علي صعيد المحتوي والمضمون ـ تُعاني من الاضطراب علي صعيد المدّعي ومنهج البحث والاستدلال ، ففي مقام الاثبات يعمد الدكتور غني نجاد إلي البرهنة علي التمايز الماهوي بين الربا والفائدة البنكية ، فيقول : « إنّ الربا دخلٌ حتمي معين من قبل ، فيما تمثل الفائدة قيمة النقد ، حيث تتغيّر بتغيّر ميزان العرض والطلب علي النقد نفسه » ( 5 ) .
وفي الوقت الذي يلوّح فيه بوحدة الظاهرتين ، يشير إلي مجالات جديدة لظاهرة الاستقراض ، فيقول : « أمّا اقتصاد صدر الإسلام ، فرغم أنّ التجارة كانت ذات دورٍ فاعلٍ فيه ، لكنه لم يكن نظاما ينتمي إلي اقتصاد السوق ، فعلاقات السوق فيه محدودة بمجال التوزيع ( التجارة ) ، فيما كان مجال الإنتاج فيه مفقودا تماما ، ومن ثمّ كان خارجا عن هذا الإطار رأسا .
ومن هنا ، انحصر رأس المال في تلك الأزمنة برأس المال التجاري ، أمّا رؤوس الأموال الانتاجية فلم يكن ممكنا أن يكون لها موطأ قدمٍ في تلك النظم الفكرية » ( 6 ) .
كما ويذهب مرّة اُخري إلي إثبات أنّ القرض الربوي إنّما يحرم لما فيه من سمة الظلم والعدوان ، الأمر المفقود في عصرنا الراهن بعد سلسلةٍ من التحولات في العلاقات الاقتصادية ، لا سيّما بعد ظهور النظام البنكي الحديث ، ويكتب في هذا المجال فيقول : « إنّ النظريتين أو الاُطروحتين اللتين أشار اليهما السيد موسويان في مقالته الناقدة ، هما في الواقع مقدمات الاستدلال الهادف للوصول إلي نتيجةٍ مفادها أنّ القرض الربوي إذا كان ظالما ، فالنظام البنكي الحديث القائم علي الفائدة ليس كذلك ، وإنّما هو سياسة اقتصادية بالغة الأهمية وعظيمة الفائدة ، تقع في سياقٍ يهدف إلي رفع مستوي الرفاهية بين الناس ، كما يهدف إلي الحيلولة دون إتلاف مصادر الثروة » ( 7 ) .
كما وفي حالات اُخري ، يركّز السيد غني نجاد علي إثبات ضرورة وجود البنك القائم علي الفائدة ، معرضا عن المباحث المعرفية التي أغرق فيها بحثا ، فهو يقول : « للنظام البنكي القائم علي الفائدة دور اقتصاديّ بالغ الأهمية ، وأيّ إلغاء أو إقصاء لهذا الدور سوف يجرّ إلي استحالة حساب مصاريف الانتاج ، أو التورّط في دفع مبالغ غير مناسبة للانتاج ، وكذلك تدنّي المردود الاقتصادي . وباختصار هدر قسمٍ عظيم من مصادر رأس المال ، وفي النهاية انخفاض مستوي الرفاهية في المجتمع » ( 8 ) .
أو يقول : « إنّ النشاط الهام والأساس للنظام البنكي المعتمد علي الإيداع ، هو توجيه المدّخرات الصغيرة والمتوسّطة ـ التي تشكّل رقما ملفتا علي صعيد المجتمع ككل ـ ناحية الإنتاج والاستثمار المنتج ، وعليه فإلغاء نظام الإيداع لا يحرم المودعين فقط من حقّهم في الاختيار المنشود ، بل إنّه ـ وهذا هو الأهم ـ يهدر قسما كبيرا من المصادر النقدية ورأس مال المجتمع أيضا » ( 9 ) .
من الممكن أن لا يرضي السيد غني نجاد عن هذا التقسيم الذي نمارسه ، ليري في كافة استدلالاته ما يثبت التغاير الماهوي بين الربا والفائدة ، لكن ـ وكما أشرنا من قبل ـ فإنّ لكلّ استدلال فقهي منهجه ونتائجه الخاصّة اللذين يستدعيهما ، وبناءً عليه فاذا هدف إلي إقامة نظريته الخاصّة علي أساس فقهي فلابد له من تحديد مدّعاه بشكل دقيق ، كما ويفترض به أن يقيم حينئذ الأدلّة المناسبةَ وهذا المدّعي متجنّبا مجموعة الأدلّة التي تعمّه أو تخصّه .
نعم ، ليس ثمّة ضرورة تدفعه إلي حصر نفسه في نظرية خاصة ، إذ يمكنه تبني مجموع النظريات الأربع معا بشكل طولي ، وكمثال ، يقول : انّ الربا والفائدة متغايران ماهيةً ، هذا أوّلاً .
ولو فرض وحدتهما فللفائدة وظائف ومهام معاصرة تغاير تلك التي كانت للربا وجعلته يتسم بسمات سلبية ثانيا .
أمّا ثالثا ، فعلي فرض التنزّل عن النقطتين السالفتين ، لا يشتمل نظام الفائدة علي ظلم ، كما كان الحال في الربا الأمر الذي جعله محرّما لذلك .
ورابعا : لو بطلت كلّ مدعياتنا وأدلتنا فلا يمكننا التغاضي عن الحاجة التي تفرض علينا السير في نظام الفائدة ، كونه يمثل السبيل الوحيد لنا لتوظيف ما نملك بشكل أفضل متجنبين مظاهر الهدر والفساد ، وهذا معناه أنّ الضرورة تفرض علينا الحكم بالحلية .
ولكي نحافظ علي عنصري الأمانة والمنهجية في هذا الحوار ، نري تخصيص بحثنا بالنظرية الاُولي للدكتور غني نجاد ، موكلين بقية اُطروحاته إلي مقالات اُخري .
موضوع البحث ـ نظرية التمايز :
لقد قدّم السيد غني نجاد في مقالته الاُولي نظريةً خلاصتها علي الشكل التالي : « وفي الواقع فما جري منعه في الإسلام إنّما هو الناتج الثابت أو المعين سلفا في المعاملات المالية ، لا قيمة الناتج غير المحدّدة والمشخّصة والتي تُطرح في الأرباح » ( 10 ) ، ومن هنا فالنظام البنكي اللاربوي أو « النظام البنكي الاسلامي ـ في أبسط أشكاله ـ يمكن أن يبني علي المشاركة لا علي الفائدة » ( 11 ) .
لكننا إذا لاحظنا استحالة الناتج الثابت والمعين سلفا لرأس المال ـ نظرا وعملاً ـ في نظام اقتصادي مبتنٍ علي سوق المنافسة فسوف نجد أنفسنا متورّطين في خطاًء كبيرٍ في الفهم فرض علينا توحيد موقفنا إزاء الربا والفائدة .
يمكن في النظام الاقتصادي الجديد التمييز بين نوعين من قيمة الفائدة هما قيمة الفائدة الواقعية والثاني قيمة الفائدة المسمّاة ( 12 ) ، فقيمة الفائدة الواقعية من الناحية النظرية تبيّن من جهة الميل النهائي للادخار ومن جهة اُخري الناتج النهائي لرأس المال ، أي انّ قيمة الفائدة في اقتصاد السوق ذات وضعيّةٍ معينة ترجع إلي انّ الحجم النهائي للامساك عن الاستهلاك ـ الميل النهائي للادخار ـ مساوي للنفع النهائي الناشئ عن الاستثمار ، فقيمة الفائدة كباقي القيم في النظام السوقي ليست قابلةً للتنبؤ سلفا بأيّ وجهٍ من الوجوه وهي تتغير تبعا للعوامل المؤثرة في السوق والتي لا يمكن تعيينها من قبل ، امّا قيمة الفائدة المسمّاة [ = النقدية ] فهي متغيرة تتعين كنقد مسمّي من خلال ميزان العرض والطلب ، فمع عرض النقد المسمّي من قبل السلطات النقدية ـ البنك المركزي أو الدولة ـ تصبح القيمة قابلة للضبط والتحكّم ، لكن الإقبال علي النقد علي أي تقدير متأثّر بالمتغيّرات الاقتصادية الواقعية من قبيل ميزان ناتج الاستثمارات ، وليس قابلاً للضبط والتحكم من جانب أي مرجعيّة سلطويّة ، وبناءً عليه لا يمكن في النظام الاقتصادي المبني علي السوق تعيين حتي قيمة الفائدة المسماة قبل مدة طويلة ، وهذا الكلام لا يناقض الحقيقة القائلة بأنّ السلطات النقدية والحكومية ـ وبسياسات النقد والمال ـ يمكنها في مدة قصيرة تخفيض قيمة الفائدة في السوق أو رفعها ، لكن علي أيّة حال فإنّ هذه المتغيرات الواقعية الاقتصادية تقوم في نهاية المطاف وعن طريق ميكانيزما السوق بتصحيح الانحرافات عن القيمة الواقعية .
ولأجل المزيد من اتضاح المطلب يمكن القول بأنّ القيمة الواقعية للفائدة عبارة ـ تقريبا ـ عن القيمة النقدية المسمّاة لها بعد تعديلها بمعدّل التضخّم ، وبالرغم من أنّ أداء فائدة الودائع في اقتصاد السوق يتمّ التعهد به ضمن قيمة معينة ، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار عدم التعيّن المسبق لمعدل التضخم فإنّ تعيين ميزان الفائدة الواقعية من قبل يعدّ أمرا غير ممكن من الناحية العملية ، وعليه فـ « الناتج الثابت أو المعين من قبل » [ = الربا ] يمكن تصوره فقط في المجتمعات ذات الاقتصاد المعيشي التقليدي ، ذلك أنّ التغييرات في القيم النسبية وكذلك في مستوي القيم ـ حتي في مدة طويلة ـ أمر لا وجود له أساسا في هذه المجتمعات ، وذلك بسبب وقوع العلاقات التبادلية النقدية علي هامش الأنشطة الإنتاجية الرئيسية وبطء التحرك الاجتماعي والاقتصادي ، وكذلك البطء الشديد جدا في التحولات الفنية والتكنولوجية ، وفي هذه الظروف فقط يتحد كلّ من الناتج المسمّي والواقعي للنقد ، ويتخذ تعريف الربا لنفسه معني ، امّا في النظام الاقتصادي المبني علي السوق والذي تكون فيه القيم نسبية فإنّ الميل النهائي للادخار والناتج النهائي لرأس المال يقعان دائما عرضة للتغيّرات وذلك بسبب تبدّل ميول وطبائع المستهلكين والحركة الشديدة لعوامل الإنتاج والتحولات الفنية والتكنولوجية السريعة ، وهو ما يؤدي إلي عدم إمكانية تحقق معاملة ماليّة ذات ناتج ثابت أو معين من قبل ، إن القيم وكافّة المتغيّرات الاقتصادية في الأنظمة الاقتصادية الجديدة تمثّل حصيلة نشاط قوي السوق في مرحلة أسبق ، وبناءً عليه فحتي لو بلغ معدل التضخّم الصفر فليس ثمّة ضمانة تحدّد كيف انّ المتغيرات الاقتصادية ـ ومن بينها قيمة الفائدة الواقعية ـ يمكن أن تكون معلومةً للمستقبل ، صحيح انّه مع معدل صفر للتضخم تثبت القدرة الشرائية للنقد بصورةٍ وسطية ، بيد انها ـ ومع الأخذ بعين الإعتبار نسبية القيم وكذلك الأسباب التي أشرنا إليها آنفا ـ في حال تغيّر لا محالة ، والقدرة الشرائية للنقد تخضع هي الاُخري للتغير عمليا في كل سلعةٍ سلعة ، وذلك كلّه فيما « الناتج الثابت أو المعين سلفا » يستلزم بقاء ثبات القدرة الشرائية للنقد » ( 13 ) .
وكما اُشير من قبل فلهذه النظرية أركان ثلاثة :
1 ـ تعريف الربا بـ « الناتج الثابت المعيّن من قبل » وتفسيره أيضا بـ « الدخل القطعي الواقعي المحدّد سلفا » .
2 ـ يمكن تحقق الناتج الثابت المعين سلفا فيما لو :
أوّلاً ـ كان التضخم ولمدة طويلة بمعدّل الصفر .
ثانيـا ـ عدم تعرّض القيم النسبية حتي لمدد طويلة لتغيرات انخفاض وارتفاع ، وإلاّ فإنّنا سنواجه فقط دخلاً مسمّي تمّ تعيينه سلفا .
3 ـ تبقي القيم النسبية ثابتةً ولمدد طويلة في المجتمعات المعيشية القديمة فقط ، وذلك بسبب عدم تطوّر التكنولوجيا ، وعدم تبدّل السلائق والطبائع ، كما وعدم وجود تضخّم ، وهو ما يؤمّن أرضية تحقق الربا ، أمّا في الاقتصاديات الجديدة فإنّ تحقق الربا غير ممكن ، وذلك بسبب التضخم والتغيرات الدائمة في القيم النسبية إثر التطوّر التكنولوجي وتبدّل السلائق والطبائع .
مديات النظرية وعمرها الزمني
وقبل الخوض في دراسة هذه النظرية ، أري من اللازم الاشارة إلي أنّها لو ثبتت فهي لا تختص بالفائدة البنكية ، وإنّما تشمل مختلف القروض بما فيها القروض التي تحوي فائدة شخصية ، فعندما يقرض شخص مبلغا يقدّر بألف دولار مثلاً علي فائدة تبلغ العشرين في المائة ولسنةٍ واحدة ، فمن غير المعلوم أبدا ما هو الدخل الحقيقي الذي كان سيجنيه المقرض خلال هذا العام ، وذلك بسبب التضخم والتغيرات المستمرّة في القيم النسبية ، وفي نهاية المطاف ، لن تكون زيادةٌ من هذا النوع ربا وفق هذه النظرية .
وبناءً عليه ، فليس ثمّة حاجة تفرض حصر نظرية د . غني نجاد بالفائدة البنكية ، بل إنّ بإمكانه اطلاق ادعائه بالتغاير الماهوي المذكور دون حصر الفائدة بالبنكية منها .
وبهذا يظهر أنّ بعض الجهود التي بذلها السيد غني نجاد لا يمكنها أن تساعد علي تصحيح نظريته ، حتي لو كانت مفيدةً في حدّ نفسها ، ومما يمكن إثارته ضمن نظريات اُخري ، وعلي سبيل المثال : عندما يعالج الدكتور غني نجاد المسار التاريخي لظاهرة البنك ، ويري فيها ظاهرة مناقضة لأكل الربا لا موازية لها ، ويؤكد علي أنّ النظم البنكية الحديثة تساهم مساهمة فاعلة في تطوّر المجتمع عبر اسهامها في صبّ سيول المدّخرات المتوسطة والصغيرة في مجري الانتاج . . . فانّه يغفل عن أنّ نظريته ـ حينما يستطيع البنك الحديث التوصل إلي أهدافه ، والتي من جملتها العمل علي استقرار المستوي العام للقيم ـ ستواجه مشكلة حادّة ، ذلك أنّ القروض والاعتبارات البنكية ، وكذلك المودعين ، سوف ينعمون بدخل واقعي قطعي محدّد سلفا ، الأمر الذي اعتبره هو نفسه في نظريته تعريفا للربا عينه .
وبناءً عليه ، يلزم علي الدكتور غني نجاد لكي يحافظ علي تماسك نظريته إدعاء :
أ ـ أنّ اقتصاد المجتمع ـ أي مجتمع ـ عرضة لظاهرة التضخم علي الدوام .
ب ـ إنّ معدلات التضخم غير محددة ، بل هي في اضطراب مستمر .
ج·· ـ إنّ تغيرات القيم لا يمكن للبنوك ولا المؤسسات الاعتبارية التنبؤ بها .
وذلك لأنّ السيد غني نجاد يعتقد بأنّ القضية الأساسية اليوم بالنسبة للمودعين والبنوك ومختلف المؤسسات الاعتبارية الاُخري التي تهدف إلي حفظ ممتلكاتها لمدد زمنية طويلة علي شكل نقدٍ ، أو إيداع بنكي ، أو اعتبارات إنّما هي التضخم وانخفاض قيمة النقد لا تبدّلات القيم النسبية .
وعليه ، فإذا ما توفّرت شرائط تساعد علي كشف حجم التضخم مسبقا ، فإنّ البنوك والمؤسسات الاعتبارية ستقدر حينئذٍ علي تبديل قيمة الفائدة المسمّاة بما يتناسب وذلك ، وتحديد الفائدة الواقعية مسبقا إلي حدّ معين ، وفي النهاية ، سيتحقق الربا ـ الذي حصره الدكتور غني نجاد بالمجتمعات التقليدية ـ في المجتمعات المعاصرة .
ومع الأسف ، فإنّ ظروفا من هذا النوع قد أضحت أمرا واقعيا ، وهنا أجد نفسي مضطرا لاخبار الدكتور غني نجاد بمثال يطابق الرسم البياني رقم ( 1 ) ، فوفقا للإحصاءات الرسمية للبنك المركزي الألماني ، تمكنت البنوك والمؤسسات الاعتبارية لهذا البلد من التنبؤ بدقة إلي حدٍّ ما بتغيرات التضخم ، وقد نظموا الفوائد المسمّاة بشكل يطابق الدخل الواقعي القطعي الثابت ( إلي حدّ بعيد ) .
الـرقـم ( 1 )
الـرقـم ( 2 )
أمّا الرسم البياني رقم ( 2 ) فيدل علي أنّ البنوك الألمانية استطاعت ـ متخذة تدابير واجراءات متعددة ـ الحصول علي 3 % وبشكل متوسط 8 , 4 % من الفائدة الواقعية في عقد السبعينات من القرن العشرين ، لتوصلها في الثمانينات إلي 6 و 8 , 7 % ، أي أنّها نجحت ـ عبر إجرائها سياسات عدّة ـ في رفع متوسط الفائدة الواقعية بمعدل 3 % .
القراءة المعرفية المنقوصة :
لقد حظي تفسير المفردات الواردة في النصوص الدينية ، لا سيما القرآن والسنة ، وتأويلها باهتمامات الفقهاء والاُصوليين منذ اللحظات الاُولي لظهور علم « اُصول الفقه » ، فلا شك أنّ كل متكلم يتحدث واعيا مع مخاطبيه عبر ألفاظ ومفاهيم ممكنة الفهم من جانبهم ، ومن ثمّ يقوم بقصد معاني من تلك المفردات تكون مفهومة لديهم ومأنوسة في أذهانهم ، كما ولا شك في أن مرور الزمان ، وخصوصا مع ظهور العلوم والاختصاصات ، يُبدي علي السطح مجموعة من المفاهيم الجديدة ، لتستعمل الألفاظ السابقة فيها بمعونة القرائن في البداية ، ومستغنيةً عنها بعد ذلك ، بل ربما يبلغ هذا الاستعمال حدّا يوجب هجران المعني السابق للفظ ، ودخوله في طي النسيان ، وهو ما يصطلح عليه بظاهرة « النقل » .
لكن النقل لا يختص بالمعاني الجديدة ، فقد يجري استخدام لفظ في حقبة زمنية خاصة في معني من المعاني ، لكنه ـ وفي حقبة اُخري ـ يتم استعماله في معني آخر كان له وجودٌ من قبل أيضا ، وهنا أيضا من الممكن أن يبلغ الاستعمال الجديد حدّا يتحقق فيه النقل ويهجر الاستعمال السابق .
وأخذا بعين الاعتبار المقدّمات السالفة ، يثار في الأوساط الفقهية والاُصولية بحثٌ ، يحاول أن يقول : بأنّ اللّه سبحانه قصد في القرآن الكريم ، وكذلك النبي صلياللهعليهوآلهوسلم والأئمة عليهمالسلام ، مفاهيم كانت متعقلة بالنسبة لاُولئك الذين خاطبتهم الآيات والأحاديث في تلك البرهة من الزمن ، ومن هنا يسعي العلماء للتوصّل إلي ظهورات الآيات والروايات في تلك الأعصار ، بل إنّهم يتجاوزون ذلك أيضا إلي ما هو أكثر دقةً منه ، وهو محاولة اكتشاف ظهورات الألفاظ بالنسبة لكل إمام إمام ، ولذلك لا نجد أي فقيه يحمل كلمة « يكره » الواردة إلي زمن الصادقين عليهماالسلام علي المكروه بمعناه المقابل للحرام اليوم ، وإنّما يرون في المراد معني أعم من ذلك ، ذلك أنّ المفهوم الفقهي للمكروه إنّما تكوّن في القرون اللاحقة .
والأمر الأكثر جذابية هو ، أن الفقهاء يميزون في الروايات بين تلك التي كان المخاطب فيها إنسانا عاديا ، وتلك التي تخاطب علماء وفقهاء و . . . كما هو الحال في عمليات التمييز التي تمارس بين النصوص الصادرة عن الأئمة الأطهار عليهمالسلام أزمنة الحرب ، وتلك التي صدرت في أوضاع وظروف اتسمت بالعادية ، ومن هنا يري العلماء بأنّ الظروف الحاكمة علي المجتمع تترك بصمات التغيير في ظهورات الألفاظ نفسها .
وهدفنا من هذا الكلام ، لفت نظر الدكتور غني نجاد إلي أنّ مبدأ تكوّن المفاهيم الجديدة ، وقانون تفسير النصوص الدينية وفق مفاهيم متداولة ومعروفة في زمانها ، وأنّ عمليات إسقاط المفاهيم الجديدة علي النصوص أمرٌ يجدر بالجميع اجتنابه . . . كل ذلك أمرٌ واضح وجلي ، وأنا شخصيا اُوافق عليه وأقرّ به ، بل يقرّ به أي متفقّه لديه إطلالة عابرة علي المنهج الفقهي وأساليب الفقاهة .
إنّما البحث ـ كل البحث ـ في مصاديق هذا الموضوع ، فقد حاول الدكتور غني نجاد وبشكل متسرّع إقصاء النصوص الدينية المتصلة بالعلاقات الاجتماعية عن طريق عنصر الجدة في المفاهيم ، مستخدما سلاح الحداثة التي فيها .
ومن هنا يهمّني أن اُقدّم اقتراحا ، وهو تركيز بحثنا علي اثبات أو نفي حداثة مفاهيم من نوع الفائدة ، والمستوي العام للقيم ، والتضخم ، والقيم النسبية ، وحجم النقد ، و . . . والتي ترتكز عليها نظرية تمايز الربا والفائدة ، بدل الانشغال بكبري الموضوع والتي هي أمرٌ متفقٌ عليه ، ومن ثمّ يلزمنا تجنب إثارة أمثلة لا ربط لها بجدة وحداثة المفاهيم التي نحتاجها في موضوعنا من قبيل الرقية ، والثروة زمن أرسطو و . . .
وانطلاقا من ذلك اُعلن وبصراحة ، أنّني موافق تماما علي أساس البحث الذي أثاره الدكتور غني نجاد علي الصعيد المعرفي وعماده ، لكنني أري الخطأ والاشتباه في عملية تطبيق هذا البُعد المعرفي علي موضوع الربا والفائدة ، واُعدها عمليةً منقوصة ، ولهذا فإنني أعتقد بأنّ الكثير من المفاهيم التي يراها الدكتور غني نجاد حديثة ليست كذلك ، بل إنّ الآيات والروايات المتعلقة بالربا تنطبق عليها بشكل كامل .
إشكاليات النظرية
الإشكالية الاُولي ـ تقديم تعريف منقوص عن الربا :
وكما أشرنا من قبل ، فإنّ الحجر الأساس في نظرية التمايز هو التعريف الذي قدّمه صاحب النظرية للربا ، وأنّه « الدخل القطعي المعيّن سلفا » ، وهو تعريف اعتبره الباحث نفسه تعريفا سائدا ومتداولاً للربا ، متعجبا مني حيث لم اُوافق عليه في مقالتي السابقة ، ويا ليته دلّنا ، أين هو هذا التعريف الشائع للربا في الكتب الفقهية أو التفسيرية أو الحديثية المعتبرة ؟
لا شك في أنّ حوارنا يتركز علي ذاك التعريف للربا الذي أقدم الإسلام علي تحريمه قبل ألف وأربعمائة عام ، وصدرت حوله الآيات والروايات الشارحة ، وعليه ، وحتي نعرف ما هو ذاك الذي حرّمه الإسلام ، لابدّ لنا من حرف مسيرتنا ناحية الآيات والروايات وكلام المفسرين والمحدّثين والفقهاء ، وإذا ما فعلنا ذلك ، فسوف نجد أنّ الجميع متفقون علي أنّ الربا ليس إلاّ « إقراض شخصٍ ماله لآخر شارطه عليه الزيادة علي أصل القرض ، سواءً كانت الزيادة قطعية ثابتة أو لا » .
ولكي نثبت هذا التعريف ، نكتفي بنماذج من الآيات والروايات ، وكلمات الفقهاء :
أ ـ قال تعالي : « وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم » ( 14 ) ، وتبين هذه الآية ـ كما يراه المفسرون ـ شرط التوبة من الربا وهو الاكتفاء بأصل المال المقرَض ، وأنّ أخذ أي نوع من أنواع الزيادة هو ربا ( 15 ) .
ب ـ لقد جاءت العديد من الروايات عن الأئمة المعصومين عليهمالسلام تبين الربا المحرّم ، وكمثال ، ورد عن الإمام الصادق عليهالسلام : « . . . وأمّا الربا الحرام ، فهو الرجل يُقرض قرضا ويشترط أن يردّ عليه أكثر ممّا أخذه ، فهذا هو الحرام » ( 16 ) .
ج·· ـ لقد اعتبر الفقهاء المسلمون ـ كما تحكيه الكتب الفقهية المتداولة ـ أي نوعٍ من الزيادة ربا ، وكمثال ، ما ذكره الامام الخميني قدسسره في « تحرير الوسيلة » : « لا يجوز شرط الزيادة بأن يقرض مالاً علي أن يؤدي المقترض أزيد مما اقترضه ، سواء اشترطاه صريحا أو أضمراه ، بحيث وقع القرض مبنيا عليه ، وهذا هو الربا القرضي المحرّم الذي ورد التشديد عليه ، ولا فرق في الزيادة بين أن تكون عينية ، كعشرة دراهم باثني عشر أو عملاً كخياطة ثوب له ، أو منفعة ، أو انتفاعا كالانتفاع بالعين المرهونة عنده . . . » ( 17 ) .
والملفت للنظر ، اطلاق عنوان الربا في بعض النصوص الفقهية والروائية علي اُمور ذات طبيعة متغيرة ، وكمثال : خبر اسحاق بن عمار عن الامام موسي بن جعفر عليهالسلام : « قال : سألته عن الرجل يكون له مع رجلٍ مال قرضا ، فيعطيه الشيء من ربحه ، مخافة أن يقطع ذلك عنه ، فيأخذ ماله من غير أن يكون شرط عليه ، قال : لا بأس بذلك ( به ) ما لم يكن شرطا » ( 18 ) .
فطبقا لهذه الرواية ، يدفع المقترض أحيانا قسما من الربح للمقرض ، أي لا أصل الدفع قطعي ولا مقداره ثابت ومحدّد سلفا ، ذلك انّه من الممكن أن لا يكون قد دفع لمدة طويلة ، ومن جهة اُخري فإنّ الربح ظاهرة متغيرة عادةً ، لكن الامام عليهالسلام يشير إلي انّه ما دام لم يشرط فلا إشكال ، ومفهوم هذا الكلام هو انّه لو شرطه لأضحي الموقف ربا .
وفي كلمات الامام الخميني المتقدّمة ، عدّت الاستفادة من الرهن ـ وهي غير قطعية ولا قابلة للتنبؤ بها سلفا عادةً ـ من الربا ، وكمثال ، عندما يضع المقترض حصانه أو سيارته في تصرّف المقرض قبال قرضه ، فاذا ما قال له المقرض : إنّني أقرضك شريطة أن يكون لي مجال استخدام هذا الحصان أو تلك السيارة كلما احتجت إلي ذلك ، فإنّ ذلك يعدّ ربا وفق تعريف الفقهاء ، رغم انّه من الممكن أن لا يستفيد المقرض من الحصان أو السيارة أصلاً طيلة مدّة القرض ، وبالتالي فليس أمرا معروفا سلفا ، وعلي فرض انّه يحصل ، فإنّ حجم هذه الاستفادة غير محدّد هو الآخر .
والخلاصة ، إذا أراد الدكتور غني نجاد من وراء نظرية التمايز الماهوي ، فصل الفائدة البنكية عن الربا الذي حرّمه الإسلام ، فإنّ الربا المنظور اسلاميا هو هذا الذي بيّناه ، أمّا لو هدف من نظريته إبداء التغاير بين الفائدة والربا الذي عرّفه أرسطو أو عالم الاقتصاد الفلاني أو هو نفسه ، فلا إشكال لدينا في ذلك ، وبإمكانه حينئذٍ ممارسة عملية التنظير دون ما حرج .
إشكالية انخفاض قيمة النقد :
تعد مسألة جبران انخفاض القيمة النقدية للديون ( النقدية ) إحدي أهم المسائل وأعقدها ، وعدم اتضاح الزوايا الفقهية والأبعاد القانونية أديا بالدكتور غني نجاد إلي رفض التعريف الصحيح للربا ، ولهذا كان من الضروري ـ بدايةً ـ عرض توضيح موجز :
وفقا للتعريف المتقدّم للربا يحق للمقرض أن يطالب ـ فقط ـ بأصل المبلغ الذي أقرضه ، فيما تكون أي زيادةٍ ربا .
وهذا التعريف يبدو واضحا علي صعيد الأموال الحقيقية ، أمّا علي صعيد النقد لا سيما منه النقد الاعتباري الذي يخضع ـ قيمةً ـ للانخفاض والتنازل ، فإنّ سؤالاً يشخُص أمام الباحث يناديه : كيف تكون عملية المطالبة بـ « المثل » أو استرجاعه في مثل هذه الحال ؟
وبعبارة اُخري : ثمّة مثلان في النقود الاعتبارية ، أحدهما : المثل المسمّي والذي هو عبارة عن العدد أو الرقم المطبوع علي الأوراق النقدية ، وثانيهما : القدرة الشرائية التي ينبئ عنها النقد ، فعندما يقرض شخص شخصا آخر ، فانّه ـ بعمله هذا ـ يملّك تلك الأوراق النقدية للطرف الآخر ، ومن ثمّ يحق له مطالبته بمثلها ، لكن السؤال هو : أي مثلٍ هذا الذي يحق له المطالبة به ، المثل العددي والرقمي أو المثل علي صعيد القدرة الشرائية ؟
وفي إطار حلّ هذا المعضل ، قدّم الفقهاء جوابين بنيويين يختلفان فيما بينهما في النتائج :
1 ـ المبني العرفي والحقوقي :
وقد اتبعه أكثر الفقهاء لحلّ المشكل المتقدم ، فعامّة الناس ـ رغم التفاتهم إلي عدم وجود قيمة حقيقية واستعمالية للنقود الرائجة اليوم ، وانها مجرّد سبيل للتبادل ، الأمر الذي يحصر قيمتها في قيمة التبادل نفسه ـ إلاّ انهم يقصدون في معاملاتهم تلك الأرقام المطبوعة علي الأوراق النقدية نفسها ، أي أنهم عندما يريدون شراء سلعةٍ بعشرة دولارات مثلاً ، فانّهم يقصدون دفع هذه الدولارات العشر ، وهكذا عندما يقرضون إنسانا عشرة آلاف دولار فانهم يقصدون هذا الرقم بالتحديد ، وعندما يبيعون سلعةً بمائة دولار مثلاً نسيئة فإنّهم يقصدون الحصول علي هذا الرقم بعينه بعد ستة أشهر ، ولا يلتفتون إلي عنصر القدرة الشرائية ، والقيمة الحقيقية للنقد .
وهذا بعينه هو الأساس الحقوقي للمسألة أيضا ، ففي كل أرجاء العالم لو أقرض شخص آخر بفائدة أو بدونها ، أو باعه بنسيئة ، وأراد المديون تسديد ما عليه في الموعد المحدّد لحلول الدين ، فإنّ للدائن الحق في المطالبة بعين هذا المبلغ المسمّي الذي جري التوافق عليه سلفا ، وليس له حق المطالبة بما زاد علي ذلك بحجة التضخم وانخفاض قيمة النقد ، وعلي الأساس نفسه لم يحق للمودع في الحساب الجاري المطالبة بمبلغ زائد علي أصل المال الذي أودعه بحجة انّه لم يسحب منه منذ مدّة طويلة وأنّ هناك حالةً من التضخم ، وحتي في الحساب القصير الأمد والذي يتمّ تقديم فائدة لصاحبه في البنوك المتعارفة عالميا ، لا يحق المطالبة عدا برأس المال المسمّي مع الفائدة التي عينها البنك منذ البداية ، حتي لو ألغي التضخم ـ علي طول المدّة ـ هذه الفائدة أو تجاوزها .
ولهذا السبب ، نري في الكثير من الأحيان ، أنّ المبالغ المخصّصة للمودعين في الايداعات القصيرة الأمد أقل من الإيداعات نفسها علي صعيد القدرة الشرائية ، الأمر الذي يؤدي في واقعه إلي تضرّر المودعين ، ونضع هذا الرسم البياني ليؤكد نسبة الفائدة المتقاضاة لصالح المودعين في الايداعات القصيرة الأمد مع حجم التضخم في البنوك الألمانية .
الـرقـم ( 3 )
وبمقارنة الرسم البياني رقم ( 3 ) مع سابقه ، يتضح لنا بشكل كامل أنّ البنوك الألمانية قامت ـ وخلال مدة امتدت اثنين وعشرين سنة ـ بقبض فائدة حقيقية تقدر في السبعينات من القرن العشرين بـ 3 % علي الأقل ، وفي الحدّ الوسط 8 , 4 % ، وفي فترة الثمانينات قبضت 6 % علي الأقل ، و 8 , 7 % في المستوي المتوسط . . . وذلك كله علي صعيد الفوائد الآتية من القروض والاعتبارات البنكية ، ثمّ قامت هذه البنوك بتحويل هذه الأرقام ـ بكسر يبلغ من 1 % إلي 5 , 1 % ـ إلي المودعين لمدد طويلة والذين قصدوا من وراء ايداعاتهم تحصيل مداخيل لهم .
أمّا المودعون لمدد قصيرة فقد خسروا القدرة الشرائية لنقودهم ، وألحق بهم الضرر باستثناء السنوات ما بين 1984 م و 1988 م .
إذا ، فالأساس العرفي والحقوقي يمثل أحد مباني مسألة انخفاض قيمة النقد ، وهو أساس مرعي الاجراء اليوم عالميا وفي المحاكم القضائية والحقوقية ، كما أنّ أكثر فقهاء الإسلام يفتون طبقا لهذا الأساس ، ونتيجة ذلك إلزام المقترض من غيره أو المشتري نسيئةً منه بدفع المبلغ المسمّي عند حلول الأجل ، دونما حق للدائن أو غيره بالمطالبة بالزيادة مع ذلك بحجة التضخم أو غيره .
والجدير ذكره هنا ، هو أنّ القائلين بهذا الأساس العرفي ـ سواء منهم الفقهاء أو الحقوقيون ـ لا يتغاضون عن المردود السلبي لظواهر التضخم وانخفاض قيمة النقد وتضرر صاحب الحق ، بيد أنّهم يفسرون ذلك كلّه علي أساس تحوّلات السوق وتبدل الأوضاع الاقتصادية ، وبالتالي فهذا الضرر يماثل الضرر الواقع علي تاجر يشتري بضاعة فتنخفض قيمتها بعد مضي مدة نتيجة الظروف الاقتصادية ، أو انّه يخمّن قيمة مستقبلية فيقدم علي أساسها بيد انّه وفي الموعد المحدّد تنخفض قيمة السلعة خلافا لما كان يتصوّره .
والخلاصة ، هو أنّ كافّة الفقهاء والحقوقيين الآخذين بهذا المبني العرفي يفسرون كافّة الظواهر علي أساس أصل ارتكازي يسمي بأصل « ثبات الدين » ، أمّا الأضرار المرافقة لذلك فيأوّلونها علي أساس تحوّلات السوق .
2 ـ المبني الحقيقي والاقتصادي :
لقد دفعت موجة التضخم التي عصفت في العقود الأخيرة بالبلدان الاسلامية لا سيما منها تركيا ولبنان ( 300 % ) ، والتضخم الشديد نسبيا في ايران بعد عام 1971 م . . . دفعت ببعض الفقهاء لإعادة قراءة ظاهرة النقد قراءةً موضوعية تخصصية لا عرفية تسامحيّة ، لينظروا إلي تحوّلات النقد لا كظاهرة منبعثة عن التغييرات الطبيعية للسوق ، وإنّما ـ وبشكل رئيسي ـ عن السياسات الانفلاشية لرجال الدولة ومسؤولي البنك المركزي ، وفي نهاية المطاف إخراج النقد عن دائرة ما يسمي « المثلي العرفي » ليصب بالضبط في المثليات الحقيقية الاقتصادية ، ولا يري هذا الفريق من الفقهاء أيّة قيمة لذاك الرقم المضروب علي الورقة النقدية ، وإنّما يعدونه مجرد عدد ترتيبي ، فيما يركّزون انتباههم علي القدرة الشرائية للنقد وقيمته التبادلية واقعا ، واستتباعا لذلك يرون أنّ الشخص الذي يقرض مبلغ ألف دولار مثلاً لشخصٍ آخر ، ينقل إليه بهذا الرقم تلك القوّة الشرائية المخبوءة فيه ، وعلي المقترض أن يعيد لمقرضه عند حلول الأجل ما يماثل تلك القدرة الشرائية .
ومن الناحية العملية ، لا يحق ـ وفق هذه الرؤية ـ للطرفين معا التوافق علي رقم محدد من المال قبل حلول الأجل ، بل لابدّ لهم من الصبر إلي نهاية المدّة ليتحققوا من الانخفاض القيمي الذي حصل في القدرة الشرائية نتيجة التضخم ليضيفوا ما يعادله علي المبلغ المسمّي ، ومن ثمّ ، ستكون أي زيادة اُخري بحكم الربا المحرّم .
ولا تقف النظريات الفقهية لكبار الفقهاء المسلمين عند حدود هاتين النظريتين ، بل تتعداها إلي المزيد من النظريات التي أجريتُ شخصيا دراسة تتبعية فيها فوجدتها تبلغ الخمس عشر نظرية علي الأقل ، الأمر الذي يحيج دراستها وبحثها جميعا إلي المزيد من التفصيل ، وما يهوّن الخطب هو أنّ تلك النظريات تؤول في نتائجها إلي هاتين النظريتين أو إلي حدّ وسط ما بينهما .
ومن باب المثال ، يري بعض الفقهاء صحّة النظرية الاُولي في الحالات التي يكون فيها التضخم متعارفا ومحدودا ، أمّا في حالات التضخم الفاحش ( 200 % ـ 300 % ) فهو يتبني النظرية الثانية .
ويفكّك فريق آخر من الفقهاء بين التضخم المنبثق عن تحوّلات حقيقية في الاقتصاد ، وذاك الناشئ عن السياسة الانفلاشية النقدية ، ليجيز فقط جبران انخفاض قيمة النقد حينما يحصل ذلك بسبب السياسات النقدية دون غيرها .
ويفصل فريق ثالث بين الأجل المضروب المتفق عليه ، وذاك الذي حصل فيه تأخير ، فيذهب إلي عدم ضرورة جبران انخفاض قيمة النقد حينما يؤدي المديون ما استدانه عند حلول الأجل المضروب ، أمّا في حالة التأخير فيكون ملزما بتدارك ما حصل من تفاوت .
أمّا الفريق الرابع ، فيميز بين الأجل القصير الأمد كعدة أشهر أو سنة ممّا يمكن فيه تخمين حجم التضخم المتوقع ، والأجل البعيد الأمد أو الديون التي لا أجل لها كالمهر ، ففي النوع الأوّل يلزم المديون بجبر الانخفاض الحاصل في قيمة النقد ، أمّا في النوع الثاني والثالث فالأمر ليس كذلك .
علي أيّة حال ـ وكما أشرنا في صدر المقالة ـ فإنّ الغموض الفقهي للمسألة سبّب للدكتور غني نجاد إبهاما وتشويشا ، الأمر الذي يمكن للقارئ ملاحظته في مواضع عديدة من مقالتيه ، وكمثال قوله : « انّ عالمنا المعاصر أغلبه لو لم يكن جميعه أضحي لا يعرف عدا النقد الاعتباري ، وأنّ النقد العيني قد أصبح أمرا منسوخا ، كما صار من الجلي أنّ النقد الاعتباري يمكن تقييمه فقط عن طريق تحديد قدرته الشرائية أو حساب قيمته النسبية قبال السلع والخدمات ، وعندما يقع التضخم أو يحدث تعديل في القيم النسبية تتغيّر في الطرف الآخر القدرة الشرائية للنقد أو قيمته ، وعليه فاذا كانت القروض تعطي علي شكل بضائع أو . . . ـ كما كان رائجا في الأزمنة السالفة ـ فإنّ تحديد المقياس « الشيء الزائد علي أصل القرض » يصبح أمرا سهلاً ، بيد أنّ المسألة ستتّسم بالتفاوت حينما يتحوّل القرض إلي النقد الاعتباري ، ذلك انّه من الممكن أن يأخذ المقرِض بحسب الظاهر ما هو أزيد من أصل القرض دون أن يحوز من الناحية العملية إلاّ علي عائدٍ أقل ، إذ من الممكن أن تكون قيمة النقد قد انخفضت نتيجة التضخم أو تغيّر القيم النسبية » ( 19 ) .
ويقول في موضع آخر : « والسؤال هنا هو أنّ السيد موسويان ، ورغم ختمه مقالته بالاشارة إلي الظلم الموجود في العلاقات الربوية ويبدو ـ بحسب الظاهر ـ انّه يقرّ بأنّ فلسفة الأحكام المتصلة بالربا ليست سوي نفي العلاقات الظالمة بين الناس . . . كيف لا يتكلم عن الظلم الذي يمكن أن ينشأ عن طريق تصفير معدل القيمة المسمّاة ؟ فعندما نقترض من شخصٍ مبلغا من النقد الاعتباري ، ومن ثمّ نعيد إليه نفس المسمّي بعد مضي مدّة زمنية تعرّضت فيها معدلات القيم للتصاعد ، ألا نكون قد مارسنا بحقه نوعا من الظلم ؟ » ( 20 ) .
ولنا أجوبة عديدة علي كلمات الدكتور غني نجاد :
الجواب الأوّل : لقد تورّط الدكتور ـ كما في تعريفه للربا ـ في خطأ تمركز حول قراءته لظاهرة القرض الحسن ومكانته في النظام الاقتصادي الاسلامي ، ذلك انّه تصوّر بأنّ القرض الخالي من الفائدة ( أو ما نسميه القرض الحسن ) يقوم مقام كافّة المعاملات التي تقع في النظام الرأسمالي عن طريق القرض مع الفائدة ، الأمر الذي دفعه ـ كما أوضحته عبارته السالفة ـ إلي القلق من تولّد علائق مجحفة .
لكن القرض الحسن ـ كما تفيده الروايات الواردة بصدده ـ يختص بحاجات جزئية ومرحلية ، كما هو الحال في شخص لا يقدر علي تأمين احتياجات معيشته ، أو آخر يعوز للمعالجة والتشافي مبلغا من المال لا يتسنّي له ، أو مزارع فسد زرعه أو لم يثمر في موعده ، أو طالب للزواج قصرت أملاكه عن الوفاء بمطلبه أو . . . أمّا الشؤون العامّة كالاستثمار في مجالات الانتاج أو التجارة ، أو بناء سكن أو . . . فهي حالات خارجة عن مضمون الروايات ( 21 ) .
فعلي سبيل المثال ، نقرأ في خبر عن الإمام موسي بن جعفر عليهالسلام انّه يقول : « من طلب الرزق من حلّه فغُلب فليستقرض علي اللّه عزوجل وعلي رسوله » ( 22 ) .
ثمّة الكثير من الاشارات المفيدة التي يحتويها هذا النصّ تحكي ـ وبدقة ـ عن مكانة القرض الحسن في النظام الاقتصادي الاسلامي ، وهي أنّ علي الفرد المسلم السعي لكسب معاشه من السبل الجائزة شرعا ، وعندما يفقد القدرة علي الوصول إلي هدفه فعليه أن يستقرض واضعا نصب عينيه أملاً في أن يفتح اللّه تعالي ـ مستقبلاً ـ أمامه سبل الحياة ، وعندما يقدم علي عملية الاستقراض بأملٍ كهذا ثمّ يعجز عن تسديد هذا القرض أو يعاجله الموت قبل سداده ، فإنّ ضمانه يكون علي اللّه ورسوله يلزم الحاكم الاسلامي بدفعه من أموال الزكاة التي يعد هو أحد مصارفها ، كل ذلك وفقا لهذه الرواية وغيرها من الروايات ( 23 ) .
ومن هذا المنطلق عينه ، نلاحظ في النصوص الاسلامية تأكيدا علي ثواب الإقراض بما يزيد به عن ثواب الانفاق ، فقد جاء عن رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم : « رأيت مكتوبا علي باب الجنّة ، الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر » ( 24 ) .
وبناءً عليه ، فما وصّي به الإسلام من القرض الحسن آخذا له بعين الاعتبار هذا المقدار من الثواب والأجر ، يرجع إلي احتياجات معاشية مرحلية يقصد المقرض فيه الخير بإقراضه مبلغا من المال ووضعه تحت تصرّف أخيه المؤمن ، وهو قرض غير محدد بزمان ما ، فبإمكان المقرِض مطالبة صاحبه بالقرض حين يشاء مع توصية خاصة بالصبر علي المقترض إلي أن يفتح اللّه عليه رزقه ، وفي مقابلها إرشاد للمقترض بضرورة تسديد قرضه في أقرب فرصة سانحة .
ووفقا لما تقدّم ، لا داعي للمخاوف التي أثارها الدكتور غني نجاد في خصوص القرض الحسن ، وذلك :
أوّلاً : لأنّ القروض محدودة من حيث المقدار ، وقصيرة الأمد من حيث الزمان .
ثانيا : بإمكان المقرِض استرداد قرضه في كلّ حالة يشعر فيها بلحوق الضرر له نتيجة ظاهرة التضخم .
أمّا فيما يعود لتأمين رأس المال الهادف للقيام بنشاطات اقتصادية ، فرغم انّ الإسلام لم يمنع فيه القرض الخالي عن الفائدة ، بيد انّه لم يوص بذلك فيه ، جاعلاً سبيلاً آخر يتناسب مع موضوع الاستثمار يتمثل بعقود من قبيل الشركة ، والمضاربة ، والمزارعة ، والمساقاة ، والاجارة ، والجعالة ، والصلح . . . وهي عقود لا مجال فيها للتضخم أو انخفاض قيمة النقد ، ذلك انّ مال الملاّك في مثل هذه العقود تتحوّل بها تلقائيا ـ ومنذ البداية ـ إلي سلع حقيقية يتقوّم بها رأس المال ، وهي سلع تحتفظ بقيمها الحقيقية حتي في ظل أوضاع التضخم ، الأمر الذي يخلّص أصحاب رؤوس الأموال وكذلك الناشطين وأصحاب المصالح من المشكلات جميعها ، ومن هذه الجهة ترجح كفّة الاقتصاد الاسلامي علي النظام الرأسمالي مما لا مجال لبحثه هنا ، بل يوكل إلي محلّه ( 25 ) .
الجواب الثاني : خلافا لتصورات الدكتور غني نجاد ، لا تنحصر مشكلات التضخم وانخفاض قيمة النقد وما ينجم عنهما من ظواهر معضلة . . . لا تختص بالاسلام ونظام القرض الاسلامي ، فأحد طرفي المعاملة اليوم ـ وفي كل بقاع الدنيا بما فيها البلدان المعترفة بنظام الفائدة ـ يتضرر من المعاملة الواقعة بينه وبين غيره سواء كانت نقدية أو مالية ، بين الأفراد أو المؤسسات ، وذلك نتيجة ظواهر التضخم وانخفاض قيم النقود ، فيما لم يعثر أحد علي ما يبدو علي مخلص من هذه الاشكالية .
فعلي سبيل المثال ودائع غبّ الطلب البنكية ( مهما فرضنا لها من حقيقة ) يودع أصحاب حسابات غبّ الطلب أموالهم ، ويثبت لهم الحق ـ فقط ـ في الحصول بعد مدة زمنية علي المبلغ المسمّي والمطالبة به ، وأمّا في حالة الايداعات القصيرة الأمد ، فللمالك الحق ـ فقط ـ في المطالبة بأصل الأموال مع الفائدة المقرّرة ، والحال أنّ أكثر الحالات تكون الفائدة المذكورة فيها أقل من معدّل التضخم ، وهكذا الحال في بيوع الأقساط والنسيئة ، إذ يحق للبائع أخذ ـ فقط ـ المبلغ المسمّي في الموعد المقرّر ، رغم انّه من الممكن حصول تضخم غير متوقع عقيب العقد أو ارتفاع قيم السلع المباعة ارتفاعا ملحوظا ، وكذا في حالة الايداعات الطويلة الأمد أو القروض البنكية ، فرغم تنظيم قيمة الفائدة فيها علي أساس تغطية حجم التضخم المترقب حصوله ، بيد أنّ الواقع العملي ربما يدفع بالتضخم إلي ملامسة درجة أعلي من ذلك ، بحيث يلغي قيمة الفائدة الواقعية ، ملحِقا في هذه الحالات كافّة ضررا وخسارة .
لكن ـ وكما أسلفنا من قبل ـ فإنّ مبدأ « ثبات الديون » والانسجام الحاصل ما بين أساليب العمل في المحاكم المدنية ومراكز المحاسبات المالية ، يلغي أي اهتمام بتلك الخسارات والأضرار السالفة ، لتحسب ناجمةً عن التحولات التي تحكم حركة السوق ، وهو أمرٌ يفترض أن يحظي باعتراف وتبرير أكبر من جانب اُولئك الذين يرون التحوّلات الاقتصادية خارجة عن إرادات الأفراد بل وحتي الدول من أمثال الدكتور غني نجاد ، قارئين في كل الظواهر غير المستساغة ـ والمنبعثة من تقلبات السوق بما فيها ظواهر الافلاس ـ مظهرا من مظاهر العدالة ، ذلك انهم يرون أنّ : « النظام الاقتصادي الحديث يعتمد ـ في الحقيقة ـ مبدأ المنافسة ، والمنافسةُ ـ شئنا أم أبينا ـ تضم الفائز وغير الفائز ، وإفلاس بعض المواقع الماليّة الفرعية في المجتمع أمرٌ ناجم عن الاعتراف المسبق بمنطق اقتصاد السوق وقواعد لعبة المنافسة » ( 26 ) .
الجواب الثالث : إذا كان الدكتور غني نجاد يهدف من خلال إثاراته ـ ونتيجة ارتباطه بالإسلام وخوفه عليه ـ إلي عدم لحوق الضرر باُولئك الذين يقدّمون مبالغ مالية محدودة لاخوتهم المؤمنين ، بغية رفع حاجاتهم وتجاوزهم لمشكلاتهم الحياتية ، وذلك عن طريق تقديم قرض حسن اليهم . . . إلي عدم لحوق الضرر بهم نتيجة حالات التضخم وانخفاض قيمة النقد ( مع أنّ أضرارا هائلة وعظيمة ومضاعفة كالافلاس يراها الدكتور غني نجاد منطقيةً في النظام الرأسمالي ويمكن الدفاع عنها ) إذا كان الدكتور غني نجاد يهدف إلي ذلك فبإمكانه القول بما ذهب إليه بعض الفقهاء لدي بحثه عن انخفاض قيمة النقد من تبني الأساس الاقتصادي والحقيقي في تلك المسألة ، إنّهم يقولون : إنّ المقصود من « المثل » في القروض النقدية ، المثليةُ علي صعيد القدرة الشرائية ، وهذا الأمر لا يحدث أي تعديل في تعريف الربا ، ذلك أنّ الربا ـ وفق رؤية هذا الفريق من الفقهاء ـ يشمل اشتراط أي نوع من أنواع الزيادة علي ما تمّ إقراضه ، مع فارق ، وهو أنّ المثل في الديون الاعتبارية عند هذا الفريق إنّما هو القدرة الشرائية .
ومن الواضح أنّ تبني أي اتجاه من الاتجاهات الفقهية المثارة في مسألة انخفاض قيمة النقد ، لا يصير مبررا لتجويز أخذ الفائدة سيما منها الفائدة البنكية ، ذلك أنّ أكثر الآراء الفقهية تطرّفا علي هذا الصعيد تري بأنّ أنواع انخفاض قيمة النقد كافةً يمكن جبرانها ، انّ هذا الرأي يقول بأنّ المقرِض لا حقّ له اشتراط الزيادة عند العقد ، بل لابدّ له من الصبر إلي حلول الموعد المحدد للتسديد ليدفع له المقترض ما يتناسب والتضخم الحاصل في تلك الفترة الزمنية ( زمان القرض ) بحيث يمنحه نفس تلك القوّة الشرائية التي استدانها منه .
وبناءً عليه ، تحرم مطلق أشكال الفائدة المقرّرة سلفا ، ليحكم عليها بحكم الربا ، سيما ما كان في القروض والاعتبارات البنكية والتي تزيد عادةً علي التضخم الحقيقي بنسبة محددة في المئة .
نتائج البحث حول تعريف الربا :
ويمكننا مما تقدّم من موضوعات ومناقشات ، استنتاج ما يلي :
1 ـ ليس ثمّة مستند قرآني ، أو روائي ، أو فقهي أو تفسيري لتعريف الربا بأنّه « الدخل القطعي المحدد سلفا » كما اعتبره الدكتور غني نجاد تعريفا شائعا ، بل علي العكس من ذلك تماما ، ليس ما أفاده عدا نوع من مجموعة أنواع للربا ، فيما يكون التعريف المستوعب للربا ـ وكما تفيده الآيات والروايات وكلمات الفقهاء ـ بأنّه مطلق الزيادة المشترطة في عقد القرض هو التعريف الصحيح ، وعليه فليس للمقرِض من حقٍّ عدا المطالبة بذاك الذي أقرضه لا غير .
2 ـ لا تترك قضية انخفاض قيمة النقد نتيجة التضخم أي أثر سلبي علي التعريف الصحيح للربا ، غاية ما في الأمر ، أنّ بعض الاتجاهات الفقهية تذهب إلي تبني مفهوم المثلية علي صعيد القدرة الشرائية للنقد ـ لا المسمي النقدي ـ في مجال استقراض النقود ، وفي نهاية المطاف تعود القاعدة نفسها لتقضي بأنّه لا يحق للمقرِض المطالبة بما زاد عن المال الذي أقرضه ، وعليه ، فحتي لو أقرّينا بهذا الاتجاه الفقهي في قضية انخفاض قيمة النقد فليس ثمّة ما يجيزنا القول بتحليل أخذ الفائدة التي تعد ظاهرة منفصلة عن ظواهر التضخم وانخفاض قيم النقود والعملات .
3 ـ علي افتراض أنّ التعريف الصحيح للربا هو « الدخل القطعي المعين من قبل » ، لا يختص هذا الأمر بالاقتصاد التقليدي ، بل يتعدّاه إلي الاقتصاد الحديث كل الحداثة كالاقتصاد الألماني ، فقد رأينا كيف استطاعت البنوك الألمانية ـ طبقا لإحصاءات البنك المركزي الألماني التي أشرنا لها سابقا ـ تنظيم معدل التضخم والفائدة المسماة ، وكذلك القروض والاعتبارات بشكل أمكنها من خلاله التوصل إلي الدخل القطعي المعين سلفا وذلك عن طريق التنبؤ بها ، لتضع بخفضها ـ 1 ـ إلي 51 في المئة من الفائدة المذكورة ما تبقي في يد المودعين ايداعا بعيد الأمد ، ومن ثمّ ليمنحوهم مداخيل ضخمة معينة سلفا .
4 ـ وفقا لما جاء في الكتب الاقتصادية ( النقدية والبنكية ) يعد تثبيت المستوي العام للقيم أحد أهداف النظام البنكي والسياسات النقدية ( 27 ) ، وإذا ما نجح النظام البنكي يوما ما في الوصول إلي هذا الهدف أو الاقتراب منه فانّه سيحظي إمّا بتصفير معدل القيم العام أو الوصول إلي درجة من النموّ المطّرد والمنطقي الذي يمكن للبنوك التنبؤ به سلفا ، ومن ثمّ سيكون الدخل الحتمي المحدد مسبقا أمرا سهل التحقق ، الأمر الذي سيضع نظرية « تمايز الربا والفائدة البنكية » علي حافّة الهاوية ومشارف الموت ، ذلك انّ الملاك بالنسبة للبنوك أو المودعين لمدد طويلة ( والذين لا يهدفون شراء أو بيع سلع محددة وإنّما يقصدون تحصيل مداخيل نقدية ) هو تغيرات المستوي العام للقيم وانخفاض قيمة النقد ، لا التحوّلات النسبية لها .
الإشكاليّة الثانية ـ تقديم صورة منقوصة عن اقتصاد صدر الإسلام :
المشكلة الرئيسية الثانية التي وقع فيها الدكتور غني نجاد تتلخص في مقارنته ما بين الاقتصاد الحديث للمجتمعات المعاصرة واقتصاد صدر الإسلام ، إنّه يري بأنّ الفارق المحوري بين هذين الاقتصادين مختزل في استقرار المستوي العام للقيم والقيم النسبية أيضا صدر الإسلام ، الأمر الذي يفتقده الاقتصاد المعاصر ليستبدله بتحولات مطردة علي هذين الصعيدين ، انّ نظرية الدكتور غني نجاد ترتكز أساسا علي هذا الامتياز ، فهو يقول : انّ الربا « يمكن تصوّره فقط في المجتمعات ذات الاقتصاد المعيشي التقليدي ، ذلك أنّ التغييرات في القيم النسبية ، وكذلك في مستوي القيم ـ حتي في مدّة طويلة ـ أمرٌ لا وجود له أساسا في هذه المجتمعات ، وذلك بسبب وقوع العلاقات التبادلية النقدية علي هامش الأنشطة الانتاجية الرئيسية وبطء التحرك الاجتماعي والاقتصادي ، وكذلك البطء الشديد جدا في التحولات الفنية والتكنولوجية ، وفي هذه الظروف فقط يتّحد كل من الناتج المسمّي والواقعي للنقد ، ويتخذ تعريف الربا لنفسه معني ، فإنّ الميل النهائي للادخار والناتج النهائي لرأس المال يقعان دائما عرضة للتغيرات ، وذلك بسبب تبدّل ميول وطبائع المستهلكين ، والحركة الشديدة لعوامل الانتاج والتحوّلات الفنية والتكنولوجية السريعة ، وهو ما يؤدي إلي عدم إمكانية تحقق معاملة مالية ذات ناتج ثابت أو معين من قبل . . . ووفقا لذلك يمكن القول بأنّ اُولئك الذين يضعون الربا والفائدة البنكية في مستوي بعضهما البعض يقعون في خطأ معرفي ايبستمولوجي فاحش ، أي انّ المفهوم القابل للتصوّر في ظل ظروف وشروط معينة خاصة يجري تعميمه لوضعية مغايرة بالكامل لا تختزن هذا المفهوم أبدا » ( 28 ) .
وهنا إذا استطعنا أن نثبت أنّ موضوع تغير القيم النسبية والمستوي العام للقيم ليس نقطة فارقة في الاقتصاد الحديث تميزه عن اقتصاد صدر الإسلام ، رغم عشرات الفوارق الاُخري الموجودة بينهما . . . إذا نجحنا في إثبات هذا الأمر ، فسنلجئ الدكتور غني نجاد حتما إلي الأخذ بإحدي نتيجتين :
أ ـ الإقرار بأنّ اقتصاد صدر الإسلام ـ كالاقتصاد الحديث ـ لم يكن يتسنّي فيه تكوّن ظاهرة الربا ، لتكون المحصّلة في النهاية تحريم القرآن الكريم لظاهرة ذهنية متخيلة غير ممكنة .
ب ـ الاعتراف بأنّ التعريف الذي اختاره للربا تعريف منقوص ومغلوط معا .
وفي النتيجة ، وعلي كلا التقديرين ستكون نظريته باطلة .
لكن ، وقبل الاجابة ، أري من الجدير الاشارة إلي مجموعة نقاط تُسهم في تصحيح فهمنا للمسألة ، ظنا مني بأنّ العنصر الأساس في ظاهرة الغموض والالتباس التي وقع فيها الدكتور غني نجاد نشأت عن عدم الانتباه إليها ( أي مجموعة النقاط ) .
العلوم الحديثة والموضوعات القديمة :
ترشد مطالعة تاريخ العلوم إلي أنّ اتساع رقعة المقولات والنظريات العلمية يدفع بالعلماء إلي القيام بمحاولة تجميع لها تأخذ بعين الاعتبار نوعا من الوحدة النوعية القائمة ما بينها ، ليتكوّن نتيجة ذلك علم جديد ، وبمرور الأيّام ، كثيرا ما يحدث أن تنشطر علوم لتولّد علوما جديدة منها ، الأمر الذي يجعل من كل علم جديد فرعا من علم سابق كان بمثابة الرحم له .
هذا المسار لتطوّر العلوم ما يزال سائدا ، فكل يوم نشاهد استقلال علم جديد ، وتفكك العلوم عن بعضها البعض .
ورغم أنّ الدكتور غني نجاد لا ينكر هذا المبدأ ، بل يلوّح بالاعتراف به في كلماته ، لكن ذهوله أمام القراءات الجديدة وحبّه لها دفعه لوضعها كأساس أوّلي ، شاعرا بعدم الحاجة إلي ممارسة تحقيق في ذلك ، ولهذا فهو يقول : « فالاقتصاد علمٌ حديث التأسيس وذا سابقة لا تتجاوز قرونا معدودة ، وقد تبلورت مفاهيمه الأساسية في إطار الفكر الحداثي وسياقه ، وهو ما جعله يحوز مكانةً علميةً محدّدة جعلته علي قطيعة مع المفاهيم الماضية ، رغم وجود اشتراك لفظي في بعض الحالات » ( 29 ) .
ولو سنحت الفرصة للدكتور غني نجاد ، ليعيد المرور علي الكتب والمؤلفات المخصّصة في علم تاريخ الأفكار والآراء الاقتصادية لوجد كم من موضوعات وقضايا علم الاقتصاد الحديث التأسيس كانت مطروحة ومثارة بين العلماء لقرون مضت قبل أن يولد آدم سميث نفسه ( أب علم الاقتصاد ) .
وكنموذجٍ فقط علي ما نقوله ، ننقل عبارةً مقتضبة عن الدكتور تفضّلي في كتاب تاريخ الآراء والمذاهب الاقتصادية ، حيث يقول : « . . . كل من يطالع كتاب العبر لابن خلدون ، والمؤلّف من سبعة مجلدات مطبوعة ، وينظر في مقدّمته المعروفة بمقدمة ابن خلدون ، يري فيه آراء ونظريات بالغة القيمة علي الصعيد الاجتماعي ـ الاقتصادي ، ويذعن للنتيجة القائلة بأنّ ابن خلدون كان واعيا لمهمات المسائل الاقتصادية قبل أربعة قرون من آدم سميث ، وقد أعمل فيها أيضا مبضع البحث والتحقيق » ( 30 ) .
نعم ، ليس المقصود ادعاء السابقة التاريخية لكافة الموضوعات والمفاهيم الاقتصادية ، ذلك أنّ الكثير جدا منها جديد كل الجدة في علم الاقتصاد ، ولم يسبق له أن ظهر قبل ذلك ، وإنّما نهدف بكلامنا المتقدم النأي بأنفسنا عن الانجراف مع نزعة التجديد المفرِطة ، وبدل طرح رؤي عامّة من الأنسب العمل علي تحقيق المفاهيم والمقولات المستخدمة .
كموية المفاهيم :
يمتاز القرن الماضي ( العشرون ) بظاهرة تحويل المفاهيم والمقولات الواردة في العلوم إلي معطيات كمية ، فقد كادت الأدوات والتقسيمات الحسابية تختلط ـ لكثرة استعمالها ـ بالمفاهيم نفسها ، وعلي سبيل المثال مفهوم « الحرارة » ، فقد كانت الصورة المدركة لهذا المفهوم الذي يعبر عن البداية الاُولي لتضرر الجسم ، واضحة وجلية لدي حكماء اليونان القديمة ، بيد أنّ ظهور أدوات تحسب بدقة درجة حرارة بدن الانسان كميا ، وتحديدها وفقا لمؤشر بياني محدد ( سانتيغراد ) ، ربما يدفع بالكثير من المحققين إلي الاعتقاد بأنّ مفهوم الحرارة والمعني المتعقل لها إنّما هو مفهوم جديد ، ذلك أنّ الأطباء الماضين لم تكن تتوفر لديهم الوسيلة لقياس درجة الحرارة في جسم الانسان .
ومع الأسف ، فقد سقط السيد غني نجاد في هذا الوهم أيضا علي صعيد بعض المفاهيم الاقتصادية ، حيث يقول : « إنّ مفهوم المستوي العام للقيم ناظر إلي مقياس محدّد ( وضع سنةٍ ما لتحديد المقياس ) وتعيين المعدّل الوسطي لتغييرات القيم الحاصلة في السلع والخدمات المختلفة في المجتمع ، فهل يمكننا الادّعاء بأنّ هذا المفهوم كان له وجود أيضا في أفكار البشر المعاصرين لصدر الإسلام ؟ . . . إنّ واحدة من الاشتباهات الايبستمية الرئيسة للسيد موسويان تكمن في عملية التعميم التي قام بها لمفاهيم معاصرة في علم الاقتصاد علي العالم القديم زمن صدر الإسلام بحيث يحاول إسقاط مفهوم اقتصادي علي زمن لم يكن هذا المفهوم ليولد فيه بعد ، ومن ثمّ ليكون نقطة بحث وجدل بين البشر » ( 31 ) .
وبالتأكيد يدرك الدكتور غني نجاد أنّ بعض المفاهيم لها بيان عرفي بسيط من جهة ، فيما تحظي من جهة اُخري ببيان تفصيلي تخصّصي ، وعلي سبيل المثال ، عندما يضع شخص عادي يده علي جبهة المريض ، ويري أنّ درجة حرارة بدن المريض قياسا بدرجة حرارة بدنه أعلي ، يفصح حينئذ عن أنّ هذا المريض مبتلي بالحمّي ، وهكذا الحال في الطبيب ، إذ عندما يتعرّف علي درجة حرارة بدن الشخص المريض عبر ميزان الحرارة ، ويقارنها بمتوسط درجة الحرارة في الانسان العادي السليم ليري أنّ درجة حرارته أعلي من الحالة العادية ، يفصح هو الآخر عن الأمر نفسه .
والفارق الموجود ما بين الحالتين هو أنّ الطبيب قادرٌ علي تحديد درجة الحرارة بالدقة ، كما وبإمكانه الحديث عن حجم الخطر الذي يتهدّد المريض ، وطرق العلاج التي تخرجه من حالته الصحية المتردية .
وفي هذا الإطار ، تصب مسألة « الزيادة العامّة للقيم » ، فعندما عرف الانسان وعلماء الاجتماع مفهوم المبادلة ، سيما في المرحلة التي خصصوا فيها شيئا محددا كنقد تبادلي ، وبالأخص في الفترة التي ظهر فيها النقد المعدني ، أصبح تغير القيمة التبادلية لبعض السلع أمام البعض الآخر أو أمام النقد نفسه أمرا مفهوما جدا بالنسبة إليهم ، الأمر الذي كان يدفعهم إلي ردود أفعال تناسب هذا التغير المتصوّر لهم ، تماما كما كانوا يحسّون بكل كيانهم بظاهرة الغلاء العام أو الغلاء المستوعب لأكثر السلع والبضائع الضرورية إثر حروب طويلة الأمد أو حوادث طبيعية شديدة ، كالسيول والأوبئة الزراعية والحيوانية ، ولهذا السبب راجت الأدعية المتعلقة بهذا الموضوع منذ قديم الأيّام ، سيّما دعاء زيادة الرزق ورخص الأسعار .
لكن الأمر الجلي ، هو أنّ هذا المستوي من المعرفة لا يعدو أن يكون بسيطا وضحلاً أمام المعرفة التي وصلها علماء الاقتصاد المعاصرون ، نتيجة استخدامهم أدوات خاصة اقتصاديا ، وتوظيفهم علوم الإحصاء والاقتصاد ، ليضعوا أيديهم في نهاية المطاف علي تحديد كمّي واضح لحجم التغيرات الحاصلة في القيم النسبية وفي المستوي العام للقيم كلّها .
لكن هذا الأمر لا يلغي فارقا ما بين الصورتين المتعقلتين لهذا المفهوم ، تماما كما يمكن أن يبلغ حساب تحوّلات عالم القيم مبلغا دقيقا للغاية نتيجة أساليب ومناهج مبتدعة أكثر دقة وتحديدا .
وخلاصة القول : ثمّة فارق بين ظهور مفاهيم جديدة وبين اكتشاف أساليب ومناهج وأدوات قادرة علي وزن حجم التغيرات ومنح المفاهيم لباسا كميا كما هو الحال في العلوم اليوم .
حداثة المصطلح وقدم المفهوم :
قد يُعتاض ـ بمرور الزمان ـ بألفاظ ومصطلحات حاكية عن مفهوم ما عن مصطلحات سابقة ، كما قد يظهر مصطلح جديد يدل علي نوع محدد من أنواع مفهوم واحد ، كما قد تؤدي حركة الترجمة من ثقافة إلي ثقافة اُخري إلي سكب المترجمين المفاهيم التي يريدون ترجمة ألفاظها مع جهلهم بها . . . سكبها في قالب صيغ ومفردات مختلفة ، الأمر الذي يسبب غموضا والتباسا لدي بعض الباحثين والمحققين .
لقد اعتبر الدكتور غني نجاد ، وفي مواضع متعددة من كلامه ، أنّ الأنشطة البنكية ـ أعم من الإيداع والإقراض و . . . ـ مفاهيم جديدة تغاير بالكامل العلاقات المالية في الأزمنة السالفة ، فهو يقول : « البنك إنّما يقوم علي الإيداع ويتكوّن علي أساسه ، وهو معنيّ بممارسة إدارة ناجحة لمضاعفة الأموال ، حيث إنّ بعضا منها يقوم البنك نفسه بإيجاده علي شكل نقد اعتباري ، وعملية الإيداع لا يمكن تصنيفها نوعا من الإقراض من الناحية الاقتصادية والحقوقية ، والمودع نفسه ليس مقرضا ، وإنّما يضع مدّخراته كأمانةٍ لدي البنك ، ليمكنه في أي زمانٍ يشاء ردّ هذه الأمانة إليه .
ولا تقتصر العمليات البنكية علي مجرّد إقراض الودائع المتوفّرة لدي البنك ، بل إنّ البنك نفسه يتحمّل مسؤولية الإقدام علي استحداث نقد اعتباري ، ويسعي لإدارة ما بيده إدارةً فعالة ومنتجة ، آخذا بعين الاعتبار العوامل المتعدّدة » ( 32 ) .
ويستوقفنا في هذا النصّ أمران :
الأوّل ـ حقيقة الإيداع :
يشرح الدكتور غني نجاد حقيقة ظاهرة الإيداع بقوله : « وعمليّة الإيداع لا يمكن تصنيفها نوعا من الإقراض من الناحية الاقتصادية والحقوقية ، والمودع نفسه ليس مقرِضا ، وإنّما يضع مدّخراته كأمانةٍ لدي البنك ، ليمكنه في أيّ زمانٍ يشاء ردّ هذه الأمانة إليه » ( 33 ) .
ثمّة أقوال متعددة تختلف فيما بينها حول تحديد حقيقة الإيداع البنكي ، يعرف من بينها نظريتان :
أ ـ إنّ الإيداع البنكي وديعة أو أمانة .
ب ـ إنّ الإيداع البنكي قرض .
طبقا للنظرية الاُولي يضع ( المودع ) أمواله عند البنك علي شكل أمانة ، ليتسني له أخذه في أيّ ساعة يشاء كلاً أو بعضا .
أمّا النظرية الثانية ، فتقضي أنّ ( المودع ) يقرض البنك مبلغا من المال ، ويتعهّد البنك مقابل ذلك بإرجاع هذا المبلغ امّا كاملاً أو بعضه لصاحبه عند المطالبة .
والسبيل الأفضل لتحديد حقيقة ظاهرة الايداع البنكي من الناحية الحقوقية ، هو القيام بمقارنةٍ تضع خصائص ظاهرة الايداع في جهة وميزات كل من القرض والوديعة في جهة اُخري ، وانطلاقا من ذلك ، نقوم بدورنا بعرض خصائص الإيداع البنكي ، ومن ثمّ نشرح مميزات الوديعة والقرض كلاً علي حدة ليتسني لنا الحكم وفقا لذلك .
خصائص الإيداع البنكي :
بغضّ النظر عن القوانين والمقررات الخاصّة بكل بنك ، ثمّة خصائص ثلاث تحكم أغلب البنوك في العالم ( 34 ) ويجري إنفاذها في الودائع البنكية ، وهي :
1 ـ يملك البنك المبلغ المودع عنده ، ويحق له التصرّف فيه كيفما شاء .
2 ـ يتعهد البنك بإرجاع المبلغ المودع كلاً أو بعضا ـ بمحض المطالبة ـ إلي المودع أو إلي من يحيل إليه ( في الحساب الجاري ) .
3 ـ بعد إجراء عملية الإيداع كاملة ، يضمن البنك الودائع الموجودة عنده كاملةً ، وعليه فاذا ما عرض التلف علي الودائع يُلزم البنك بردّ مثلها إلي أصحابها المودعين ، حتي لو لم يصدر من البنك أي إفراط أو تقصير أصلاً .
سمات الوديعة :
ويمكن الخروج بسلسلة سمات للوديعة من دراسة الكتب الفقهية والحقوقية ( 35 ) ، هي :
1 ـ إنّ المال المودَع يبقي علي ملكية صاحبه ، ولا يحق للودعي امتلاك هذا المال بأيّ شكل من الأشكال .
2 ـ لا حق للودعي اطلاقا في التصرّف بالوديعة بمطلق أنواع التصرفات عدا حفظها وحمايتها من التلف والضياع والنقص . . .
3 ـ ما لم يفرط الودعي أو يقصر في وظائفه تجاه المال المودع ، فانّه لا يتحمّل أيّة مسؤولية فيما لو تلفت الوديعة أو تعرّضت لخسارة ونقصان ، وبالتالي فهو غير ضامن .
4 ـ يجب علي الودعي إرجاع عين الوديعة التي أخذها لصاحبها لا مثلها ولا قيمتها .
ومن الواضح أنّ هذه السمات الأربع غير متوفرة في الودائع البنكية ، ذلك أنّ الأموال المودعة عند البنوك تدخل بالتأكيد في ملكية البنك نفسه ، كما لا يتعهد البنك اطلاقا بإرجاع عين الوديعة التي قدّمت إليه من جانب المودع ، وإنّما يكون مسؤولاً أمامه عن مثلها فقط ، وهذه المسؤولية تشمل البنك في جميع الحالات بما فيها الحالات التي تتلف فيها الوديعة من دون إفراط أو تفريط منه ، وعليه فلا يمكن عدّ الودائع البنكية وديعةً أو أمانة من المنظار الحقوقي .
ميزات القـرض :
حصيلة ما يمكن الخروج به من ميزات لعقد القرض بعد مراجعة الكتب الفقهية والحقوقية ما يلي :
1 ـ يدخل المال المقرض بعملية الإقراض في ملك المقترض ، ومن ثمّ يصبح بمقدوره التصرّف فيه كيفما شاء .
2 ـ لا يتعهّد المقترض بإعادة عين المال المقرَض إلي المقرِض .
3 ـ يلزم المقترض تسديد « مثل » المال الذي اقترضه ، حتي لو كان المال المقترض قد تلف فيه من دون إفراطٍ أو تفريط .
وبمقارنة ميزات عقد القرض مع الإيداع البنكي نستنتج أنّ الماهية الحقوقية للإيداع إنّما هي عين القرض ، ونحن نري أنّ مفردة الإيداع التي استخدمت في حالة البنوك ـ والتي تناسب الوديعة أكثر من القرض ـ إنّما انبثقت عن مرحلة الصرافة ، أي في تلك المرحلة التي كان الأفراد يحفظون أموالهم من الذهب والفضة من سرقة السارقين عبر وضعها كأمانة في يد الصيارفة .
لكن هذا الاُسلوب أبدي تكاملاً وتحوّلاً نتيجة توسع علاقات التبادل وابتكار أفانين وسبل جديدة للإيداع ، الأمر الذي أخرج الظاهرة من المضمون الأمانتي الأوّل الذي كانت محاطةً به ، مع احتفاظها بالاسم الأوّلي الذي وضع لها ( 36 ) .
والجدير ذكره هنا ، أنّ القوانين المدنية للدول الاُخري ما تزال تتعامل مع الإيداع البنكي تعاملها مع القرض ، وكمثال علي هذا الأمر ، ما جاء في القانون المدني الأمريكي والبريطاني والفرنسي ، ونحن ننقل قسما من كل واحدٍ منها كنموذج علي ما نقول ، فقد جاء في القانون المدني الأمريكي : « منذ اللحظة الاُولي التي يحصل فيها الإيداع يدخل المال في ملك البنك ، وتتحول العلاقة ما بين البنك والمودع إلي علاقة الدائن والمدين ، والنتيجة الحقوقية لهذا العقد تتمثل في قرض أعطي للبنك ، يتعهد البنك صريحا أو ضمنا بإعادته إلي صاحبه فور مطالبته به » ( 37 ) .
وجاء في القانون المدني البريطاني : « من وجهة نظر حقوقيّ هذا البلد ، عندما يفتح البنك حسابا لشخصٍ ما ، تنعقد بينهما علاقة الدائن والمدين ، وما دام هذا الحساب الايداعي موجودا ما دام البنك مدينا والمتعامل دائنا ، ووفقا لذلك تدخل الأموال التي يقدمها المودع للبنك في ملكية البنك نفسه . . . ولا توجد أمانة بين الطرفين ، كي يكون البنك مسؤولاً عن شرح نتائج خطواته للطرف الآخر » ( 38 ) .
وهكذا نطالع في القانون المدني الفرنسي : « القاسم المشترك ما بين الرؤي الحقوقية لظاهرة الإيداع البنكي هو أنّ البنك مالك للوديعة ، ومكلّف بردّ مثل ما أخذ للطرف الآخر ، ولهذا السبب نفسه تنظر محكمة النقض الفرنسية ( التمييز ) للمودع كدائن » ( 39 ) .
وهكذا الحال مع فقهاء الشيعة والسنة حيث يرون في إجاباتهم عن الأسئلة التي تردهم حول حقيقة الإيداعات البنكية ، بأنّها مما ينطبق عليه عقد القرض ( 40 ) .
وعليه ، وطبقا للنظرية الصحيحة السائدة في مختلف الدول ، تتحد الإيداعات البنكية مع القرض ، لكن الذي دفع الدكتور غني نجاد وغيره لاستبعاد هذا الأمر ، يمكن ملاحظته في مجموعة أشياء :
أ ـ الخلط بين القرض والقرض الحسن ، وتوهم اختصاص القرض بالمحتاجين .
ب ـ افتراضهم أنّ أيّ عقد قرضي لابدّ وأن يكون طويل الأمد ، بحيث لا يكون للمقرض فيه حق المطالبة بماله من المقترض في أي لحظة يشاء .
ج·· ـ تصوّر انّه من اللازم علي المقرِض والمقترض التلفظ ضمن العقد بألفاظ القرض ومشتقاتها .
وحيث لم يلاحظوا هذه الخصوصيات الثلاث ، استبعدوا انطباق عنوان القرض علي الإيداع البنكي ، والحال أنّ هذه الخصوصيات الثلاث باطلة أساسا ، والصحيح وفقا للكتب الفقهية والحقوقية ( 41 ) هو أنّ القرض « تمليك مال لآخر بالضمان بأن يكون علي عهدته أداؤه بنفسه أو بمثله أو قيمته ، ويقال للمملّك المقرض ، وللمتملك المقترض والمستقرض » .
ويصرّح الفقهاء بأنّ القرض ـ كعقد ـ لا مدة له في نفسه ، بل يمكن للمقرض الرجوع علي المقترض ساعة يشاء لإعادة أمواله المقرَضة ، بل يري بعض الفقهاء بأنّ الأمر علي نفس المنوال حتي مع اشتراط المدة في العقد ، إلاّ إذا شرطت مدة القرض ضمن عقد آخر لازم .
أمّا علي صعيد صيغة العقد ، فيذهب الفقهاء إلي القول بجواز إجراء القرض بأيّ لفظ أو عمل أفاد معني القرض ( تمليك العين وضمان المثل ) ، ويكون ذلك كافيا في تحقق المعاملة ، بل لقد قيل بأنّ المقرض لو قال : « أقرضتك أو ما يؤدي معناه ، مثل تصرّف فيه أو انتفع به ، وعليك ردّ عوضه » صحّ ( 42 ) .
إنّني أري انّه من المناسب لأساتذة من أمثال الدكتور غني نجاد ممن وضع جهوده في الدراسات الاقتصادية ، الرجوع إلي الكتب المختصة بالموضوعات الفقهية والحقوقية ـ وهي والحمد للّه كثيرة ومتوفرة ـ قبل إبداء نظرهم في هذه الموضوعات .
الثاني ـ حقيقة العمليات الاعتبارية البنكية :
يعد الإقراض وتقديم الاعتبارات المتنوعة إحدي أهم أنشطة البنوك ، يقول الدكتور غني نجاد ناظرا برؤية جديدة وفكر حديث : « ولا تقتصر العمليات البنكية علي مجرّد إقراض الودائع المتوفّرة لدي البنك ، بل إنّ البنك نفسه يتحمل مسؤولية الإقدام علي استحداث نقد اعتباري ، ويسعي لإدارة ما بيده إدارةً فاعلةً ومنتجة ، آخذا بعين الاعتبار العوامل المتعددة » ( 43 ) .
يعرف المطلعون علي قضايا النقد والبنوك ، أنّ البنك لا يقصر وظيفته علي مجرد إقراض ما بيده من ودائع ، بل إنّه يوسع من نطاق إقراضه عبر توظيفه قدراته في خلق النقد ، بيد أنّ الجميع مطلع أيضا علي أنّ هذه الوظيفة التي يؤديها البنك ليست بالأمر الجديد والمبتكر للنظام البنكي ، وإنّما هي إبداع أنجزه الصيارفة قبل ذلك ، ولعل ما يزيد عن ألف سنة سابقة كان الناس يودعون أموالهم إمّا بغية حفظها أو أحيانا بهدف نقلها من مدينةٍ إلي اُخري . . . يودعونها لدي الصرّافين المعتمدين لديهم ، فيأخذون صكا باستلامها ، ليتمكنوا في أي وقت يشاؤون من أخذ معادل أموالهم من الصرّاف الذي سلّموه الأموال أو من أي صرّاف آخر في مدينة اُخري كانت بينه وبين الصرّاف الأوّل اتفاقية مالية .
وبمرور الوقت ، تحوّلت الصكوك الموجودة في يد الأفراد المودعين إلي أوراق تداول ، نتيجة عنصر الاعتماد علي الصيارفة ، وأصبحت تأخذ دور النقد أحيانا في مجال المعاملات المالية ، الأمر الذي كان يؤدي إلي اطالة المدة الزمنية التي يحتفظ الصيارفة فيها بالنقود لديهم .
وقد أدرك الصيارفة فيما بعد ، أنّ بإمكانهم ـ وفقا لهذه الحال ـ أن يقرضوا ما بأيديهم من الأموال إلي غيرهم ، الأمر الذي شكل الخطوة الاُولي لخلق النقد ، ذلك أنّ النقد في الواقع تحوّل إلي عنصر متحرّك علي خطين ، خط الصكوك التي دخلت مجال التداول ، وخط العملة المسكوكة أيضا .
والتحوّل الرئيس الذي اكتشفه الصيارفة ، تمثل في قدرتهم علي تقديم صكوك للمقترضين بدلاً من دفع أموال نقدية إليهم ، وهو ما ولّد أهم سمات الظاهرة البنكية ، أي خلق النقد الاعتباري ، فقد نجح الصيارفة ـ معتمدين علي ما بأيديهم من النقود المعدنية القليلة ـ في إقراض صكوك كثيرة لتداولها بين الناس ، وكان هذا ما فعله البنك الحديث أيضا فيما بعد ، ذلك أنّ البنك ( والصرّاف ) كان يقدم علي خلق نقود اعتبارية فائضة عن الحد لتحقيق أرباح سريعة وسهلة ، وبعد مدّة كان يواجه البنك اندفاعا كبيرا من الأفراد المطالبين بتبديل صكوكهم أو عملاتهم الورقية البنكية ، الأمر الذي أسقط البنك في ظواهر إفلاس نشأت عن عدم وجود احتياطي كافي لديه من النقد .
وبتطوّر المسار البنكي ، تم السعي إلي ضبط حركة إنتاج النقد الاعتباري من جانب البنوك التجارية عبر إيجاد البنك المركزي وابتكار أساليب عمل جديدة ، وهو ما أدّي اليوم إلي إدارة البنك المركزي قدرة الإقراض الموجودة لدي البنوك عن طريق آليات السياسة النقدية .
ونتيجة ذلك ، أنّ البنوك الحديثة اليوم ، رغم كل مظاهر السرعة ، والدقة والحجم في عملياتها ، ودرجة ما تتركه من آثار بالغة علي اقتصاد المجتمعات الأمر الذي ينبغي مطالعته بدقة ، إلاّ أنّها لا تعبر عن اُطر جديدة علي صعيد البعد الحقوقي في عمليات الإيداع والإقراض والاعتبار و . . . فما تزال البنوك تحوز أموال الناس الفائضة علي حاجاتها من جهة ثمّ تقوم من جهة اُخري بضم هذه الأموال إلي ما تخلقه من نقود بنكية ( كما أخذوه من الصيارفة ) ليمنحوهما إلي المقترضين كقروض بنكية .
القيم في صدر الإسلام
تقدّم أنّ الركن الثاني من الأركان الأساسية لنظرية « تمايز الربا والفائدة البنكية » يقوم علي ثبات المستوي العام للقيم ، واستقرار القيم النسبية ، ذلك انّه بهذين الفرضين يمكن الحديث عن دخل حتمي معين سلفا ، أي عن الربا وفق النظرية نفسها ، وإذا ما عرض التغير علي واحد من هذين فلن نواجه حينئذ سوي دخلاً مسمّي ، ولن يكون بالتالي عين ولا أثر لمداخيل واقعية حقيقية معينة مسبقا ، كما هو الحال في الاقتصاد الحديث .
لكن استنتاجات الدكتور غني نجاد فيما يخصّ مسألة التحوّل في القيم صدر الإسلام لم تكن علي منوال واحد ، فهو ينكر في موضعٍ من كلامه أساس التغير المذكور في مجتمعات كهذه ، مقيما أدلّة علي دعواه : « وعليه فـ « الناتج الثابت أو المعين من قبل » [ = الربا ] يمكن تصوّره فقط في المجتمعات ذات الاقتصاد المعيشي التقليدي ، ذلك أنّ التغييرات في القيم النسبية ، وكذلك في مستوي القيم ـ حتي في مدة طويلة ـ أمرٌ لا وجود له أساسا في هذه المجتمعات ، وذلك بسبب وقوع العلاقات التبادلية النقدية علي هامش الأنشطة الإنتاجية الرئيسية وبطء التحرك الاجتماعي والاقتصادي ، وكذلك البطء الشديد جدا في التحولات الفنية والتكنولوجية . . . » ( 44 ) .
وانطلاقا من هذا النسق الفكري ، يخاطب الدكتور غني نجاد ناقده في مقالته الثانية بقوله : « فهل يمكن للسيد موسويان ـ وهو ممّن يملك معلومات تاريخية واسعة عن صدر الإسلام ـ أن يرشدنا إلي انموذج واحد يؤكد فيه مظلومية المقرض نتيجة انخفاض قيمة المبلغ المقرض عبر التمادي الزمني ( التضخم أو تغيير القيم النسبية ) ( 45 ) .
ومع هذين النصين ، يقرّ الدكتور غني نجاد في موضع آخر من كلماته ، بمبدأ تغير القيم ويراه حقيقة واقعة لا مجال لإنكارها ، بيد أنّه ينكر إدراك الأفراد لهذه الحقيقة ، ودور مفاهيم من نوع « تغير المستوي العام للقيم » أو « تغير القيم النسبية » في عقليات الأفراد ، فهو يقول :
« . . . فما يقال عن تغيّر القيم في صدر الإسلام أمرٌ واقعي ثابت لا سبيل لنا إلي إنكاره . . . بيد انّه لا يمكن ـ وعلي أساس هذا الواقع ـ استنتاج وجود مفاهيم ومقولات من قبيل القيم النسبية ، والمعدّل العام للقيم ، والتضخم وما شابه ذلك ، في تلك الحقبات الزمنية الغابرة ، لتكون مادّةً للقراءات الفكرية والمحاكمات العلمية » ( 46 ) .
وبدورنا ، سوف نستدعي في هذا البحث مجموعةً من الشواهد التاريخية المتنوّعة تؤكد ليس فقط أنّ المستوي العام للقيم أو القيم النسبية كانا مرحلة صدر الإسلام في حال تغير وتحوّل ، بل إنّ عموم الأفراد كان يدركون بوعيهم مفهوم هذا الحدث المتكرر ، ويحسون أيضا بآثاره ونتائجه علي مجمل حياتهم ، كما كانوا يفكرون في وضع حلول تخرجهم من دائرة تأثيراته السلبية .
ونقسّم ـ بغية ايضاح البحث واجتناب الإطالة ـ الروايات والشواهد التاريخية إلي مجموعات ، نكتفي لكل مجموعة بمقدارٍ محدودٍ من النماذج :
المجموعة الاُولي ـ النصوص المصرّحة بتغيّر القيم النسبية :
1 ـ عن أبي عبد اللّه الصادق عليهالسلام : « سأله محمّد بن القاسم الحنّاط فقال : أصلحك اللّه ، أبيع الطعام ( 47 ) من الرجل إلي أجل ، فأجئ وقد تغيّر الطعام من سعره ، فيقول : ليس عندي دراهم ، قال : خذ منه بسعر يوم ، قال : أفهم أصلحك اللّه ، انّه طعامي الذي اشتراه مني ، قال : لا تأخذ منه حتي يبيعه ويعطيك ، قال : أرغم اللّه أنفي ، رخّص لي ، فرددت عليه ، فشدّد عليّ » ( 48 ) .
فهذه الرواية تدل ـ بوضوح ـ علي أنّ قيمة القمح أبدت تغيرا في مدة زمنية قصيرة ، بحيث لاحظ البائع هذا التحوّل أوّلاً ، وأحسّ ـ ثانيا ـ بأنّه لو أخذ القيمة الجديدة من مديونه لأوقعه ذلك في الضرر ، وقد أجابه الإمام عليهالسلام بأنّ عليه ـ حيث تمّت المعاملة سابقا ـ أخذ الدين بالقيمة الجديدة للقمح أو الصبر إلي أن يبيعه الطرف الآخر ويرد عليه مستحقاته .
وهذه الرواية ليست سوي حلقة في سلسلة روايات طالب الدكتور غني نجاد بالكشف عنها ، وهي كما رأينا انموذج واضح يحكي ـ بجلاء ـ عن إحساس البائع بالظلم إثر تغيّر القيم النسبية .
2 ـ وعن أبي داود انّه قال : « إنّ دية القتل كانت ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم ، وعندما صارت الخلافة لعمر بن الخطاب خطب قائلاً : إنّ قيمة الإبل قد ارتفعت ، ووضع بعد ذلك لصاحب الدينار ألف دينار ديةً ، ولأصحاب الدرهم اثنا عشر ألف درهم » ( 49 ) .
والذي يستنتج من هذا النقل التاريخي ، أنّ قيمة الابل كانت قد ارتفعت في مدّة قصيرة ( سنتين وبضعة أشهر كحدّ أكثر ) خمسة وعشرين في المئة بالقياس إلي النقد الذهبي ، وخمسين في المئة قياسا إلي النقد الفضي ، وقد كان هذا الارتفاع ملموسا إلي درجة تأثيره في المحاكم القضائية ، وفي تعيين دية القتل أيضا .
المجموعة الثانية ـ نصوص التحوّل العام في القيم وإدراك الناس لذلك :
1 ـ ينقل أنس بن مالك : « غلا السّعر علي عهد رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم ، فقالوا : يا رسول اللّه سعّر لنا ، فقال : إنّ اللّه هو المسعّر . . . » ( 50 ) .
والألف واللام في كلمة « السعر » الواردة في النص المتقدم تفيد الجنس ، والمعني : ارتفاع أسعار كافّة السلع .
2 ـ قيل للنبي صلياللهعليهوآلهوسلم : لو أسعرت لنا سعرا ، فإنّ الأسعار تزيد وتنقص ، فقال صلياللهعليهوآلهوسلم : « ما كنت لألقي اللّه ببدعة لم يحدث فيها شيئا ، فدعوا عباد اللّه يأكل بعضهم من بعض . . . » ( 51 ) .
3 ـ عن رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم انّه مرّ بالمحتكرين ، فأمر بحكرتهم أن تخرج إلي بطون الأسواق ، وحيث تنظر الأبصار اليها ، فقيل لرسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم : لو قوّمت عليهم ، فغضب رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم ، حتي عرف الغضب في وجهه فقال : « أنا أقوّم عليهم ، إنّما السّعر إلي اللّه ، يرفعه إذا شاء ، ويخفضه إذا شاء » ( 52 ) .
والذي يمكننا الخروج به من تحليل مجموعة النصوص الواردة عن رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم ، هو انّه صلياللهعليهوآلهوسلم كان يحارب عوامل الغلاء كالاحتكار ، وتلقّي الركبان محاربةً شديدة ، لكنه في نفس الوقت كان يتجنب ـ وبشدة أيضا ـ تسعيرَ البضائع والسلع ، موكلاً ذلك إلي اللّه سبحانه وتعالي .
المجموعة الثالثة ـ النصوص الدالّة علي وعي عموم الناس للعناصر المؤثرة في تغيير القيم النسبية ، وفي تحوّل القيم عموما :
1 ـ ينقل عمر بن شعيب فيقول : « قضي أبو بكر علي أهل القري حين كثر المال وغلت الابل ، إقام مائة من الإبل بستّ مائة دينار إلي ثمانمائة دينار » ( 53 ) .
