التراث الفقهي وأثره في حركة الاجتهاد
من الواضح لذوي الاختصاص والممارسة الفقهية أنّ للتراث الفقهي الضخم الذي صنعه السابقون ـ رضوان اللّه عليهم ـ أثرا علي حركة علم الفقه في الحاضر والمستقبل شأنه في ذلك شأن سائر العلوم والمعارف التي تشكّل رصيدا يمدّ الأجيال البشرية التالية بالعطاء . . بيد أنّ هذا الادّعاء بحاجة إلي إثبات وإلاّ فسيكون مجرّد شعار منبعث عن حالة عاطفية وشعور ذاتي بالانشداد إلي الماضي . . وقضية الإثبات هذه تقتضي مسايرة عملية الاستنباط في جميع مفاصلها والوقوف عند كلّ مفصل مفصل في سبيل معرفة مدي تأثير نظريات الفقهاء السابقين وفتاواهم فـي تلك المفاصل . .
وبالتأمل الدقيق نري أنّ هذا التأثير ربما يكون مباشرا وقد يكون غير مباشر . . وأيضا ربما يدخل كعنصر مستقل في عملية الاستنباط وربما يكون منضمّا إلي غيره . . وأيضا قد لا يدخل في الاستنباط كصناعة ولكن يؤثّر في مرحلة صياغة الفتوي وإبرازها بمستوي الاحتياط لا فتوي حاسمة . . ولنجمل ذلك ضمن عدّة نقاط :
النقطة الاُولي : من المعلوم أنّ الإجماع هو أحد الأدلّة المعتمدة في عملية الاستنباط . . وتحصيل الإجماع في مسألة من المسائل الفقهية يعني تتبع كلمات وآراء من مضي واستقصاءها . . ولا يمكن التعويل في ذلك علي ما ينسب وما ينقل عن الفقهاء من الإجماعات والآراء . . فكم من نسبة لم تثبت صحّتها . . وكم من إجماع مدّعي لم يصمد أمام التتبع والتحقيق . . إذ يجد المتتبّع في بعض الحالات فتاوي مخالفة لذلك صدرت من كبار الفقهاء . . وكذلك ربما يتوهّم اختلاف الفقهاء في مسألة فقهية لكن سرعان ما يتلاشي هذا التصوّر نتيجة لاسترجاع فتاوي السابقين واستحضارها . . إذا فإثبات الإجماع وعدمه وتحديد نقطة اتفاق الفقهاء واختلافهم له موضوعية ومدخلية في مثل هذه الحالة في عملية الاستنباط كما هو واضح . .
النقطة الثانية : إنّ تتبع واستقصاء آراء الفقهاء السابقين قد لا يوصلنا في بعض الحالات إلي مستوي التطابق والاتفاق مئة بالمئة فلا ينعقد لدينا إجماع بل تتحقق شهرة وأغلبية . . وهذه الشهرة وإن كانت لا تعدّ دليلاً مستقلاًّ بل تدخل كمتمّم لدليل ضعيف الإسناد كما هو رأي بعض حيث يعتبرون استناد أغلب الفقهاء ورجوعهم إلي رواية يرفع من قيمة سندها وإن اشتمل علي وهن . . وعلي كلا المبنيين يبرز دور الآراء الموروثة عن الفقهاء الماضين بشكل جليّ . . بل ذهب بعض الفقهاء إلي أبعد من ذلك واعتبر الشهرة جابرة للدلالة وأعطاها دورا في تعيين مفاد الدليل . .
