العلاقة بين الاسلام والغرب
الشيخ محمد علي التسخيري
رئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلاميّة في الجمهوريّة الاسلاميّة الايرانيّة
تبلورت نظرة الغرب للاسلام عبر مراحل زمنيه طويلة، تعددت فيها رؤي المستشرقين والمفكرين والباحثين والسياسيين الغربيين، تبعاً للخلفيات والمداخل المنهجية والدينية والفكرية والسياسية، لكل رؤية. و برغم تعدد هذه الرؤي، الاّ أنَّها تتفق ـ غالباً ـ علي جملة من المباديء التي تشكلت و تكاملت بالتدريج، حتي باتت تمثل وعي الغرب بالآخر، والذي هو جزء من وعي الغرب بذاته. و في اطار هذا الوعي منح الغرب لنفسه موقع «الحقيقة» و «القوة» و «المركز» و «العقل» و «التقدم»، وأبقي للآخر موقع «التمثيل» و «الضعف» و «الأطراف» و «الجنون» و «التخلف»، و بالتالي مارس الغرب هذا المنهج في الواقع بأشكال مختلفة، كالغزو العسكري والسيطرة الاقتصادية والهيمنة الثقافية والسياسية والحرب النفسية والاعلامية.
و من الرؤية المهمة التي طرحت في الغرب في عقد التسعينات، رؤية المفكر الانجليزي «بيد هام برايان» التي عرضها في سلسلة المقالات التي نشرها في مجلة «الايكونوميست» خلال عام 1994، و لكنها لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت بهما رؤيتا «هاتينگتون» في «صدام الحضارات» و «فوكوياما» في «نهاية التاريخ»، برغم ما تحتويه رؤية «برايان» من نظرات لافتة حول علاقة الغرب بالاسلام، و هي رؤية تكشف ــ في حقيقتها ــ عن نوع من الاستراتيجية الغربية تجاه التعامل مع العالم الاسلامي وأوضاعه العامة، ولا سيما ما يرتبط بمضامين الحضور الاسلامي الفاعل في مسيرة الحضارة الانسانية.
مضمون رؤية برايان :
يبدأ برايان في عرض رؤيته بالقول بأنَّ الجو السائد في القرآن الكريم هو الجبرية، وأنَّ الاسلام ليس إِلاّ التسليم الجبري للانسان أمام الخالق. ثم يعقد مقارنة بين نظرة الانجيل و مفهوم القرآن لما يسميه بالخطيئة الاولي. و يقول أيضاً بأن الطبقة التي تحاول دون التقارب بين الاسلام والغرب هي طبقة علماء الدين التي تتسلح بالاجتهاد الحرّ لتقرير المواقف العامة. و يعقّب علي ذلك بقوله:
«إِنَّنا لو نظرنا الي القرآن فسوف لن نجد سوي ثمانين آية تشير الي النظم العامة، و غالبية هذه النظم ليس لها تأثير يذكر في مسيرة الحضارة الآن. ثم يدعو الذين يؤكدون علي التقارب بين الاسلام والغرب الي رفع احتكارها الفقهاء للاجتهاد، وتعميمه للجميع، ليكون لكل فرد قراءته الحرّة للقرآن، ويضيف بأن «واجب كل مسلم النظر الي المستقبل، ولا يمكن للأُمّة الاسلاميّة أن تتقدم الّا بازاحة علماء الدين و تعميم الاجتهاد علي كلِّ الأَفراد» كما «انَّ الاسلام اذا أراد دخول عالم الديمقراطية فانه بحاجة الي الاصلاح».
و هنا يعقد مقارنة بين وضع العالم الاسلامي في القرن الخامس عشر الهجري ووضع أُوروبا في القرن لخامس عشر الميلادي، و يري أَنَّ كلا الوضعين متشابهان في توافر الارضية المناسبة للاصلاحات، و في نوعية المؤسسات الدينية لدي المسلمين السُنّة حالياً ومؤسسات الكنيسة في القرن الخامس عشر الميلادي، و في مستوي اليأس لدي المسلمين اليوم والأوروبين آنذاك، و في الشوّق لتحسّن الأوضاع. و يتحدث «برايان» عن عامل آخر له أثره في تحقيق الاصلاحات، و يتمثل في العامل الخارجي الذي يحرك الحالة و يدعمها، ففي الوقت الذي شكّل المسلمون العامل الخارجي المحرك لتطوير أُوروبا حينها، فان الغرب اليوم هو عامل دفع العالم الاسلامي نحو التطور والتقدم. و يطرح هنا إشكالية حول الزمن الطويل الذي استغرقه التحول في أُوروبا، إذ يقدر بمائة و خمسين عاماً، بينما لا يستطيع العالم الاسلامي اليوم ان ينتظر مثل هذه المدة. و يجيب علي هذه الإشكالية بأن التحولات اليوم تطرأ و تؤثر بسرعة، فلا يحتاج الأمر الي هذه المدّة الطويلة و لكن من أين يبدأ التحرك؟ يري برايان أَنَّ التحرك يبدأ من الاسلاميين المتحررين الّذين يؤمنون بالديمقراطية، ولابد من التحرك بقوة لدعم هؤلاء، و لكنه يعترف بأن القسم الأَعظم من العالم الاسلامي اليوم علي عتاب الدخول في أزمات سياسية كبري تخلق جوّاً من القلق وتداخل العلاقات، و علي الغرب أن يتحمّل هذه التحوّلات، إذ يعتقد أن الغرب اذا أراد أن يحرك التحوّل في العالم الاسلامي فعليه ان يدخل في نظامه (أي في نظام الغرب) هو أيضاً مسحات أخلاقية وإِجتماعية، يعبِّر عنها بالميول نحو اليسار الجديد، كما يشير الي أنَّ ابتعاد الغرب عن الاعتقاد بالآخرة هو سبب الكثير من مشكلاته، ولذلك يدعو الغرب للعودة ــ و لو قليلاً ــ للاعتقاد «بالآخرة»، ليكون أقرب الي المسلمين.
و هنا يطرح «برايان» هذا السؤال:
هل هناك بين الاسلام والغرب حرب محتومة؟ هذا السؤال الذي أجاب عليه «هانتيغتون» بالايجاب في نظريته المعروفة بـ «صراع الحضارات». و لكن برايان يرفض هذه النظرية حاذفاً من طراف الصراع كل ما عدا الغرب والكونفوشيوسية والاسلام معتبراً أن الأطراف المحذوفة لا تُشكّل حضارات أخري.
أما الكونفوشيوسية ــ فهي ــ كما يقول ــ غير مُؤهَّلةٍ لتقديم بديل حضاري للعالم، فيجيب حذفها من الصراع، و فرض الصراع بين الغرب والاسلام، لكنه يعتقد بأن الصراع بين الاسلام والغرب غير محتوم، رغم ما يعبر عنه بالعنف الاسلامي، هنا و هناك، وكذلك تاريخ الصراع العنيف بين الاسلام والغرب، تارةً بالهجوم الاسلامي علي الغرب حتي وصل الي «بواتيه»، واخري بالهجوم الغربي علي الاسلام حتي احتل الكثير من المناطق الاسلامية، فبرغم هذا التاريخ إلا أَنَّ نوع الصراع غير مؤكد، ويفسر ذلك بأنه رغم الاختلافات العقائدية بين المسلمين و بين الغرب المسيحي، فان هناك أرضية مشتركة يمكنهما ان يتحاوروا عليها و يري ان الدين نفسه لا يصوغ الصراع الماضي . و يضيف : ان هذين الطرفين يمكنهما ان يتعاملا مع بعضهما، حتي الثوريين في ايران يمكنهم أن يتعاملوا مع الغرب بحكمة.
ثم يوجه اهتمامه الي شمال أفريقيا معتقداً بأنه قد تقوم فيها نظم معادية للغرب، فتقف بوجه هذا التقارب، و يبدي حساسية خاصة من هذا الإحتمال و يعد هذا ليوجه الي العالم الاسلامي توصيات ثلاث لكي يتأهل للتعامل مع الغرب والدخول في ركب الحضارة الانسانية السائدة:
الأُولي: الانسجام مع الاقتصاد الحديث.
الثانية: القبول بفكرة المساواة بين الرجل والمرأة.
الثالثة: «العمل علي امتثال القواعد الديمقراطية في نظم الحكم فيه و قبل ان يشرح هذه التوصيات الثلاث يركز علي ما كان يجري ــ آنذاك ــ في الجزائر من زاوية نظرته الغربية، و يؤكد ضرورة التدخل الغربي في الصراع في الجزائر، و يتخوف كثيراً من عواقب الانتصار الاسلامي هناك .
و حول قضية الصحوة الاسلامية يطرح رأيين متعارضين أحدهما متفائل، وخلاصته أن قيام النظم الاسلامية قد يوجد هجرة جماعية للغرب و جواً من القلق، ولكن هذا الجو القلق سوف ينتهي بسلام. اما الرأي الثاني فهو يري أن قيام النظم الاسلامية يعني احتدام الصراع، وبالتالي تحقق نظرية «هانتينغتون» .
بعد هذا يري ان علي الغرب ان يغير الكثير من فرضياته، و علي المسلمين ان يعيدوا النظر في التعاليم الّتي رويت عن الرسول محمد ( صلياللهعليهوآلهوسلم ) قبل أَرْبَعَةَ عَشَرَ قرناً ليروا هل يمكن أَن تؤثر هذه التعاليم في القرن الواحد والعشرين؟ ثم يعود الي توصياته السابقة ليطرحها بالتفصيل .
فحيال المسألة الاقتصادية، يشكك «برايان» في وجود نظرية اقتصادية اسلامية، ثم ينتهي الي أَنَالاسلام يعتمد النظم الفردية، وان َّ الاقتصاديين بين المسلمين يعتقدون بلزوم تحديد دور الدولة في الحياة الاجتماعية. و يقول:
«إِنَّ الفكرة السائدة هي أَنَّ المسلم يجب أَنْ يتوخي العدالة مثلاً في أَن يقوم الانسان بتبديل مزرعة للحنطة الي مصنع للكامپيوتر، و لكن كيف يمكن أنْ نعرف رأي الاسلام في هذا التغيير؟!
و يعود ليوصي النظام الرأسمالي بشيء من الانضباط الأخلاقي، الأمر الذي لم تستطع ان تحققه الماركسيّة بانقلابها علي النظام الرأسمالي. ثم يشير الي نظام الزكاة معتبراً اياه نظاماً تبرعياً، و لذلك فهو لا يحل المشكلة، و يقول:
«إِنَّ الزكاة في عصر الرسول كانت تُرَكِّزُ علي المعادن والزراعة، و توسعت بعد ذلك، و لكن هذا النظام من الضرائب لا يمكنه أَن يواجه احتياجات اليوم.
أَمّا الربا، فيري أن َّ تحريمه شيٌ مفيدٌ، وإن كانت الآراء في العالم الاسلاميـ كما يدعي ــ تختلف في مسألة الربا، فقد أحلّها الطنطاوي في بعض الحالات و رفضها من عداه في جميع الحالات. و يميل «برايان» الي مثل هذا الأسلوب، و يوصي البنوك الغربية باعتماده نوعاً ما، و لكنّه يُشكل علي هذا أننا اذا لم نكن نطبق نظام الربا فكيف يمكن السيطرة علي التوازن في عرض المال .
هذه المسألة هي المسألة الأولي، التي يتلخص رأيه فيها بعدم امتلاك الاسلام نظاماً اقتصادياً، وانما يملك بعض التعليمات العامة التي يمكن بشيء من التحوير و شيء من المرونة الغربية الجمع فيها بين الاقتصاد الاسلامي والاقتصاد الحُرّ.
اما في مسألة تساوي الرجل والمرأة فهو ــ بعد أَن يقدم شرحاً تفصيلياً لوضع المرأة اليوم ــ يقول :
«إِنَّ السلوك الاسلامي ــ اليوم ...لا يمتلك جذراً قرآنياً، وانما خلقته التفسيرات الذكورية للقرآن. و قد يبدو أِنَّ القرآن يقوم بنوع من التفرقة بين الرجل والمرأة، و لكن هناك طريق مفتوح لتفسيرات جديدة، و يدعو العالم الاسلامي الي تجديد النظر في الاحكام القرآنية التي تقول بالتفرقة بين الرجل والمرأة».
وآخر بحث يطرحه هو المسألة الديمقراطية، ويراها المانع الاكبر من تقارب العالم الاسلامي و العالم الغربي ؛ ذلك لأن سبعة بلدان فقط من مجموع ثمانية و ثلاثين بلداً اسلامياً لها نظم ديمقراطية، وما عداها يحكم بالحديد والنار والديكتاتورية .
و يري ان العالم الاسلامي إذا أراد أن يصل للنموذج الغربي فعليه أن يعمم الديمقراطية في كل أرجائه. أما التمسك بنظام الشوري فهو لا يقوم بالدور الذي تقوم به الديمقراطية.
هذه هي خلاصة رؤية الباحث الغربي «برايان» حول منهج التقريب بين العالم الاسلامي والعالم الغربي، وهي توضح ــ تماماً ــ التخطيط الغربي الواسع لتحقيق نظم العولمة المطروحة اليوم، ليس علي الصعيد الاقتصادي و حسب، وانما علي الصعيد الثقافي والسياسي أيضاً .
مداخلات علي رؤية برايان :
نجمل مداخلتنا علي رؤية «برايان» في جملة من الملاحظات:
الأولي: أنَّ هذا التصور الذي يذكره الباحث، يعتمد النظام الغربيــ اليوم ــ أصلاً يحتذي به بين الامم، و يطلب من الامم الأخري ان ترتفع بنفسها ونُظمها ــ كما يدعيه ــ حتي تصل الي هذا المستوي الذي يراه أصلاً.
والحقيقة أَنَّ برايان يتغاضي عن المساويء الكثيرة الّتي يحملها النظام الغربي، برغم اشارته اليبعضها ؛ إذ ان النظم الغربية تفتقر ــ عادة ــ الي المعاني الانسانية والاتجاه الأخلاقي، بل و تفتقر اليالحالة الاجتماعية المتعاضدة. والأغرب من كل شيء أنه يدّعي أَنَّ الماركسيّة جاءت لتقيم نظاماً إِجتماعياً أَخلاقياً، و لكنها فشلت في ذلك والحقيقة أَنَّ الماركسية كانت تعاني من نفس الداء الّذي ابتليت به الرأسمالية والنظام الغربي اليوم، أَلا و هو المادية في التصور و في النظرة، إذ تصورت أَنَّ النظام الرأسمالي ــ بتشريعه الملكية ــ أوجد كل هذه التناقضات والآلام والآثار الاستعمارية، و نسيت أَنَّ داء النظام الرأسمالي ليس بقبوله الملكية، وانما يكمن في الاتجاه المادي الذي يحمله و لما كانت الماركسية تحمل الاتجاه المادي نفسه، فقد ابتليت بالأعراض ذاتها، كما ابتليت بالحالة الاستعمارية التوجه السلطوي ؛ حيث كانت الطبقة ــ هنا تقوم مقام الفرد في النظام الرأسمالي، فتظلم باقي الطبقات وتستأثر بها. و بشكل عام يمكن الاشارة إِلي أَلوان من مساويء النظام الرأسمالي أو النظام الغربي، كالتدنّي الأخلاقي و التفكك الأُسري و شعور الفرد بالوحدة، وتفشي حالات الانتحار، والأَسوأ من كل شيء، استمرار مجالات الهيمنة علي الآخرين، هو الداء الذي تعبر عنه «العولمة» اليوم، والتي تعني هيمنة الوضع الاقتصادي الغربي علي الوضع الاقتصادي العالمي، والوضع الثقافي الغربي علي الوضع الثقافي العالمي، والوضع السياسي أيضاً علي الوضع السياسي العالمي. ومن هنا حَرِيٌّ بنا أن ْ نُسَمِّي العولمةَ بـ «الغربَنةِ» أو «الأمركَةِ» .
و الغريب: ان الباحث «برايان» ينصح الأمة الاسلامية بالتبعية (السياسية والاقتصادية والثقافية) للغرب حتي يمكن تحقيق التقارب المطلوب، هذه هي النقطة الأهم في رؤية «برايان» و غريب أيضاً أَنْ يعتبر أَنَّ العالم الاسلامي الذي يعيش في القرن الخامس عشر الهجري بحاجة الي نهضة شاملة، كما كان العالم الغربي في القرن الخامس عشر الميلادي علي أبواب نهضة شاملة، و يري أَنَّ العامل الخارجي الّذي حَرَّك الغرب نحو النهضة هو العالم الاسلامي ، وهنا يري أَنَّ العامل الخارجي الّذي يحرك العالم الاسلامي هو الغرب. فالغرب إِذاً عامل الإصلاح، و هدف الاصلاح هو الكينونة و فق الصورة الغربية.
إِنَّ «برايان» يوجه نقده الي نقطة القوة و نقطة الحيوية في عالمنا الإسلامي، و هم علماء الدين الّذين يصفهم رسول اللّه ( صلياللهعليهوآلهوسلم ) بأنهم و رثة الأنبياء ؛ باعتبارهم فقهاء الشريعة، و باعتبارهم أَنَّهُمْ يمنحون الحياة الانسانية صورتها الاسلامية، و بهم تحفظ الصفة الاسلامية للأُمة، كما يوجه نقده للمنهج التخصصي الّذي يمتلكه ألفقهاء، وهو الاجتهاد، و يدعو لسلبهم هذا السلاح الحيوي ــ و هو كما نعلم ــ سر من أسرار المرونة الاسلامية والخلود الاسلامي، لان المجتهد هو الّذي يعمل علي استكشاف الحكم الواقعي، و هو الّذي يعمل علي تطبيق الوقائع واستكشاف حكم الوقائع من الأصول التي لديه. وهذا هو سر اسلامية الأُمة، فاذا فقدت الأُمة علماءَها و فقدت الأُمة الاجتهاد المطلوب الذي يحقق كل الشروط لمطلوبة عادت أُمَّة تائهة لا ترتبط بأصولها، ولا تعرف منابعها، و هذا ما يريده الباحث «برايان» فهو يدعو الي أنْ تنفصل الأمة عن ماضيها، وأحياناً يكشف عن ارادته هذه ـ حينما يوصي الأمة بأن تعيد النظر من جديد في كيفية تطبيق تعاليم نزلت قبل أربعةَ عَشَرَ قرناً علي واقع متطور متحضر هو الواقع اليوم، أو عندما يقول :
إِن َّ هناك فقط ثمانين آية تشير الي الأحكام العملية لتنظيم الحياة، و هي لا تصلح للتطبيق في واقعنا القائم .
كُلُّ هذه التعبيرات تكشف عن الغرض الأصلي من هذا التنظير، انه محاولة سلب الأمة صفتها الاسلامية، وإِبعادها عن دورها و عن واقعها و عن سر اسلاميتها و بقائها واقتدارها. وفي الواقع أَن َّ مثل هذا التهديد ينبهنا الي مكمن الخطر، ويشدنا الي عملية تحصين هذا المكمن، وينبه العلماء الي دورهم الكبير في الحفاظ علي شخصية هذه الأمة، واتصالها بواقعها.
الثالثة: يحاول برايان ان يغير الحقائق، أو يفرض فهمه المغلوط للقرآن الكريم ليبني علي أساس منه تصورات نظرية، فمثلاً نجده يؤكد بأن الجو الغالب في القرآن هو الجبرية، والانسان المسلم يشعر بأنه، مجبور في حياته و في مسيرته، مما لا يؤهله للتطوير، و لا يؤهله للنهضة والاصلاح ، و هذا أمر مغلوط تماماً، فالقرآن الكريم يؤكد للإنسان انه يستطيع ان يغير نفسه، وان التغيير الإِلهي يتبع تغييره الذاتي، « أن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيّروا ما بأنفسهم»، «ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها علي القوم حتي يغيروا ما بأنفسهم» فالاتجاه القرآني ـ خلافاً لما يتصور ـ يقرر الارادة الانسانية و تقوية الارادة الانسانية، و لكن في أطار اللطف الإلهي .
و نراه أيضاً يفسر الاسلام بالتسليم الي القدرة الإلهية دون أَنْ يشعر بوجود ارادة حرّة، و هذا تفسير مغلوط أيضاً؛ لأن الاسلام يعني تسليم الإِنسان الطوعي للأوامر الإِلهيّة باعتبارها الطريق الي التكامل، و حيال مقارنته بين قراءات الانجيل و قراءة القرآن للمعصية الاولي او ما يسميه المعصية التي جرت علي يد آدم، و كذلك تصوره بأنَّ هناك ثمانين آية في القرآن الكريم فقط هي التي ترتبط بالحياة الانسانية، فالحقيقة أَنَّ ما نعلمه من القرآن هو أن كل الآيات القرآنية ترتبط ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر بالحياة و سلوك الانسان، حتي آيات الآخرة وآيات التوحيد، و آيات العدل الالهي، فانها كلها تصب في صياغة الشخصية الانسانية الموحِّدة والعادلة والمتوازنة في سلوكها و ما يذهب اليه «برايان» مغاير للحقائق تماماً. و هو الأمر نفسه مع صور بأن تعاليم القرآن التي نزلت علي الرسول العظيم ( صلياللهعليهوآلهوسلم ) هي تعاليم انسانية، جاءت لتصلح وضعاً قديماً، في حين أَنَّ القرآن الكريم جاء من خالق الانسان، ليصلح الانسان، و يعلمه طريق الكمال الوحيد، و ينسجم مع فطرته التي لا تتغير مهما تغيّرت الأحوال والظروف .
و من هذ القبيل ما نشاهده من عرض خاطيء و مبسط للاقتصاد الاسلامي، فكأن الاقتصاد الاسلامي يتلخص في اتجاهين أخلاقيين، أحدهما: الزكاة التبرّعية، و الثاني تحريم الربا، في حين ان الاقتصاد الاسلامي له نظريته الكاملة في توزيع ما قبل الانتاج الانساني، و في الانتاج نفسه و تطويره، و في عملية توزيع ما بعد الانتاج الانساني، كما أَنَّ له تصوراته الكاملة عن أهم عناصر الاقتصاد، و لا ينحصر بما تصوره «برايان» كما أَنَّ المذهب الاقتصادي الاسلامي يطرح مختلف المشاكل الانسانية، و يعطي حلوله المتكاملة، فيستوعب الحياة كلها. فأي سلوك اقتصادي في المجتمع لابد أن ينطبق عليه أحد الأحكام الخمسة، وهذا يعني ان النظرية الاقتصادية الاسلامية ــ مذهبياً ــ شاملة و عامة، لجميع نواحي الحياة.
اما القوانين الاقتصادية والنتائج العلمية الّتي تكشف ما هو الواقع في الخارج فانَّها امور ليست من وظيفة الدين، إِنَّما علي الدين أنْ يعطي قواعده وخطوطه العامة. و من هنا تصور «برايان» أن المسلمين يمكنهم أن يضعوا نظريتهم الاقتصادية جانباً ليلتحقوا مباشرة بالنظام الغربي العالمي لقاء ان يقوم الغرب ببعض التعديلات الأخلاقية علي نظمه. و هذا التصور ــ في الواقع ــ تصور غريب جداً، ينطلق من فكرة العولمة الاقتصادية التي أشرنا اليها.
الرابعة: إِنَّ «برايان» يقدّم أحياناً اعترافات مفيدة، فيقول مثلاً:
«ان كثيراً من النظم القائمة في العالم الاسلامي صنعها الاستعمار الغربي، و هو يتحمل وزرها، وعليه اذا أراد أن يقرب العالم الاسلامي اليه، ان يتحمل تغيير هذه النظم الدكتاتورية الي نظم ديمقراطية. و في مكان آخر يري الباحث أَنَّ ابتعاد الغرب عن الاعتقاد بالاخرة، هو سبب الكثير من مشاكله، و لذلك فهو يدعوه للعودة الي هذه العقيدة؛ لكي يكون أقرب للمسلمين كما يقول :
ان علي الغرب أن يغير الكثير من فرضياته و نظرياته لأنها لم تعد تمتلك صفة علمية. و يوصي النظام الرأسمالي بمقدار من الانضباط الأخلاقي والاتجاه الاجتماعي واعتماد سياسة اليسار الجديد، أَي الاتجاه نحو العدالة الاجتماعية. و بالنسبة الي الربا، فانه يري فيه أضرار كبيرة، وأن تحريم الاسلام للربا هو اتجاه صحيح يجب أن تحتذيه البنوك الغربية، ويجب أَنْ يأخذه الاقتصاد الغربي بعين الاعتبار.
و هكذا نجد «برايان» بين الحين والآخر يحاول الاعتراف بالحقائق الدامغة من قبيل إذعانه بأَنَّ النظام الاسلامي الايراني هو نظام ديمقراطي كامل.
الخامسة: هناك تركيز كبير في هذه الرؤية علي اوضاع الجزائر و تخوف عظيم من التحول الاسلامي فيه، فهو يعتبر أن أي تحول في هذه المنطقة يعني انقلاب العالم الاسلامي كلّه باتجاه النظام الاسلامي، و يري أنَّ الغرب يجب أَن ْ يبذل جهده للوقوف أمام هذا التحول الذي يقع لا محالة.
والحقيقة أن الجزائر حالة من الحالات الاسلامية العامة، وان الصحوة الاسلامية تسري في عروق العالم الاسلامي أجمع، و تضعه علي ابواب تحول كبير لاكتشاف ذاته الحقيقية والعودة اليها، واسترجاع هويته وخصائصه الأصيلة.
السادسة: يعتبر «برايان» المساواة بين المرأة والرجل في كُل ّ الجهات أمراً طبيعياً انسانياً، يجب أنْ تسعي الحضارة الاسلامية والعالم الاسلامي للوصول اليه.
و الحقيقة أَنَّ هذا التصور مغلوط من أصله، إذ أَنَّ الرجل والمرأة يقومان بدورين متكاملين، و كل منهما يحمل مسؤوليات جسام، وله حقوق تماثل هذه المسؤوليات.
يقول تعالي:
«ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف»
إِنَّ التصور الاسلامي لحقوق المرأة والرجل قائم علي أساس من هذا التكامل، و علي أساسٍ من مقتضيات الطبيعة التي تشكل الرجل والمرأة. و حينئذ فان منطق التساوي الكمي منطق يرفضه حتي الواقع القائم اليوم في العالم الغربي. فلابد من النظر الي واقع المسؤوليات و مجموع الحقوق، و حينئذ سوف نجد أَنَّ الاسلام وضع كل شيء في محلّه، وأقام نظاماً اجتماعياً سليماً متوازناً. أما المفهوم الغربي لحقوق المرأة و حقوق الرجل، والذي يدعو الي المساواة الكاملة، فهو منطق لا ينظر الي الاختلافات الفيزيولوجية، ولا ينظر الي الاختلافات الوظيفية في الحياة الاجتماعية ولا ينظر الي الأهداف التكاملية الانسانية. و من هنا، فاننا نعتبر أَنَّ ما أوصي به «برايان» العالم الاسلامي باقرار المساواة بين المرأة والرجل، هي توصية في غير محلها، و تحاول أَنْ تقلب الأمور الواقعية والحقائق الطبيعية رأساً علي عقب .
السابعة: يري «برايان» أَنَّ الشوري لا تفي بالمطلوب، وأَنَّ الصحيح هو الحل الديمقراطي بمنطقه الغربي. و هذا الأمر ــ في الواقع ــ قائم علي المنطق الغربي الّذي يجعل الدين شأناً فردياً لا علاقة له بالحياة. أما المنطق الاسلامي فانَّهُ يعطي الدين المرجعية الكاملة في الحياة الانسانية الفردية والاجتماعية، و لا يمكن أَنْ ينسجم هنا المنطق مع الفهم الغربي للديمقراطية القائل بأنَّ الشعب هو الحاكم في مصيره و في تشريعاته و في كل شيء يرتبط بحياته الاجتماعية.
إِنَّ التصور الاسلامي يقوم علي أساس الهداية الإلهية للأمة لتحقيق الخلافة الانسانية للّه تعالي، وبالتالي، يفسح مجالات معينة ليقوم الشعب عبر نظام الشوري ــ باختيار الأفضل لتطبيق الحكم الاسلامي، أو لحل المشكلات الاجتماعية الموكلة إليه. فالحدود العامة (العقوبات) حدود الهية، و التطبيقات تترك ــ أحياناً ــ للأمة ؛ لتنتخب الفرد الحاكم، و لتنتخب النظام الأَفضل لتطبيق الحكم الاسلامي. فانَّ الشوري ــ اذن ــ هي الأمثل، و هي الاكثر انسجاماً مع التصور الاسلامي للحياة السياسية الاجتماعية، وإِنَّ المنطق الغربي منطق لا يقوم علي أساس أخلاقي أو ديني أو واقعي متين
و برغم أنَّ «برايان» يعارض نظرية «هنتغتون» في الصراع بين الحضارتين الغربية والاسلامية، و يعتقد أن التصورين يمكنهما ان يجتمعا ويتآلفا، فهو يري أَنَّ طريق الحل ّ يتمثل في أنْ ينسجم العالم الاسلامي مع الوضع الغربي، هذا الحل ّ غير الواقعي سيفرض علاقة غير متوازنة، وبالتالي فهي علاقة مرفوضة.