2 ـ وينقل ابن سعدي قائلاً : « كثر المال في زمن عثمان ، حتي بيعت جاريةٌ بوزنها ، وفرس بمائة ألف درهم ، ونخلة بألف درهم » ( 54 ) .
وقفة مع مفردة « مال » :
لقد أبدي الدكتور غني نجاد امتعاضه من استخدامي في مقالي السابق كلمة « مال » بمعني « حجم النقد » ، وكتب يقول : « لقد استخدم ( السيد موسويان ) لدي تفسيره روايات صدر الإسلام ، التي جاءت في موارد متعددة فيها مفردة ( المال ) ، استخدم مصطلح « حجم النقد » ، وفي حالات من هذا النوع تمّ ارتكاب خطأ معرفي فاحش ، فصحيح أنّ المجتمعات القديمة ـ ولأسباب مختلفة ، ككشف معادن الذهب والفضة ، الحروب والغارات وغير ذلك . . . ـ تتعرض فيها مقادير النقود العينية للزيادة والنقصان ، لتجعل قيم البضائع والسلع تحت تأثيرها في ذلك ، غير انّه لا يتسنّي لنا استخلاص استنتاج يقول : بأنّ مفهوم « حجم النقد » ـ كأداة تحليلية اقتصادية ـ كان مختزنا في أذهان العلماء في تلك الفترة .
وهكذا الحال في مفهوم « المال » ، إذ انّه مفهوم كلّي مبهم ، يسلّط الضوء علي معانٍ متعدّدة من قبيل ، المالكية ، السلعة ، رأس المال ، النقد ، وهي معانٍ مختلفة ، قام السيد موسويان باستخدامات متعادلة لها ، فالاشتراك اللفظي الموجود في مفردة « مال » ليس دالاً علي انّه كان له مفهوم مستقل ومعين من هذه المعاني في اللغة العربية إبّان تلك المرحلة ، ولو كان لهذه المصطلحات مفاهيم محددة في ذلك الزمان ، فبالتأكيد كانت ستنعم من جانبهم بمفردات أو مصطلحات متمايزة ومستقلة عن بعضها البعض » ( 55 ) .
لقد منحني الدكتور غني نجاد بتعبيراته هذه الحق في نعت منهجه المعرفي بالمنهج التخيّلي المنقوص ، فلو أنّه أتعب نفسه بعض الشيء في مراجعة كتب اللغة العربية ، لرأي بأنّ مفردة « مال » كانت تعني في البداية عند العرب وفي استعمالاتهم ، النقد السائد من الذهب والفضة ، أي الدرهم والدينار ، ومن ثمّ اتسعت مديات الاستخدام لتشمل الكلمةُ كل شيء ذا قيمة ، وبناءً عليه ، فكلمة « مال » تعني في النصوص الاسلامية أحيانا معني خاصا ، ألا وهو الدرهم والدينار ، فيما تعني أحيانا اُخري مضمونا عاما يستوعب كل ما له قيمة ، والمعني الأوّل هو الأصل ( 56 ) .
وإذا أضفنا إلي ما تقدّم أمرا تاريخيا آخر ، وهو أنّ الفتوحات الاسلامية الواسعة بعد انتصار الإسلام وانتشار المسلمين في بلاد جديدة كإيران ، والعراق ، والشام ، ومصر ، واليمن ، أدّت إلي سيول من الثروات العملاقة علي مركز الدولة الاسلامية ، قادمةً من البلاد الجديدة تحت مسمّيات غنائم الحرب ، والجزية ، والخراج ، والزكاة و . . . وهذه الثروات إمّا كانت نقدا منذ البداية ، أو انهم كانوا يستبدلونها بنقود ليسهل حملها إلي المدينة المنورة تفاديا لمشكلات السفر والتنقل . . . إذا أضفنا هذه الوقائع التاريخية نستكشف انّه كان من الطبيعي مضاعفة حجم النقد السائد ( الدرهم والدينار ) بشكل يومي مقارنةً بباقي السلع أو البضائع ، الأمر الذي سيفضي إلي ارتفاع القيم بصورة عامّة .
ووفقا لذلك ، يتضح أنّ الدكتور غني نجاد لو سمح لنفسه بتنحية المنظار الحداثي الذي كان يقرأ به الاُمور ، لرأي جليا انّه لا معني لمجمل الروايات السالفة الذكر عدا ما فسّرناها به ، بل وحتّي لو غضضنا الطرف عن مجموع ما تقدّم من مقدمات ومعطيات ، أمكننا القول بأنّ الدكتور غني نجاد لم يلاحظ ذيل الروايات المتقدمة ، ذلك انّه لو لاحظ هذا الذيل لأذعن بخبراته العلمية الاقتصادية بأنّ ازدياد الأموال غير النقدية لا يمثل دليلاً علي غلاء الابل ، والجواري ، والأحصنة والنخيل ، وعليه فمقصود المتكلم من وراء « كثر المال » ليس سوي ازدياد النقد السائد ، والذي هو الدينار والدرهم .
3 ـ قال رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم : « أيّما رجل اشتري طعاما فكبسه أربعين صباحا يريد به غلاء المسلمين ، ثمّ باعه ، فتصدّق بثمنه ، لم يكن كفّارة لما صنع » ( 57 ) .
4 ـ وعن الصادق عليهالسلام : « كل حكرة تضرّ بالناس ، وتغلي السعر عليهم ، فلا خير فيها » ( 58 ) .
5 ـ وقد سلّط الامام علي بن أبي طالب عليهالسلام في عهده لمالك الأشتر لمّا ولاّه مصر . . . سلّط نظره علي قضية ضبط الأسعار والإشراف علي حركة السعر في السوق ، معتبرا ذلك من وظائف الحاكم الاسلامي ، فبعد أن أوضح خدمات التجار والحرفيين خاطب مالكا بقوله : « واعلم ـ مع ذلك ـ أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا ، وشحّا قبيحا ، واحتكارا للمنافع ، وتحكّما في البياعات ، وذلك باب مضرّة علي العامّة ، وعيب علي الولاة ، فامنع من الاحتكار ، فإنّ رسول اللّه صلياللهعليهوآلهوسلم منع منه ، وليكن البيع بيعا سمحا ، بموازين عدل ، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع ، فمن قارف حكرةً بعد نهيك إيّاه فنكّل به ، وعاقبه من غير إسراف » ( 59 ) .
ويتبدّي لنا من مجموع النصوص المذكورة ، أنّ علماء ذلك الزمان لم يكونوا مدركين لأصل التغير في القيم النسبية وعموم القيم أيضا فحسب ، بل انهم كانوا واعين لبعض الأسباب المفضية إلي هذا الأمر كازدياد حجم النقد والاحتكار ، والحرص ، والطمع الفاحش في الأرباح . . . ( 60 ) .
ولعلّ نصا للشيخ الصدوق رضياللهعنه ، وهو فقيه يعود زمنه إلي ما يزيد عن ألف سنة تقريبا ، يمكنه أن يثير الدكتور غني نجاد ويبعثه علي الاستغراب ، فلدي تحليله الحديث النبوي القائل : « . . . إنّما السعر إلي اللّه ، يرفعه إذا شاء ، ويخفضه إذا شاء » ، حاول الشيخ الصدوق دراسة العوامل المساعدة علي إيجاد تحوّل في القيم ، فذهب إلي القول بأنّ : « . . . ما كان من الرخص والغلاء عن سعة الأشياء وقلتها ، فإنّ ذلك من اللّه عزّوجل ويجب الرضا بذلك والتسليم له ، وما كان من الغلاء والرّخص بما يؤخذ الناس به لغير قلّة الأشياء وكثرتها من غير رضاء منهم به أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد ، فيغلو الطعام لذلك ، فذلك من المسعر والمتعدّي بشري طعام المصر كلّه ، كما فعله حكيم بن حزام . . . » ( 61 ) .
المجموعة الرابعة ـ النصوص الحاكية عن نتائج الغلاء والارتفاع المتواصل لعموم القيم :
إضافةً إلي الروايتين الأخيرتين المتقدمتين ، والدالتين علي أنّ الاحتكار والغلاء مضران بالناس والمجتمع ، وأنّ مثل هذه الاُمور من عيوب الحاكم التي توجب زوال حكمه وذهاب أمره ، ثمّة رواية عن الامام الصادق عليهالسلام تركّز علي تحليل النتائج الاجتماعية لظاهرة التضخم والارتفاع المطّرد للقيم ، وقد جاء في هذه الرواية أنّ : « غلاء السعر يسيء الخلق ، ويذهب الأمانة ، ويضجر المرء المسلم » ( 62 ) .
وبديهي ، أنّ من له دراية واطلاع علي اللغة العربية ، يدرك أنّ « أل » الواردة في الحديث والداخلة علي أكثر من مفردة فيه ، إنّما هي « أل » الجنسية ، ومن ثمّ تكون دالةً علي العموم ، كما أنّ مقتضي التعليل الوارد في الحديث العموم أيضا ، إذ لا يكاد يتناغم مع غيره ، ذلك أنّ غلاء بعض البضائع أو السلع ، أو عروض ظاهرة ارتفاع الأسعار لمدة زمنية محدودة دون اطراد أو استمرار . . . لا يلحق أضرارا ولا يؤدي إلي نتائج من هذا النوع ، وعليه ، فمقصود الإمام الصادق عليهالسلام من : « غلاء السعر » ، هو الغلاء المستمر لكافّة أو أكثر السلع والحاجيات التي كان يستفاد منها تلك الأزمنة ، وليس ذلك سوي الازدياد المتواصل لعموم القيم أو ما نسميه التضخم .
المجموعة الخامسة ـ النصوص الدالة علي تغير قيمة الديون إثر تغير القيم :
لقد عبّر الدكتور غني نجاد عن رغبته في معرفة : هل ثمّة حالة في صدر الإسلام يشعر أحد طرفي المعاملة الطويلة الأمد فيها بالخسارة والضرر نتيجة تبدّلات القيم عموما أو القيم النسبية ؟
وبدورنا ـ واستجابةً لهذه الرغبة ـ نبين أنّه لا توجد حالة واحدة عندنا تؤكد هذا الأمر ، بل هناك العشرات من الحالات المماثلة والتي نجدها في مطاوي النصوص والمصادر التاريخية ، والتي نكتفي لها هنا بنقل عينات محدودة أبرزها :
1 ـ عن ابراهيم بن عبد الحميد عن العبد الصالح ( الكاظم ) عليهالسلام قال : « سألته عن الرجل يكون له عند الرجل الدنانير أو خليط له يأخذ مكانها ورقا في حوائجه ، وهي يوم قبضها سبعة وسبعة ونصف بدينار ، وقد يطلبها الصيرفي ، وليس الورق حاضرا ، فيبتاعها له الصيرفي بهذا السعر سبعة وسبعة ونصف ، ثمّ يجئ يحاسبه وقد ارتفع سعر الدنانير ، وصار باثني عشر كل دينار ، هل يصلح ذلك له ، وإنّما هي له بالسعر الأوّل يوم قبض منه الدراهم ، فلا يضرّه كيف كان السعر ؟ قال : يحسبها بالسعر الأوّل ، فلا بأس به » ( 63 ) .
إذا أردنا شرح هذا الحديث ـ مستخدمين مثالاً عدديا ـ أمكننا افتراض أنّ هذا الشخص أدان الصرّاف مئة دينار ، ونتيجة عروض حاجة عليه في يوم من الأيّام ، رجع إليه مطالبا إيّاه بالمبلغ ، لكن الصرّاف لم تكن في جعبته دنانير ، فأعطاه دفعة أولية لنقل إنها ثلاثمائة وخمسون درهما ، فيما كان الدينار في ذلك الوقت يعادل سبعة دراهم ، وبعد مضي مدّة طالب الدائن الصرّاف بتصفية الحساب ليفاجأ حينها بأنّ سعر الدينار ارتفع ليبلغ اثني عشر درهما ، فاذا كان من المقرّر محاسبة الصرّاف للدائن علي الحساب القديم لسعر الدينار ( 5/7 ) فإنّ المبلغ المطالب بدفعه لن يكون سوي خمسون دينارا ، ذلك انّه أنقده سابقا مبلغ ثلاثمائة وخمسين ودرهما ، وهو ما يعادل علي الحساب القديم خمسون دينارا ، فيكون المتبقي خمسين اُخري ، أمّا لو أراد تصفية الحساب طبقا للسعر الجديد للدينار ( 12 ) ، فإنّ علي الصرّاف حينئذ دفع واحد وسبعين دينارا اُخري ، ذلك انّه علي هذا الحساب يكون قد أعطاه في الدفعة الماضية تسعة وعشرين دينارا فقط ، وقد رأينا كيف أنّ الامام عليهالسلام أجاب بلزوم مراعاة قيمة الدينار زمان الدفعة الاُولي لا الثانية .
وهذه الرواية ترشد ـ بوضوح ـ إلي أنّ قيمة النقد الذهبي أخذت بالارتفاع قبال النقد الفضي في مدّة قصيرة ، إذ قفزت من 7 إلي 12 ، الأمر الذي أدّي إلي ظهور تساؤلات ومخاصمات أثارت طرفي المعاملة .
2 ـ عن اسحاق بن عمّار قال : « سألت أبا إبراهيم عليهالسلام عن الرجل يكون لي عليه المال ، فيقبضني بعضا دنانير وبعضا دراهم ، فاذا جاء يحاسبني ليوفيني يكون قد تغير سعر الدنانير ، أيّ السعرين أحسب له ، الذي كان يوم أعطاني الدنانير أو سعر يومي « يوم اُحاسبه » الذي أحاسبه ؟ فقال : سعر يوم أعطاك الدنانير ، لأنّك حبست منفعتها عنه » ( 64 ) .
وينقل الحرّ العاملي ـ صاحب وسائل الشيعة ـ بهذا المضمون ثلاث روايات اُخري ، نعرض عن ذكرها تجنبا للتكرار ( 65 ) .
3 ـ « عن علي عليهالسلام في رجل يشتري السلعة بدينار غير درهم إلي أجل ، قال : فاسد ، فلعل الدينار يصير بدرهم » ( 66 ) . ( فتصبح السلعة مجانية حينئذ ) .
ومن هذه الرواية ، يبدو لنا أنّ الامام عليهالسلام كان يريد القول : بأنّ الإنسان عندما يريد بيع سلعة ما بدينار ينقص بدرهم علي شكل نسيئة ، فرغم أنّ البيع تُعلم فيه قيمة السلعة نتيجة العلم بالقيمة الرابطة بين الدرهم والدينار ، كما يعلم طرفاه القيمة الواقعية والمبلغ الحقيقي الثابت في الذمّة ، لكن احتمال عروض تغيرات علي قيمة الدينار قبال الدرهم إلي زمان تسديد المبلغ احتمالٌ موجود ، وعليه ، فمن الممكن أن ينخفض سعر الدينار فيما بعد ليصل في أسوء أحواله إلي درهم واحد ، الأمر الذي سوف يجعل ( دينارا ينقص عن درهم ) بمثابة الصفر واللاشيء ، وستصبح السلعة حينئذٍ مباعةً بالمجان .
هذه الحالة رغم انها حالة استثنائية ، لكن الامام عليهالسلام أراد من إثارتها الاحساس بالواقع بدرجة جيدة ، ليحول دون إقدام الطرفين علي إجراء معاملات من هذا النوع لا تفضي سوي إلي الاختلاف والمنازعة ، ومن هنا ورد في بعض الروايات الاُخري التأكيد علي التعامل ـ بدلاً عن دينار إلاّ درهم ـ علي تسعة أعشار الدينار أو علي دينار إلاّ عشر أو خمس الدينار ( 67 ) .
وحصيلة هذه الروايات ، ليس فقط تغيير القيم كما تدلّل عليه بوضوح ، بل الأوضح من ذلك التبدّل الحقيقي للدين إثر حصول تحوّلات القيمة .
المجموعة السادسة ـ النصوص الدالّة علي النظام النقدي صدر الإسلام :
هناك الكثير من الروايات التي تتحدّث عن النظام النقدي صدر الإسلام ، وتحكي عن وجود نوعين من النقد : أحدهما الذهب الممثّل بالدينار ، وثانيهما الفضة الممثّلة بالدرهم ، وتشير النصوص إلي العلاقة الحرّة والمتحوّلة ما بين هذين النقدين علي صعيد القيمة ، وتبعية ذلك لعوامل متعددة في مجال العرض والطلب ، وقد بلغت التحولات القيمية للنقدين مبلغا شاعت فيه ـ نتيجة الاحساس بها وقصر المدة فيها ـ مفاهيم من نوع « سعر اليوم » و « صرف اليوم » والتي تعني القيمة اليومية ، وهو شيوعٌ نفذ بقوّة إلي عالم المحاورات الشعبية ، وبرز جليا في أوساط المتعاملين .
ونكتفي هنا بذكر بعض النماذج من هذه النصوص علي الشكل التالي :
1 ـ عن النبي صلياللهعليهوآلهوسلم انّه سئل عمّن باع بالدنانير ، فأخذ عوضها دراهم ، أو بالدراهم فيأخذ عوضها دنانير ، يأخذ هذه عن هذه ؟ فقال : « لا بأس ، يأخذها بسعر يومها ما لم يفترقا وبينهما شيء » ( 68 ) .
2 ـ عن أبي عبد اللّه عليهالسلام في الرجل يكون له الدين دراهم معلومة إلي أجل ، فجاء الأجل ، وليس عند الذي حلّ عليه دراهم ، فقال له : خذ مني دنانير بصرف اليوم ، قال صلياللهعليهوآلهوسلم : « لا بأس به » ( 69 ) .
3 ـ عن اسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد اللّه عليهالسلام : « تكون للرجل عندي من الدراهم الواضح ( السالم ) فيلقاني ، فيقول : كيف سعر الوضح اليوم ؟ فأقول له : كذا ، فيقول : أليس لي عندك كذا وكذا ألف درهم وضحا ؟ فأقول : بلي ، فيقول لي : حوّلها دنانير بهذا السعر ، وأثبتها لي عندك ، فما تري في هذا ؟ فقال لي : إذا كنت قد استقصيت له السعر يومئذٍ فلا بأس » ( 70 ) .
وبهذا المضمون روايات كثيرة منقولة ( 71 ) ، لا حاجة لذكرها جميعا ، وهي روايات يتضح منها أنّ النظام النقدي صدر الإسلام كان نظاما ثنائي النقد ( المعدني ) ضمن علاقة متحوّلة بالكامل ، وهو ما تثبته تحقيقات الباحثين أيضا ، فقد توصّل الدكتور فهمي محمّد ـ أحد الباحثين المصريين ـ في دراسة له حول « النقد في صدر الإسلام » إلي القول : بأنّ النظام النقدي الحاكم آنذاك نظام نقدي ثنائي الطرف ، يخضع لعلاقة متحوّلة في القيمة بينهما ، وقد أوضح الباحث المذكور هذه التحوّلات في القيم المتقابلة بين هذين النقدين عبر جدول توضيحي ، ويكشف هذا الجدول عن أنّ قيمة الدينار كانت تتراوح بين عشرة وخمسة وثلاثين درهما ، كما يدلل علي أنّ هذه التحوّلات رغم أنّها كانت في حالة اضطراب وتذبذب ، بيد أنّ أخذ مدة طويلة من الزمن يمنحنا مؤشرا علي سير تنازلي للدرهم ( النقد الفضي ) أمام الدينار الذهبي ، لتبدأ العلاقة بدينار واحد قبال عشرة دراهم ، ولتنتهي بدينار واحد في مقابل خمسة وثلاثين درهما ( 72 ) .
نتائج البحث حول الاقتصاد في صدر الإسلام :
كما تقدم ، شكل استقرار القيم النسبية والمستوي العام للقيم الركن الثاني من أركان نظرية التمايز بين الربا والفائدة البنكية ، وقد اعتقد الدكتور غني نجاد بتحقق هذا الركن في اقتصاد المجتمعات التقليدية والتي من جملتها مجتمع صدر الإسلام ، وعلي فرض أنّ تحوّلات القيم كانت أمرا موجودا آنذاك ، بيد أنّها لم تكن محسوسة للعلماء ولا لعامّة الناس ، بيد أنّ الروايات والشواهد التاريخية أثبتت عكس ذلك تماما ، وأكّدت علي :
أوّلاً : خضوع القيم النسبية لتأثيرات عوامل مختلفة وضعتها في حال تحوّل مستمر .
ثانيـا : جريان قانون التغير هذا حتّي علي المستوي العام للقيم .
ثالثـا : بلوغ هذه التغيرات حدّا جعلها ملموسة للحكّام وعامّة الناس ، الأمر الذي كان يدفعهم لإيجاد حلّ لها .
رابعـا : علاوة علي تغير القيم ، عُرفت في الأوساط العلمية آنذاك عوامل ساهمت في هذا التغير من قبيل ازدياد حجم النقد ، والاحتكار و . . .
خامسـا : أدركت الأوساط العلمية أيضا بعض الآثار الاجتماعية للارتفاع المستمرّ في القيم ، من نوع تضرّر الأفراد العاديين ، سقوط شعبية الدولة ، وسوء الأخلاق العام الذي يطال عموم أفراد المجتمع .
سادسـا : شعر الناس بتغير القيم الواقعية للديون إثر تحوّل القيم نفسها .
سابعـا : لقد كان عموم الأفراد مدركين جيدا للتقلبات اليومية للقيم ، وذلك نتيجة سيطرة النظام النقدي الثنائي الطرف ( الدينار والدرهم المعدنيين ) والذي كانت العلاقة القيمية بين طرفيه في تقلّب مستمر ، وقد كشفت تعبيرات جري تداولها بين الناس في تلك الأزمنة عن هذا الواقع من نوع « صرف اليوم » و « سعر اليوم » .
خلاصة واستنتاج :
تقوم خلاصة نظرية « تمايز الربا والفائدة البنكية » علي أنّ الربا الذي أقدم الإسلام علي تحريمه عبارة عن « الدخل القطعي المعين مسبقا » ، وبالتالي فهو ظاهرة مقصورة علي المجتمعات التقليدية القديمة التي كانت تشهد استقرارا عاما في القيم كلها ، وفي القيم النسبية أيضا ، حتي علي امتداد فترات زمنية طويلة حيث كانت التحوّل القيمي قابعا في معدل الصفر لا يتجاوزه ، وعكسا للقضية ، لا معني للحديث عن الربا في المجتمعات الحديثة والاقتصادات الجديدة التي تخضع لنسق متحرك علي صعيد القيم عموما والقيم النسبية أيضا .
والجواب علي هذه النظرية ، يمكن تلخيصه :
أوّلاً ـ إنّ التعريف الآنف الذكر للربا تعريف منقوص ، بل إنّه يرتكز أساسا علي منهج معرفي غير واقعي ، فالربا المحرّم اسلاميا ـ وطبقا للنصوص الدينية ـ يعبر عن كل نوع من اشتراط الزيادة ضمن عقد القرض ، وهو تعريف قابل للتحقّق في المجتمعات الحديثة كما كان كذلك في المجتمعات التقليدية .
ثانيـا ـ خلافا لتصوّرات صاحب النظرية ، خضع اقتصاد صدر الإسلام كالاقتصاد الحديث اليوم ( وإن بأسباب مختلفة ) لتغير القيم عموما ، وكذا القيم النسبية ، وهي تغييرات كانت محسوسة للناس وللعلماء أيضا .
وبناءً عليه ، لا يمكننا الذهاب إلي وجود تمايز ماهوي حقيقي بين الربا والفائدة البنكية بنظرية كهذه ، ومقوّمات ضعيفة تشبهها ، ومن ثمّ النهوض لتحليل الربا الذي شدّد الإسلام والقرآن علي تحريمه والنكير عليه ، جاعلاً مرتكبيه في مصاف المحاربين للّه ورسوله ، واعدا القائلين بحليته بعذاب خالد ( 73 ) .
وفي الختام ، أشكر الدكتور غني نجاد علي إتاحته الفرصة لفتح هذا الحوار العلمي ، وأعتذر في المقابل عن أيّة إساءة أدبية يمكن أن تكون قد صدرت في مقام البحث عن الحقيقة ، كما وأقرّ مذعنا بأنّ نظريته الأساسية غير قابلة للقبول ، بيد أنّ مقالتيه الاُولي والثانية احتوتا علي معطيات جذابة كان بالإمكان عرضها في قالب النظريات التي جري بيانها بداية المقالة ، الأمر الذي يمكنه أن يساعد علي وضوح القراءة للأبعاد المختلفة للربا والفائدة البنكية .
( 35 ) يراجع ، المحقّق الحلّي ، شرائع الإسلام 2 : 163 ـ 168 ، ومحمود عبد اللهي ، مباني فقهي اقتصاد إسلامي ( بالفارسية ) ، طباعة ـ جماعة المدرّسين ، ص 294 ـ 295 ، وحسن إمامي ، حقوق مدني ( بالفارسية ) 2 : 166 .
( 32 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 144 .
( 69 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 12 : 462 ، ح 2 .
( 53 ) الهندي ، كنز العمّال 6 : 553 .
( 72 ) الدكتور عبد الرحمن فهمي محمّد ، صنج السكّة في فجر الإسلام ، القاهرة ، مصر ، ص 35 .
( 17 ) الإمام الخميني ، تحرير الوسيلة 2 : 638 ، القول في القرض ، المسألة 9 .
( 16 ) الحرّ العاملي ، وسائل الشيعة 12 : 454 ، ح 1 .
( 7 ) المصدر السابق : 159 .
( 63 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 12 : 471 ، ح 4 .
( 55 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 142 .
( 44 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت 24 : 145 .
( 73 ) البقرة : 275 إلي 280 .
( 37 ) مجموعة المقالات والمحاضرات المشاركة في الملتقي الثامن للبنك الاسلامي : 107 .
( 31 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 140 .
( 61 ) الشيخ الصدوق ، التوحيد : 389 ، وانظر أيضا : 390 .
( 26 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 151 .
( 24 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 6 : 286 .
( 13 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 24 : 143 ـ 146 .
( 45 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 149 .
( 30 ) فريدون تفضلي ، تاريخ عقايد اقتصادي ( بالفارسية ) ، طباعة ـ ني : 38 .
( 10 ) « مطالعات نظري در بانك داري اسلامي » ( قراءات نظرية في البنك الاسلامي ) جمع محسن خان وعباس مير آخور ، ترجمة محمّد رضا بيگدلي ، مؤسسه بانكداري ايران : 51 ، 1370 هـ / 1991 م .
( 65 ) المصدر السابق : 470 ـ 471 ، ح 1 ، 3 ، 5 .
( 2 ) مختصر مقدّمة كتاب « النقد ، الفائدة ، والأزمات الاقتصادية ـ الاجتماعية » ، هلموت كروتيس ، ترجمة حميد رضا شهيرزادي ، كانون أنديشه جوان ، 1999 م .
( 4 ) موسي غني نجاد ، الربا والفائدة البنكية ، مجلّة فقه أهل البيت عليهمالسلام 24 : 141 ـ 143 ( مع تلخيص وتصرّف ) .
( 23 ) محمّد حسين الابراهيمي ، القرض الحسن ، مكتب الإعلام الإسلامي ، 1992 م ، ص 43 .
( 39 ) المصدر السابق .
( 64 ) المصدر السابق : 471 ، ح 2 .
( 41 ) الامام الخميني ، مصدر سابق 1 : 599 ، القول في القرض ، والدكتور إمامي ، مصدر سابق 2 : 193 .
( 19 ) موسي غني نجاد ، مجلة فقه أهل البيت عليهمالسلام العدد 27 : 138 ـ 139 .
( 57 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 12 : 314 ، ح 6 .
( 27 ) صاموئيل سون ، الاقتصاد 1 : 465 ، برنسون ، اقتصاد كلان ( بالفارسية ) 2 : 459 ، توتونچيان ، اقتصاد پول وبانكداري ( بالفارسية ) : 342 .
( 51 ) الشيخ الصدوق ، من لا يحضره الفقيه 3 : باب الحكرة والأسعار ، الحديث 16 .
( 48 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 13 : 74 ، ح 5 .
( 40 ) تراجع : الرسائل العملية لمراجع التقليد ، قسم المعاملات البنكية .
( 59 ) السيد الرضي ، نهج البلاغة ، عهد الامام علي عليهالسلام إلي مالك الأشتر .
( 36 ) محمود عبد اللهي ، مصدر سابق : 295 .
( 20 ) المصدر السابق : 139 ـ 140 .
( 6 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 146 .
( 43 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 144 .
( 42 ) المحقق الحلّي ، مصدر سابق 2 : 601 .
( 8 ) المصدر السابق .
( 9 ) المصدر السابق : 156 .
( 66 ) المصدر السابق : 399 ، ح 2 .
( 25 ) السيد عباس موسويان ، الإدخار والاستثمار في الاقتصاد الاسلامي ، مجلّة پژوهشگاه فرهنگي وانديشه اسلامي ( بالفارسية ) ، 1997 م ، ص 106 وما بعد .
( 15 ) العلاّمة الطباطبائي ، تفسير الميزان 2 : 423 .
( 56 ) مجمع البحرين ، مادّة ( مال ) ، 3 : 1735 .
( 29 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 135 .
( 12 ) ,1984 Economica, Paris, Greenwald Douglas EconomiQye, Encyclopedie .1032 ـ 1029pp .
( 3 ) البقرة : 278 و 279 .
( 58 ) دعائم الإسلام 2 : 35 .
( 47 ) تستعمل كلمة الطعام في اللغة العربية بمعنيين : أحدهما عام والآخر خاص ، فتطلق أحيانا علي مطلق ما يؤكل ، فيما تطلق أحيانا اُخري علي معني مخصوص هو القمح ( البُر ) ، وقد اُريد في هذه الرواية المعني الخاص .
( 1 ) موسي غني نجاد ، قراءة في الاُصول المعرفية لتمايز الربا والفائدة البنكية ، مجلّة فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 134 .
( 46 ) المصدر السابق : 141 .
( 22 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 13 : 81 ، ح 7 .
( 5 ) المصدر السابق ، مع تصرّف .
( 38 ) المصدر السابق : 106 .
( 28 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت 24 : 145 ـ 146 .
( 50 ) أبو داوود ، سنن أبي داوود 3 : 272 .
( 18 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 13 : 103 ، ح 3 .
( 52 ) الحرّ العاملي ، مصدر سابق 12 : 317 ، ح 1 .
( 67 ) المصدر السابق : 399 ، بقية أحاديث هذا الباب .
( 71 ) المصدر السابق : 461 إلي 464 .
( 68 ) النوري ، مستدرك الوسائل 13 : 249 ، ح 3 .
( 62 ) الكليني ، الكافي 5 : 164 ، ح 6 .
( 54 ) ابن شيبة ، تاريخ المدينة المنوّرة 3 : 1021 ، دار الفكر ، بيروت .
( 11 ) المصدر السابق : 52 .
( 70 ) المصدر السابق : 463 ، ح 1 .
( 60 ) يراجع : الحديث 1 و 3 المتقدمين في المجموعة الثانية .
( 14 ) البقرة : 279 .
( 49 ) يوسف القرضاوي ، فقه الزكاة 1 : 264 .
( 34 ) سوف ننقل قريبا القوانين الحقوقية البنكية الأمريكية ، والبريطانية ، والفرنسية .
( 33 ) موسي غني نجاد ، فقه أهل البيت عليهمالسلام 27 : 144 .
( 21 ) محمّد حسين الابراهيمي ، الربا والقرض في الإسلام : 280 مكتب الإعلام الإسلامي ، 1993 م .