النقطة الثالثة : إنّنا لو لم نبنِ علي كون الرأي المشهور لدي الفقهاء حجّة . . فإنّ هذا لا يلغي أثره بالكامل . . بل إنّ الشهرة قد تشكل رادعا للفقيه الذي يقوده استدلاله إلي رأي مخالف . . فيتأنّي في الإفتاء الصريح ويعمد إلي تغليف فتواه بثوب الاحتياط . . وهذا قد يفهم علي أنّه تردّد من الفقيه في غير محلّه . . فإنّ المنطق العلمي يفرض أن ليس وراء الأدلّة ما يستوجب المراعاة ، ولسان حال الفقهاء هو المقولة الشائعة : نحن أصحاب الدليل أينما مال نميل . . غير أنّه يمكن تفسير الاحتياط منطقيا علي ضوء عناصر الاستنباط . . وذلك باعتبار أنّ الشهرة مؤشّر معتدٌّ به يبرّر حالة الشك فيما توصّل إليه المجتهد من فتيا ويقوّي من احتمال مخالفة ما توصّل إليه للحكم الشرعي الواقعي . . ولا يهمل هذا الاحتمال بل يعطيه أهمية لكن علي مستوي الإفتاء وطبيعة إبراز الفتوي . . ففرق بين مقام الاستنباط كصناعة معرفية وفنّ له اُصوله وقواعده الخاصّه به وبين مقام التصدّي للإفتاء وتحديد الوظيفة للمقلِّدين . .
النقطة الرابعة : إنّ مدلول النصوص الشرعية من الآيات والروايات هو الذي يحدّد مسار عملية الاستنباط والمصير الذي تنتهي إليه من وجوب أو تحريم لممارسة ما . . فعندما يواجه المستنبط نصا شرعيا ويحاول استنطاقه فإنّه يعير اهتماما لكلّ عنصر يحتمل دخله في تحديد دائرة الدلالة . . وفهم المتقدّمين لنصّ معيّن حتي لو ناقشنا في حجّيته ورفضناها فلا يقلّ عن كونه أحد الاحتمالات الوجيهة التـي يمكن أن يحـمل عليها النـصّ ويفسّر علي ضوئها . .
النقطة الخامسة : إنّه بمراجعة أقوال الفقهاء السابقين والاطلاع علي نظرياتهم يتّضح السير التاريخي للمسائل الفقهية ومراحل تطورها مما يكسب الفقيه نوع إشراف علي المباني والحيثيات المحيطة بالمسألة . . ويمنح الممارس خبرة ومهارة خاصّة حول كيفية ظهور التفريعات في المسائل الفقهية ؟ وعلي يد مَن كانت ؟ وهل إنّها تسرّبت من المذاهب الفقهية الاُخـري أو إنّـها مـن ابتكارات فقهائنا ؟
النقطة السادسة : كثيرا ما يواجه الفقيه ـ لدي استرجاع التراث الفقهي وما يضمّه من آراء ـ قولاً أو احتمالاً أو وجها أو مناقشة أو إثارة أو تأمّلاً في مسألة فقهية قابلاً للتطوير والتعديل فيضفي عليه من مهارته ويبلوره بشكل أكمل مما كان عليه . . ومن خلال التجربة والتفحّص قد يتمّ العثور علي نظريات راقية كانت مدثورة تحت رماد السنين .. بل هناك بعض الرسائل والمصنّفات بلغ فيها مؤلّفوها أوجهم فـي التحقيق وتنقيح المطالب غُفِل عنهـا ولم يستفد منها . .
ونحن في الوقت الذي نؤكّد علي دور التراث الفقهي في عملية الاستنباط لا نقصد المبالغة والتهويل في ذلك ولا ندعو إلي تقليد الماضي وقتل روح الإبداع والتطوير . . إذ أنّ عملية الاستنباط تستبطن الاعتماد والثقة بالنفس وعدم الاتكال علي ما قاله الآخرون وإلاّ يفقد الاجتهاد معناه . . بل إنّ حاصل ما نريد قوله هو أنّ إهمال عنصر التراث من قِبل الفقيه المعاصر وإبعاده من عملية الاستنباط قد يؤول في النهاية إلي تأسيس فقه غير أصيل ويفوّت علي الفقيه فرصا لتنضيج نظرياته وإرفادها بما أنجزه الماضون . . سيّما وأنّ مقتضي مسؤوليته الشرعية تفحّص وتحرّي كل بصيص يقرّبه من حكم اللّه الواقعي والتماس كلّ باب يوصله إلي صراط اللّه القويم . .
«رَبَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذينَ سَبَقونا بالإيمان »
ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه